Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
25 avril 2022 1 25 /04 /avril /2022 20:37
من معالم الفكر التربوي الإسلامي

من معالم الفكر التربوي الإسلامي

دراسة محكمة

د.عبد الجليل بوسيف

 

أستاذ مكون بشعبة التربية الإسلامية

المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين – جهة فاس مكناس - فرع مكناس

ملخص المقال:

إن التراث التربوي الإسلامي الذي كتبه العلماء المسلمون عبر العصور التاريخية المتعاقبة في قضايا التربية وموضوعاتها وكل متعلقاتها، كثير وغزير ومتنوع ومتعدد، ومفيد في رسم معالم خطة تربوية معاصرة بانية.

وإن حاجة الإنسان إلى التربية في مختلِف مراحله وأطواره، تعد ضرورة ملحة في كل العصور، لتقويم اعوجاجه، وتعديل مساره، والرقي به في مدارج الكمال، بما يجعل منه الإنسان الصالح في نفسه، النافعَ لغيره في بناء الحضارة وعمارة الأرض.

الكلمات المفاتيح:

الفكر – التربوي – الإسلامي – التعليم – إجبارية – مجانية – إشراك – الأسرة .

résumé

L'héritage éducatif islamique, qui a été écrit par les érudits musulmans à travers les âges historiques successifs sur les questions d'éducation et ses sujets et toutes ses questions connexes, est abondant, abondant, varié et nombreux, et est utile pour dessiner les paramètres d'un projet éducatif contemporain. .

Le besoin humain d'éducation dans ses différentes étapes et phases est une nécessité urgente à toutes les époques, pour corriger sa torsion, modifier son cours et l'avancer dans les voies de la perfection, d'une manière qui en fait une personne bonne en elle-même. , utile aux autres pour construire la civilisation et construire la terre.

Mots clés:

Pensée - éducative - islamique - éducation - obligatoire - gratuite - implication - familiale.

                                                                                                 

إن  الإسهام في عودة الأمة إلى التمسك بكتاب ربها وسنة نبيها في تربية أجيالها، يمكن أن يتحقق في  التقريب لجهود علمائنا المسلمين في مجال التربية والتعليم، الذين كان لهم الحضور البارز في هذا المجال بما ألفوا من تآليف وصنفوا من مصنفات، بدءا من الأئمة المؤسسين رحمهم الله، مرورا بتلامذتهم الآخذين عنهم، والتلاميذ الآخذين عنهم إلى عصرنا وزماننا، ومن خلال رصد معالم الإصلاح الثابتة في جهودهم الصالحة لزمانهم وزماننا، ورصد اجتهاداتهم المختلفة في القضايا التربوية المتغيرة، كي نستنير بها ونستفيد منها لقضايانا التربوية الاجتهادية المعاصرة.

وكذا الكشف في جهودهم على أن منهج التربية في الإسلام جاء لكل زمان ومكان،  وأن له أثرا كبيرا في الأمة صلاحا واستقرارا وتقدما وتطورا وازدهارا. وسأعرض في هذا المقال بعض معالم الفكر التربوي على سبيل الذكر لا الحصر ومنها:

1-  إجبارية التعليم

عبر علماء التربية الحديثة عن هذا المبدأ بـ: ( إلزامية التعليم)  وكان صدور هذا المبدأ التربوي الإسلامي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - مصحوبا بوازع ديني في المجتمع الإسلامي، فلا يحتاج إلى رقيب من البشر، ولا إلى جنود أو موظفين يجبرون الناس على تطبيقه، فصار جميع الآباء يذهبون بأولادهم إلى الكتَّاب لتعلم القرآن والصلاة والعقيدة.

وقد عقد معظم علماء الفقه والحديث أبواباً وبحوثاً من كتبهم ومؤلفاتهم لدعم هذا المبدأ وبيان أهميته عند الله، ومكانته في الإسلام، لما لَمَسوه من حضّ القرآن والسنة عليه، وقيام أمر الدين والدنيا على تحقيقه.

 فتحدث عنه "القابسي" (ت 403 ه)  مبينا أنه واجبُ الآباء ومسؤوليتُهم تجاه الأبناء، واعتبر أنه من الشح البخل على الأولاد بالتعليم، فقال : "وقد مضى أمر المسلمين أنهم يُعَلِّمون أولادهم القرآن ويأتونهم بالمعلمين، ويجتهدون في ذلك، وهذا مما لا يمتنع منه والد لولده وهو يجد إليه سبيلا إلا مداركةَ شح نفسه، فذلك لا حجة له"[1].

إن إجبارية التعليم في الإسلام، لا تتم إلا بتعليم جميع أبناء الأمة من مختلف الطبقات الاجتماعية ، ولهذا راعى "القابسي" مسألة تعليم اليتيم الذي غالب الظن به أنه فقير محتاج، فأبرز أن تعليمه على أقرب أقربائه، فإن لم يكن لذلك فلوصي المسلمين وحكام أمرهم، فإن لم يكن ذاك، فتعليمه على من علِمَ حالَه من المسلمين وهو على ذلك قادر، وأجره على الله، وإلا فليحتسب المعلمُ أجر تعليمه عند الله وحده . قال القابسي:

« وإن لم يكن لليتيم من أهله من يعنى به في ذلك، فمن عُنِي به من المسلمين فله أجره»[2]  .

وأفرد "ابن عبد البر" لهذا المبدأ باباً خاصاً عنْوَنه بقوله:  ( باب قوله صلى الله عليه وسلم   « طلب العلم فريضة على كل مسلم»)[3].

ثم ساق كلام إسحاق[4]: « قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعَيِّن على كل امرئ في خاصته بنفسه».  وفصَّل ما تضمنه من إجمال حيث قال: "من ذلك ما لا يسع الإنسان جهلُه من جملة الفرائض المفترضة عليه، نحوُ الشهادةِ باللسان والإقرارِ بالقلب بأن الله وحده لا شريك له، والشهادةِ بأن محمداً عبدُه ورسوله وخاتمُ أنبيائه حق، وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال، والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة، ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حق، وأن القرآن كلام الله، وما فيه حق من عند الله، يجب الإيمان بجميعه ، واستعمالُ مُحكمِه، وأن الصلوات الخمسِ فرضٌ، ويلزمه أن يعرف ما تجب فيه الزكاة، ومتى تجب، وفي كم تجب؟ ويلزمه أن يعلم بأن الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره، إن استطاع إليه سبيلا...إلى أشياءَ يلزَمُه معرفة جُمَلها، ولا يعذر بجهلها، نحوُ تحريمُ الخمرِ والخنزيرِ، وتحريمُ الزنا والغَصْبِ والرشوة على الحكم، والشهادة بالزور، وأكل أموال الناس بالباطل... وتحريم الظلم كله، وتحريم نكاح الأمهات والأخوات ومن ذكر معهن، وتحريم قتل النفس».

 ومن أهم ما أورده ابن عبد البر، من نصوص حول هذا المبدأ التربوي الإسلامي العظيم.

حديث: «ما من رجل يسلك طريقا يلتمس به علماً إلا سهَّل الله له طريقا إلى الجنة ومَن أبطأ به عملُه لم يسرع به نسبه»[5].

وحديث:« ما من قوم يجتمعون في بيت من بيوت الله يتعلمون القرآن ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده... »[6].

ففيه بيان مكانة طلاب العلم ومنزلتهم العظيمة عند الله ، حتى سخر لهم الملائكةَ تحفهم – أي تحيط بهم – وأنزل عليهم رحمته وسكينته، وهذا ما يلاحظ من سِيَمَا الوقار والسكينة على المخلصين العاملين من العلماء[7].

وفي هذا كله حضٌّ على طلب العلم والاهتمام به. مما جعل أبناء الأمة يتسابقون في هذا المضمار، حتى أصبحت حاملة مشعل الحضارة والعلم في العالم، فقد كان من القيم الاجتماعية أن قيمة الإنسان فيما يتقن من علم ، لا فيما يجمع من مال.

بل إن قيمة العلم فاقت قيمة العبادة في التقرب إلى الله. وقد عقد "ابن عبد البر" باباً بهذا المعنى سماه:( باب تفضيل العلم على العبادة) أورد فيه أحاديث وأخباراً من أهمها ما رواه ابن عبد البر عن الزهري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« خير دينكم أيسرُه، وخير العبادة الفقه»[8].

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي»[9] . وعن عمرَ بن قيس الملائي قال:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العلم خير من فضل العبادة ومِلاَك الدين الورع »[10].

هذه بعض الأحاديث من هذا الباب، وهي صريحة في أن الإسلام يرفع من درجة العلم والتعلم فيجعله عند الله خيراً وأفضل من العبادة النافلة.

أما الأخبار عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم فكثيرة، منها ما روي عن ابن عباس « نِعْمتِ العطيةُ ونعمتِ الهديةُ كلمةُ حِكمة، تسمعها فتنطوي عليها، ثم تحملها إلى أخ لك مسلمٍ تعلمه إياها تَعْدِل عبادة سنة».

 وعن قتادة قال: ( باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه وصلاح من بَعْدَه أفضل من عبادة حول)[11]، وعن عبد الله بن الشِّخِير قال: « حَظٌّ من عِلْمٍ أحب لي من حظٍّ من عبادة» وقال قتادة: قال ابن عباس: « تذاكرُ  العلم بعضَ ليلة أحب إليَّ من إحيائها»[12].

 وعن أبي هريرة وأبي ذر قالا: « باب من العلم يتعلمه ويعمل به أحبُّ إلينا من ألف ركعة تطوُّع ، وباب من العلم يعلمه، عَمِل به أو لم يعمل به أحب إلينا من مئة ركعة تطوُّع، وقالا : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جاء الموت طالب العلم وهو على تلك الحال مات شهيدا»[13].

وعن محمد بن يوسف سمعت الربيعَ بنَ سليمانَ يقول: « سمعت الشافعي يقول: لطلب العلم أفضل من الصلاة النافلة». وعن سفيان الثوري: « ما من عمل أفضلُ من طلب العلم إذا صحت النية»، وقال، « لا أعلم من العبادة شيئاً أفضلَ من أن يُعَلَّم الناس العلم»[14] .

ومن العلماء الداعين إلى "مجانية التعليم" "علال الفاسي" (ت 1394 ه) الذي اقترح في عصره لتنزيل هذا المبدأ مشروعا يتم إنجازه على مدى عشر سنوات، « تُوَزَّع فيها المملكة الشريفة على عشر مناطق تعليمية بحسب عدد الأطفال الذين في السن المدرسي، بحيث لا تقل كل منطقة عن مائتي ألف تلميذ، ثم تقوم بإجبار التعليم لتلاميذ منطقة واحدة في كل سنة، وذلك ما يتطلب منها إنشاء أربعمائة مدرسة في كل عام»[15].

إن القارئ المهتم بفكر "علال الفاسي" يدرك عمق تصوره الديني والوطني لمسألة إجبارية التعليم، والحس التربوي لاختياراته ومبادئه، التي تقر أن مسؤولية الدولة تكمن في ضمان تعليم شامل ومجاني للمواطن، تقوم على تدبيره وحسن رعايته، بما يحقق المصلحة للفرد والمجتمع.

 إذ يؤكد: «أن الحكومة التي لا تُعنى بالمعرفة، ولا تجعلها في متناول جميع الطبقات، ولا تحمل الجاهلين على أن يتعلموا، لَهِيَ حكومةٌ لا قيمة لها في الاعتداد العصري، ولا تستحق من المواطنين أي احترام أو تقدير»[16].

التعليم الإجباري، في نظر "علال الفاسي" يجب أن يحترم تخطيطا يحقق عملية تعميم التعليم ودَمَقرَطته على امتداد عشر سنوات.

والإجبارية لن تتم دفعة واحدة في سائر الجهات، لأن الوضعية المالية والبيداغوجية لا تسمح بذلك. والحلّ الممكنُ هو فرضُ التعليم الإجباري سنة واحدة في منطقة ما، ثم الانتقال في السنة الموالية إلى منطقة أخرى... وهكذا دواليك إلى أن يشمل الهدف جميع المناطق. طبعا، ينتج عن مثل هذا التخطيط تأخرُ المنطقة الأخيرة، بمدة عشر سنوات، عن الجهة الأولى.

يَعرف "علال الفاسي" هذا الاعتراض ويتوقعه، فيرد بأن أي منظور آخر غير ممكن، وأنه ما لم يُوضع هذا التخطيط فسيظل الحال على ما هو عليه الآن، وسيبقى هناك تفاوت بين أطفال المنطقة الواحدة، والحال أنه من الأفضل الحفاظ على التفاوت بين المناطق، بدل الإبقاء عليه داخل الجهة الواحدة"[17].

وهذا المشروع الذي اقترحه "علال الفاسي" ورأى أن يُتَدرج في تنزيله، لا يفهم منه ضرورةُ التدرج في تنزيل كل المبادئ التربوية، مهما اختلفت الإمكانات في تنزيلها، فحيث تكون موارد الدولة الماليةُ والبشرية ضعيفة، يكون من المناسب سلوك مسلك التدرج، وحيث تكون الموارد وافرة، يعمم التنزيل على كل ما يصلح أن يتنزل عليه.

وإنما المقصود هنا التنبيه على كفاءة العلماء في قيامهم بدورهم المطلوب في أزمانهم، حيث كان لهم الدور البارز في توجيه وإرشاد العملية التعليمية التعلمية، في جوانبها المختلفة.

وهكذا سبق ديننا وعلماؤنا إلى تحقيق (إلزامية التعليم) على جميع المستويات والأجناس والأعمار، فلم يخلُ مسلم ولا مسلمة من تعلم أهم مبادئ الإسلام وواجباته ومحرماته، وأركانه، وأركان الإيمان، وبعض آيات القرآن، ومعرفة أهم الحقوق والواجبات الاجتماعية الإسلامية، وعمَّ ذلك جميع أفراد الأمة الإسلامية، حتى صار كل فرد على جانب من الثقافة الاجتماعية والدينية، والمدنية، يَمْحُو به الأمّية، ويعرف حقوقه وواجباته.

2 -  مجانية التعليم

تنص دساتير معظم الدول اليوم على أن التعليم الابتدائي إلزامي ومجاني. وهذا يُلزم الحكومات في كل دولة بتهيئة كل وسائل التعليم؛ من معلمين أكفاء ومديرين وكتب وأبنية مدرسية ووسائل تعليمية ونحوِ ذلك. وهذا يكلف الحكومة ميزانية ضخمة ومبالغ باهظة.

وقد حضَّ الإسلام على التعليم مجانا، وكان هذا الحض نتيجة لما ورد من النهي عن جعل القصد من التعليم مجرد جمع المال، أو كسب الرزق، أو الجاه.

ولقد عني فقهاء الفكر التربوي الإسلامي بهذا المبدأ فتحدثوا عنه وأبانوا أهميته في قيام التربية والتعليم وعمومها في أنحاء المجتمع، مستدلين بما يدل على إقراره في الشريعة الإسلامية،  فكان  "ابن عبد البر" ممن تحدث عنه في معرض الكلام عن مبدأ الإخلاص، لصلته به وارتباطه به، فروى

 « عن أبي العالية قال: مكتوب عندهم في الكتاب الأول: ابنَ آدم عَلِّم مجانا كما عُلِّمت مجاناً، قال أبو عمر (يعني ابن عبد البر ) معناه عندهم: كما لم تُغرّم ثمناً، فلا تأخذ ثمناً. والمجّان الذي لا يأخذ ثمناً».

ثم أيَّد هذا المبدأ بحديث أبي هريرة مرفوعا: « من تعلم علما مما يُبتغى به وجهُ الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرف الجنة»[18].

 فدل الحديث على  تحريم تعلم العلوم الربانية، كالحديث والتفسير  والفقه والتوحيد، لمجرد كسب الدنيا لا لقصد آخر. أما العلوم الأخرى، كبعض الحرف والصناعات، فلا يشملها هذا التحريم.

 ويورد "ابن عبد البر" حديثا آخر في التعليم مجانا، مرويا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « علماء هذه الأمة رجلان: فرجل أعطاه الله علماً، فبذله للناس، ولم يأخذ عليه صُفراً[19] ولم يشترِ به ثمناً، أولئك يصلي عليهم طير السماء ، وحيتان البحر، ودوابُّ الأرض، والكرام الكاتبون. ورجل آتاه الله علما ، فضربه عن عباده وأخذ به صُفرا ، واشترى به ثمنا ، فذلك يأتي يوم القيامة ملجما بلجام من نار»[20].

ومن هذه النصوص يتبين أن الإسلام يدعو إلى بذل العلم ابتغاء وجه الله وابتغاء مرضاته، ويمنعُ أن يتخذه الناس سلعة تباع وتشترى.

وتطبيقا لتعاليم الإسلام بهذا الخصوص، يبين "النحلاوي" النتيجة التي أعقبت هذا التطبيق، موضحا كيف كانت مجانية التعليم في أول الأمر وكيف تطورت من خطوة شعبية إلى خطوة مركزية حيث قال: "وبهذا سارت التربية الإسلامية شوطا بعيدا في تحقيق مجانية التعليم، وكانت هذه الخطوة في أول الأمر شعبية، لا مركزية، إذ كان العلماء يجودون بالعلم، ويقيمون حلقات التعليم من غير أجر ، ثم جاد الخلفاء عليهم بالعطايا تقديرا لجهودهم، فكان بعضهم يقبلها ليستعين بها على مشاريعه العلمية، وينفق أكثرها على طلابه، ثم نظِّم الأمر تنظيما شعبيا آخر، فكان الأغنياء يوصون بأموالهم أو يتبرعون بعقاراتهم لتكون وقفا ينفق ريعها على طلاب العلم"[21].

وهكذا ظلت المجانية في التعليم سائدة في المجتمعات الإسلامية إلى عهد قريب، فكان نتيجة لذلك أن ساد الرخاء العلمي وانتشر العلم في عموم الأمة، وبين مختلف طبقاتها وأطيافها.

-  وجهة نظر أخرى في مجانية التعليم لأبي جمعة المغراوي ( ت 920 ه ) ودارسِ كتابه ومحققه، عبد الوهاب التازي ( ت 1437ه)

بينما يميل "ابن عبد البر" إلى القول بمجانية التعليم بما أورده من نصوص في مبدأ الإخلاص، حسبما أوضحه "النحلاوي" في دراسته، نجد "أبا جمعة المغراوي" ينتصر للقول بعدم مجانيته مستندا إلى جملة من الدلائل التي يراها تؤيد هذا الرأي وتقوي جانبه، وهو الرأي الذي تابعه عليه دارس كتابه ومححقه "عبد الوهاب التازي" إلى حد أنه اعتبر الأداء عن التعليم بدعة القرن الحاضر حيث قال:

"المبدأ الذي يظل  ـــــ و خاصة اليوم ــــ مشغلة للحكومات  ورجال التربية  في سائر جهات  الدنيا ، ويُهِمنا  منها  العالم الإسلامي.

   ويتعلق  الأمر  ببدعة  القرن الحاضر : التي تقتضي  بمجانية  التعليم ـ أي  إعفاء الأولياء من  أداء  تعويض مالي مقابل  تلقين  أبنائهم، على  أن تتكفل  الحكومات  بالنفقة  على  الأبناء من  الروضة إلى الدكتوراه"[22].

لقد أولى عبد الهادي التازي هذا  الموضوع اهتماما كبيرا، وأشاد بذكاء "المغراوي" في التنبه إليه والاهتمام به، حيث جعله محل الصدارة في المبادئ التي تناولها، إذ يقول: "لقد  كان  في صدر ما  اهتم  به  المغراوي وعني به : هذا المبدأ الذي  يقول بوجوب  الأداء عن التعليم  ابتداءً  من أول مرحلة  فيه  إلى آخرها، أي   أنه  على  الأب أو  الوليّ أو الصغير  ألا يعتمدوا على  الحكومة  لتؤدي عنهم  من أجل أن يتعلموا"[23].

 ومن اهتمام "المغراوي" بهذا المبدأ، أنه كرر الحديث عنه في مواضع عدة من كتابه، وهو ما ذكره "التازي" حيث قال:  "وقد شغل أمرُ الأداء حيزاً مهما  في تأليف المغراوي، حتى لَكُنَّا نلاحظ أحياناً أنه ربما يكرر القول، ولكنه كان يقصد دون  شك إلى ترسيخ المبدأ في أذهان الناس، فليس الكل مهيئاً للتعليم  وليس في استطاعة قدرة الـمُـعلم استيعابُ  سائر الذين  يرغبون .

   وهكذا ففي صفحة (5) و (7) و (8) و (9) و (10) و(16) و(19)و(42) و(43) في كل هذه الصفحات  حديث عن  المال المدفوع :  مشاهرة أو مسانهة أو مقاطعة أو مهاداة،  بمناسبة الأعياد و المواسم و المناسبات، علاوة  على  ما يؤدى بمناسبة "الحِذْقات" أي حفظ  الصبي لحصة معينة من القرآن الكريم نظراً أو ظاهراً أي  تلاوة و حفظاً [24].

يقول "التازي" "وهذا مبدأ  ينم  عن ذكاءِ  و حكمة  وبُعدِ نظرِ المتقدمين  الذين كانوا يرجعون  إلى استشارة  مواردهم ، فإن  كانوا يستطيعون تحمل  العبء تقدموا، وإلا سلكوا  طريقاً آخر"[25] .

وقبل أن يذكر "التازي" الأدلة التي استند إليها المغراوي ، ذكر جملة من المسوغات للقول بهذا الرأي في هذا العصر خاصة، وهو تخفيف العبء عن الدولة في كثرة ما تقوم به من مهامَّ وتُقدمه من خدمات مجتمعية من ميزانيتها، مثل بناء الجسور وتعبيدِ الطرقات، وإنارةِ السبل.... فإذا أضيف إليها إنفاقها على التعليم لوحدها كان الحمل كبيرا والعبء عليها ثقيلا.

كما أنه استخلص من كلام "المغراوي" في الفصل الأول من كتابه، أن التعليم اختياري يعتمد على الاستعداد النفسي والقدرة المالية على الأداء عنه.

ويقرر أيضا أن ما ذهب إليه "المغراوي" في هذا الموضوع، هو نفسه مذهبُ العلماء قبلَه كالقابسي وابن سحنون وغيرهما،  وفي هذا يقول التازي: "إن  الحكومة  تضطلع بعدد من المسؤوليات التي لا مفر لها منها:

   بناء الجسور وتعبيد الطرقات وإنارة السُبل  وإغاثة  المحتاجين، وإنقاذ المرضى ، وقبل هذا وبعد هذا إعداد الجيش الإسلامي للطوارئ التي تهدد المجموعة الإسلامية في كل وقت .

     وفي نظري-يقول التازي- أن بداية المغراوي بهذا الموضع الحيوي له دلالته البعيدة، فإن الرجل ــ كسائر المربّين الذين سبقوه ــ لم  يريدوا أن يلقوا بأمر التعليم على جهةٍ قد  لا تستطيعه، بقدر ما قصدوا أن يجعلوه محل تنافس بين المستطيعين و المريدين و الراغبين و الصادقين في طلبهم"[26].

 ومن ثمت تحررت  الدولة  من هذا العبء  الذي ظل  عبر التاريخ الإسلامي ملقى على كاهل الأسرة، والأسرة وحدها.

 ومن هنا  وجدنا أن الذين  يتقدمون  للتعليم "نفر" أهَّلهُ  استعداده الفطري أو استطاعته المادية أو ساعدته أريحية مُتَطَوِّع عنه من المتطوعين لدفعه إلى الكتاب.

   ولم يكن  "المغراوي"  إلا مردداً للرأي الذي أخذ به  السلف من ذي قبل  حول هذا المبدأ، وقد قرأنا هذا  في "آداب المعلمين" لابن سحنون (ص 96) ، و كذلك في " الرسالة المفصلة " للقابسي (ص291) وفي الفوائد الجميلة للشوشاوي (ص411-412) و في " المعيار" للونشريسي(8/236 ـــ 251 ــــ 254).

وهذا الحال هو الذي نجد  عليه  اليوم معظم دول العالم، سواء في القارة الأروبية بسائر دولها أو القارة الأمريكية كذلك بسائر حكوماتها، أو حتى  في  القارة الأسيوية، فلقد قرأنا منذ شهور: أي أوائل شهر يونيه 1950 م، أن الصين أخذت في تطبيق توصية الحزب بوضع حد  لنظام المجانية، وهو التطبيق الذي سيسبب زيادة  عدد المدارس الحرة  للتعليم  في مختلف أطواره.

لقد ركز الفصل الأول من  كتاب "المغراوي" على  ما يفهم منه أن الدراسة اختيارية، تعتمد على الحافز النفسي و القدرة المالية، ولو أن الدولة  كانت تشجع أحيانا بإنشاء المدارس لكن الأمر، في الانطلاق و أخذ الطريق ، يبقى لاختيار  الإنسان"[27].

ورصد "التازي" أدلة "المغراوي" التي استند إليها، في الأداء عن التعليم،  المباشرة وغير المباشرة، والصريحة وغير الصريحة.

فمن المباشرة الصريحة: الأحاديث التي استند إليها القابسي وابن سحنون في أخذ  الأجرة عن التعليم، وأن ذلك مما جرى به العمل وتلقاه العلماء بالقبول، وكذا تحديد الإمام مالك للمبالغ المستحقة التي على  الصبي أو وليه أن يدفعها للمعلم.

ومن المباشِرَة غير الصريحة: عدد من المسائل ذات الصلة بالموضوع، ينشأ عنها الخلاف ويُستفتى فيها العلماء، كما استفتي مالك رحمه الله، أو يقع الترافع فيها إلى القاضي.

   وهو ما عبر عنه "التازي"  بقوله: "واهتم "المغراوي" بأمر تحديــــــد الإمام مالك ـــ رضي الله  عنه ــــ للمبالغ المستحقة  التي على  الصبي أو وليه أن يدفعها للمعلم ، وذلك نقلاً عن المربي المغربي الشيخ ــــ أبي عمران موسى الزناتي في كتابه الحُلَلُ[28]، وأكـــد  أن أمر دفع التعويض في مقابلة "الاستظهار" أمر جرى به العمل وتلقاه العلماء بالقبول.

    وقد سئل النبي (صلى الله عليه و سلم) حول نازلة تتلخص في أن بعض الصحابة تردد في قبول أجرٍ عوضاً عن مساعدة قدمها بما تيسر له من القرآن، فقال :" قد أصبتم ! اقسموا و اضربوا لي معكم سهماً.....  !".

   وحتى يتجلى مبدأ "الأداء" كما يجب أن يتجلى، وجدنا "المغراوي" يعالج عدداً من  الجزئيات التي يمكن أن تحدث؛ مثلاً لمن يُوكَل إليه أمر تحديد الأجرة؟ هل العرف و العادة المتعارف عليها بين الناس؟ أم الأمر يتعلق بأريحية الأولياء الآباء، أم أنه خاضع للحالة المادية للطفل، أم أن الأمر يعتمد أولاً و أخيراً على الشرط أي على ما يَتفق عليه الطرفان و يلتزمان به (ص 42،39،35،31،31،28،20،19،14،13،8،5) ثم تحدث عن حكم فسخ العقدة من جانب واحد (ص35)  وحكم انتقال التلميذ من مدرسة إلى أخرى و على أي أساس يعطى الحقَّ في التعويض المالي؟(ص 11،10،8) ، (سحنون، ص 107-108) وهل للمعلم إذا غير مكان تعليمه، دون استشارة الأولياء، حق التعويض المتفق عليه أم لا( ص 39)، وكذا إذا مرض فتخلف عن أداء مهمته(ص43) ، وفي حالة ما إذا ظهر للتلميذ أن يعيد الكرة فيما حَذَقه من ذي قبل ، هل تكون الأجرة نفسَ  الأجرة سيما ونحن نعلم أن مشقة  العلم تَخِفُّ بالنسبة للمرة الثانية؟(ص 11-12).

   ولم يُغْفِل المغراوي ما قد يطرأ من تقديم "هدايا" إلى  المعلم علاوة على أجرته المعلومة بالعرف أو بالشرط، و الأمر في نظره  موكول إلى حسن النية أو سوئها (ص 20-34، المعيار 8/251) لكنه في معرض آخر ينص مرتين اثنتين على أن طمع المعلم في أخذ أزيد ما وقع عليه الشرط يعتبر  من باب السحت ( ص 10-38).

ومن المسائل ذات الصلة بالأداء عن التعليم التي عالجها المغراوي: ما يحكم  به القاضي على الولي و ما لا، وما يُرجع فيه  للعرف أو لحالة الوالد من يُسر و عسر، و ما يُحْكَم به  في حالة  وفاة المعلم أو المتعلم في أثناء  المدة الـمُشَارَطِ عليها، و ماذا عن موقف الشرع في أخذ الزائد على الواجب المتفق عليه.

لقد ظلت فكرة " الأداء على التعليم" هي الفكرةَ السائدة طيلة العصور  الخالية للدولة الإسلامية ، ومع ذلك فقد أتت  أكلها بما أنتجته من رجال أفذاذٍ و سيدات كاملات"[29].

والذي تبين من المقارنة بين ما تقرر مذهبا لابن عبد البر، وما ذهب إليه "المغراوي" وانتصر له التازي" في موضوع الأداء عن التعليم، أن الأقرب – والله أعلم – أن تراعى المصلحة والمفسدة في تقرير أي المذهبين أنسب بكل عصر وكل دولة، حسب قوة اقتصادها أو ضعفه، فتكاليف التعليم اليوم ومراحلُه ومتطلباتُه أكثر من الأزمنة الماضية، وما يمكن أن يعتبر أداء عن التعليم في الأحاديث المستدل بها، إنما هي حالات عرضية تطوعية في غالبها، كما أن استناد "التازي" إلى اختيارية التعليم لا إلزاميته، لا يُسَلَّم بها، وهو ما لا ينسجم مع القول بتعميم القول بلزوم الأداء عن التعليم.

وأما تخفيف العبء عن الدولة، فهذا النظر صحيح، حيث لا تفرض أنواع الضرائب على المجتمع في مختلف المجالات، وحيث تكون مجانية التعليم خالصةً من أي أداء، وإلا فتخفيف العبء عن الأسرة أمر مطلوب كذلك.

وكذلك ينبغي أن يراعى في القول بالأداء عن التعليم، ما يترتب عنه من الطبقية في التعليم وتمكين أبناء الأغنياء منه دون أبناء الفقراء، مما ينتج عنه الإضرار بمصلحة الأمة العامة في إهدار الطاقات، وتعطيل القدرات، وإيجاد نوع من الاحتقان والتنافر بين أفراد المجتمع.

  و"التازي" وإن كان يذهب مذهب الأداء عن التعليم، فقد جرى في  مستهل كلامه ما يؤيد الوجهة التي أميل إلى القول برجحانها.

3 - إشراك الأسرة في تدبير  شأن المتعلم

مما هو جدير بالذكر هنا ما أشار إليه "ابن سحنون" ( ت 256 ه ) في حديثه عن عقاب المتعلم، وهو تأكيده على ضرورة إشراك الأسرة في تحديد عدد الضربات إن أراد الزيادة فوق ثلاث. إذ قال في هذا الصدد: "ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب ثلاثا، إلا أن يأذن له الأب في أكثرَ من ذلك"[30] .

وبهذا يكون "ابن سحنون" قد دعا إلى التعاون بين البيت والمدرسة لإنجاح التعليم ، ويؤكد هذا – أيضا - حيث قال: "وعلى المعلم أن يخبر أولياءهم إن لم يجيئوا.. ولا يرسل بعضهم في طلب بعض إلا بإذن أوليائهم"[31].

وانطلاقا من المبدأ الراسخ بأن الصبي يولد صفحة بيضاء قابلا لكل نقش، وأنه أمانة عند والديه، نجد "ابن عرضون" (ت 992 ه) يُحمل الأهل مسؤولية تربية الولد على الخير ليسعد في الدارين، وإلا نَالَهُم شقاؤه ووزرهُ، لمخالفتهم قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين منوا  قُوا أنفسَكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون﴾[32].

وهو ما تُعنى التربية الحديثة به من خلال تكوين جمعية آباء وأولياء التلاميذ في المؤسسات الأساسية، لكنها تظل حاضرة على مستوى الشكل والظاهر في عدد من المؤسسات، ولا تقوم بالدور الحقيقي المنوط بها، بل إن بعضا من أولياء التلاميذ يستميتون في الدفاع ضدا على مصلحة أبنائهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، مما يُضْعِف حرصَ المدرسين على مصلحة بعض التلاميذ نتيجة لوقوف أوليائهم ضدها.

وهنا يأتي دور الدولة في تقويم العوج وإصلاح الخلل وتوجيه المسار، من خلال توعية الآباء والأمهات والأولياء للقيام بدورهم على الوجه المطلوب.

4 - اقتران العلم بالعمل

يكتسب العلم الذي يتعلمه الإنسان قيمته من العمل به، وإلا فبدون ذلك، فهو والجهل سواء، وربما كان الجاهل أقل ملامة في عمله بخلاف مقتضى العلم من العالم العامل بخلاف علمه، ومن ثم نجد الإسلام يحث على العمل بمقتضى العلم  في نصوص كثيرة، وتحدث العلماء عن هذا الموضوعِ في تصانيفَ عديدةٍ، أبرزُها وأخصُّها: تأليف الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ) الذي أسماه: "اقتضاء العلمِ العملَ"[33]، وكان لفقهاء المالكية دورُهم في العناية بهذا المبدإ والحث على تطبيقه، حيث عقد "ابن عبد البر" ( ت 423 ه ) له بابا بعنوان: (باب: ما جاء في مساءلة الله عز وجل العلماء يوم القيامة عما عملوا فيما علموا )[34]  أورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «أول الناس يقضى يوم القيامة ثلاثة... ورجل تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأُتِيَ به، فعرّفه نعمه، فعرفها  فقال فما عملت فيها...»[35]  وأورد حديث ابنِ عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال : عن شبابه فيما أبلاه؟ وعن عمره فيما أفناه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه وأين أنفقه؟ وعن عمله ماذا عمل فيه؟[36].

ويتبين من خلال الحديثين، أن العمل بهذا المبدأ في التربية الإسلامية ينبني أساسا على الشعور بالمسؤولية أمام الله والخوفِ من السؤال بين يدي اللهِ يوم القيامة، إذا لم يَقرِنِ الإنسان علمه بالعمل به، وكذا الشعورِ بالخيبة من التناقض في ذلك، وهذا ما أوضحه "ابن عبد البر" حيث قال: "قد ذم الله في كتابه قوما كانوا يأمرون الناس بأعمال البر ولا يعملون بها، ذما وبخهم الله به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال: ﴿أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب. أفلا تعقلون﴾[37].

وأكد "الحازمي" ضرورة المزاوجة بين العلم والعمل، بما من شأنه أن يعكس القدوة الحسنة للمتعلمين، ويؤديَ حق الشكر على نعمة العلم لله رب العالمين، ويجنب الخيبة عند السؤال يوم الدين حيث قال: "إن تعلم العلمِ لا يكفي ليستقيم الإنسان، فلابد للمربي أن يعمل به حتى يكون قدوة صالحة، جاعلا ظاهره موافقا لباطنه، متحليا بالأخلاق الحميدة من العفة والصدق والإخلاص والأمانة والنصح وحب الخير للناس، وحثهم على فعله، ومتجنبا للرذائل من قول الزور والكذب والخيانة والحسد وبغض الناس وكافة منكرات الأخلاق، ويرتفع عنها ويسمو بأخلاقه لأسمى الدرجات.

وعليه أن يتيقن أنه سوف يُسأل عن علمه فيما فعل، كما جاء في الحديث:( لا تزول قدما عبد يوم القيامةِ حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)[38].

وقال من تربى في مدرسة الرسول– صلى الله عليه وسلم -  أُبي بن كعب: تعلموا العلم واعملوا به ولا تتعلموه لتتجملوا به. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: اعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا[39].

الآثار العلمية والحضارية لهذا المبدأ.

نقل "ابن عبد البر" آثارا عن الصحابة وأقوالا للتابعين تدل على حرصهم على تطبيق هذا المبدأ، وتربية المتعلمين والناشئين عليه. منها قول أبي الدرداء: « إنما أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أو جهلت؟ فأقول: علمت، فلا تبقى آية من كتاب الله آمرةً أو زاجرةً إلا جاءتني تَسألُ فريضتها. فتسألُني الآمرة : هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع»[40]. ومنها قول سفيان الثوري: «ودِدت أني قرأت القرآن ثم وقفت» وقوله:« وددت أني أفلت من هذا الأمر» ثم قال« وما أدركت أحدا أرضاه إلاّ قال ذلك»[41].

وعقد "ابن عبد البر"  لهذا المبدأ( بابٌ جامعُ القول في العمل بالعلم)[42] استفتحه بحديث: «طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل نفسه في غير مسكنة، وأنفق مالاً  جمعه في غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل  والمسكنة... طوبى لمن عمل بعلمه، وأمسك الفضل من قوله»[43] .

وأورد فيه قولَ المأمون: «نحن إلى أن نوعظ بالأعمال أحوج منا أن نوعظ بالأقوال»[44]. وقولَ أنس بن مالك: «تعلموا ما شئتم تعلموا فإن الله لا يأجركم على العلم حتى تعملوا به، إن العلماء همتهم الوعاية وإن السفهاء همتهم الرواية»[45] .

ثم روى عن علماءِ التابعين أقوالا وحكماً مفيدة منها:« قال رجل لإبراهيم بن أدهم[46] : قال الله عز وجل:﴿اُدعوني أستجبْ لكم﴾[47] فما لنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ فقال إبراهيم: من أجل خمسة أشياء: عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، وقرأتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، وقلتم نحب الرسول وتركتم سننه، وقلتم نلعن إبليس وأطعتموه، والخامسة تركتم عيوبكم وأخذتم في عيوب الناس»[48].

إن الانفصال بين هذا الترابط الوثيق بين العلم والعمل في المناهج التربوية الحديثة، هو ما أفقد التعلم فائدته الحقيقية المرجوة، فتجد المتعلم مثلا يمتحن في شرح حديث النهي عن الغش، وإذا به يمارس الغش في امتحانه، ولربما حصل على أعلى الدرجات في بيان معنى الحديث وشرحه.

 وعلى هذا فقس كثيرا من القيم والمبادئ الضائعة في ميدان التربية والتعليم؛ لأن المناهج الحديثة إنما تقيس التعلمات فقط إن صح وسلِم قياسها لها، أما العمل، أما القيم والأخلاق فشيء آخر لا يعنيها كثيرا

المصادر المراجع:

  1. [1]) الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين، أبو الحسن علي القابسي ( ت 403 هـ) ص 92، 
  2. [1]) المصدر نفسه ص: 94.
  3. [1]). جامع بيان العلم وفضله، أبي عمرو يوسف بن عبد البر، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 0303 ه 0333 م. ص: 23.
  4. [1]) هو الإمام الحافظ الكبير أبو يعقوب التميمي. نزيل نيسابور وعالمها، يعرف بابن رهويه، ولد سنة 166هـ . قال الطوسيّ: ما أعلم أحداً أخشى لله من إسحاق وكان أعلم الناس، وهو في رواية الحديث ثقة مأمون إمام، روى عنه أبو داود الخفاف قوله: كأني أنظر إلى مئة ألف حديث في كتبي وثلاثين ألفاً أسردها، قال وأملى علينا إسحاق من حفظه أحد عشر ألف حديث، ثم قرأها علينا فما زاد حرفا ولا نقص. مات 238هـ، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/433
  5. [1]) جامع بيان العلم وفضله 1/ 63. صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 4/2074 رقم 2699.
  6. [1]) جامع بيان العلم وفضله 1/65  وهذا الحديث جزء من حديث طويل أوله: « من نفَّس عن مؤمن كربة... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله...» أخرجه الترمذي، أبواب القراءات، باب بدون ترجمة 5/195 رقم 2945.
  7. [1]) جامع بيان العلم وفضله1/416.
  8. [1]) أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث أعرابي، 25/ 284 رقم 15936 بدون: وخير العبادة الفقه.
  9. [1]) جامع بيان العلم وفضله1/101. والحديث أخرجه الترمذي بلفظ: " كفضلي على أدناكم" أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 5/ 50 رقم 2685.
  10. [1]) المصدر نفسه 1/106 والحديث أخرجه الطبراني (المتوفى: 360هـ) في المعجم الكبير، باب بدون ترجمة، طاوس عن ابن عباس، 11/ 38 رقم 10969 .
  11. [1]) جامع بيان العلم وفضله1 / 110، 111.
  12. [1]) المصدر نفسه 1/ 117.
  13. [1]) المصدر نفسه 1/121،  والحديث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط باب الألف، باب من اسمه إبراهيم  3/ 64 رقم 2492.
  14. [1]) المصدر نفسه 1/ 124.
  15. [1])  النقد الذاتي، علال الفاسي، المطبعة العالمية، القاهرة، الطبعة الأولى، 0356 م. ص: 345.
  16. [1]) المصدر نفسه، ص 342.
  17. [1]) الأطروحات التعليمية في الحركة الإصلاحية بالمغـرب، نموذج علال الفاسـي، ترجمة محمد اسليم. موقع محمد أسليم انظر النقد الذاتي ص 346.
  18. [1]) جامع بيان العلم وفضله  1/ 658  والحديث أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله، 3/323 رقم 3664.
  19. [1]) الصُّفر بالضم نحاس يعمل منه الأواني. مختار الصحاح، مادة: ص ف ر. وهو هنا كناية عن قليل المال وكثيره ، لأن بعض النقود كان يصك من النحاس كالفلوس وبعضها من الذهب كالدنانير.
  20. [1]) جامع بيان العلم وفضله 1/ 172، والحديث اخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، باب الميم، من اسمه محمد، 7/171 رقم 7187.
  21. [1]) أعلام التربية في تاريخ الإسلام، ابن عبد البر، للنحلاوي ص 48، 50.
  22. [1]) المغراوي وفكره التربوي، من خلال كتابه: جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما بين المعلمين والصبيان ص 32.
  23. [1]) المصدر نفسه، ص 32.
  24. [1]) المغراوي وفكره التربوي، من خلال كتابه: جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما بين المعلمين والصبيان، ص: 34
  25. [1]) المصدر نفسه، ص 32.
  26. [1]) المصدر نفسه، ص: 33.
  27. [1]) المصدر نفسه، ص 33.
  28. [1]) أحد أعلام المدرسة المالكية في المغرب في المائة الرابعة من الهجرة وأول الخامسة منها، (ت 430 هـ) جمع فتاويه وقدم لها محمد البركة وهي مطبوعة عن أفريقيا الشرق ـ المغرب، سنة 2010م. ولم أقف عند المترجمين له على كتاب له بالاسم المذكور. 
  29. [1]) المغراوي وفكره التربوي، من خلال كتابه: جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما بين المعلمين والصبيان ص 33، 36.
  30. [1]) آداب المعلمين، ابن سحنون. ص 117 .
  31. [1]) المصدر نفسه، ص: 97-98 .
  32. [1]) سورة التحريم، الآية: 6. انظر: الدليل التربوي، نصوص وتطبيقات، دراسات في الفكر التربوي الإسلامي، تأليف نخبة من الأساتذة، إشراف محمد الدريج 3/ 149.
  33. [1]) طبع عدة طبعات منها: طبعة المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الرابعة، 1397هـ.
  34. [1]) جامع بيان العلم وفضله 1/ 679. أعلام التربية في تاريخ الإسلام ، ابن عبد البر، للنحلاوي ص 35، 37.
  35. [1]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3 / 1513 رقم 1905.
  36. [1]) جامع بيان العلم وفضله 1/ 683 والحديث أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب في القيامة، 4/612 رقم 2417.
  37. [1]) سورة البقرة 44. انظر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 671.
  38. [1]) أخرجه الترمذي، باب في القيامة (4/ 612)، رقم: (2416)، وقال الألباني: صحيح لشواهده، المشكاة، رقم: (5197).
  39. [1]) جامع بيان العلم وفضله 1/ 693.
  40. [1]) المصدر نفسه 1/ 683.
  41. [1]) المصدر نفسه 1/ 686.
  42. [1]) المصدر نفسه 1/ 688.
  43. [1]) المصدر نفسه 1/ 688 والحديث أخرجه الطبراني في معجمه الكبير باب الراء، ركب المصري 5 / 71 رقم 4615.
  44. [1]) المصدر نفسه 1 / 696.
  45. [1]) المصدر نفسه 1/ 695.
  46. [1]) هو إبراهيم بن أدهم بن منصور العجلي ، أبو إسحاق البلخي الزاهد، سكن الشام، وهو ثقة في رواية الحديث، مأمون وأحد الزهاد، وكان من الخيار الأفاضل، مات سنة 162هـ في بلاد الروم ، وكان صابرا على الجهد والفقه والورع الدائم، والسخاء الوافر .. ) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 1/102.
  47. [1]) سورة غافر 60.
  48. [1]) جامع بيان العلم وفضله 1 / 689.
Partager cet article
Repost0

commentaires

مجلة وطنية ثقافية شاملة ومحكمة

  • : مجلة دفاتر الاختلاف
  • : مجلة "دفاتر الاختلاف" دو رية مغربية ثقافية محكمة رخصة الصحافة رقم:07\2005 -الايداع القانوني:2005/0165 تصدر عن مركز الدراسات وتحمل الرقم الدولي المعياري/ p-2028-4659 e-2028-4667
  • Contact

بحث

الهيئة العلمية

أعضاء الهيئة العلمية والتحكيم

د.عبد المنعم حرفان، أستاذ التعليم العالي، تخصص اللسانيات، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز فاس المغرب

د.عبد الكامل أوزال، أستاذ التعليم العالي، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.أحمد دكار، أستاذ التعليم العالي مؤهل ، تخصص علم النفس وعلوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

د.محمد أبحير، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وآدابها، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بني ملال/المغرب

د.محمد الأزمي، أستاذ التعليم العالي ، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

د.ادريس عبد النور، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وعلوم التربية والدراسات الجندرية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-مكناس/المغرب

د. عبد الرحمن علمي إدريسي، أستاذ التعليم العالي، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

محمد زيدان، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وآدابها، المركز  الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.محمد العلمي، أستاذ التعليم العالي ، تخصص الدراسات الاسلامية والديدكتيك، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.محمد سوسي، أستاذ مبرز ، دكتور في الفلسفة، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

دة.سميحة بن فارس، أستاذة التعليم العالي مساعد، تخصص الديدكتيك علوم الحياة والارض ، المدرسة العليا للأساتذة فاس / المغرب

د.عزالدين النملي، أستاذمحاضر ، تخصص اللغة العربية والديدكتيك ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين تازة/المغرب

دة.صليحة أرزاز ، أستاذة التعليم العالي مؤهل، تخصص لغة فرنسية، ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.المصطفى العناوي، أستاذة التعليم العالي مؤهل، تخصص الاجتماعيات ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.حسان الحسناوي، أستاذ التعليم العالي مساعد، تخصص اللغة العربية وآدابها ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين تازة/المغرب

د.عمر اكراصي، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

دة.حنان الغوات، أستاذة التعليم العالي مساعد، تخصص علومالتربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.حميد مرواني، أستاذ محاضر مؤهل، المركز الجهوي لمهن التربية

والتكوين فاس- مكناس المغرب

   د.عبد الرحمان المتيوي، أستاذ مبرز في الفلسفة، مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس -مكناس /المغرب

د.المصطفى تودي، استاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة

.فاس-مكناس

دة.الخالفي نادية، أستاذة التعليم العالي مساعد، المركز الجهوي لمهن التربية

.والتكوين الدار البيضاء-سطات/المغرب

د. محمد أكرم  ناصف ، أستاذ مؤهل، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-مكناس المغرب.

هيئة التحرير وشروط النشر

رئيس هيئة التحرير

د.ادريس عبد النور

هيئة التحرير​​

​​​​​د.عمر اكراصي - د.طارق زينون

د.سعيد عمري- ذة. مالكة عسال

ذ.خالد بورقادي إدريسي

الشروط العامة لنشر البحوث:

  • أن يكون البحث ذا قيم علمية أو أدبية، ويقدم قيمة مضافة للحقل المعرفي.
  • أن يتمتع البحث بتسلسل الأفكار والسلامة اللغوية والإملائية.
  • أن لا يكون البحث مستلاً من أطروحة دكتوراه أو رسالة ماستر أو كتاب تمَّ نشره مسبقاً.
  • يلتزم الباحث بإجراء التعديلات التي يقرها المحكمون بخصوص بحثه، حيث يعد النشر مشروطاً بإجراه هذه التعديلات.

المراسلات: Email:cahiers.difference@gmail.com0663314107