رشيد نيني
كل المهن في كل دول العالم، بما فيها دول العالم الثالث كالمغرب، لديها هيئات تمثل ممتهنيها وتدافع عن مصالحهم. الأطباء لديهم هيئتهم والمهندسون والمحامون والموثقون لهم هيئاتهم. وهذه الهيئات هي التي تحسم في أهلية المنتسبين إلى المهن التي تمثلها وتدافع عن مصالحها؛ إلا الصحافة في هذا البلد، فهي المهنة الوحيدة التي يمكن أن يمتهنها أي شخص حتى ولو كان لا يميز الألف من «عصا الطبال»؛ فلكي تصبح مدير
جريدة في المغرب ما عليك سوى أن تجمع أربع وثائق وخلال أقل من ثمانية وأربعين ساعة وتضعها في المحكمة، وليس هناك من سيسألك عن شواهدك الجامعية أو عن تجاربك المهنية السابقة. ولذلك، أصبح لدينا الآن أشخاص يتخرجون من واحد من تلك المعاهد الصحافية من نوع «كوكوت مينوت» والتي يعرف الجميع مستوى من يشرفون عليها ويدرسون بها، لكي يصبحوا مباشرة مدراء صحف، دون حاجة إلى المرور والتدرج عبر المستويات المهنية المعروفة في الجرائد قبل الوصول إلى رتبة مدير
جريدة. فنحن في المغرب لدينا تلاميذ لم ينجحوا حتى في الإحراز على شهادة الباك، يدرسون في معاهد الصحافة الخصوصية لكي يتخرجوا منها مدراء صحف مباشرة. وهذه سابقة صحافية لن تجد لها نظيرا في العالم بأسره. «الناس كايقراو على صحافي وشي وحدين قراو على مدير». وأنت اليوم عندما تقف أمام كشك للجرائد تندهش من كثرة العناوين الصحافية اليومية والأسبوعية، وتتساءل مع نفسك كيف لازال يغامر الناس بأموالهم في إصدار المزيد من الصحف، مادامت تسعون في المائة من هذه الصحف يعافها القراء وتأكلها الشمس في الأكشاك.
وهذا تساؤل وجيه جدا، لأن الإجابة عنه كفيلة بشرح أسباب هذه الفوضى التي يعيشها قطاع الصحافة في المغرب. والذين يعتقدون أن الاستثمار في هذا الكم الهائل من الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات يشكل خسارة لأصحابه مخطئون في اعتقادهم، لأن الاستثمار في هذه الفوضى الصحافية مدر للدخل بشكل لا يمكن تصوره؛ وإلا فكيف يمكن أن نفسر صمود بعض الجرائد في الساحة واستمرارها في الصدور بانتظام مع العلم بأن مبيعاتها لا تكاد تغطي حتى مصاريف كراء مقراتها. أستطيع أن أقول لكم، بحكم التجربة، إن مصاريف إصدار جريدة هي مصاريف باهظة جدا،
ونحن، مثلا، نبيع أكثر من مائة ألف نسخة يوميا، ومع ذلك نستطيع بالكاد المحافظة على توازننا، بعد دفع مصاريفنا وضرائبنا للدولة؛ فكيف يفعل بعضهم لكي يستمر في الصدور وهو لا يكاد يبيع شيئا ولا أثر للإشهار في جريدته؟ لا بد وأن هناك «قادوس د النحاس يكب الفلوس بلا قياس» في مكان خفي من كواليس هذه الجرائد!
وإذا كان من حق الصحافة أن تخرج عينيها في السياسيين والمسؤولين الرسميين وتقول لهم من أين لكم هذا، فإن بعض الصحافيين عليهم قبل أن يطالبوا الآخرين بالكشف عن ممتلكاتهم أن يبادروا هم أولا إلى الكشف عمّن يمولون لهم جرائدهم: «من أين لك هذا حتى نتا أسي الصحافي؟». إن الكشف عن مصادر تمويل الصحف أصبح مسألة ضرورية وحاسمة لتنظيم هذه المهنة. ولا نتحدث عن رأس المال الذي تعلنه الجرائد في محاضرها القانونية، وإنما عن مصادر التمويل التي تمر من تحت الطاولة عبر الشيكات المعلومة. وفي آخر تقرير لمنظمة «ترانسبرانسي»، تمت الإشارة إلى أن القضاء في المغرب يوجد على رأس المؤسسات التي تتفشى فيها الرشوة، وأنا أستطيع أن أقول لكم، بحكم ممارستي لمهنة الصحافة منذ خمس عشرة سنة، إن قطاع الصحافة والإعلام واحد من أكبر القطاعات
ارتشاء في المغرب. وربما كان قطاع الصحافة والإعلام على رأس القطاعات المرتشية، لأن استثناءه من تقارير المنظمات العاملة في مجال محاربة الرشوة، بسبب الخوف من إثارة غضب الصحافيين، جعل هذا القطاع دائما في منأى عن المساءلة. ولو أن هذه المنظمات قامت باستطلاع لمعرفة مدى تفشي الرشوة في الجسم الصحافي لاكتشفت أن الصحافة في المغرب توجد على رأس القطاعات التي تعشش في جرائدها وقنواتها فيروسات الرشوة والمحسوبية والزبونية.
ولعل المكان الذي تظهر فيه هذه الآفة بشكل واضح هو الصحافة الجهوية، فغالبية الصحف التي تصدر في الجهات، مع وجود استثناءات شريفة طبعا، تتحول إلى وسيلة للابتزاز والارتزاق. وهذا ما يفسر تحول بعض مدراء الصحف الجهوية وبعض المراسلين في ظرف وجيز إلى ملاك أراضٍ وأصحاب رخص للنقل ووسطاء بين رجال السلطة والمنتخبين، هذا إذا لم يترشحوا هم أيضا ويصبحوا منتخبين في المجالس البلدية والقروية.
وفي الوقت الذي يتصارع فيه الصحافيون الشرفاء داخل جرائدهم لإكمال الشهر بالكريدي، يستغربون كيف استطاع بعض المراسلين العاملين معهم في الجريدة أن يشتروا الشقة والسيارة ويوفروا ميزانية مشروع تجاري تحسبا لنوائب الدهر. ولذلك فبعض المراسلين لا يطلبون تعويضا من جرائدهم وإنما يطلبون فقط اعتمادا مكتوبا، لأنهم يعرفون أن هذا الاعتماد هو الورقة الحمراء التي سيشهرونها في وجه العامل والقائد والباشا والمنتخبين من أجل ابتزازهم. وهناك مراسلون يتقاضون رشاوى، ليس كمقابل عن المقالات التي يرسلونها لتنشر في جرائدهم، وإنما يتقاضون رشاوى لكي لا ينشروا شيئا ما؛ يعني مقابل إغماض العين فقط. وإذا
أغمض المراسل عينه عما يقع في منطقته فهذا يعني أن الجريدة ستصاب بضعف النظر، وبالتالي فلن تصل أخبار وفضائح المسؤولين في تلك المنطقة إلى من يعنيهم الأمر. وهذا ما يدفع بعض الجرائد إلى التخلي عن اعتماد مراسلين في بعض المدن تفاديا لتشويه سمعة الجريدة هناك، فهؤلاء يفضلون الغياب عن مناطق من المغرب على اعتماد مراسلين مرتشين يعطون صورة مشوهة عن الجريدة.
لكن هذا لا يعني أن نضع كل المراسلين في سلة واحدة، فهناك مراسلون صحافيون نزهاء ومهنيون يتعرضون للمضايقات الأمنية والسلطوية في مدنهم بسبب مراسلاتهم ولا يبيعون ضمائرهم لمن يدفع أكثر. لكن، للأسف، هذه العينة أصبحت عملة نادرة. الرشوة في مجال الصحافة لا تقتصر فقط على رشوة الصحافيين والمراسلين، بل هناك رشوة الكبار والتي تصل أحيانا إلى مئات الملايين، خصوصا عندما يتعلق الأمر بملفات بعض الشركات الكبرى العاملة في العقار أو المجالات الاستثمارية الكبرى؛ كما هو الشأن أيضا مع بعض الملفات القضائية الكبرى المعروضة أمام القضاء، فقد استطاع بعض الصحافيين أن يربطوا علاقات وطيدة مع بعض القضاة المرتشين، وأصبحوا يشكلون مع بعض المحامين الفاسدين حلقة جهنمية تضيع فيها حقوق الأبرياء وتداس فيها هيبة القضاء.
«إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، هذه الآية الكريمة تنطبق على المجال الصحافي في المغرب كما تنطبق على سائر المجالات، وهي تعني، في ما تعنيه، أنه إذا لم يبادر الشرفاء من أهل المهنة إلى إصلاح بيتهم من الداخل وطرد الطفيليين والمرتشين والفاسدين وفضحهم أمام الملأ والقيام بنقد ذاتي موضوعي بعيد عن النفاق والمداهنة والتغطية على الأخطاء والتستر على الفاسدين، فإن مهنتنا ستظل مهنة من لا مهنة له، يستطيع كل من هب ودب أن يحترفها بحثا عن بطاقة مخططة بالأحمر والأخضر يخيف بها المسؤولين الذين في قلوبهم مرض وفي «كروشهم العجينة».
هذا لا يعني أن الدولة لا يد لها في هذه الفوضى الصحافية التي يعيشها القطاع، فالتسهيلات الكبيرة المتاحة أمام كل من يرغب في احتراف هذه المهنة، بغض النظر عن مؤهلاته ومستواه، هي التي تشجع السماسرة والنصابين على ولوج هذا المجال وتلويثه وتشويهه. وقد كان مفهوما هذا الأمر عندما كانت لدى الدولة إرادة لتشويه الصحافة عبر تعميم قاعدة «ولاد عبد الواحد كلهم واحد»، فلجأت إلى إغراق الأكشاك بالصحف الصفراء. أما اليوم، فالدولة عليها أن تفهم أن الصحافة الجادة والموضوعية والوطنية هي الخندق الحقيقي حيث المدافعون عن استقرار البلاد ووحدة ترابها، وحيث يوجد حراس المال العام؛ أما المرتزقة والسماسرة والمرتشون الذين سمحت لهم الدولة بدخول هذه المهنة «بصباطهم» فقد حان الوقت
لإخراجهم منها بقوة القانون. لذلك، فعلى المهنيين أن يطالبوا الدولة بوضع شروط علمية وصارمة لإصدار الجرائد، يكون الشرط الأساسي ضمنها هو الانتماء إلى هذه المهنة وممارستها وفق قواعدها المعروفة، والتوفر على مستوى تعليمي، والخضوع لميثاق شرف يحفظ للمنتسبين إلى هذه المهنة كرامتهم وحقوقهم.
لا يعقل أن يمنع الأطباء والمحامون والمهندسون ولوج أشخاص بدون شواهد في الطب أو الهندسة أو القانون إلى مهنهم، فيما يسمح الصحافيون لأنصاف الأميين والذين يحملون في بطاقاتهم الوطنية مهنة «فراش» أو «فرناتشي» أو «خراز» بإصدار الجرائد؛ مع احترامنا، طبعا، لهذه المهن الشريفة، لكن احترامنا لأصحاب هذه المهن سيزيد لو أنهم بقوا في مهنهم الأصلية و«خلاو عليهم الصحافة لماليها». الفوضى الصحافية في المغرب لا تقتصر على الصحافة الورقية، وإنما تشمل أيضا الصحافة الإلكترونية؛ فبسبب غياب قانون منظم للنشر الإلكتروني أصبحنا نرى يوميا مواقع مشبوهة تسرق مقالاتنا ومواضيعنا وتعيد نشرها بدون خجل لرفع عدد زوارها طمعا في الإشهار. والخطير في هذه المواقع المشبوهة أن أصحابها الذين يختفون وراء أسماء مستعارة يكيلون التهم والشتائم والتعاليق البذيئة لعباد الله بدون خوف من المتابعة، لأنهم يعرفون أن الفراغ القانوني في هذا المجال يخدم مصالحهم الجبانة. لقد كنت دائما مقتنعا بأن الصحافة هي قشة الخلاص التي من الممكن أن تنقذ المغرب من طوفان الفساد الذي يكاد يغرقه؛ فهي المرآة التي يجب أن
تعكس وجهنا الحقيقي خاليا من المساحيق. وإذا علت الأوساخ والقاذورات هذه المرآة فإن المغرب سيسير نحو المستقبل مثل سيارة بزجاج أمامي مضبب. يمكن أن نقبل اتساخ كل الألواح الزجاجية الجانبية والخلفية، إلا الزجاج الأمامي للسيارة؛ هذا الزجاج هو الصحافة، ومن يلطخه بالأوساخ فكأنما يسير بالمغرب نحو حافة سحيقة أو شجرة في الطريق.
03.10.2009
عن موقع هبة بريس.