«واجب المثقف أن يكون حارساً للقيم لا كلب حراسة»
.. ويبدو أننا لا نعرفُ الفرق بين الاثنين، بين أن يكون المثقف حارساً للقيم وبين أن يكون كلبَ حراسة، وبعد أن تسللت الأيديولوجيات والمذاهب العقائدية والسياسية والقومية إلى تخوم الأدب، وتحول النص الأدبي إلى «مطية» أو «بوق» للترويج لهذا المعتقد أو التبشير بتلك العقيدة، تولدت ردة فعلٍ عكسية تطالب بضرورة المحافظة على «أدبية الأدب»، وراجت أديان ثقافية جديدة عقيدتها «الفن للفن»، وأصبح النص الأدبي أقل فاعلية في حضوره الثقافي والمعرفي، لأننا نتعاطى معه كما لو كان تلك «المزهرية» الكرستالية البديعة المصممة لأجل أن نتأملها لدقائق ثم نمضي في طريقنا.. ولما وجهت إلينا أنصال الأسئلة: ما سبب نخبوية المثقف؟ ما سبب هامشية الأدب؟ ما سبب انحسار القراءة؟ ما سبب تراجع الكتاب؟ ما سبب سطحية الثقافة؟ ببساطة شديدة دارينا حقيقتنا وعارنا وقلة حيلتنا وقلنا إن الأدب لم يعد هامشيا، ولكنه ببساطة يقوم «بدوره الجمالي» ويتصرف مثل «مزهرية كرستالية» مهذبة موضوعة على الرف، بعد أن تخفف من دوره السياسي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي.
نعم، أنا أتفق مع القول بأن ما راج من لافتات الستينات والسبعينات من أدبيات قومية ومؤدلجة ومسخرة لخدمة العقائد والمذاهب والأحزاب ليس أدباً في جوهره، ولكنني أيضاً أختلف مع القول بأن الأدب هو كائن جمالي محض يقوم بدوره كقطعة «ديكور» مضافة إلى منضدة عالمٍ قبيح.
الأدب ليس هذا ولا ذاك، الأدب ليس أداة في يد السياسة والدين، ولكنه أيضاً لا يخلو من المعالجة السياسية والمحتوى الديني، لا يدشن النص الأدبي لكي يخوض حرباً سياسية أو اجتماعية أو عقائدية، ولكن هذا لا يعني بأن الأدب في صلبه ليس أحد ظهورات الثقافة، وأن الثقافة ظهور معرفي تتكشف من خلاله -شئنا أم أبينا- أوجه سياسية واجتماعية ودينية وأخلاقية وقيمية.
ما حدث لنا ببساطة، وبعد أن سادت تلك التوجهات النقدية التي بشرت بفكرة الفن للفن، هو أننا نسينا بأن فنية الفن وأدبية الأدب لا تجرد النص من محتواه المعرفي ولا من طبيعته الثقافية، وببساطة شديدة لم نعد نتطرق إلى القيمة، لا نقدياً ولا حتى كتابياً، وصرنا نخافُ أن نكون مع أو ضد أي قيمة أو معنى أو مضمون أو محتوى لكي لا نتهم بالتخلف وعدم المواكبة للموضة الحداثية الرائجة، صرنا فارغين وجبناء، خائفين من أن نستجيب إلى حقيقتنا وأن نأخذ موقفاً إيجابياً من مبادئنا، فقدنا إيماننا بكل ما آمنا به، وشيئاً فشيئاً رأينا القصائد تجرد من المعنى، وتتعرى من المضمون، وتفتقر إلى المحتوى، ورأينا شعراءنا يتباهون بكونهم لا يفهمون ما يكتبونه، ورأينا أناساً يهذون على الورق ويسمون شطحات لاوعيهم إبداعاً، ورأينا روايات ازدحمت بالأبطال الممسوخين الذين يعيشون حياة عشوائية، ورأينا أشخاصاً يتهمون بالتخلف لأنهم يطالبون بنقد ثقافي ويسائلون مضامين تلك النصوص، ورأينا قراءً يتهمون بقلة الثقافة والاطلاع لأنهم لا يفهمون قصيدة الغزالة التي تتحول إلى قلم وأشياء أخرى غريبة، رأينا كتاباً يكتبون عن زنا المحارم ويوصفون بالشجاعة لكسر «التابوهات!» ورأينا كاتبات يكتبن عن الخيانة الزوجية بصفتها الغرام .. إفرازات ثقافتنا الراهنة، الثقافة عديمة القيمة وعديمة الضمير .. ثقافة ديوثة وجبانة، هل نحن سعداء بها حقاً؟
خفنا أن نكون كلاب حراسة، فتقاعسنا عن حراسة القيم، خلعنا على القيم صبغة سياسية وإيديولوجية، ولم نعد نرحب بها في أدبياتنا، نسينا أن النزاهة، والكرامة الإنسانية، واحترام الذات، والحياء، والأمانة، والوفاء والحوار واحترام الآخر .. هي ما يصنع إنسانيتنا أو ينفيها، وإذا كان الأدب مرآة للإنسان، بقدر ما هو الإنسان مرآة للكون، فالأحرى بنا أن نتذكر من نحن، ما الذي يعلي منا وما الذي يحط منا، ما الذي يصب في وجودنا وما الذي يمسخه، وقبل أن نمعن في تشويه نتاجنا الأدبي أكثر، خليقٌ بنا أن نتذكر حقيقة الأدب، الذي هو ليس مطية للإيديولوجيا وليس قطعة ديكور، خليقٌ بنا أن نتذكر بأن الأدب هو ذلك العالم الفادح الذي يجعلنا على صلةٍ بوجودنا وعلى تماسٍ من حقيقتنا، فهل قدرناه حق قدره؟.