Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
3 avril 2022 7 03 /04 /avril /2022 16:58
مجلة دفاتر الاختلاف

مجلة دفاتر الاختلاف

اللغة العربية  والتأنيث

بحث في المؤنث النحوي

د. ادريس عبد النور

دراسة محكمة

أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس- مكناس /المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية والديدكتيك والنقد الأدبي النسائي

Abdennour.driss@gmail.com

الكلمات المفاتيح: اللغة العربية، التأنيث، المؤنث النحوي، الجسد، كتابة المرأة.

مقدمة:

اللغة العربية نظام رمزي خالق للتصورات وتسكنه التمثلات، فهي تساهم في فعل التحويل الثقافي لأنها تجدد في سياقاتها وتخلق انطلاقا من التصورات الجديدة معجمها الدلالي والذهني وتجعل من خطاب التأنيث حالة وعي يلقي بعلامته بين يدي المتلقي، حيث يطرح فيه نوعية إقصاء السمات العملية عن المؤنث الذي يتصوره النسق منتجا دوما للمعنى الواحد الذي لا يخرج عن التأنيث، فضحكة الرجل تمثل إشارة متعددة الدلالة، أما ضحكة الأنثى فليس لها سوى معنى واحد قررته الثقافة وحسمت الأمر فيه لأنها تصدر عن جسد مؤنث مطلوب منه إنتاج التأنيث لا غير.

Mots clés : langue arabe, féminin, féminin grammatical, corps, écriture féminine.

Introduction:

La langue arabe est un système symbolique créateur de perceptions et habité de représentations, elle contribue à l'acte de transformation culturelle car elle renouvelle dans ses contextes et crée à partir de nouvelles perceptions son lexique sémantique et mental et fait du discours féminin un état de conscience qui projette sa marque dans les mains du destinataire, dans laquelle se présente la qualité d'exclure les traits pratiques du féminin qu'il imagine. Le système produit toujours un sens unique qui ne s'écarte pas de la féminité, car le rire d'un homme représente un multi- signe significatif, alors que le rire d'une femme n'a qu'un seul sens décidé par la culture et décidé de la matière en elle car il provient d'un corps féminin qui est tenu de produire uniquement la féminité.

1ـ التأنيث مفهوم ثقافي.

لعب المصطلح اللغوي دورا في لفت نظر الثقافة إلى الجسد الأنثوي، حيث تجمدت تمفصلاته في وضعيات مرتبطة بالفترة الزمنية الذهبية للأنثى، زمن الإغراء فأبرز آليات التحويل هذه تأتي من المصطلح اللغوي ومن مجموع المفردات المخصصة لكل فعل أنثوي، " فالجسد المؤنث لا يمشي بوصفه جسدا طبيعيا بل إنه (يتثنّى) و(يتأوّد)و(يرفل)، وهذه مفردات تخصصها اللغة لمشية الحسناوات، اللواتي يمشين (مشي القطاة إلى الغدير)"([1]).

وعندما تُنكر الثقافة قيمها المادية والمعنوية عن هذا الجسد المؤنث، تسمح للرجل باللغة كسمة فحلية، ولا تسمح الثقافة الذكورية للمرأة إلا بنصيب يأخذ من اللغة حاجته، وقد عكس هذا المعطى مشملات حوار الجنسين فأفردت الاختلافات بينهما لغة خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالإناث، نظرا لكون النسق الثقافي في مجمل تجلياته يجعل من الأنوثة صفات وليس جوهرا، على اعتبار أن المرأة إذا حضرت بين الرجال حملت معها تفوقها المؤثر عبر الحكي والجسد وإيحاءات لغتها المتعددة في الصمت والنظرات والكلام، أما إذا حضرت في النص اللغوي فتحتل الهامش الذي يغذي تفوق الذكر ويُبرزه ويُعلي من شأنه، "ومن عادة الرجال أنهم لا يتكلمون في حضور المرأة إلا في حدود. وإذا غابت المرأة انفتحت لغة الرجل على مجالات لا حصر لها، خاصة تلك المجالات الخاصة بنظر الرجل للأنثى وتفسيره للغة جسدها وأحكامه عليها"([2]).

كل ما سبق يدعونا لاستخلاص حقيقة ثابتة تعطي تمايزا ما بين مكونين أساسيين في بحثنا، وهو الوقوف على التمايز الحاصل ما بين كلمة "امرأة " وكلمة "أنثى"، فالمرأة تتضمن الأنثى، والأنثى التي يعرفها النسق الثقافي مرتبطة بالزمن الثقافي ذاته الذي يفرق بدوره ما بين مراحل نمو الجسد الأنثوي، وبذلك تكون المرأة متعددة التسمية بحسب وظيفة جسدها فهي: الصبية والفتاة والزوجة والأم والحماة والعجوز والعذراء، العزباء، الحامل، اليائس والشمطاء..، فيكون المؤنث هنا محمَّلا بقيم  ثقافية خاصة، من حيث أنه يُرسخ في الثقافة ارتباط النضج الأنثوي بزمن الأيض، ومرتبط ارتباطا وثيقا بالولادة والتناسل، فالجسد الأنثوي في النسق الثقافي الذي لا يلد ولا ينسُل لا يدخل في دلالة التأنيث، وهذا ما يدعمه الاصطلاح الثقافي عندما يصنف المرأة التي انقطعت عنها دم الحيض في سن اليأس، أي سن اللاأنوثة، وتؤكد الثقافة هنا خصوبة الجسد باعتباره معطى أساسيا يعزز ويحصر شروط المؤنث  في صفات جسدية تحل فيه لفترة زمنية معينة، أي مع البلوغ، وتغادره مع سن اليأس لتدخل الأنثى في مرحلة اللاهوية، يقول النسق الثقافي على لسان ابن عبد ربه بن محمد الأندلسي:"وآخر المرأة شر من أوله، يذهب جمالها ويذرب لسانها وتعقُم رحمها ويسوء خلقها"([3])، فبعد سن اليأس لا يرى النسق الثقافي العربي في عالم المرأة إلا عالما يقف عن الدوران، الشيء الذي دفع المرأة إلى الانشغال المرضي بتمديد هذا الزمن حتى تنال رضى الثقافة والنسق، وبالتالي الرضى عن نفسها من خلال ذلك، فتوسلت بالجمال الاصطناعي من زينة ولباس وعطور، ومن وسائل أخرى كشفط الدهون والتنحيف والرياضة، أما المرأة الكاتبة فقد تجمّلت باللغة والثقافة للإعلان عن نفسها بالمعنى والسياق.

وقد عمل الإشهار ايضا على إبراز واستعادة القيم المجتمعية وتخزينها في الوعي الجمعي لجمهور المتلقين والتركيز على الصفات الخاصة بكل جنس، فوصف الذكور بالجنس الخشن، في حين وصف النساء بالجنس اللطيف، وبذلك ساهم الإشهار في شيوع التداول الثقافي للمؤنث الصناعي استجابة للصورة الثقافية التي تحيط به، مستعينا في عملية التحويل هاته بالتطور الصناعي واستخدام اختراعاته التجميلية كوسائط ثقافية للتمويه على القيم الذكورية التي تتنكر لجسد الأنثى (الصبية والكهلة..)، ففي الدولة الأموية كان النخاسون يلجؤون إلى الحيلة والتدليس في إخفاء عيوب الإماء بما أن المشتري المُتفرِّس يقلب الإماء بنظره الثاقب كأي سلعة :"فيعمدون إلى تغيير البشرة فيُحيلون السمراء إلى ذهبية اللون، ويحيلون الدربة إلى بيضاء ويحمرون الخذود المصفرة، ويجعدون الشعور السبطة ويبسطون الشعور المجعدة، ويسمنون الأعضاء الهزيلة، وينعِّمون الأطراف الخشنة، ويزيلون مافي الوجه من آثار الجدري والنمش والوشم والكلف، ويجلون الأسنان، ويخضِّبون البرص، ويطيبون الفم والجسد ويفعلون ماهو أكثر من ذلك، فيجعلون الثيب بكرا، ويخفون الحمل ويغيرون زرقة العين لتصير كحلاء"([4]) فمثلا كان الجسد الأنثوي في التمثلات السابقة أبيض البشرة، وهو الآن ذهبي dorée ومُعتنى بجماليته، وقد حولت الملابس وأنظمة الحمية واختراعات التجميل الصناعية الكهلات إلى إناث يحيطهن الإغراء والمعجبين.

2ـ الجسد الأنثوي كائن لغوي.

لقد كان شهر ماي من سنة 1968 م بداية لمرحلة وُصفت بأنها مرحلة من أجل الجسد، رفعت فيه سيمون دي بوفوار شعارها التاريخي عندما صرخت بأن: "هذا الجسد جسدنا ونحن نريد أن نسكنه بحق ونتصرف به بحرية"، وقد جعلت هذه المرحلة من الجسد أحد وسائطها الرسمية لتخطّي العديد من القيود والتراتبيات الرمزية، ولم يكن من سبب لتحرير الجسد المهان سوى تحرره ليصبح شريكا غير مرتقب لتطور الذات، فمع تطور فعل تحرير الجسد داخل فضاءات ثقافية وعاطفية، تولدت الرغبة في نسج مفاهيم عامة لوصف جديد حياة المرأة: "فتحقق الجسد كمحك للتطور وليس بتاتا شيء خاضع للتحرير، لكنه أصبح الوسيلة ذاتها للتحرر وواسط بين الأنا المتناهي واللامتناهي الأعلى"([5]).

إن أهمية الجسد باعتباره كائنا لغويا، تلخصها إشكالية البحث التي تتمحور حول خصوصيات الكتابة بالجسد الأنثوي كخطاب ينتج لغته الخاصة للتعبير عن هموم ووضعية المرأة على المستوى الأدبي، فللكاتبة عالمها الخاص داخل الخطاب الرمزي الذي يحتاج منا فقط مفتاح الإصغاء إلى صوتها المتميز .

إن الجسد الأنثوي خطاب يتلقاه المتلقي باعتباره ذاتا خارج القيم، مستعملا خلال القراءة المنطق الذكوري الذي يشكل مركزا أساسيا للعنف الرمزي، وإذ يعيش متخيل المرأة هذا التعدد التأويلي، يعيش الجسد الأنثوي بين الحجم الثقافي والمعطى الوظيفي، فالجسد كلٌّ وأجزاء، فالجزء عند المتلقي يحيل على الكل، والكل يقوم بدوره في تطعيم الصورة الذهنية التي توحي بالكل من خلال الجزء.

قد تضع المرأة جسدها في مواجهة المؤسسات، فتجعله أكثر جدبا وإغراء لتسهيل تبادله، وهذا يجعلها تولي جسدها العناية الفائقة وتحوله إلى الرغبة، ولو أنها لاتتمكّن من تحقيق رغبتها الذاتية، فالرغبة ليست مستقلة ولا تنبع من ذواتنا، بل تثيرها في أنفسنا رغبة شخص آخر، لأن الرغبة قضية يستلزمها السياق الرمزي الذي ينتظم داخله المجتمع الذي تعيش فيه المرأة، والتي تختار الانمحاء الوجودي كي تكتب جسدها من الداخل، وتعمل على إظهاره بأشكال مختلفة من الخارج.

إن كتابة الجسد الأنثوي تفضح المركزية الذكورية في كل أشكالها المادية والأيديولوجية المختفية باستمرار داخل اللغة التي أحكمت خناق الذات الأنثوية.

إن التركيز على إشكالية اللغة باعتبارها مسكنا للاختلافات ستكون من بين الإضافات التي تُضاء بها الذهنية الثقافية لمجتمع العربية ، كما أن جعل الجسد المؤنث احتفالا بلاغيا تؤكد فيه الثقافة الذكورية مهارتها الإبداعية اللغوية، فما زالت المرأة المعاصرة داخل الخطاب الذكوري رهينة الممارسات المُخاتلة: " فالجسد قد يكشف ما تخفيه اللفظة، ويعبر بطريقة غير مباشرة بل وهو أهم وسيلة من الوسائل غير المباشرة في التعبير. وتعبيره أقدم تعبير، والتعبير الذي يتجاوز كل لغة تشترك فيه لغات العالم، لأنه كلام حي عضوي معيوش ومنقوش في اللحم والعضم. يعني ذلك أن اللاوعي، أو ما هو قريب من هذا المصطلح، مسجل في الجسد"([6])، لكن يبقى هذا الجسد وبدون وعيه لذاته قابل لأن يهان إلى الأبد في الخطاب قبل الواقع.

فحيث يُنَشّْط الإسطير اللغوي هيمنة الرجال على النساء يتكفل الحفر اللغوي بمساعد النساء على برمجة انسلالهن من مواصفات النسق وتكسير مركزية النص الأدبي، يقول خليل عبد الكريم ،"على فهم الاسطير الفهم الأمثل وعلى تفسير كلياته التفسير الأصح وأن التغاضي عن هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الموضوعية لن يزيد الأمور إلا خطلا وربكا"([7]). فدراسة اللغة في المجتمع ومعرفة الإطار الثقافي الذي يهين المرأة يتحدد أساسا بالنشاط العام الذي تمارسه المرأة داخل المجتمع، وقد أكد رواد علم الاجتماع اللغويsociolinguistique))أن التطور الثقافي يحدث تغيرا في دلالة الألفاظ وحيويتها التوليدية، ولهذا أعتبر السياق اللغوي- الاجتماعي الذي يحيط بالمرأة في مجتمعنا متغيرا وازنا لا بد من إدراكه ومساءلته.

وقد قاربت مارينا ياغيلو Marina Yaguello  الوضعية السوسيو- لسانية للغة النساء، فاستندت على الحقل الأيديولوجي، وركزت على متغير الوضعية النسائية أكثر من الجنس، حيث تبنت وجهة النظر الاجتماعية عوض وجهة النظر البيو-نفسية المعتمدة على الطبيعة الأنثوية وأبدية الأنثوي، كما أكدت في كتابها" Les mots et les femmes" وعبر تساؤل قوي ودال عنونت به الفصل الخامس من الجزء الثاني قالت فيه "أيجب إحراق القواميس"([8]).      

 حيث أبرزت البُعد الكوني للغة في تصنيفها للمرأة وتأبيد اضطهادها، وهي تحيل في سياقاتها المتنوعة على ذاكرة دلالية واحدة تتجسد في القوة المرتبطة بما هو مذكر، وعلى اللين والسهولة المرتبطة بكلمة "أنثى"، ويظهر الاختلاف الجنسي معها كعامل ملتصق أكثر بالحقل السوسيو- ثقافي والذي تنعكس فيه اللغة كنسق سيميوطيقي، وهي من خلال بنيتها ولعبة تدليلها  connotation تشبه مرآة ثقافية تعمل على تثبيت التمثلات الرمزية لخلق المرجعيات النمطية التي تعمل على تغذية تلك التمثلات بخصائص استمرارها وحضورها، يقول كريستيان بايلون في هذا الشأن: "إن الخطاب النسائي كتحقيق للنسق التحتي للغة المشتركة كثيرا ما يُعرض كخصائص للمجتمعات البطريركية والبدائية، وهي تعرض كذلك كأساس للتابو"([9]).

  • فإلى أي حد تخلصت المرأة الكاتبة من سطوة النسق الاجتماعي واللغوي والثقافي في خلق سلوكها اللغوي الخاص؟
  • وهل ساعدت كتابة الجسد الأنثوي في تنشيط الحفر اللغوي؟
  • هل لكل من الرجل والمرأة علاقة مختلفة مع اللغة؟
  • كيف تتحدث النساء بينهن؟ وكيف نتحدث معهن؟
  • كيف نتحدث عنهن؟
  • ما هي صورة المرأة التي تعكسها اللغة ؟

لقد ساهم الجسد في الإجابة على معظم التساؤلات، كما ساهم في بناء المفهوم الحقيقي للتذكير والتأنيث، حيث تحول بوساطته اعتبار الجسد الأنثوي قيمة طبيعية ذات جوهر ثابت بيولوجيا إلى مفهوم ثقافي، ومن ذلك أصبح الجسد الأنثوي كائنا لغويا يناقض التصور الذهني الذكوري المنغرس في الوجدان الثقافي والذي يقدم الأنثى باعتبارها كائنا غير لغوي ويصفها فقط بالجسد الشهي ذي قيمة خرساء، ذلك النسق في المجتمع العربي يعتبر بمثابة شرط وجودي وثقافي، الخروج عليه تفقد معه الأنثى موقعها المؤنث، (لقد نطق صمت الأنثى عند الفقهاء واعتبروه ردا إيجابيا في مسألة الخطبة والزواج)، ولهذا لم يكن العقل العربي البطريركي ينتظر من أي كاتب يحمل جسدا أنثويا أن يبدع عبر اللغة، فالرجل فيه جسد وعقل والمرأة جسد وشهوة، ولذلك جعل من فصاحة المرأة سلاطة لسان وثرثرة، يقول محمد عبد الله الغدّامي في هذا الشأن: "أما لماذا يجري تفريغ الجسد المؤنث من اللغة وعزله عن الفعل والتفاعل اللغوي، فهذا عائد إلى التصور الثقافي الذي يرى أن جسد المرأة خال من العقل وهذا تصور عالمي، ونقرأ لدى الدنمركيين هذا المثل: (للنساء فساتين طويلة وأفكار قصيرة)"([10]).

كما نجد بالمثل الانجليزي نفس التصور يقول المثل:(الفتيات لكي تنظر إليهن وليس لتسمعهن).

أما بالعالم العربي فتعتبر حكايا ألف ليلة وليلة خير مثال على التمثيل الثقافي الذي ساد قبلها، واستمر حاضرا في المخيال العربي على المستوى اللغوي بعدها، فالمرأة تقول للمرأة عبر المتن السردي هذه الجملة التي تبتدئ بها سلسلة النصائح التي توجه للفتاة وهي تدخل عالم الرجل (وما خلقت النساء إلا للرجال)، هذه الجملة التي توهم بأصلها الديني، وبمحتوى قصة الخلق التي جاءت على الصيغة التوراتية.

3ـ التمثل اللغوي للجسد الأنثوي.

احتفت الكتابة الأدبية النسائية بالجسد ومن خلال تركيزها على هذه التيمة، اعتُبر جسد المرأة محورا تتمركز حوله اشتغالات النقد الأدبي النسائي الذي انتقل من حركات النساء المطالبة بالمساواة والتحرر إلى مواكبة وإبراز الموروث الأدبي الأنثوي، وإدخاله إلى المؤسسة الأدبية والنقدية، وإذ يشكل الجسد في التمثلات التخيلية الشعرية والروائية والقصصية مكانة متميزة، لايمكن بتاتا اختزال كينونة المرأة في الجسد فقط، دون إغفال عالمها النفسي والشعوري والعقلي والاجتماعي، وإلا تحول الجسد إلى بضاعة يتعمق معها الإقصاء الثقافي، وتستجيب المرأة له بشكل لا شعوري، وتسعى للاحتفال بجسدها بوصفه حاملا للذة، وترى نفسها جسدا مثيرا فقط.

يحتوي الأدب النسائي على مدخلات للجسد باعتباره بؤرة لتجلّي الدلالات وقاعدة للمعنى في حالة تجاذب مع المحيط الخارجي الطبيعي والثقافي الذي أنشأه، فأصبح عبور المرأة لعالم الفن/الكتابة، محاولة للتواجد كجسد، وبذلك أنتجت المرأة الكاتبة جسدا لغويا كشف دواخلها وأعماقها النفسية، مع العلم أن ما تكتبه المرأة يبقى دائما هو المُعَبِّر الأساسي عن كينونة نسائية  ضمن وضع مشمول بالضغط الاجتماعي والثقافي، شكّل نظرا لقوته بنية ونسقا، تحدد معه مسبقا الدور الذي سيلعبه كلا الجنسين، حيث لا يمكن للكتابة بالجسد الأنثوي أن تكون إلا ناطقا رسميا عن تلك الكينونة خارج منطق الجبرية البيولوجية التي تعتمد التكوين الجنسي معيارا للقيم الثقافية. ويرتبط الجسد الأنثوي باعتباره واقعة ثقافية بالخطاب اللغوي بكل تنوعاته، إذ هي وسائله المثلى في التعبير عن عمقه الوجودي والتنفيس عما يحسه ويفكر به.

إن الكلام والسرد خصوصا بدأ ينصاع للمؤنث، وتمكنت المرأة في الآونة الأخيرة من استدعاء الكلمات وآليات التعبير التي هيمن عليها "المذكر"، بما هو حامل لسياق ثقافي تاريخي مشمول بالمنطق الذكوري. ولقد عانت المرأة في السابق من غطرسة هذا السياق الثقافي اللغوي الذي كان يؤول لغة المرأة وخطابها، إلى استنطاق ذاتي مملوء بالاعترافات. فحتى التقسيم إلى مملكتين: مملكة الرجل ومملكة المرأة والمحصورة أساسا في تباين الفضاءات التي يتحركون فيها، لا يمكنها أن تعبر إلا عن عقلية ذكورية تضيف المرأة إلى ممتلكات الرجل.

فجسد الأنثى يتمثل في الخطاب اللغوي، وينقسم إلى مناطق حساسة وتمفصلات دلالية تحيل على اللذة والرغبة، وبذلك ترسخ بالنسق الثقافي معجم يحجب عن الأنثى ما يبيحه للذكر، فلغة العربي مثلا ينظر لها على أنها من ضمن خطاب حريمي وفضاء مغلوق لا تلجه المرأة إلا إذا كانت مخترقة للنظام الثقافي السائد. ولذلك لا تجد النساء بدا من التماهي مع الخطاب العام للتعبير عن أنفسهن، بالرغم من أن هناك تمفصلات مورفولوجية بقيت حبيسة خطاب الذكر، حيث لا تجد النساء في اللغة حاجتهن في الوصف والتعبير:" فأفضل وسيلة للبرهنة على أن مفردات [كثيرة] تعوزنا وأن اللغة الفرنسية لم توجد من أجل النساء، هي النزول إلى أسفل جسدنا والتعبير عن اللامعبر عنه واستعمال المعجم، كما هو من غير تورية ولا تعديل"([11]). غير أن اللغة بوصفها نظاما لغويا، تتصف بالبراءة من التحيُّز ضد المرأة.

أخيرا:

صحيح أن الرجل استحوذ على اللغة بسبب الترتيب الذي أقره المجتمع بأفضلية الذكر وتقديمه في اللفظ وفقا لعُرف خارج عن نظام اللغة، تلك التي حمَّلها بالمضامين التفضيلية للذكر على الأنثى واتخذها أداة للإيحاء بأنه السيد/المركز، وهي التابع/الهامش، وحاول إقناعها بشتى الطرق بذلك محتميا بالحتميات البيولوجية التي أعاد تأويلها اجتماعيا، لكن اللغة بوصفها نظاما لغويا، لم تخضع لهذا التحكم حيث حافظت على العناصر الأساسية التي تجعل استخدام اللغة صالحا في التعبير والاتصال لكلا الجنسين.

مراجع البحث


[1] - الغدّامي محمد عبد الله، "المرأة واللغة-2- ثقافة الوهم..مقاربة حول المرأة والجسد واللغة"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، سنة 1998،ص : 53.

[2]  - ثقافة الوهم ، نفس المرجع السابق ، ص: 56.

[3] - ابن عبد ربه أحمد بن محمد الأندلسي، " طبائع النساء وما جاء فيها من عجائب وغرائب وأخبار وأسرار "،  ترجمة وتحقيق محمد إبراهيم سليم ، منشورات مكتبة ابن سينا، الطبعة الأولى، سنة: 1998، ص: 163.

[4] - الترمانيني عبد السلام،" الرق ماضيه وحاضره" عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الثانية، عدد 23 ، أبريل 1985 ، ص: 87.

[5] - Ysé tardan – masquelier «  les chemins du corps », aix –les- bains, albin michel, 1995, p : 12.

[6] -  علي زيعور" تأويل لغة الجسد داخل اللاوعي الثقافي العربي" مجلة الفكر العربي المعاصر" عدد 54-55 ، يوليوز وغشت سنة 1988، ص: 68.

[7] - خليل عبد الكريم " العرب والمرأة ، حفرية في الاسطير المخيم" الانتشار العربي وسينا للنشر سنة: 1997، ص: 238.

[8] - Yaguello (marina) « les mots et les femmes, Essai d’approche sociolinguistique de la condition féminine»Petite bibliothèque Payot, Paris, 1978, p : 209

[9] - Christian Baylon « sociolinguistique , société,langue, et discours, Nathan Université, deuxième édition ; 1996, p :120.

  [10]- الغدامي محمد عبد الله" المرأة واللغة-2- ثقافة الوهم مقاربة حول المرأة والجسد واللغة" نفس المرجع السابق، ص: 66.

[11] - مجلة علامات، نفس المرجع السابق، ص: 119.

Partager cet article
Repost0
19 janvier 2020 7 19 /01 /janvier /2020 14:09
أحدث إصدارات منشورات دفاتر الاختلاف للنشر يناير 2020
أحدث إصدارات منشورات دفاتر الاختلاف للنشر يناير 2020

 

أحدث إصدارات منشورات دفاتر الاختلاف للنشر 

يناير 2020

_99182_pen

النقد الجندري: تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية

للكاتب المغربي الدكتور عبد النور ادريس

 

صدر عن منشورات دفاتر الاختلاف ، يناير 2020 ،كتاب نقدي بعنوان "النقد الجندري: تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية، مطبعة بلال /فاس، للدكتور عبد النور ادريس يقع الكتاب في  309 صفحة من القطع المتوسط.

سيكون الكتاب متوفرا بمعرض الدار البيضاء برواق مكتبة دار الأمان,

 

أحدث إصدارات منشورات دفاتر الاختلاف للنشر يناير 2020
أحدث إصدارات منشورات دفاتر الاختلاف للنشر يناير 2020
Partager cet article
Repost0
2 mars 2013 6 02 /03 /mars /2013 23:11

عبد النور إدريس والقصة القصيرة
جدلية الذات والموضوع في ترميز الأدب
فريد أمعضشـو
عبدُ النور إدريس أديبٌ مغربي متألق سجّل حضورَه الوازن، وما يزال، كباحثٍ جادّ في مجالات عدة، أبرزها التأليف عن الأدبِ النِّسائيِّ إبداعِه ونقدِه. وقد صدرت له أول دراسة في هذا الإطار، عام 2004، بعنوان الكتابة النسائية .. حَفرية في الأنساق الدالّة ، وأعْقبتها ثلاثة كتب أخرى عناوينُها، على التتابُع، هي الرواية النسائية والواقع 2005 ، و دلالات الجَسد الأنْثوي في السرد النسائي العربي 2006 ، و النقد الأدبي النسائي والنوع الاجتماعي الجندر 2011 ، فضْلاً عن مقالات نقدية عديدة نشرها، ورقياً ورَقمياً، في المجال نفسِه. وهو، بذلك، يعدّ من باحِثينا الذين أسهموا في سدّ جزء مهمّ من الخَصاص الذي تعانيه المكتبة الأدبية العربية في خانة نقد الكتابة النسائية. وللكاتب أبحاثٌ رصينة في المجالين السوسيولوجي والتربوي كذلك؛ منها ميثولوجيا المَحْظور وآليات الخطاب الديني 2005 ، و سوسيولوجيا التمايُز ظاهرة الهدر المدرسي بالمغرب 2008 . وله في الأدب الرقمي وأشكال التعبير الجديدة كتابٌ قيّم عَنْوَنَه بـ الثقافة الرقمية من تجليات الفجوة الرقمية إلى الأدبية الإلكترونية ، صدر بمكناس عامَ 2011. ولم يقتصر الإنتاج الفكري لعبد النور إدريس على مضامير الكتابة المذكورة، بل سجّل حُضوره، أيضاً، في ميدان الإبداع شعراً وحَكياً. فقد أصدر عام 2007 باكورته الشعرية تمزّقات عشق رقمي ، التي ضَمَّنها عدداً من التشظيات الهادفة إلى ملامسة جملة من الهموم والثيمات، وتناولها بأسلوبٍ في الكتابة ينطوي على كثير من مَياسِم الجِدّة والتجريب. وأصدر، في السنة نفسها، مجموعته القصصية الأولى بعنوان دالّ يوحي بالموضوعة المحورية التي تنشر ظلالها على امتداد صفحاتها، وهو ورثة الانتظار . وقد جاءت نصوص هذه المجموعة غنيةً بسِجلاّتها اللغوية، وبتناصّاتها المنفتحة على نصوص ومُتون إبداعية متنوعة، وبانزياحاتها التي وفّرت للشاعر إمكانات مهمّة للتعبير عن مكنونات الذات، ومعالجة أسئلة الواقع المَعيش، بمختلِف أبعاده، معالجةً لم تخْلُ من مُسوحات فكرية ظاهرة، لاسيما وأن المُبْدع يشتغل مدرّساً للفلسفة والفكر الإسلامي منذ سنوات.
وبعد أربعة أعْوام من صدور هذا العمل القصصي، نُشر لعبد النور مجموعة قصصية ثانية، بمكناسة الزيتون، ضمن سلسلة دفاتر الاختلاف ، التي يُشْرف عليها الكاتب نفسُه، واختار لها عنواناً عبارةُ جُمْجُمَتي .. وأنا 78 ص. من القِطْع المتوسط ، وهذا العنوان نفسُه هو عنوان إحدى قصص المجموعة ص 42 ــ 44 . وقد ضَمّت بين دفتيْها اثنين وثلاثين نصّا قصصياً موزّعاً بين القصير والقصير جدّا؛ بحيث جنّس الزُّّمْرة الأولى بـ انشطارات قصصية ، والثانية بالتعبير الاصطلاحي المنتشِر اليومَ على نطاق واسع بين عددٍ من مُبدعي القصة اليوم، ولاسيما الشباب منهم، وهو قصص قصيرة جدا . ويخرج متصفح أقاصيص هذه المجموعة، وكذا نصوص السابقة، بانطباع أساس حول اتجاه تحول الفن القصصي العربي اليوم، عبّر عنه الكاتب في المقدمة التي صَدَّر بها مجموعته الثانية حين أكد أن القصة، في مشهدنا الثقافي المعاصر، لم تعُدْ تتقمّص دورَ المنتقِد والكاشف عن عيوب المجتمع، كما أنها لم تعد تهتمّ بالتحوُّلات الاجتماعية المُتسارعة الإيقاع. لذا فقد تجاوزت مفهوم الذيْليّة للخطابات السياسية والإيديولوجية تماشياً مع الاضطراب الإيديولوجي الحاصل لدى المتلقي المعاصر، والذي جعل القاصّ يكتب أساساً لذاته مركّزاً ومكثفاً كلَّ أشكاله الذاتية في حكْيٍ لا يُهادِن المَعيش، ولا يضع في اعتباره أي مقوّم من مقومات قارئ نموذجي مُحْتمَل . ص6
مدارج الصمت
إن الاحتفال بالذات المُبْدعة وهواجسها وانشغالاتها وتجاربها وكينونتها بصفة عامة أمْرٌ يلمَسُه قارئ المجموعة الثانية بوضوح، والتي صِيغَتْ بآلياتِ كتابةٍ فعّالة حداثية تؤكد الحضور الوُجودي للمبدع، والانتصار لأنَاه في شتى تمظهُراتها، والدفْع في اتجاه فرْضه ذاتيتَه في المَحْكي وفي نفس السارد وطِباع شخصياته وعمقها الوُجْداني وسلوكاتها المختلفة؛ كما قال د. عز الدين نملي. والحقّ أن هذا التمركُز حول كِيان المبدع وذاته لم يُلْغِ التفات القاصّ إلى بعض قضايا الواقع في بُعْدَيْه الخاص والعامّ، ولم يمنَعْه من التطرق إلى جملة من إكراهاته واختلالاته وتحولاته وتجلياته المجتمعية والسياسية والثقافية والحضارية. وقد يكون هذا الجمْعُ بين التعبير عن الذات والموضوع» الواقع أوْضَحَ في القسم الثاني من المجموعة من ص52 إلى ص71 ، الذي حَوَى قصصاً قصيرة جدا فقط، عددُها سبع عشْرة، توزّعت بين ثلاث مجموعات داخلية وضع الكاتب لكلٍّ منها عنواناً خاصّا دالاّ ومُوحِياً.
شملت المجموعة الأولى قسمات تُغنّي جبل الجليد سبْعَ قصص تناولت مواضيع متنوعة، وعكست قسمات مختلفة، يتمَحَّضُ بعضُها للذات والآخرُ للواقع المَعيش. ففي قصته مدارج الصمت ، نقل الكاتب، بلغة مكثفة مشحونة، ملْمَحاً من العلاقة بين زوجين اختصما يوما كاملاً، فَصامَا عن الكلام، مُعَوِّضِينَه بالتعبير الصامت وبالإشارة التي لم تخْلُ من عواطف متدفقة بينهما. وتعرَّضت قصته لعبة برلمانية إلى واقع عمل المؤسسة التشريعية في الوطن العربي، وإلى عدد من كواليسه وحقائقه؛ وذلك بالاستناد إلى خياله الخَلاّق، وبالاستعانة بمدوّنات ورموز دالة محققة لمَقصدية المبدع العميقة. وتنصرف فكرة قصته الماتِعة لعبة الخراب إلى كشْف موقف قطاع عريض من أبناء الأمة العربية من السلام المزعوم بين العرب والإسرائيليين فيما يبدو، موظّفاً في هذا المَساق أحد الرسوم المتحركة الشهيرة لدى الصغار خاصة؛ إذ إن بطل القصة، وهو طفلٌ كان مولعاً بمُتابَعة لعبة القط والفأر من بين كافة الرسوم الموجّهة إلى الأطفال، وبتقليد شخصية ميكي ماوس حين لَعِبِه مع أقرانه، وتأكد له من ذلك العداءُ الراسخ بين الكائنين الحيوانييْن المذكورين. بيد أنه سيشْعُر، ذات يوم، باستغرابٍ يؤدي به إلى فقدان الثقة ومراجعة بعض أحكامه السابقة بشأن العلاقة بين العَدُوّيْن ، حين رآهما يتصافحان ويتعانقان في سلام وأمان وأطلق القاصّ العِنان لخياله المبدع، في نصّه إخلاص ، لحكاية حادث طريف مُثير، مضمونُه أن طفلاً منحوساً أو ممْسوساً كان إذا ذكر شخصاً باسمه فإنه يَلقى حتْفه هو، أو أحد أقاربه أو جيرانه، في اليوم الموالي ولمّا عاد أبوه عليلوش من سفرته أخبرته زوجته بذلك وهي تنتحبُ وتندب حظّها؛ لأن ابنَهما ذكر، قُبيْل عودته، اسمَ الأب، ممّا جعلها تجْهش بالبكاء خوفاً على فراقه وتَرَمُّلها. وفي الغد، لم يُمُتِ الأب، بل توفي جارُه
التحول الطارئ
وتحتوي المجموعة الثانية على خمس قصص قصيرة جدا، وعنوانُها غُرَف مُشْرَعة على الكائن المُتَكَوْثِر .. هذا الأخير هو ديك بَلْدي مرة، و ديك رومي مرة ثانية، و فَكْرونْ سُلَحفاة بالعامّية المغربية مرة ثالثة، و سعادة طُومْ مرة رابعة، و فْرُويْد مرة خامسة. ويثير انتباهَنا، ها هنا، الحضور البارز لرمزية الحيوان، والاستخدام المكثف للإيحاء وأسلوب التلميح في كافة نصوص هذه المجموعة الفرعية التي حاولت تشخيص جانبٍ من واقع الحياة الشعرية العربية اليوم، والتي أضْحَت تعجُّ بالمتبَجِّحين والمَزْهُويّين بكتاباتهم وادّعاءاتهم، وفي بعضها تلميحات إلى الواقع في بُعْده السياسي، الذي يأبى القاصّ مهادَنته. كما عكست، إبداعياً، حالات نفسية ومواقفَ ذاتية بلغة ترميزية مُوحية، تندرج في بُوتَقَة الكتابة التجريبية الحداثية التي أولع الكاتب برُكوبها في جملة ما دبّجته يَرَاعَتُه من إبداعات في القصة كما في القريض. ولعلّ مِن أنْجَح قصص المجموعة، وأكثرها براعةً في التعبير عن الذات وواقعها النفسي، نصَّه الموسوم بـ غرفة Freud الذي يعرض التحول الطارئ لبطله بين لحظتي الدخول والخروج من تلك الغرفة، بطريقة تعبيرية متفرّدة، ولاسيما في توظيفها الألوانَ ولعبة الأرقام ذات الحمُولة الدلالية الواضحة في القصة. فقد لعبت هذه الأرقام، على حدّ قول الناقد المصري محمد عطية محمود، دوراً بارزاً في تأويل النص، وإكْمال مساحات فراغِه التي لا تكاد تلحظ في نسيجه المتوتر، المشحون بالقلق النفسي. كما لعبَ اللونُ دوراً هامّا في تشكيل خَلفية النص، والإيهام بالحالة التي ربّما تشبّعت بهواجس المَرَض، وانطلقت تُعاقر وتحاول اصطياد اللحظة التي تكثفت ولاحَتْ لها…
وفي المجموعة الأخيرة تجليات في علم السارد خمسُ قصص كذلك، يغلب على تيماتها الدلالية الهَمُّ الذاتيّ بصورة جَليّة، وأسئلةُ الكتابة وشُجونها، والتواصلُ والنشر الرقميان، ويسِمُ أسلوبَها ولغتها في التعبير استغلالُ الطاقة الرمزية لبعض الألوان، والبُعد الإيحائي لبعض الحيوانات، والركونُ إلى التكثيف والإيجاز والانزياح عن المعيار. فقد تحدث القاصّ، في نصه لون في علم السارد ، عن الكتابة والنشر في المواقع الإنترنيتية، مُشيراً إلى بعض ما يَطْرَحانِه من قضايا وأمور، وأكد، أيضاً، أن الإبداعَ القصصي حين يُنقل من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل بخَطِّه على الورقة فإن ذلك يكون بمثابة إعلان ميلاده الرسمي ، وفي الآن نفسِه يكون إعلاناً بـ موت المؤلِّف ؛ كما كان يردد، من ذي قبل، دُعاة البنيوية في أوربا ومنَظِّرُوها. وتنقل لنا قصة شَغَب رقميّ محادَثة خفيفة بين عليلوش وفتاة على الماسنجر ، مدارُها حول موعد العيد المنتظَر، وجرّهما ذلك إلى الحديث عن طعْم الأعياد اليوم، حيث ذكرت تلك الفتاة لعليلوش، عبر رسالة إلكترونية، أنها لم تعد مثل كثيرين من الناس تشعر بحلاوة العيد فأجابها بأن مردّ ذلك، بالأساس، إلى تقدُّمها في السنّ؛ مما أزعجها وجعلها تنسحب من الشات إثر ذلك مباشرةً، لأن كلامه ذاك لامَسَ نقطة حسّاسة لديها ولدى بنات جنسها عموماً وعبّر الكاتب، في قصته قرد دمنة ، برمزية واضحة، عن شُعور ساردها بالإحْباط، وعن تأسُّفه لعدم اعْتيادِه، مسبقاً، على التدَحْرُج من أعلى إلى أسفل بسلامة، وتمنّيه لوْ استحال إلى سلحفاة أو قنفذ حتى يمكنَه ذلك دون أن يعْلَق به شيءٌ من الثلج وتأكيده أنه بات غيرَ مُسْتطيعٍ ذلك، وأن كلَّ ما بمقدوره الآنَ هو التدَلّي وسط غرفته المُوصَدَة بابُها بإحكامٍ ليرى العالم مقلوباً ونرى في آخر قصص المجموعة كلِّها قاتل متسلسل شخصاً مستاءً منكسِراً أضْنَتْه نفسُه الأمّارة بالإغْراء بكثرة الإمْلاءات والأوامر، فقرّر إعْدامَها ببُرودة دم كيْما يتملّص منها إلى الأبد
إن القصة القصيرة جدا لدى د. عبد النور إدريس، إذاً، فنّ تعبيري مَرِن، عمادُه التكثيف والإيحاء، وبُغيتُه ترجمة إحساسات وهواجس وانشغالات إلى كائنات ورقية أو رقمية ليطّلع عليها القراء، وملامَسَة ظواهر ومظاهر مختلفة من الواقع اليومي ومن الحياة العامة، معبِّراً في الوقت نفسه، تلميحاً أو تصريحاً، عن موقف الذات منها. ولتحقيق هذه المقاصد، كان يعمِد المبدع، غالباً، إلى التوسُّل بطريقة في الكتابة مغايِرَةٍ، إلى حدٍّ مّا، للمألوف والسائد، تنفتح على أجناس أدبية وفنون أخرى، وفي طليعتها الشعرُ، لاسيما وأنّ من نصوص الكاتب القصصية ما يقترب أكثر من القصائد حتى لَيُمْكِن وَسْمُها بـ القصص الشعرية . وتستفيد، كذلك، من إمكانات التعبير الدالة التي توفّرُها الألوان والأرقام وقاموس الحيوان وغير ذلك؛ فجاءت جملة وافرة من قصصه كَبْسُولات حكائية رمزية، بعضُها موغِلٌ في رمزيته، استطاعت وضْع الإصبع على عدد من مواطن الاختلال في الواقع المعيش في السياسة والمجتمع والثقافة ونحْوها، دون أنْ تُغفل، طبْعاً، نقْل كثير ممّا له صلة بالذات المبدعة؛ كما تأكّد لنا ممّا سلف ذِكْرُه.   

Partager cet article
Repost0
19 avril 2012 4 19 /04 /avril /2012 22:20

 

 

الأبيض الملوث أو أسرار الكائن الرمادي: قراءة سيميائية في "أوراق ميت" للقاص بشير أزمي

بقلم د. عبد النور إدريس

إن الوقع الجمالي لنص "أوراق ميت" للقاص البشير أزمي ضمن أضمومته القصصية "الضفة الأخرى" التي أثث بها القاص عالمه السردي، تتكفل به الذات السردية من القرب من عمق الفعل السردي عنده، انطلاقا من نمط البناء الذي يوظف المحاور الدلالية عبر ثنائيات ضدية يتقابل فيها الموت والحياة، والتي يثمنها تقابل الألوان ما بين الأبيض/والأبيض والمصفر/والأسود، إن استعمال أغلب الصيغ الصرفية ابيض/بياض/بيضاء يرتبط بالتسنين الإيديولوجي الذي نحته القاص داخل القصة وهي تحاول أن تعبر بالسارد من حركة الآخر إلى سكون الذات ومن ضفة الآخر على عمق نفسه.

إن الجهاز المضاميني الذي يقوم بتحديد الحالة النفسية للسارد يتوزع ما بين الأبيض والأسود، الأبيض الذي ولد قبل النص ولم يدرك وجوده إلا تحت عدسة القاص الذي ضمنّه أطروحة الموت، الأبيض الذي يتبرأ من نظام إرغاماته. ومن هنا بنى السارد ذاته باعتبارها مركزا مثاليا يشكل فيها البياض نقطة تلوث لا نقطة صفاء قد تخترق الأبيض الثقافي.

من هذا المعطى يمكن الحديث عن خطاب لا متناه للجدلية القائمة بين الأبيض والأسود، وقد وصل القاص في النص إلى التوحيد الميثولوجي بين الأبيض والأسود مما يوحي بأن الخطاب القصصي في "أوراق ميت" ينخرط في جعل الموت أصل خطاب أنموذج، يؤدي دون أن يستوعب الكيفية التي يحاصر فيها النص امكاناته السردية خارج هذا الفضاؤ الدلالي،إن استراتيجية السارد وهو يمثل الأنا الصانية للكاتب قد عززت جارج النص بما هو فيض دلالي إشباعا للفعل السردي باعتباره هنا أجرأة ملموسة لهذا التقارب الحميمي والتحاور العلاماتي للأبيض والأسود.

"الفن أبيض يحوم حولي" (ص. 48).

"الطائر الأسود يحوم قرب النافذة" (ص. 50.

يقود الأبيض من هذا المعنى إلى استشراق كون دلالي منبثق من الذات يؤدي إلى أدلجة العناصر المحيطة بالمتلقي كفضاء قريب إلى عملية موت الذات، وقد يؤدي إلى تشبيك قاعدة البياض التي عمل التسنين داخل النص بربطها بالمرجع السياقي الذي قعد للأبيض خارج النص، فوظيفة الصفاء والنقاء وعافية الفضاء وفهم الذات كبياض دلالي حعلت الأبيض يتكرر 12 مرة في النص، الشيء الذي أدى بالانتشار السردي إلى أن ينغلق على الذات وهي تتجلى في الأمكنة تمارس عشقها مفتوحة على الشياء، الشيء الذي يجعلنا نحس أن تبادل الذات والأمكنة حاضر بقوة بين ستار النافذة الأبيض ولون الحجرة مما يدعو الآخر إلى الانصهار في الذات وهو كأبيض/شيء.

كما أن الأسود وهو يمتح في قصة "أوراق ميت" من فعل التلقي يؤدي إلى استحضار مدى التشظي الذي أثر على امتداداته المعتمة، فالأسود وهو يتكرر 5 مرات يبدو غريبا وغير مألوف ويشكل عالم الضفة الأخرى الخارجة عن الذات ويحوم على غير مدى، يحوم في الساحة و"يحوم حول الشجرة الباسقة" ويحوم قرب النافذة"، وباعتباره الآخر يقترحه السرد عند بشير أزمي كوضعية بدئية وظفت بذكاء لتحديد وضع إنساني عام تقاطع التشكل العفوي مع قصيدة أظن للشاعر أمل دنقل وهو يرسل أوراقه في مستشفى جيكور.

إننا أمام إرغامات سردية تحدد لنا التداول المنتج للدلالة، فللموت أمكنة وألوان وهامات ترزح تحت نقل المعنى ولا يخرج الأبيض والأسود عن التعبير بهما عن الموت والحزن والسكون وكأن المعنى يمتلئ في التصور العام لمعنى الحداد التي ترامت شطئانه بالعالم العربي فتحملت الأرملة به التعبير كقاعدة عن الحداد مرة بالأسود كما في مصر ومرة بالأبيض كما في المغرب.

كان للعنوان الأصلي للمجموعة وهو كإيحاء في تصريح القاص البشير الأزمي "أنا والضفة الأخرى" أن ينفتح على هذا النص المغلق والمتعدد في إمكانية تأويله. فلفكرة الأنا المضمرة هنا الحاضرة كفعل سردي والغائبة قسرا في العنوان أن تنقسم على ذاتها إلى داخل وخارج داخل أبيض/وخارج أسود واللونين معا في انتقالهما من حالة السلب والإيجاب الاجتماعيين إلى حالتي التأكيد والنفي الأدبيين يضعان النص " أوراق ميت" على عتبة المرحلة السيميولوجية التي تذوب فيها المنظومة الأرسطية التي تشطر العالم إما إلى أبيض أو إلى أسود منفصلين.

فالآخر هنا هو الأسود الذي يأتي ليأخذ معه الأبيض وقد يتماثل مع منظومة القدر إلا أنه يخطئ بياض جسد السارد الذي تحول إلى أبيض ملوث ليصيب بياض آخر يتعلق هنا بالطبيب.

 

Partager cet article
Repost0
12 avril 2012 4 12 /04 /avril /2012 23:30

بوح الجسد بوح مكتوم

أو عندما ينتمي الاشتهاء إلى دوائر الصمت

قراءة جندرية في ديوان  شهوات الريح  لمليكة بنمنصور

بقلم د. عبد النور إدريس

إن كتابة المرأة ولفترات طويلة شهدت الإحساس بالدونية والسيطرة الذكورية المبثوثة في اللغة من جهة، وفي مقومات الحياة الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى.

إن التذكير بهذه المعنى قد يسعفنا في تعيير إبداع المرأة وشروط إبداعيتها التي ظلت مطموسة بسبب هذه الشروط الاجتماعية الكابحة.

فالكثير من الالتباسات التي شكلت دوائر سياقية حول ما تبدعه المرأة، شكلت الاستشكال الاصطلاحي من مثل "كتابة نسائية" الذي يستشف منه افتراض محدد أساسي لهذه الكتابة يمايز بينها وبين كتابة مبأرة للرجل.

إن أي احتفاء بكتابة المرأة يجب أن يرصد أهم المتغيرات التي تختص بها هذه الكتابة إذ الاحتفاء بما يمايز هذه الكتابة إنما هو تأكيد للاختلاف الذي يتجلى في تعبيرها عن تجربتها الخاصة ورؤيتها للواقع عبر متخيل خاص بها تمتح من العلاقة الخاصة والمتشكلة ما بين المرأة الذات والمرأة الكاتبة، وأيضا ما بين جسدها وموضوع الكتابة.

إن الوعي النسوي وهو يمسك بأبعاده التي تجعل من الكتابة النسائية توصيف خاص بما تنتجه المرأة على المستوى الرمزي:       ( قصة، رواية، قصيدة، لوحة، سيناريو، فيلم ...). إن عالم المرأة يمثل أمامنا مملوء بالقيم أكثر مما هو فعل خاص، إذ تجربة الأنثى لا يمكن فصلها عن التجربة الإنسانية.

إن النص الإبداعي ما يزال بالنسبة لنظرية الأدب يخفي آليات اشتغاله عن المتلقي، ومع ذلك فالإمساك بانزياحات المعاني التي ينتجها النص لا يتم بشكل معزول عن تجربة المبدع الذي يضع تجربته الخاصة بين الواقعي والمتخيل، خاصة وأن التجربة الذاتية تشير في نهاية المطاف إلى نمط تستعين به الذات الكاتبة عند ولوجها منظومة القيم.

الأفعال العشقية وبنية الاشتهاء:

إن هذا الديوان الذي بين أيدينا -ديوان الشاعرة مليكة بنمنصور الموسوم ب"شهوات الريح" - بقدر ما يشكل نسقا دلاليا وهو يعبر عن شمولية ما يقوله، يشير إلى نمط الوجود وهو يقع بين الأفعال العشقية المحققة فيه وبين ما يخفيه في ثنايا المسافات الفاصلة بين البنية المفهومية التي تمنحها الصورة الشعرية ووصلة الخيال وأيقوناته داخل القصائد حيث لا حياة هنا للأيقون الأخرس .

يعرج بنا هذا الإحياء الأيقوني إلى مساءلة بنية الاشتهاء في ديوان مليكة بنمنصور، الشيء الذي يدفعنا لطرح عدة تساؤلات بما هي تجربة كلية، لكن يظهر أن كل فعل تعبيري لدى المرأة الكاتبة هنا وهي تستضمر وجودها شعريا، يشير بشكل واضح أو مضمر إلى نمط معين تنتظم فيه القيم وهي تشخصن وتستثمر حدود المجال الجنسي المحدد الأبعاد فيما تنتجه المرأة والمتمحورة حول : نسائي/رجالي.

إن فعل المرأة في حقل الكتابة يمارس إغراء من نوع خاص وخاصة في تلقيه العام وبما يشكله الجسد الأنثوي والكتابة به من اشباع متنامي للعلامات، فشرط الجسد الذي أصبح مقياسا للكتابة التي تدعى "الكتابة النسائية" يتأود داخل النص النسائي سافرا ومعروضا للملاحظة والمراقبة والتأثيم"، فبين الجسد الفاتن والجسد الآثم تكمن أجساد عدة تحمل من الدلالات بحجم تعددها، الشيء الذي يجعلنا مقتنعين بأن فعل إدراك الجسد ينبني أساسا على عملية بناء العام. إن الجسد النصي داخل القصيدة ناب هنا عن الشاعرة وكتب عالمها بصدق، فالمتلقي وهو يتلقى النص النسائي لا يستطيع إى أن يدخل هذه الكتابة ضمن سجل السيرة الذاتية والاعترافات والمذكرات الشخصية في حين نجد أن الكاتبة لاتكتب إلا ضمن وضعية الإبداع المتخيل.

ففي الكتابة الإبداعية يغدو الجسد وسيطا فزيولوجيا يحلل كيمياء الذات إلى مختلف الخطابات التي يمكن نسجها حول النص الذي يقع على حدود كل شيء ويلامس المشاعر والأفكار والتجارب لصوغ لحظات التحول التي تتيح وضع الجسد موضع سؤال بما أن المرأة تعيش داخل وضع مجتمعي مطبوع بالحيف، يعمل على تقسيم الأدوار وفق شرط الرجل الذي يمنع المرأة من أن تركب عبر المتخيل حافة جنونها كي تستعيد حريتها وإنسانيتها.

حضور الوعي/الجسد جسد قصيدة/الرقابة الذاتية

"ولن يشملني قانون النار

هكذا أغنيها وتغنيني القصيدة دوما". (ص. 34)

"كي لا يسرق النوم منك قافية

وتصبحين ولهى تنادين:

اين ضاعت قرتفلتي؟

وأريج مر من هنا ولا أثر؟ (صك 78)

التلقي الشعري يشاكس وعي اللغة

ـ هل اللغة بالديوان تفكر وتحس إحساساتها الخاصة بالموازاة مع الشاعرة؟

ـ هل ينبني إنتاج النص على وجود خطاطة أو خلفية مفترضة تمنعنا الشاعرة من تلقيها ؟

ـ هل تتسع دوائر الخوف عند الشاعرة إلى إيقاف المسارات التأويلية التي تطمئن إليها الذات المتلقية ؟

ـ هل أنتِ المؤنثة بالنص تنتشي بأنتَ المذكر ولو عبر مشارف لغة حالمة ؟

ـ ما هي آليات هذا الكبح الذي يرافع داخل النص الإمكان المتخيل وحصر السياق في تصور عام لعشق "مثال" بعيدا عن آهات الجسد ؟

إن المتن الشعري هنا يؤسس لخريطة عشقية تستبيح التعميم حينما تستدرجه نكهة التقديم" تقول الشاعرة:

"وريح تبدو ظالمة غير مبالية وهي تضرب الأعشاش وتطيح بالفراخ، وتشتت مرافئ الدفء، ومظاهر الائتلاف".

إن الشاعرة تقف على وجه أفق التوقعات الحالمة للتلقي تعمل على تجميد حالات انتظار سلوكية ينمطها المتلقي حول كتابة المرأة، إنها تحتمي بالقصيدة وتتدثر بالحروف من هذا التنميط لتخلق عبر لحظات الديوان حالات مستعصية وشهوة لا تستقر بدائرة الجسد الأنثوي تقول:

"ليت للريح ذاكرة

بها تحتمي الطيور التي فقدت

أعشاشها

ودهشة

كلما هبَّ .. تعتريني"(ص:14)

ذاكرة العشق هنا لا تنتفض لتصبغ الريح بشهوة الجسد، إن الإيقاف التأطيري في قصيدة "أنا والريح" يتمثل عندما قالت :

     وصرخة ممتدة.

     في كل ديوان من دواويني .. (ص. 14)

إنها شهوة تتحقق باللغة، ودهشة كلما هبت تعري وقد لا تصل إلى الإغواء العام للجسد، إن العمر ممتد في القاموس يتنفس متخيله الحالم.

     "وعمري أنا

     كعمر القصيدة يلحقني" (ص. 15)

إن العشق وتحققه يستدعي الامتلاء المزدوج للشهوة. فالصور الثقافية المتعددة لأنثى الشعر تتمثل جسدا مغر يحمل طاقته الإغوائية خارج نسق اللغة، فهو يوحي كي يخرج من عزلته الوجودية ليعيش اللحظة بمثابة العمر الكامل. إن الجسد يذوب كي لا يعيش لذاته المتنتغمة مع الرغبة في الوجود، أنه يعطي كل شيء للآخر كي يتحقق وجوده، إنه الانسجام الذي يوقع الأغنية الأزلية، فما إن يغلق دائرة حتى تبدأ الدوائر الأخرى في التناسل، إن العشق لا يؤدي إلى الشبع فهناك جوع دائم.

     "الأغنية التي لم تتم

     والأغنية التي لم تبتدئ

     سيتعلن العشق غدا

     دورته الكاملة" (ص. 20)

على الشعر أن يمارس إبهارا للذات والآخر وهو يختبئ وراء الوعي.

إن الشاعرة مليكة بنمنصور وراء كل الكوابح الاجتماعية التي يزلزل دفء الأعشاش ونظرا لالتزامات الأسرية والاجتماعية تقر للريح بالسكن في تخوم الشهوات تلك الشهوات التي كانت تقمعها وهي تحيلنا دوما على أنها تعبر عن شهوات متخيلة تقول:

     "هكذا يسكنني عرس القوافي :

     قمرٌ ذاهبٌ

     وآخر آتٍ (ص. 32)

     "ولن يشملني قانون النار

     هكذا أغنيها وتغنيني القصيدة دوما" (ص. 34)

فهل يا ترى استثنى قانون النار شاعرتنا في النص ؟ أم أن حرقة السؤال الشهوي تم التعبير عنه لا واعيا بالرغم من الاحتياط الذي أبدته الشاعرة واعيا من الوقوع فيه.

تقول :

     "إن سقط الحلم سهوا

     من شاعرة

     نامت على شهوة الريح" (ص. 86)

وحيث يكون المختفي أهم من الواضح يظهر أن شهورة الريح لابد من أن تنفلت من الرقابة الذاتية للشاعرة.     

     "فالأحلام الممنوعة

     عادة ... ما ترقص خلف

     الستار" (ص. 57)

ولما كان النقد هو فن التقاط السلوك الانساني على خلفية النص الإبداعي فإن عنوان القصيدة "أنا الريح المؤنثة" يحيل بشكل آلي إلى أنتَ الريح المذكرة، إن جل القصائد المسكونة بشهوة الريح لا تعادل قصيدة "كي لا تنطفئ" التي يتم الإعلان فيها عن منبع الشهوة حيث يحمل عينيه بلا لغة وهو ساهم في حروفه المترعة بالعشق.

     "قال اتبعيني .. ومشينا" (ص. 27)

إن نمط الصياغة عند الشاعرة هو الذي جعلنا نفسر الطريقة التي بنت من خلالها "المشاهد الجنسية" وعلاقتها بالجسد، يجسدها ويجسد الآخر، إن هذا الأسلوب الشعري يشتغل خارج الخطية الشعرية التي تبني أفقها انطلاقا من أحداث الجسد حيث تتراكم في وعي الشاعرة بناءات وصور تقف أمام كل استيهام ممكن أن ترتاده الكلمات والتراكيب كي ينضح النص جنسا ولذة وشهوة، فلما وقف الشعر عن الانزياح اللاواعي تحركت آلة المتخيل، والإحالة عليه، لكن من خلال الغوص في الأعماق النفسية لنصوص الديوان تسلل إلى الصور الشعرية عالم جديد، لا يمكن أن يدرك إلا من خلال قوانين تجربة الاشتهاء ذاتها. أن تكتب المرأة لا يعني التقيد بالمقاييس المعي** عند المتلقي أو الناقد.

فالشاعرة عندما توظف الجسد يُفسح أمامها أفقا مغايرا يتجاوز نطاق التعبير، إن هذا التوظيف تشريط مطروح بإلحاح على الكاتبة بما هو موجود بالقوة عندها، وهو المؤهل لاستنطاق وتشكيل عوالم طالما غلفها الصمت وحجبها النسيان.

إن ما تتجه له ليس مسألة وضع وصفة جاهزة لكتابة مفارقة بل المقصود هو إيلاء مسألة تذويت الكتابة أهمية قصوى بوصفها عنصرا ملازما لسؤال الكتابة المقرون بالنسائي، سؤال ما يزال ضاج بالاحتجاج، محتشد بالاستنكار، سؤال مهووس بالتفاصيل التي تفضح وتعري وتغري كي يجعل النص النسائي في إطار تلقيه إلى السفر في الحدود القصوى لهذا الممكن المتاح، "فما تزال المرأة تكتب عن ذاتها وما تزال القراءة بتلصص تحكم تلقي الذكر لهذه الكتابة.

كلمة أخيرة :

لابد من القول بأن الامتلاء بالأشياء الزائدة يثقل كاهل الوجود لكن عندما تتحول النشوة إلى الارتقاء بفن القول يمكن للوجود أن ينبني على انتصار الإنسان على ذاته.

Partager cet article
Repost0
8 avril 2012 7 08 /04 /avril /2012 13:22

abdnour.jpg 

بين الأنا الشعري والأنا الصوفي :قراءة سيميائية في ديوان "العري على موائد اللغة " لزين العابدين اليساري

بقلم : د. عبد النور ادريس

 

 بين الأنا الشعري والأنا الصوفي :قراءة سيميائية في ديوان "العري على موائد اللغة " لزين العابدين اليساري

بقلم : د. عبد النور ادريس

"كل وجدان كبير هو إبن لمعرفة كبيرة" ليوناردوا دافينتشي

1-          ترشيف الدخول:

لم تكن الفلسفة يوما ما خالية من الطابع الذاتي، وكان للدلالة الشعرية دائما أكبر الحضور خاصة وأن حضور الفلسفة عندما توجه طعناتها للميتافيزيقا يصفونها بأنها ضرب من ضروب الشعر.

فإذا كان للفن من هدف سامي فهو إشباع فهم القارئ ودغدغة حساسيته وإشباع ذوقه الفني. أما الفعل الفلسفي فيهدف إلى ممارسة البحث عن الحقيقة قصد الوصول إلى المعرفة الحقة، وقد قال في ذلك الفيلسوف شوبنهور : "إن الإنتاج الشعري لا يتطلب منا سوى أن نندرج مع صاحبه لكي نتذوق فنه ونتجاوب معه، بينما يرمي الإنتاج الفلسفي إلى قلب أسلوبه في التفكير رأسا على عقب".

إن العمل الشعري عبارة عن التفكير والتأمل عبر الصور اللفظية التي تقدم الأوضاع الحياتية للإنسان على شكل مواقف.

لقد وصل الشاعر زين العابدين اليساري في ديوانه "العربي على موائد اللغة" (1) أن يقدم لنا الشاعر فيه ملخصا في مجموعة من الأزهار، في حين لم يكتف الفيلسوف فيه إلا برحيق تلك الأزهار.

يا صورتي لست صورتي، ولا أنا أنتِ

نحن شخصان في شخص واحد

متوحد في اسم واحد أحمد (قصيدة أسئلة القلق) ص. 23.

إن هذا القلق الوجودي يبرره ما أصبحت عليه الفلسفة وهي تأخذ من الواقعة الفردية أسباب حيازتها على طابعها الشكلي والشامل.

إن العودة إلى الإنسان أصبحت بديلا معرفيا، فبعد أن أخفق الموجود عن التعبير عن ذاته واكتفت الآلهة بالنظر إلى صورتها فقط، شكل الجسد مركز النص الشعري وإن كان تجليه غير مباشر.

فالأنا الشعرية في قصيدة نافذة تأخذ صيغة تشكلها بشكل عميق في الأنا الصوفية التي تؤكد أن العلاقة العمومية بين الذات والآخر لا تتحقق في النص الشرعي إلا بموضعة الأنا الشعرية في عمق وحدة الوجود.

أيا صورتي

ايا صورتي

أحملك وتحملينني

والطريق إلى الله

يتدلى من الجسد .. نافذة (2) (ص. 22)

الشاعر هنا يعري الكلمة حيث يمزج الصورة بالدلالة الصوفية التي تنقد النص الشعري من جفافه الاستدلالي وبعده المنطقي.

2-          الدهشة الشعرية:

ـ هل ينتظر المتلقي للشعر أن يمارس الشاعر فعل الدهشة في عملية التلقي ؟

ـ هل يحقق فعل الدهشة للعمل الفني خاصية تجاوز العادي والمكرور ؟

إن الدهشة تعمل على تحريك نمطية العلاقة الوجودية بين الإنسان والأشياء، لكن من الخطأ أن نقارن عمق الفكرة لدى الأديب بعمقها لدى الفيلسوف. ففي الأدب ننشد المتعة لا الحقيقة وننتظر اللذة الفنية لا الأدلة العقلية أو البراهين المجردة.

إن الشاعر زين العابدين اليساري لا يعبر في جل قصائده سوى عن شيء واحد بصور مختلفة، فهو يتحقق في عالمه الشعري كذات، بما أن الفعل التخيلي عنده هو الذي يحدد أناه ويؤطر تحركاتها في فضاء النص كما في فضاء اللاشعور.

اقطف من فمي ما شئت

ورتب لي بين أحشائك

تابوتا من حجر،

سأموت فيك متى شئتَ

لأحيى عند سقوط المطر.

إن هذه الحلولية في الشيء أصبحت بمثابة شخصية واعية في النص تفهم ذاتها على أساس تعرُّف الذات اتجاه الشيء بما هو متشكل في لحظات التقائه بالطبيعة، يضطلع بشرح معنى الحياة ويتأوله في الكشف الصوفي لهذه العلاقة التي تنحو إلى إدراك الماهية في بؤرة الوجود. إن القلق الوجودي الذي تنتجه لنا قصيدة "أسئلة القلق" لا تحدد فقط خوف الإنسان وتمرده على الموت ولا تعطشه المطلق وإنما تكشف ما ينتاب أنا الشاعر من قلق سيكولوجي لا يمكن إلا أن يضعها في سياق علاقتها بمجموع العام.

إن لكل موقف إنساني دلالته الميتافيزيقية المتعالية، فالشاعر هنا ملتزم بعودته الحلولية في سياق ما يُنبته المطر، فالذات تحضر أمام العالم كشيء قابل للتحلل والنماء، كما يحقق هذا النماء في النص بعدا إستيطيقيا يجعل من الفعل الفني حقيقة معرفية لها موضوعها ووحدتها المرتبطة بوحدتها الزمنية.

إن معاني قصائد الشاعر اليساري لا تأتي إلا من الحقل الفلسفي الذي منحه رؤية عميقة لم يردد معها البعد الجمالي إلا تكاملا مع البعد الفكري ولم يؤثر هذا البعد الفكري المهيمن على النصوص والمقومات الجمالية للشعر كالانسياب والغنائية والموسيقى الداخلية.

لقد صرح الشاعر نوفاليس Novalis   أنه بقدر ما يكون هناك شعر أكثر تكون هناك حقيقة أكثر:

plus il y a de poésie plus il y a de vérité  .

ـ فهل واصل العمق الفلسفي في قصائد اليساري عمل الشعر ؟

ـ أين يتموضع شعر اليساري؟ وما هي حدود خريطته في إنشاد القصيدة وصناعة متخيل مكتوٍ ب بنار التفلسف؟ .

لاشك أن شعر اليساري يقف في خط الاستواء وتحت المطر الدائم بين الصورة الشعرية وحالة الإمتلاء والاكتمال لتحرير الكلمة من قفص السؤال.

فما دام الشعر يعلن في غير ما مرة أنه تعبير عن نمط حياة كلية أكثر من كونه نمطا معرفيا فالولوج إلى العالم الشعري لزين العابدين اليساري يندرج ضمن عوامل القول الشعري على شكل منظومة لاوعية تتلخص في القول المتمترس في اللاوعي، باعتبار الديوان قصيدة واحد قيلت في زمن متقارب نظرا لطغيان الحالة النفسية المبثوثة في النصوص والمتسمة بحالة وعي الوجود ومحكومة بالمرجع الثقافي الذي جعل الزمن مصاغا باعتباره عبئا ثقيلا سجن الصورة الشعرية في الأسئلة الشرعية المتسائلة حول الذات، أما مفهومي النار والماء بالديوان فلم تكونا حاضرين بشكل اعتباطي(باعتباره قائدا بين رجال الإطفاء )، بل وظفهما الشاعر وجعل منها وجها آخر يتناوبان في تفسير الوجود،الوجود العام والوجود الخاص، بحيث حضرا فساعدا الشاعر على الانعتاق من القبضة الصارمة لوجوده المادي وكأن الجسد الذي يتدلى من تلك العلاقة الصوفية بين الذات وأناها إنما هي تذكر الجسد لذكرى فرحه بحلول النفس بين جنباته وهو يشرط إقامتها به عبر نفيها التام لالتزامه بالإنصات لنداء الحقيقة.

والجسد كتابنا

لا يقرأ طلاسمه غيرنا أحد

فهل أنتَ أنا

أم أنا أنتَ

أم كلانا في طريق

عند باب المساء (ص. 22، قصيدة "الضوء المسائي").

3-          تقطير الوجود :

إن شعر اليساري شعر فلسفي بشكل لا إرادي، الحقيقة هنا تحتاج إلى الخيال كي تتجلى كما تحتاج إلى اللغة كي تتحقق، فالسلوك اللغوي بالديوان يخبر عن المحتويات الثقافية الخاصة بعوالم الشاعر وهذه العوالم لا تدرك إلا داخل النسق الثقافي المحيط بالشاعر بدءا بالوحدات الإدراكية البسيطة وانتهاء بالمكونات الثقافية العامة التي من وظائفها الأساسية التحكم في الواقع الجمالي وفي تلقيه نظرا لتوفر الذات المتلقية على طاقة تحدد بشكل آلي أنماط البناء الخاصة بكل محفل فني.

إن الأنا الشعرية هنا تهجس بالبعد المعرفي، فالذات فضاء للمعرفة وتلاقح الذات بالموضوع.

إن الأنا التي تقصدها القصيدة تتمحور حول وعي خاص للأنا بنفسها في النص الشعري والتي لا تتشكل معانيها إلا من خلال الآخر بما هو المرآة التي تشهد الأنا ذاتها فيها.

فأبعاد صورة الأنا في شعر اليساري لا تبتعد في توصيف علاقة الأنا بالآخر بعلاقة الأصل بالصورة، فالأنا أصل والآخر صورة مركبة ترى من خلالها الأنا صورتها، إن عملية المراوحة التي بين ما هو أصل وما هو صورة تجعل الأنا مرتبطة أشد الارتباط في وعيها بذاتها وعلى وعي آخر هو غيرها، يقر عند تحققه بوجود خارج الذات العارفة أو وجود كينونات موضوعية .

فالصورة بتفاصيلها الصغيرة

وعنادها الأسطوري

لا زالت تُشعل النار في راحتيها

لتقدمه للمحارب

باقة اشتعال ( قصيدة باقة اشتعال: ص: 28)

فتوحد أنا الشاعر وأنا الصورة في اسم واحد أحد يجعل الذات تتطابق وتتوحد مع الآخر باعتباره يشكل حقيقة مفارقة للذات، ليتشكل وجود واحد يحمل الأول على الثاني والثاني يؤدي إلى الأول:

هذا الضوء المسائي

يذكرني بوجهي الذي رحل

وأقول لصورتي في المرآة

لا تغريك في الشفاه لآلئها

فأنت مدعوّة للسفر (قصيدة الضوء المسائي، ص. 21).

4-          تجلي الأنا المزدوج:

إن وظيفة المرآة في هذا الديوان تجعل الأنا الشعرية منقسمة على نفسها، فتكون الأنا بالفعل أنا بالقوة، فتغدو ذاتا ناظرة وذاتا منظورا إليها.

فأنا الشاعر تراوغ ذاتيتها وتستدعي حضور المرأة لتتعرف على ذاتها ويكتمل بذلك وعيها بنفسها بما أنها تخلق غيرها في حال انقسامها على نفسها لتصبح هي : الأنا والآخر، فالأنا (المذكرة )عندما ترحل تدعو نصفها الآخر (المؤنثة) للسفر واللحاق بها. فالأنا الشعرية عند اليساري لا تعرّف وجود نفسها إلا بوجود الآخر الذي عملت على خلقه بواسطة المرآة، فهذا الآخر أصبح جزءا أساسيا من تعرف الأنا على نفسها واستمرارية حضورها في الوجود.

"فما دامت حياة الإنسان تعبيرا عن الأنا، فإنها تفترض وجود الآخرين ووجود العالم، ووجود الله"(2). نيقولاي برديائف إن الأنا الشعري في نص اليساري مفرد بصيغة الجمع فالشاعر يأخذ جزءا مهما من فكرته المكتسبة عن نفسه من المرجعية التي تتمثلها الأنا عن ذاتها، فالظاهر لا يظهر إلا بصورة الباطن.

وكأن العبور إلى الذات

طيش أو أغنية لا تنتهي(ص. 27، باقةاشتعال)

إن الآخر عنصر من عناصر إدراك الأنا نفسها. فمحيي الدين بن عربي يؤكد على تلك المرجعية التي يتبلور فيها الحوار القائم بين الأنا والحقيقة والآخر يقول: "كل واحد يراك من حيث هو، لا من حيث أنت، ومن رآك من حيث هو فإنما رأى نفسه".

إن الأنا الشعري عند اليساري تتحول من أنا مونولوجية إلى أنا ديالوغية تستبدل خطاب الداخل بالخطاب من الخارج، وبذلك تصبح صورة الباطن حوارية في نطاق اللغة فقط، بينما الأنا الشعري هنا يحاور الآخر لتشكيل علاقة تفضي إلى التوحد.

يقول ابن الفارض :

تحققتُ أنا في الحقيقة واحد

وأثبت صَحْوُ الجمع مَحْوَ التشتُّتِ.

إن الإدراك المتميز للذات الشعرية عند اليساري في الآخر ينشأ عند الوعي الخاص بشخصيته كباث من جهة وكمتلقي عبر المرآة من جهة أخرى.

الهوامش:

1- زين العابدين اليساري" العري على موائد اللغة" شعر" مطبعة طوب بريس، الطبعة الأولى،  مارس 2008.

2ـ العزلة والمجتمع ـ ترجمة فؤاد كامل، القاهرة، النهضة المصرية، 1960، ص. 112 ـ 113

ــــــــــــ

بقلم الدكتور: عبد النور ادريس

Abdennour.driss@gmail.com

 

 

Partager cet article
Repost0
25 mars 2012 7 25 /03 /mars /2012 21:24
Partager cet article
Repost0
6 novembre 2011 7 06 /11 /novembre /2011 23:15

المساحات الكاليغرافية للحكي في ورثة الانتظار

 

بقلم الناقد د. عزالدين نملي           

 

سنقاربة واحد من الإبداعات السامقة للمبدع  عبد النور ادريس من خلال ثلاث ورقات , تحاول الورقة الأولى الوقوف على عنوان المجموعة القصصية "ورثة الانتظار" والورقة الثانية تعالج مسألة استحضار الشخصيات التاريخية في مجموعته السردية كتقنية من التقنيات الفنية , أما الورقة الثالثة فتحاول الوقوف على الصور البلاغية التي تنتشر بكثافة على طول المساحة الكلغرافية للحكي.

 

    تطمح هاته الورقات إلى القبض على بعض ملامح التقنيات التعبيرية والأسلوبية والفنية , التي يحفل بها البناء السردي في " ورثة الانتظار" , من خلال البحث في مظاهرها وأشكال حضورها بهدف الإمساك بالدلالة الثاوية فيها ,و اﻈهار ما يكتنفها من توتر وقلق , ويترسب في أعماقها من مكونات سردية تنفتح على الذات والموضوعي, والخاص والعام , وما تختزنه من حمولات جمالية , وطاقات فنية وتعبيرية , على اعتبار أن الكتابة عند القاص عبد النور , حضورا وجوديا تبني نفسها على آليات ومكانيزمات فعالة, تساهم في تحريك اشتغالها وتفجير طاقاتها, حيث تتواشج كل التقنيات والمقاصد لصالح الفكرة المركزية و الدلالة المحورية , التي تعانق في هذا الجنس السردي موضوعة الانتظار في شتى تمظهراتها وتجلياتها , إنها كما يتبين لقارئ النصوص تمارس حضورا قويا في المحكي وفي نفس السارد وشخوصه و في تركيباتهم النفسية وعمقهم الوجداني, وسلوكا تهم الفردية و الجماعية, كما يظهر ذلك من خلال غلاف المجموعة القصصية ..الكل ينتظر بما في ذلك الراوي نفسه.. الكل ينتظر في قاعة متآكلة نسجت في فضائها العنكبوت بيتها, وتراكمت فيها جماجم آدمية, دلالة على مصائر البشر المعومة , والانتظار القاتل , اللانهائي واللامحدود..انتظار واغتراب وتيه وعبث..وتبرز قدرة السارد في نجاحه في تمرير معاني الانتظار في شرايين الملفوظات السردية, ومالها من تداعيات على امتداد طول مساحة السرد.

        الورقة الأولى ..عنوان المجموعة القصصية  "ورثة الانتظار" .

يمثل العنوان ورثة الانتظار، هذا المركب الاسمي خبر مقدم + مضاف إليه ، العتبة الأولى لدخول عالم النص السردي .. حيث يلعب أدوارا حية في الكشف عن دلالة النص، واستجلاء فكرته العامة، فهو علامة دالة تحرك في المتلقي عموما شهوة القراءة .. إن العنوان لم يوضع اعتباطا، إنما وضع من أجل تأدية وظائف متنوعة تخدم النص السردي وتوجهه وتمنحه إطارا متماسكا، وتطوقه بدلالات تكشف مقصديته، فالعنوان بمثابة نواة تتناسل من النص،إنه يتموضع كمعلومة بعتبة الواجهة، وينهض بوظيفة دمج المتلقي بالنص، وهو ما تنبه إليه كنغور حينما قال : " العنوان يؤسس غواية النص" .. لأن الاشتغال على السرد يبتديء انطلاقا من العنوان، حيث يستقر عند بوابته، ويعطينا إشارة المرور للدخول إلى عالمه. والعنوان هنا يكتسب قيمة دلالية وبلاغية لأن إسناد الانتظار إلى الورثة، ينم عن منافرة دلالية، تنزح في هذا التركيب عن اللغة المألوفة : " ورثة المال " " ورثة الفن " ورثة العلم "... ، فالسارد حطم الحواجز القائمة بينما هو أدمي ورثة وما هو مجرد الانتظار .. للدلالة على القتامة التي تسكن الأنساق السردية، والوعي الحاد الذي يسكن لا وعي الكاتب من هول تراكم الهزائم والإخفاقات والانكسارات ..والاحتراق في صف الانتظار، مما اكسب القوالب السردية قوة درامية ناجمة عن مشهد المسلسل الوجودي والتاريخي للشخصيات الاجتماعية ،المتآكلة، المتهاوية، والمحترقة بلهب الانتظار، كما في صحراء التتار لدينوبوزاتي ، حيث يغرق المنتظرون في بحر لجي من الظلام والظلمات، وموت الرغبات،ونزيف التوسلات...

    الورقة الثانية :استحضار الشخصيات في المجموعة السردية

لقد شكل التاريخ طاقة مرجعية ومصدرا معرفيا، استقى منه السارد مواد بناءه خاصة ما تعلق منه باستدعاء الشخوص الماضية ذات الأبعاد الرمزية، وقد أضفى على هذه الاستدعاءات والتوظيفات لمسات فنية وأبعادا دلالية ، دلت على براعته وقدرته الفنية في توظيف ما يلاءم كل سياق، حيث أكسبها أبعادا إنسانية ترتبط بمشكلات الوجود والحياة وقيم العصر، كما نلمس ذلك في الزمن المكسور ص 13/ 14 ، حين استدعى كل من " هوميروس"و " عبد الرحمان المجذوب"، وجعل قبريهما يتصافحان ومضامين إبداعهما.. تركب صهوة الزمن للامحدود، متجولة في أمكنة وفضاءات الشوارع راصدة حركات الأفراد داخل المجتمع في زمن الترهل والاختناق والإخفاق.. حيث لم يجد عبد الرحمان المجذوب أمام هذه الصورة القاتمة إلا ان يطلق ساقيه للريح هاربا من هذا الزمن الرابض المكسور " ص 14 و15" ..، حيث جعل السارد من هذه الشخصيات منسجمة مع الفضاء السردي والدلالي الذي يروم تبليغه وإبلاغه من خلال رؤياه المسكونة بهاجس الزمن الرديء

    الورقة الثالثة: الصور البلاغية في المجموعة السردية   

تتجه الورقة الثالثة بسهم التحليل، إلى الصورة الشعرية التي يحفل بها النص السردي والتي تشكل خاصية أسلوبية في السرد عند الأستاذ إدريس عبد النور، لكونها تحتل مسافات مهمة في الملفوظات السردية، مما أضفى على تجربته السردية طابعا من الفرادة والبهاء، علما أن هذه الصور البلاغية تلم تلابيب المضمون وتجمع شتاته، كما تنهض بوظيفة  إلحامية متميزة .. إن توزعها اللافت في جل أرضية النص، أكسبه غنى وثراء دلاليا، وساهم إلى حد كبير في تمتين بنية النص المتداخلة والمتعالقة.

هكذا، ومن خلال بعض الصور الاستعارية والمجازية التي ارتقت إلى مدارج الصور الانزياحية، بشكل يتطلب مجهودا من القارئ  لمعرفة مخبوئها  ومستورها الأسلوبي والدلالي، الذي يتسع لأكثر من معنى كما نلاحظ من خلال النماذج التالية:

" القبور تحتفي" ، الألوان الهاربة " ، الفصول الراقدة " ، الطرقات صائمة" الزمن رابض مكسور... حيث يتبين أن هذه الصور تتكئ على المنافرة، لكون المستعار والمستعار منه ينتميان إلى حقول تختلف اختلافا جذريا عن بعضها البعض، حيث يتم إسناد الإنسان على غير الإنسان، الشيء الذي يكسر أفق انتظار المتلقي أمام هذه الانحرافات والمنافرات التي تخدم الدلالة الدرامية والنغمة الحزينة ، والرؤيا الساخرة " الأحزان الضاحكة " .. ما يفسر دلالة اللاجدوى والعبث والاحتراق من انتظار تحول غير ممكن لزمن التخاذل والقتامة والهزائم .

وبهذا المعني فإن الصور البلاغية التي تحفل بها هذه المجموعة السردية ترقى إلى مصاف الصور الإبداعية الخالصة، وتعبر في نفس الوقت عن تجارب نفسية وإنسانية ووجودية في غاية التعقيد .

وختاما فإن هذه المجموعة السردية تحتاج إلى أكثر من قراءة وتأويل، لكونها تزخر بطاقات تعبيرية وتقنية لغوية وفنية جديرة ببحث مستفيض، يرقى إلى مستواها الإبداعي،وعليه فإن هذه القراءة تبقى مفتوحة إلى حين لقاء آخر نجتمع فيه مع هذه الكوكبة من المثقفين والمحبين للإبداع والفن...   

 

 

 

  

 

 

 

Partager cet article
Repost0
2 juin 2011 4 02 /06 /juin /2011 08:27
 

 

رولان بارت في النقد المغربي الحديث

د.حسن مخافي

 

قلما يخلو مرجع من مراجع النقد المغربي الحديثة من إحالة أو أكثر على كتاب أو دراسة لرولان بارت. إنه حاضر بشكل يثير الانتباه إلى الحد الذي يجعل تأثيره بادياً على حركة الحداثة النقدية في العالم العربي عامة وفي المغرب بصفة خاصة. وربما يرجع هذا الاهتمام المتزايد ببارت إلى أحد أمرين أو كليهما: الأول يتمثل في أن رولان بارت، إذا نظرنا إلى أعماله بغض النظر عن تسلسلها الزمني، مثقف موسوعي، تميزت دراساته بانخراطها في الفكر النقدي الذي يتسم في آن واحد بالصرامة المنهجية وتعدد زوايا النظر.  

فهو ناقد وسيميائي ومحلل وكاتب، يتقاطع في رؤيته مع مرجعيات مختلفة: ماركس، فرويد، سوسير، ستراوس، فوكو، كريستيفا وغير هؤلاء من الذين بصموا ثقافة القرن العشرين ووجهوا بشكل أو بآخر المسار الثقافي للقرن الواحد والعشرين. الثاني يتجلى في أن صاحب ‘ درجة الصفر في الكتابة’ لم يكن ينظر إلى المنهج من منطلق نزعة دوغمائية مسبقة وراسخة، وإنما كانت طريقته في التنظير والممارسة معا تقوم على المرونة واتساع الرؤية، وهذا ما جعله يستعصي على أي تصنيف، لأنه ببساطة يشكل لوحده مدرسة نقدية قائمة الذات. وعلى الرغم من هذا التعدد الذي طبع الحياة الأدبية والفكرية لرولان بارت فإنه استمر مخلصا للهاجس الذي شغله طيلة حياته العلمية. لقد ظل ينافح من أجل الكشف عن سلطة اللغة المؤسساتية. ومن هنا اتسمت أعماله بالتنوع. فقد انشغل بالأدب وبالتاريخ والموضة والصورة والمجتمع والتشكيل والمسرح من أجل الكشف عن البنى التي تنتظم داخلها هذه المجالات والمعاني التي تثوي خلفها، وهذا هو الخيط الرابط بين أعمال بارت. وبفضل مقارباته المتأصلة التي تقوم على العلمية والرغبة والمتعة ونفاذ البصيرة استطاع تثوير النقد الأدبي والفني عندما وضع الموضوع في مركز اهتمام كل قراءة للنص الأدبي. قد سمي النقد الذي مارسه رولان بارت وآخرون ‘ النقد الجديد’ نكاية في النقد ذي النزعة الأكاديمية الذي يميل إلى تفسير النص الأدبي بخارجه، أي بالظروف المحيطة به، اجتماعية كانت أو نفسية أو تاريخية.. . وليس النقد الجديد الذي وضع أسسه صاحب ‘ النقد والحقيقة’ سوى إعادة اعتبار للنص الأدبي بالقبض على معناه واكتشاف بنيته وسره وجوهره. ولن يتأتى هذا إلا بشحذ مبضع نقدي يقوم على تقاطع اللسانيات والبنيوية والسيميولوجيا والتحليل النفسي، وجعل هذه المجالات المعرفية تتعايش داخل عملية التأويل. وبهذا فإن العمل الأدبي لدى بارت هو عمل مفتوح، إذ لا ينبغي أن نفهم النص على أنه نتاج محدود بالوعي الإبداعي للكاتب، بل هو أيضا وأساسا يتسع لوعي القارئ / الناقد. وهكذا يصبح النقد ضربا من الكتابة، يهدف إلى خلخلة العالم عن طريق مساءلته باستمرار، فالمعنى عابر والسؤال ثابت كما يقول بارت نفسه. إن ما يميز التراث البارتي بالإضافة إلى ما سبق أنه زاوج بين التنظير النقدي والممارسة، فهو بحكم اشتغاله على الأنساق كان يهدف إلى الوصول إلى ‘ قواعد’ عامة تؤطر موضوعه، وتسمح بنوع من التعميم يضمن لها امتدادا في الزمان والمكان، وهنا يكمن سر عالمية رولان بارت وانتشار أعماله وحضوره المؤثر في الحركات النقدية الطلائعية في العالم كله. ولا يمكن أن يكون النقد المغربي الحديث استثناء من حيث الاستفادة من أعمال رولان بارت، بل إن ظروفا موضوعية جعلت حضوره قويا ومؤثرا في ذلك النقد. ومن المفيد أن نسجل أن الكتاب والباحثين المغاربة لم يكتشفوا مؤلف S/Z دفعة واحدة على الرغم من أنه أقام بين ظهرانيهم لفترة معينة بين سنتي 1968 و1969. ويمكن القول إن النقد المغربي المكتوب بالعربية خاصة لم يكن بعد مهيأ لتقبل أفكار بارت التي كانت تتسم آنذاك بالجرأة حتى بالنسبة للفرنسيين أنفسهم، فما بالك بالمغاربة الذين كانوا يحاولون تلمس الطريق لإقامة نقد حديث. إن النقد المغربي إبان مقام بارت في الرباط، كان قد خرج لتوه من هزيمة 1967 التي حولت مسار الفكر العربي المعاصر عامة، وبدأت تهيمن بأسئلتها المحرجة على الحقل الثقافي، وهو ما أدى إلى إعادة النظر في المفاهيم الكلاسيكية التي شكلت سلطة عمود الشعر وجهها البارز. وكان من الطبيعي أن يرتمي النقد الطليعي آنذاك في أحضان فهم خاص للنقد الماركسي الذي تم التعبير عنه بالمنهج الجدلي تارة، وبالمنهج الاجتماعي تارة أخرى، والذي لم يكن سوى خطاب إيديولوجي حول الأدب. وسيتوج هذا المسار في أواخر السبعينيات ببداية ظهور أعمال نقدية على شاكلة ‘ المصطلح المشترك’. وعلى الرغم من أن بعض النقاد ‘ الحداثيين’ حاولوا أن يقللوا من حدة الهاجس الإيديولوجي في النقد بانتقالهم إلى البنيوية التكوينية إلا أن ذلك الانتقال لم يستطع انتشال الخطاب النقدي من مستنقع ‘ نظرية الانعكاس’، مما عمق أزمته. وفي سياق هذه الأزمة سيكتشف النقاد المغاربة رولان بارت في إطار البحث عن مخرج نقدي يعيد بناء النقد المغربي وفق رؤية تركز على أدبية النص وليس على وظيفته الإيديولوجية. إن تلك الأزمة تمظهرت بشكل واضح في المعركة الأدبية التي نشبت بين فريقين من النقاد على الصفحات الثقافية لجريدتي ‘ المحرر’ و’ العلم’. كان محمد برادة وإدريس الناقوري ونجيب العوفي في مقدمة الفريق الأول بينما كان حسن الطريبق وعبد الجبار السحيمي على رأس الفريق الثاني. يمكن القول إن هذه المعركة في جانبها الإيجابي قد أفرزت أسئلة جديدة

تجاه الفاعلية النقدية. وكانت مناسبة لإثارة مسألة المنهج في النقد المغربي. ومنذ ذلك التاريخ بدأ النقد المغربي المكتوب بالعربية يلتفت إلى فتوحات النقاد الغربيين والفرنسيين منهم على وجه الخصوص، وأصبح يتحدث عن رولان بارت، وذلك ضمن سياق البحث عن الخروج من الأزمة بالاستئناس بالمناهج الحديثة في أوروبا. يقول إدريس الناقوري في حوار نشر في شتاء 1978 وقد سئل عن المنهج البنيوي: ‘ أريد أن أؤكد على الجانب الإيجابي في هذا المنهج. ويتمثل لي شخصيا في التطبيق أو الممارسة التي استطاع أن يبلورها ناقد أدبي كرولان بارت الذي عرف كيف يستغل هذا المنهج في بيان وإبراز طاقات اللغة وقدرتها على أداء معان ٍ ومفاهيم متنوعة. وإذا كان هذا يصدق على اللغة الفرنسية التي هي لغة أرستقراطية عريقة، فمما لا شك فيه أنه يصدق أيضا إذا طبق بوعي وبجدية وبعمق على لغات أخرى مثل اللغة العربية’. وإذا عرفنا أن إدريس الناقوري قد أبدى هذا الرأي تجاه بارت وهو لما يزل مأخوذا بالمنهج الاجتماعي، مما يعكس استعدادا لتقبل النقد الجديد، فإن إبراهيم الخطيب يعد من أوائل النقاد العرب والمغاربة الذين عملوا على تشخيص أزمة النقد المغربي، وحاول أن يتجاوزها من خلال بدائل مؤسسة على التجربة النقدية لرولان بارت وغيره من رواد النقد الجديد. فقد شكك الخطيب منذ وقت مبكر في أداء النقد الإيديولوجي الذي جسد ما أسماه ‘ أزمة النقد المغربي’ التي تكشف عن نفسها انطلاقا من كتابات نقدية لم تستطع أن تجيب على السؤال الجوهري وهو: ما الذي يميز ممارستنا الأدبية؟ أي ما هي المناهج التي تستطيع أن تبرز لنا خصوصية هذه الممارسة؟

وفي سياق جوابه على ذلك التساؤل يسجل الخطيب أن المشكل النقدي لم يعد مقبولا أن ‘ يطرح بواسطة مفاهيم تتعلق بالتأويل وليس بالوصف. هناك تجارب وأبحاث قام بها أشخاص أو اتجاهات، وكانت تتجه إلى تحديد خصوصية العمل الأدبي في سياق الممارسة الأدبية. إن هذه الاتجاهات معروفة الآن ونصوصها موجودة بين أيدينا.. .’، والإشارة هنا كما هو واضح إلى حركة النقد الجديد التي كان يقودها بارت. إن المتأمل في ما آلت إليه المعركة النقدية في آخر السبعينيات يخرج بنتيجة مفادها أن النقد المغربي أصبح أكثر من أي وقت مضى مهيأ لإعادة بناء نفسه بشكل يحقق قطيعة مع النقد السلفي والنقد الإيديولوجي في آن معا، وذلك من منطلق الوعي بدور النقد في إبراز ما أسماه إبراهيم الخطيب خصوصية الأدب، التي ليست في نهاية الأمر سوى صيغة أولية ومحتشمة للأدبية بالمفهوم البارتي. ومن أجل ذلك فإن الإشارات التي أبداها الناقوري والخطيب تجاه ‘ النقد الجديد’ كانت تفصح عن رغبة جامحة في الانفتاح على منجزات ذلك النقد الذي كان قد احتل مكانة بارزة في فرنسا. وهذا ما يفسر حضور رولان بارت كمرجع أساسي في الخطاب النقدي منذ هذا التاريخ، أي منذ نهاية السبعينيات. صحيح أن بعض النقاد المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية كانوا قد استلهموا بعض أعماله قبل هذا التاريخ، كما هو الشأن بالنسبة إلى عبد الكبيرالخطيبي وعبد الفتاح كيليطو، ولكن الحاجة إلى آليات ومفاهيم ‘ النقد الجديد’ لم تتبلور في المغرب إلا عندما تكون إحساس لدى المنشغلين بالحقل النقدي بضرورة رد الاعتبار للنص الأدبي الذي ظل مهمشا لردح من الزمن. وهو ما يعني أن المدخل الحقيقي لحضور رولان بارت في المغرب من هذه الزاوية بالذات اتخذ صبغة تاريخية من حيث أنه يستجيب لشرط تطور الخطاب الأدبي في المغرب، الذي أملته ظروف موضوعية يتعلق بعضها بالتحول الطبيعي لذلك الخطاب، ويخص بعضها الآخر الانخراط في عملية المثاقفة الذي دشنها النقاد المغاربة مع النقود الأجنبية والنقد الفرنسي بالخصوص منذ وقت مبكر. ومهما يكن من أمر فإن الانتباه إلى أهمية كتابات رولان بارت قد تكرس بشكل لافت للنظر في تلك الفترة بالذات، وأصبح للرجل حضور مرجعي في الجامعة المغربية. ومن المفارقات أن النقد المسمى أكاديميا الذي كان يكن العداء لبارت في فرنسا هو ما سيجعل نجمه يسطع في المغرب. لقد احتضنت الجامعة المغربية أفكار رولان بارت، فأصبح اسمه يتردد في المدرجات بفضل أساتذة أدركوا حجم الدور الذي يمكن أن يلعبه في تحديث النقد في المغرب ومنهم عبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح كيليطو ومحمد برادة وحسن المنيعي وغيرهم. وغدا رائد النقد الفرنسي الجديد واحدا من المراجع الأساسية في الدرس النقدي بالجامعة.

ولقد اتخذ الحضور البارتي في النقد المغربي صيغتين بارزتين: الصيغة الأولى تكمن في استلهام أبحاثه ودراساته في إثارة قضايا الأدب من وجهة نظر اتسمت في حينها بجرأة كبيرة، وكذا في الاشتغال على نصوص مغربية بمفاهيم بارتية، وهو ما سأقف على بعض تجلياته بعد قليل.

أما الصيغة الثانية التي تعد تجسيدا ملموسا لذلك الحضور فتتمثل في نقل أعمال بارت إلى العربية. فقد كان المغاربة سباقين إلى التعريف بأهم أعماله على الصعيد العربي.

وهكذا أصدر محمد برادة ترجمة ‘ درجة الصفر في الكتابة’ Le degr’ z’ro de l’criture سنة 1981، وكان للكتاب وقع قوي على النقد العربي عموما وعلى النقد المغربي خصوصا لأنه يلامس قضايا تتعلق بجوهر العمل الأدبي. وفي سنة 1985 ظهر كتاب لبارت بالعربية يحمل عنوان ‘ درس السيميولوجيا’ ضمنه مترجمه عبد السلام بنعبد العالي عددا من الأبحاث المختارة. وفي سنة 1986 ترجم إبراهيم الخطيب كتاب ‘ النقد والحقيقة ‘ Critique et v’rit’ الذي يعد تثويرا لمفهوم النقد ودوره وموضوعه. وفي السنة نفسها نقل محمد البكري ‘ مبادئ في علم الأدلة’ El’ments de s’miologie إلى العربية. وبعد ذلك بسنوات ظهر كتاب ‘ المغامرة السيميولوجية’ Laventure s’miologique سنة 1993 وقد ترجمه عبد السلام حزل. وآخر كتاب لبارت ترجمه عبد الكبير الشرقاوي في السنة الماضية تحت عنوان ‘ التحليل النصي’، هذا بالإضافة إلى عشرات الدراسات التي ترجمها مغاربة ونشرت في المجلات والملاحق الثقافية للجرائد الوطنية والعربية. إن هذا الإقبال من لدن النقاد المغاربة على ترجمة أعمال بارت ينم عن اهتمام مبكر بأعمال هذا الناقد الرائد، كما يؤكد من جهة ثانية على أن المغرب قد لعب دورا بارزا في التعريف بأعماله في البلدان العربية الأخرى. وهو ما حوله إلى سلطة مرجعية ليس في المغرب فحسب بل في جميع بلدان العالم العربي. إن هذه السلطة المرجعية ستعبر عن نفسها في النقد المغربي من خلال ثلاثة مظاهر رئيسية، جعلت هذا الناقد يحتل مكانة رائدة في المشهد النقدي العربي من زاويتين على الأقل: الأولى تهم تحديد المفاهيم التي تتعلق بالخطاب الأدبي والنقدي، والثانية لها علاقة بتحديث آليات المقاربة النقدية بتوظيف رؤية بارت المنهجية في التعاطي مع النصوص الأدبية وخاصة النصوص السردية. لقد كان المغاربة أول من طرح تساؤلات تهم جوهر الأدب العربي في إطار إعادة النظر في المفاهيم الكبرى التي تشكل المدخل الرئيسي للإبداع. ففي السنة نفسها التي شهدت ظهور الترجمة العربية لـ ‘ درجة الصفر في الكتابة’ نشرت مجلة ‘ الثقافة الجديدة’ ملفا عن مفهوم ‘ الكتابة’. وكان محمد برادة قد وضع مقدمة للنسخة العربية من الكتاب في عشرين صفحة تحمل عنوان: ‘ البحث عن معرفة ممكنة للكتابة’، تتبع فيها تطور المفهوم لدى النقاد الغربيين. وعلى الرغم من أن المغاربة قد طرحوا ما يسميه برادة إشكالية الكتابة ضمن خصوصية الأدب المغربي، مما يعني استحالة الربط المباشر والآلي بين ‘ درجة الصفر في الكتابة’ وبين مساهمات النقاد المغاربة في صياغة مفهوم الكتابة، إلا أن مقارنة بين الكتاب وتلك المساهمات تسمح بالقول إن بارت قد لعب دور المحرض في إعادة النظر في مفهوم الأدب كما تداوله النقد العربي والنقد المغربي. وليس من الصدفة في شيء أن ينبري محمد برادة ومحمد بنيس وعبد الله راجع ونجيب العوفي ومحمد القاسمي دفعة واحدة للتنظير للكتابة، مع العلم بأن مفهوم الكتابة بالذات لم يكن مفهوما متداولا في النقد المغربي أو العربي قبل هذه الفترة. وبغض النظر عن الاختلافات التي سجلها المساهمون في التنظير للكتابة، ودون الخوض في الخصوصية التي دافعوا عنها تجاه ما جاء في’ درجة الصفر في الكتابة’، فإن استلهام اجتهادات بارت في الموضوع لا مراء فيها. ودون الخوض في التفاصيل التي لا يتسع لها هذا المقام فإنه يمكن تسجيل وجهين من أوجه حضور صاحب ‘ النقد والحقيقة’ بهذا الخصوص:الأول يبرز من خلال إعادة الاعتبار للتنظير النقدي. وتكمن أهمية هذه المبادرة في أن العرب والمغاربة من بينهم لم يولوا أهمية كبيرة للتنظير، فقد ظل النقد المغربي ممارسة قرائية للنصوص دون الارتكاز إلى أية خلفية تذكر حول مفاهيم الممارسة الإبداعية. يقول محمد بنيس في مستهل ‘ بيان الكتابة’: ‘ هناك من يعترض. لن يقرأ ما سيشغل البياض. يقول: لسنا بحاجة إلى التنظير، نحن بحاجة إلى الشعر. يقول أيضا: تقديم الشعر، إصدار بيانات، تعيين الحدود، خارجة على عادتنا. إن سنة الشعر في المغرب هي الإنشاد. وتلك سنته في عموم العالم العربي. وما عداها ليس إلا تبريرا أجنبيا عنا، يستأنس به الباحثون عن شرعية وهمية. لك الحرية أيها المعترض، أما الشعر فما زالت تواجهه حالة ضاقت بصمتنا هنا في المغرب على الأقل. لم توجد بيننا صناعة شعرية تتجذر ممارستها. إذن كيف ننسى؟ كيف نستمر في تجريب خارج اللغة والجسد والتاريخ. نحن في حاجة إلى البداية. إنها السلطة التي لا تقوم الكتابة بدونها..’. أما الثاني فإنه يتلخص في إثارة بعض المفاهيم النقدية التي كانت مغيبة في النقد العربي والمغربي. ومن هذه المفاهيم التي تصلح مثالا، مفهوم المؤلف. فمن المعروف أن رولان بارت قد كتب عن ‘ المؤلف’ بحثا ظهر في كتاب Le bruissement de la langage أعلن فيه موت المؤلف لأن الكتابة عنده قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل. الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة. إنها السواد ـ البياض الذي تضيع فيه كل هوية، ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب’.

إن مفهوم المؤلف سيكون مدار كتاب سيصدره عبد الفتاح كيليطو تحت عنوان Lauteur et ses doubles ظهر مترجما إلى العربية على يد عبد السلام بنعبد العالي بعنوان آخر هو ‘ الكتابة والتناسخ’. وعلى الرغم من أن مقاربة بارت تختلف عن مقاربة كيليطو نظرا لاختلاف السياق الثقافي الذي يكتب فيه كل واحد منهما، إلا أن مجرد إثارة هذا المفهوم في الأدب العربي يشي بتقاطع كبير بينهما. وبمقارنة سريعة بين ‘ موت المؤلف’ لدى بارت و’ المؤلف وأضعافه’ لكيليطو يتبين أن الأول كان وهو يرسم ملامح ‘ مؤلفه’ وفيا لمفهومه للكتابة من جهة ولتاريخ الأدب الفرنسي كما كان يتصوره من جهة ثانية، في حين ظل كيليطو محكوما بطبيعة الثقافة العربية التي ‘ لا تقبل سرد المحاكاة، حيث يختفي المؤلف ليفسح المجال ويترك الكلام للكائنات الخيالية’. وهذا يعني أن التقاطع لم يلغ مبدأ الخصوصية. فقد برهن كيليطو من خلال هذا الكتاب عن استقلالية تامة عن كل الأدبيات الغربية بخصوص المؤلف مركزا على خصوصية الأدب العربي ومساره التاريخي تجاه هذه المسألة. أما الوجه الثالث لحضور بارت في النقد المغربي فيكتسي بعدا منهجيا يتعلق بقراءة النصوص واستنباط القواعد العامة التي تحكمها. ويبدو من العسير هنا الوقوف عند نموذج تمثيلي واحد، لأن أغلب الدراسات التي أنجزت منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي إلى الآن تتخذ من بارت مرجعا أساسياً. وبما أن السياق لا يسمح بتتبع التأثير الذي تركه بارت على النقد المغربي من هذه الزاوية، فإننا سنقتصر على الإشارة إلى دوره إلى جانب نقاد فرنسيين آخرين في خلق دينامية نقدية جديدة من ناحيتين على الأقل:الناحية الأولى تخص تبني عدد كبير من النقاد المغاربة للمنهج البنيوي في مقاربة النصوص واستنباط القواعد العامة التي تحكم العلاقة بين مكوناتها. وتبدو مساهمات رولان بارت، وخاصة تلك التي عالجت نصوصا سردية، حاضرة هنا بشكل كاد يفقد النص المغربي هويته لدى بعض النقاد. وبقدر ما أسهمت تلك المقاربات في الكشف عن خصائص نصية عجزت المقاربات التقليدية عن الوصول إليها، بقدر ما أصبح النقد المغربي بفعل الإغراء المنهجي نقدا نمطيا، تطمس فيه معالم النص ويهيمن عليه الهاجس المنهجي. ويمكن على سبيل المثال لا الحصر أن نمثل لهذه النزعة التي تمنح الأولوية للمنهج على حساب النص بالدراسات التي أنجزها سعيد يقطين في مجال الرواية وخاصة كتابيه ‘ القراءة والتجربة’ و’ تحليل الخطاب الروائي’، حيث تتحول المقاربة النصية لديه إلى ترسانة من المفاهيم يضيع النص في خضمها ويصبح فقط شاهدا على نجاعتها. أما الناحية الثانية فتهم الدراسات السيميائية التي بدأت تظهر في المغرب مع مطلع الثمانينيات والتي تشكل اليوم اتجاها رئيسياً في النقد المغربي، إذا صح أن نصنف هذه الدراسات في إطار النقد الأدبي. ويحتاج تحديد الدور الذي لعبته جهود بارت في هذا التخصص إلى متابعة دقيقة للأعمال التي أنجزت في هذا الإطار، وهو ما لا تسمح به مناسبة كهذه، ولكن تصفح الأعمال التي أنجزها محمد مفتاح وحنون مبارك وأنور المرتجي في مجال السيميائيات تبين مركزية ذلك الدور وأهميته، وخاصة في الدراسات الأولى التي ظهرت في الثمانينيات. لا شك في أن هذا العرض السريع الذي أريد له أن يقف على مكانة رولان بارت المرجعية في النقد المغربي الحديث لم يف الموضوع حقه من التفصيل والتدقيق،. ومع ذلك فإن الملاحظات العامة والتساؤلات الكبرى التي أثيرت تفصح عن موقع خاص ظل بارت يحظى به في النقد المغربي إلى جانب نقاد فرنسيين آخرين.. وهو ما يبرهن على انفتاح النقد المغربي وقدرته على إقامة حوار مثمر مع مختلف المرجعيات العالمية.

 

Partager cet article
Repost0
21 mai 2011 6 21 /05 /mai /2011 07:19

الشعر المغربي الحديث وبؤس النقد

مسلك ميمون (*)

 

لم يعرف من فنون القول، أو من الفنون الجميلة الأخرى، فن ازدهر، وانتعش في غياب النقد. لقد كان النقد عصب الحياة والاستمرار، لكل حركة إبداعية. بل كان دعامة النمو المطرد، وسند الابتكار المنفرد، عبر مختلف العصور. لما له من معايير موضوعية ومقومات واقعية فيما يخص التفسير والتقويم، والتحليل والتوجيه السليم …وتلك عملية خطيرة ينبغي أن يأتيها النقد بكل جرأة وفاعلية بناء على الحيدة المطلقة، واستصدار الآراء وفق المعايير الأدبية الخالصة.

ولربما يقال : وماذا عن الشعر المغربي الحديث، ألا يشكل استثناء؟

فأقول إن حالة الاستثناء هذه، لا تكون –قطعا- في مجال الإبداع. لأن عملية الإبداع لا تكون من فراغ. ولم تكن في يوم ما وليدة ارتجال أو مصادفة. بل هي –دائما- نتيجة مخاض أولي ناتج عن عملية : التأثير والاستجابة، والرغبة والاستزادة، والدراسة والاستفادة…ومن ثم كانت أهمية النقد حاسمة وأساسية لإضاءة كل عتمة ممكنة، وجلاء وإظهار كل خفية غامضة. فالنقد لا يعدو أن يكون إبداعا آخر في نسقية عقلانية فنية. محققا معادلة صعبة، لا يفيها حقها إلا امرؤ منطيق، حباه الله سلطة العقل، وفضيلة العلم، وموهبة الأدب والفن.

وبذلك لم يكن الشعر المغربي الحديث استثناء. فلقد بدأ متأثرا بالشعر العربي في المشرق. فنهل منه إلى حد الثمالة، فاقتفى خطاه، منتهجا طرائق إيجابياته وسلبياته. فلم يظهر في سلم الإبداع إلا من أحسن التقليد، وأجاد التكرار والترديد، فالكل انسلَّ من عباءة السياب والبياتي ونازك الملائكة، وعبد الصبور وحجازي وأدونيس … فأصبح نتاج هؤلاء  الرواد هو المقياس والنموذج لكل كتابة شعرية خلال عقدي الستينات والسبعينيات، وقد يكون هذا أمرا بديهيا طبيعيا …غير أنه في غياب النقد، الذي ظل –ولوقت طويل- ينتظر-بتقاعس-  تراكم الإنتاج، ووضوح الرؤية، وبيان النوايا، ظهرت أعمال (شعرية ) متهافتة منزعجة ومزعجة، لا تمت للشعر بصلة، اللهم عبارة : (ديوان شعر) على الغلاف!!  وتسلق منبر الإلقاء (شعراء) وما هم بالشعراء! ! لا يملكون إلا نبرة الإلقاء تقليدا لدرويش أو أدونيس أو نزار(1) …فغرق الشعر والشاعر في المغرب في متعة التقليد ولذة الاجترار. فلم يتميز من ذلك إلا طائفة قليلة، استطاعت أن تقلد ولكن بذكاء واحتراس ونبوغ …لأنها عمَّقت دراستها في مجال الشعر والإبداع والنقد والتحليل. ولكن لا يمكن أبدا أن نجعل من هذا الاستثناء وسيلة تشفع للشعر المغربي رتابة مساره، وفتور عطائه، وانكفائه ونمطيته …لأن الرواد الذين تميزوا بعطائهم يعدون على رؤوس الأصابع فلقد مرَّ عقد الستينيات ولم يخلف لنا من الأسماء إلا أحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني ثم محمد السرغيني وعبد الكريم الطبال. (وفي اعتقادي أن جيل الرواد في المغرب واكب تحولات سياسية واجتماعية خطيرة واستطاع كل شاعر من هؤلاء بحسب قدرته وكفاءته وموهبته الخاصة أن يبلور هذه التحولات ويعكسها في شعره، لقد استطاع المجاطي إلى حد ما أن يعكس تجربة التطور التاريخي والاجتماعي والسياسي في المغرب بحساسية مفرطة، وبرهافة كبيرة، وبطبيعة الحال من موقع سياسي وفكري محدود، وكذلك فعل الخمار والسرغيني إلى حد ما.وإن كان السرغيني يسبح في صوفية وفي تجريد مغرق. على العكس، شعراء السبعينيات لم يستطيعوا أن يتعمَّقوا التجارب الاجتماعية بل إن محاولة رصدهم لهذه التجارب بقيت في مستوى الشعارات، والفرق كبير بين الشعر والتغني بالشعارات)(2). إنصافا للواقع الأدبي أقول : لم يكن كل شعراء السبعينيات شعراء شعارات، لقد حاول بعضهم التميز بشعره، بل منهم من انفرد باتجاه خاص (كجماعة وجدة)(3) أو( أصحاب الثقافة الجديدة)(4). ولكن هذا –أيضا- لا يعني أنْ ليس هناك، أنصاف الشعراء، والمتشاعرين وأتباع هؤلاء وأولئك. وذلك مرده لغياب النقد الموضوعي الفني، فما كان في فترة السبعينيات، لا يخرج عن إطار النقد الإيديولوجي أو الإخواني التعاطفي. وإن كان في جميع الأحوال يتمظهر بمصطلحات لمناهج علمية، ويستشهد بأقوال رواد في مجالاتهم العلمية والفكرية. ولكن هذا لا يغني عن الحق شيئا، إذ سرعان ما ينكشف النص النقدي عن فراغه المهول : فلا المصطلحات وظفت توظيفا علميا كما أريد لها أول مرة، ولا الأقوال تنطبق على النص الإبداعي، إذن ؛ فما المراد من نص نقدي بلا طعم ولا لون ؟

بل ليت شعري، ما ذا كان نقد الشعر يلتمس في جسم القصيدة ؟

هل كانت القصيدة الحديثة تعيش مأزق الكتابة ؟ أم مأزق التواصل ؟ أم مأزق النقد ؟

أسئلة وما أكثر الأسئلة التي بقيت معلَّقة منذ السبعينيات، وأحسبها ستبقى طويلا ما دام هناك نفور من الجواب، أو عدم القدرة على مواجهة العوارض والأسباب. إنه ليتضح بجلاء أن النقد المغربي الحديث خلق حبيس الأسئلة، وكأن الأمر إشكاليات وقضايا فلسفية، تتناسل من أسئلتها اللولبية. غير أن الأمر خلاف ذلك، إذ كان على النقد أن ينصب على النص الإبداعي، وأن تكون أسئلته من صميم إشكاليات النص ومعطياته.إن طرح الأسئلة القبْلية معناه الانطلاق من أفكار جاهزة لها وطأتها وتأثيرها، فقد يجيب عنها النص أو يستجيب لها، فيكون الثناء والاستحسان. وقد لا يجيب عنها أو لا يستجيب لها فيكون الاعتراض والاستهجان. وهذا ما لمسناه في كتاب د. محمد بنيس (ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب ) أول كتاب في نقد الشعر بطريقة منهجية علمية في المغرب. فهل بعض نقط نقصه جاءت نتيجة كونه أول محاولة في هذا الإطار ؟ أم ترى سوء توظيف المنهج البنيوي التكويني ؟ أعتقد أن كل هذا وارد في الكتاب بشكل أو بآخر.

فإن كنا مع توظيف مستجدات النظريات النقدية، والمناهج العلمية، أو محاولة تطبيقها والاستفادة منها …فإننا نعلم أن كل وافد دخيل على ثقافتنا وأدبنا وحضارتنا له خصوصيات قد لا تنطبق وما عندنا.كما أن المنهج الذي وضع خصيصا لعلم من العلوم، فمصطلحاته لا يجوز أن تصبح عُملة رائجة في كل الميادين دون مراعاة دلالاتها وأبعادها التي تحيط بأشياء وتغيب عنها أشياء.  كما أن اعتماد منهج ما، ينبغي أن يكون له نتائج موضوعية لا افتراضية، دون أن يهمل طرفا هاما من أطراف العملية الإبداعية.

إن اختيار محمد بنيس المنهج البنيوي التكويني كان من باب الإعجاب. ولا ضير في ذلك. ولكن الإعجاب لا يعني الممارسة النقدية. لقد وجد الناقد نفسه أمام الاختيار الصعب حين لم تسعفه الوسيلة. فإما أن يتخلى عن منهج ملك عليه تفكيره واهتمامه، وإما أن يتصرف بعناد فيحتطب من هنا وهناك تحت مظلة المنهج البنيوي التكويني مثلا :

لقد وظف مصطلح : البنية العميقة، وهو مصطلح من مصطلحات النحو التحويلي، لم يتقيد بنيس بدلالاته النحوية، فعرفه تعريفا خاصا به : ( ونقصد بالبنية السطحية مجمل المظاهر الخارجية للنص وتشمل اقتصاد النص من النواحي الزمانية والبصرية والنحوية، نظما وصرفا، والبلاغية أي ما يركب النص كلغة ذات خصوصية في المجال العام للغة ) ص 39،40.

وكذلك مصطلح : متتاليات النص، وهو مصطلح آخر أخذه بنيس من تشومسكي وتودوروف دون أن يتقيد بدلالته، بل عرفه هو أيضا تعريفا خاصا : (وما المتتالية عندنا إلا وحدة لغوية متجانسة نحويا ودلاليا، داخل النص الشعري، وقد تشمل بيتا أو مقطعا أو نصا بكامله ) ص 113 لهذا نلاحظ أن : البنية السطحية، والبنية العميقة، والمتتالية هي من مصطلحات المنهج البنيوي العام ولا تخص المنهج البنيوي التكويني الذي طبقه بنيس وذاك ما دفعه إلى البحث عن دلالات جديدة لهذه المصطلحات.

فإذا تجاوزنا المنهج وعدم التزام الناقد بخطواته وبعض مصطلحاته. فإننا نعجب من طريقة اختياره لنماذجه الشعرية إذ حدد شعراء البحث في أحد عشر شاعرا. كيف تمَّ ذلك ؟ هذا ما لا يجيب عنه البحث. بل إن البحث يغرق في الخطأ ويمعن فيه حين يجعل الشعراء الأحد عشر يشكلون وحدة متجانسة. (انظر الصفحات 25، 113، 198، 283، 339 )

وعموما فإن كتاب د.محمد بنيس محاولة لتطبيق المنهج ولكن بطريقة عكسية لا نوافقه عليها وهي إخضاع الشعر للمنهج، وكأني بالباحث يسعى جاهدا لخدمة المنهج لا الشعر، وذلك وجه من وجوه بؤس النقد. أما الوجه الآخر فيتمثل لي في إهمال دور الشاعر المبدع وكأن النصَّ كتب نفسه بنفسه، إلا فيما يمكِّنُ من اتخاذه معبرا ليس إلا.

وفي دراسة لنجيب العوفي (5) تحت عنوان: (مدخل إلى دراسة شعر الشباب) قسَّم شعراء المغرب كالتالي :

1- جيل الريادة التاريخية : الذي انطلق سنة 1948  عبد الكريم بن ثابت، محمد بن إبراهيم، عبد الرحمن الدكالي، علال الفاسي، عبد المالك البلغيثي، محمد القري، علال بن الهاشمي الفلالي، ومحمد الحلوي.

2-جيل الوسط : محمد الحبيب الفرقاني، مصطفى المعداوي، أحمد المجاطي، محمد علي الهواري، محمد الميموني، محمد السرغيني، عبد الكريم الطبال، محمد الخمار، أحمد صبري، أحمد الجوماري، حسن الطريبق.

3-جيل الشعراء الشباب او جيل السبعينيات : أحمد بنميمون، محمد بنيس، محمد بنطلحة، إدريس الملياني، محمد الشيخي، أحمد مفدي، عبد العلي الودغيري، المسكيني الصغير، محمد السولامي، حسن الغرفي، محمد الشعرة، أحمد بلبداوي، احمد الطريبق، (تلاهم) عبد الله راجع، الحجام علال، محمد الأشعري، منيب البوريمي، آيت وارهام أحمد بلحاج، رشيد المومني، عبد الله زريقة، عبد الرحمن بوعلي، عماد الدين سعيد، المهدي أخريف، (تلاهم) عبد اللطيف الفؤادي، بنيحي، محمد بودويك، محمد السبايلي.

وهكذا وبإصرار وسابق ترصد، وبدافع من سلبيات النقد الإيديولوجي، يقصي الناقد من بحثه كل الشعراء الإسلاميين في المغرب، وكأن لا وجود لهم وبخاصة : د.حسن الأمراني، ود.محمد بنعمارة، ود.محمد علي الرباوي، ويكتفي بالقول بنوع من التملص والمكر : (إن اللائحة-كما أسلفت – طويلة وما تزال عباءتها فضفاضة قابلة لاستضافة طاقات شعرية وافرة والأسماء التي أشرت إليها هي على سبيل المثال لا الحصر ) ص 5  

وهذا لا يشفع له في شيء، ما دام في من ذكرهم من كان يومئذ لم ينشر ديوانا واحدا، بل كل ما نشر كان في الجرائد فقط، ومنهم من كان له ديوان يتيم ظل ولوقتنا الحاضر كبيضة الديك. ببيد أن من الشعراء الإسلاميين من كان يومئذ قد تجاوز الثلاثة دواوين ! ! أليس هذا من بؤس النقد الإيديولوجي ؟؟

ومن حيث الدراسة فهو يحددها في الأبعاد التالية :

1-إشكالية الوعي الأيديولوجي :

أ-الوعي الثوري القريب من الموضوعية.

ب-الوعي الثوري القريب من الذاتية.

2- إشكالية الوعي الشعري :

أ-فئة ذات وعي محكم.

ب-فئة ذات وعي شعري متوسط.

ج- فئة ذات وعي شعري فاتر.

السؤال الآن،  أين الشعر ؟ ودراسة الشعر ؟

لقد استحال كل شيء إلى مفاهيم إيديولوجية. لنتأمل ما كتب الناقد عن إشكالية الوعي الشعري : "إن الرؤية الثورية في الشعر تقتضي حتما رؤية ثورية في الوعي الشعري ذاته، هذه مسلمة يعتبر تأكيدها –الآن –من نافل القول. ومهما يستتب الوعي الإيديولوجي في الشعر ويتبلور فإن تخلف الوعي الشعري عنه يفقد المعادلة توازنها ويقص للشعر أحد جناحيه وينزل به من ملكوته الخاص . والعكس صحيح أيضا. إن الشعر علاوة على كونه نزوعا فطريا وتجليا خاصا لا يتمان اعتباطا، فهو عذاب أيضا، عذاب مع اللغة والخيال والصورة والإيقاع والبنية التركيبية، وجماع ما يدخل في تلك العملية الكيميائية المعقدة، عملية خلق النص الشعري."(6)

هل بهذه الصيغة، وبهذه اللغة، يمكن التعامل مع النص الشعري ؟؟ وهل النص الشعري بيان سياسي ؟؟ أم خطاب إيديولوجي ؟؟ وهل المضمون هو الذي يشكل النص الشعري ويؤطره في بنية شعرية متكاملة ؟؟

لا أذهب –كما ذهب البعض- إلى القول بغياب النقد الشعري في المغرب، ولا أدعي أن حضوره كان مجديا. لانعدام فاعليته، وجديته، وضعف تحليله وموضوعيته …لاعتماده الجانب الإيديولوجي، وإهماله لباقي الجوانب الأخرى من العملية الإبداعية، إلا لماما وبشكل مبتسر ومقتضب. وربما غذَّت هذا الاتجاه الصراعات السياسية، وبخاصة في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات.التي ظهرت خلالها دراسة مطولة لحسن الطريبق حول الشعر والشعراء في المغرب نشرت بجريدة العلم نهاية 1976 وبداية 1977 وقد فضل الباحث أن يوظف المنهج الوصفي في النقد. فعلق محمد بنيس على ذلك بقوله :"فالمنهج الوصفي الذي يمارس من خلاله حسن الطريبق قراءته للشعر المغربي لا يعدو أن بكون استنساخا لبعض المصطلحات والقيم النقدية التقليدية، بعد أن يمازج بينها وبين المصطلحات والقيم السائدة في المنهج التأثري. إن حسن الطريبق يعيد كتابة النص المقروء بعد أن يلغيه. ويحل محله نصا لا علاقة له بالنص الأول. وهو إلى جانب ذلك يعود إلى بعض الأحداث التاريخية بأسلوب لا علمي ليبحث فيها عن سند لما يطلقه من أحكام، وما يقدمه من نتائج. ومن ثم كان هذا المنهج خليطا من المناهج، تلتئم في نقطة واحدة، وهي معالجة النص بوعي هامشي، لا يرقى إلى فهم وتفسير المتن الشعري، كنتاج لغوي ذي بعد أنطولوجي واجتماعي، له جذوره في الواقع الاجتماعي "(7)وبنيس في هذه القولة لا يهدف إلا النيل من حسن الطريبق لأن هذا الأخير سبق وأن انتقد مجلة (الثقافة الجديدة) التي كان مديرها المسؤول محمد بنيس، والذي اعتبر النقد (هجوما علنيا) ضد الثقافة الجديدة و أنصارها. إذاً هي تصفية حسابات ولا علاقة لها بالشعر. والدليل على ذلك أن بنيس لم يأت بشاهد واحد لكي يحاجّ به حسن الطريبق.  واكتفى فقط بأن عاب عليه المنهج الوصفي واستفادته من المناهج الأخرى. وكأن بنيس كان منزها عن هذا، ولم يخلط هو نفسه بين مصطلحات لمناهج شتى كما أسلفنا. وبالمقابل فإننا نجد محمد بنيس يثني الثناء الأوفى على من يجاري آراءه الإيديولوجية. التي كانت تقليعة تلك الفترة، التي اتسمت بالاستلاب الفكري، إذ نجده يقول عن التيار الاجتماعي - التاريخي ما يلي : " أما التيار الاجتماعي- التاريخي، فقد كان وما يزال منذ أواسط الستينات إلى الآن، سيد الصراع الثقافي، خاصة بعد أن أعطاه كل من عبد القادر الشاوي، وإبراهيم الخطيب، وإدريس الناقوري ونجيب العوفي، قوة استطاع بها اكتساح جزء هام من الساحة الثقافية من ناحية، وفرضه على أنصار المنهج الوصفي، من ناحية ثانية. وهو تيار يؤسس منظومة قراءته للنص الأدبي على الرجوع بدلالات النص إلى خلفياتها الاجتماعية والتاريخية، ضمن رؤية تعتمد مقولة الصراع الطبقي داخل المجتمع. إن هذا التيار ركز على سوسيولوجية المضمون احتذاء بما قام به محمد أمين العالم وعبد العظيم أنيس، وبعدهما حسين مروة، وغيرهم بالمشرق ومستفيدين من أعمال لوكاتش وغولدمان بعد أن خضعت لمستويات من وعيهم الإيديولوجي والنقدي."(8)

ومرة أخرى كلام أطلق على عواهنه بدون شاهد، مع تغييب للمادة الأدبية. وهذا وجه آخر لبؤس النقد.

وتستمر عملية التجريب عبر محطات المناهج المختلفة : كالمنهج التفسيري، ومنهجي تين وبوف، والمنهج البنيوي وبخاصة الشكلاني منه. ويبقى السؤال : إلى متى يستمر التجريب في غياب وعي نقدي ؟ وهل المنهج هو سر الأزمة ؟ أم الأزمة في سوء تطبيقه ؟ أم في عدم فهمه واستيعاب مصطلحاته ؟أسئلة …لا أزمع من وراء طرحها الوصول إلى جواب شاف. ذاك أن الجواب - في مثل هذه الحالات- يزيد الطين بلة. خاصة وأن نتائج هذه التجارب الهزيلة في نقد الشعر أبانت عن قصور وأحيانا عن جهل تام بالعملية النقدية.

يوضح ذلك بجلاء د.حسن لمنيعي بقوله :" فإذا كانت المحاولات الإبداعية تأخذ صيغا تعبيرية جديدة. وتجريب العديد من الأشكال المستحدثة، فإن النقد الأدبي لا يزال عندنا في مرحلة التشبث والتجزئة وإن حاول بعض رواده إظهار ألوان من سراب المهارات تحمل القارئ على الاعتقاد بأنهم يمتلكون ثقافة واسعة تخول لهم فرض نظرية أو مناهج متميزة، في حين أنهم لا يعرفون سوى قشور الأمور، ولا يرددون سوى بقايا المذاهب النقدية الأوروبية التي لا زالت تختلط لديهم "(9)

من كل هذا، نذهب إلى ان النقد الأدبي، وبخاصة في مجال الشعر في المغرب، لا يعرف أزمة وجود أو قلة …وإنما يعرف أزمة فكر وفن. بمعنى أن المقالة التي تسود كلماتها صفحات من كتاب، أو مجلة، أو أعمدة من صحيفة …لا تقول –في النهاية -شيئا يخدم الشعر أو يفيد الشاعر، أو يعين المتلقي. كتابة بيضاء انحيازية أو عدوانية. لا ترقى إلى مستوى النقد. أحيانا لاعتمادها مناهج دون أخذ بعين الاعتبار خصوصية الشعر المغربي.وأحيانا –ولا عجب- جهل تام بقواعد الشعر، واهتمام كلي بالمضمون، فتاتي المقالة خطابا في الفكر والفلسفة والإيديولوجيا السياسة ولا شيء عن الشعر.

ومن ثم كان لدينا ركام شعري، ستزيده الأيام القادمة ركاما آخر في غياب نقد شعري خالص. يزاوج بين الشكل المضمون في نسق جدلي، ومبدأ حيادي، ورؤية مستنيرة تمكن من قراءات متعددة.

لقد مرَّ علـــيَّ زمن ليس بالقصير، كنت أظن أن البلية تخص نقدنا المغربي، وإذا بي أكتشف أن البلية عامة في الوطن العربي. ولولا خشية الإسهاب لاستعرضت أقوالا كثيرة لنقاد عرب تكاد آراؤهم تتوحد إن لم نقل إنها موحدة، فيما يخص بؤس النقد. فلنتأمل قول الناقد المصري :د.أحمد كمال زكي :" لا أنكر جدب ما يبذله النقاد، وعندنا – للأسف الشديد – وبخاصة في المجالات الأكاديمية، من لا يزال يعتبر النقد شروحا لغوية وتعليقات بلاغية هدفها تعليمي أكثر من أن تنحو نحوا تذوقيا … ونجد من ناحية أخرى فئة من النقاد تتحدث بما لم يعرفه تراثنا، واستخدامها للاصطلاحات الأجنبية تبدو من ثم شهادة على  وصولها إلى أوروبا وأمريكا …ولو فتشنا عن أسلوب النقد عند هذه الفئة فسنجد أمامنا واحدا من عشرة يعرف مهمته ويوازن بين التراثية والعالمية … وأما الآخرون، فهم إما عالة على تنظيرات قرؤوها معرَّبة فلم يحسنوا فهمها، وراحوا يتشدَّقون بها مقحمين المصطلح على غير ما وضع له..وإما مستغربون فتنوا ببضاعة أوروبا وأمريكا فأقحموها على بضاعتنا بلا تمييز حتى لقد اجترأ بعضهم على أخذ آدابنا القديمة – كبحث الصورة عند أبي تمام – بما أخذ به وليم بليك وتوماس إليوث وإديث سينوبل..إن الأدب فن والدراسة الأدبية تحصيل علمي وقد ترتب على ذلك فتح الباب أمام أي حامل للقلم للدخول في زمرة الأدباء، ونجحت فئة مثقفة في معالجتها للأدب –من حيث هو فن- معالجة فكرية فوصفت بأوصاف الأديب، مع أنه يكون من الأجدر حقا أن يوصف بالفلسفة : كزكي نجيب محمود ومصطفى سويف "(10)

فهل يخالف هذا الكلام ما قلناه سابقا عن النقد المغربي ؟ لا أظن ذلك. فبؤس النقد معضلة قائمة، ما بقيت أزمة الفكر والفن في النقد الأدبي.

 

 

الهوامش

(*)ناقد وباحث من المغرب، وله اهتمام بالقصة القصيرة نقدا وإبداعا.

(1) سئل الناقد إدريس الناقوري في بداية الثمانينيات عن الشعر المغربي في السبعينيات فقال :" أرى أننا حينما نتحدث عن شعر السبعينيات فإننا نرفعه إلى مستوى الشعر بصفة عامة بينما هو ما يزال محط نقاش لأنه لم يتبلور بعد سواء من الناحية الفنية أو الفكرية." أنظر مجلة آفاق العدد السابع مارس 1981 ص 5.

(2) انظر مجلة آفاق العدد السابع مارس 1981 ص 17 إدريس الناقوري.

(3) ويراد بها د.حسن الأمراني. د. محمد بنعمارة. ود. محمد علي الرباوي الذين نهجوا نهجا إسلاميا في الشعر.

(4) المراد بذلك : د.محمد بنيس ومن كانوا يكاتبون مجلته (الثقافة الجديدة )

(5) مجلة أقلام العدد  السابع، فبراير 1979 ص 1

(6) أقلام، العدد السابع، فبراير 1979 ص  24.

(7) محمد بنس الثقافة الجديدة، العدد العاشر -الحادي عشر، السنة الثالثة 1978 ص 47

(8) نفس المرجع ص 47 - 48

(9) نفس المرجع ص 67

(10) حوار مع الناقد د. أحمد كمال زكي. الفيصل، العدد 45 ربيع الأول 1401 هـ السنة الرابعة، يناير /فبراير 1981، ص 54 – 55 .

 عن منشورات الزمن صدر للباحث سعيد شبار

كتاب تحت عنوان :" الحداثة في التداول الثقافي

العربي الإسلامي –نحو إعادة بناء المفهوم"

 

Partager cet article
Repost0
19 avril 2011 2 19 /04 /avril /2011 21:27

شعرية الضياع

 

 

قراءة في تجربة إدريس الصغير القصصية من خلال أضمومة "حوار الجيلين"

(مجموعة قصصية مشتركة مع محمد سعيد الريحاني)

 

 

بقلم محمد سعيد الريحاني

 

 

 

(ألقيت هذه الشهادة بمناسبة تكريم "جماعة الكوليزيوم الأدبي" المغربي لإدريس الصغير بمدينة مراكش، بتاريخ: السبت  16 أبريل 2011)



 

قبل أعوام قليلة، أعلنا، توصلت إلى ملاحظة تمكنت مني فاقتنعت بها وقوامها أن الإبداع السردي المغربي يعاني خوفا غير مبرر من اقتحام تيمات الحلم والحرية والحب. وهو ما يحتم مراجعة في طريقة التفكير وتغيير في أدوات العمل. فالسرد المغربي، عكس المسرح والشعر، يجفل دونما تبرير من اقتحام الدوائر الثلاث باستثناء "أدب السجون" الذي اختص في الحرية كمرجع وأفق، و"أدب المرأة" الذي اختص في الحب بإحباطاته وانكساراته، وأدب أحمد بوزفور وإدريس الصغير ممن اختصوا في دائرة الحلم بامتداداته التي تصل في أقصى مداها حد الجنون...

 

أعوام قبل ذلك التاريخ، لاحظت، من خلال تصفحي لببليوغرافيا الإبداع المغربي والعربي، تَرَفُّعُ الأدباء المغاربة والعرب عن الاعتراف ببعضهم البعض ومصاحبة بعضهم البعض في أعمال مشتركة. فالكاتبات النساء تتهربن من الأعمال المشتركة مع كاتبات من جنسهن ربما لأنهن يريْن في الأمر ردّة إلى حياة "الحريم". كما يندر وجود أعمال مشتركة بين أديب عربي وأديبة عربية باستثناء "أدب الرسائل والمراسلات" حيث اجتمعت في الشام غادة السمان بغسان كنفاني والتقى في المغرب عبد الكبير الخطيبي بغيثة الخياط. أما الأسماء القليلة من الكتاب العرب الرجال ممن دخلوا تجربة العمل الإبداعي المشترك فيطالعنا اسم إدريس الصغير مرة أخرى كاستثناء. بل إن الرجل تعدى الاستثناء ليصبح "قاعدة" في العمل الإبداعي التشاركي من خلال ثلاثة أعمال سردية مشتركة:  

 

"اللعنة و الكلمات الزرقاء"(مجموعة قصصية)،  بالاشتراك مع عبد الرحيم مودن، 1976

"ميناء الحظ الأخير(رواية  بالاشتراك مع عبد الحميد الغرباوي، 1995

"حوار جيلين"(مجموعة قصصية)،  بالاشتراك مع محمد سعيد الريحاني، 2011

 

ولظروف خاصة، تأخرت "حوار جيلين"، المجموعة القصصية الأخيرة، عن الصدور لمدة ثلاث سنوات لكنها لم تكن جامدة في طابور الانتظار وإنما كانت تنمو في انتظارها وتتطور إذ تغير، خلال انتظار النشر، أكثر من نص وتغيرت أكثر من فقرة قبل دخول العمل أخيرا إلى المطبعة وبداية العد العكسي لخروجه المحتمل إلى أسواق القراءة والقراء بعد أسبوعين.

عند الإعداد لتحرير أضمومة "حوار جيلين كانت السيناريوهات الثلاثة الممكنة كالتالي: السيناريو الأول، المشاركة في كتابة النصوص متوالية بعد متوالية؛ السيناريو الثاني، اقتسام متواليات النص بحيث يفتتح الواحد منا النص بينما يبقى توقيع الختام للآخر، السيناريو الثالث، الاحتفاظ بمطلق الحرية في اختيار كل منا لنصوصه وتحريرها على طريقته وهو ما وقع الاختيار عليه في الأخير فكان لإدريس الصغير الجزء الأول من الأضمومة بينما كان لمحمد سعيد الريحاني الجزء الثاني منها. وعليه، بعث لي إدريس الصغير بنصوصه السبعة دفعة واحدة فارتأيت محاورتها بنصوص متفاعلة مع تيمتها المركزية، "الضياع". وبذلك، جاءت أضمومة "حوار جيلين" موزعة على جزأين:

 

الجزء الأول خاص بنصوص إدريس الصغير السبعة التي تتدرج عناوينها كالتالي: رجل وورقة وأحلام، في مقهى على ضفة نهر، طريق الأحلام، نومانز لاند، حقول الأقحوان وشقائق النعمان، صانع الأحلام، أحلام طاميزودا.

 

أما الجزء الثاني فيشتمل على نصوص محمد سعيد الريحاني السبعة وهي حسب ترتيبها في المجموعة: في رحاب التقنية، هل قرأت يوما عن الأشباح؟، الضياع، فظاظة القبائل البعيدة، الاسم "عاطل" والمهنة "بدون"، الذي كان حرا، أحلام الظهيرة.

 

ولظروف خاصة، تأخرت المجموعة القصصية "حوار جيلين" عن الصدور لمدة ثلاث سنوات. لكنها لم تكن تنتظر فحسب وغنما كانت تنمو أيضا. فقد تغير أكثر من نص وتعدلت أكثر من فقرة قبل أن تستعد للخروج إلى أسواق القراءة والكتاب أواخر هذا الشهر، ابريل 2011.

 

ولأن الكاتبين ينتميان إلى جيلين مختلفين من أجيال الكتابة القصصية في المغرب، فإن ما يجمع بين نصوصهما في هذا العمل المشترك، "حوار جيلين"، هو "الضياع" كفلسفة وجودية وكمنظور فني وكأسلوب في الكتابة. "الضياع" كقانون كوني، كنهر جارف لكل ما ومن يحاول التشبث بموطئ قدم على بساط  الطمأنينة والمعنى الخادعين...

 

نصوص إدريس الصغير  في هذه المجموعة، "حوار جيلين"، ضياع في ضياع: ضياع يتخذ ثارة قناع التعب الأبدي وثارة قناع الشيخوخة وثارة أخرى قناع الجنون وثارة رابعة قناع فقد الحبيبة...

 

ففي فاتحة نصوصه، "رجل وورقة وأحلام"، يتشبث الرجل الذي لا حاضر له بوهم لا يشاطره فيه غيره: وهم الفوز في اليانصيب وتغيير الوضع الاجتماعي والعودة للشباب لكن كثافة أوهامه انتهت به إلى فقد بيته وأقرب أقاربه، زوجته:

" ترجع أنت في المساء متعبا. تطرق الباب مرات فلا تجاب. حتى المفتاح نسيت أن تحمله معك اليوم. تركت لك خبرا عند الجيران:   »إذا حضر في المساء... قولوا له: إن اهتديت إلى مكاني، أيها القرد الهرم، فافعل بي ما تشاء « .

 

أما نص "في مقهى على ضفة نهر" فربما كان مقابله المحتمل من العناوين الممكنة "نهاية اللعبة" أو "نهاية التاريخ" أو "القيامة الآن". فالزمن الذي اعتقده الناس مستقبلا وأجهدوا أنفسهم في تعليق آمالهم بالخلاص على مشجبه، ذلك الزمن قد حل الآن ولكنه ليس مستقبلا. ليس في هذا الوجود مستقبل، ليس  ثمة غد، ليس هناك غير الضياع الذي يؤجل الجميع مواجهته:

" انتبهوا جيدا، وتابعوا هذا الفتى وهو يرسم. تعلموا منه.

لكنه كان دائما يبدأ الرسم منطلقا من الشاطئ نحو المنبع. لا يصدق لحد الآن برغم كبره أن الأنهار هي التي تصب في البحار وليس العكس. لكن كثيرا من الحقائق تبدو غير قابلة للتصديق في زمننا الكابي هذا.

هذا الفتى سيكون له شأن في المستقبل.

ومات أستاذ الجغرافية أمام تلاميذه وهو يميز لهم بين أضخم نهر في العالم وبين أطول نهر. العمر لم يمهله حتى يرى شأن الفتى في المستقبل. ألسنا الآن في المستقبل.؟ ! هذه الكلمة الغامضة السرابية المنزلقة من بين أصابع اليدين كانزلاق الماء على راحتي متوضئ، شيخ قانت.

الفعل المضارع هو ما دل على الزمن الحاضر والمستقبل.

أليس هكذا علمونا قواعد اللغة العربية في المدرسة الابتدائية، وجذبوا آذاننا الطويلة ونحن نستظهرها؟

وإن شئت المستقبل القريب استعملت السين: مثال. سنصبح أمة متقدمة.           

وإن شئت المستقبل البعيد استعملت سوف: مثال. سوف نصبح أمة متقدمة.

وقس على هذا."

 

أما في نص "طريق الأحلام"، فيقابل إدريس الصغير بين "الضياع" الذي يعيشه العامي في ضوضاء حياته ورتابة تعبه وبين "الحقيقة" الذي يعيشها السجين في زنزانته. وهو تقابل بين قبول الإنسان لعب دور الآلة الوظيفية في المجتمع وبين انسحابه إلى أعماق ذاته لسبر أغوارها واكتشافها والمصالحة معها:

"أكون منهكا حين أصل السجن، فأحشر جسدي وسط الأجساد لأشتم رائحة آباطها، وخلوف أفواهها. أنصت إلى الثرثرات، والبكاء، والنزاعات والهمسات والتوعدات. تحييني الوجوه التي أصبحت أعرفها. وأصافح أناسا. لأبدأ معهم تعارفا جديدا.

وككل مرة، أجد أنني نسيت كل الكلام الذي حضرته بعناية. لأحدثه به. غير أنه في كل مرة يكون أكثر صفاء ذهن، فيحدثني بمعنويات مرتفعة، أستغرب كيف، يمتلكها، بينما أظل أنا صامتا، منخور الدماغ."     

 

أما نص "نومانز لاند"، أو الأرض الخراب، ف"الرماد" هو أكثر الكلمات ترددا في النص:

" رفع بصره بعينيه الدامعتين، يتأمل أكوام الرماد، الخامد وخيوط الدخان الرفيعة المتصاعدة منه نحو السماء باحتضار، وسط جلبة أصوات الجمع، وهمهماتهم، خليط من مواساة وتشف، وشفقة. لم يكن راغبا أبدا في أن يتفرس في الوجوه ولا أن ينبس ببنت شفة، كان راغبا عن كل شيء، ولم يكن راغبا في أي شيء. أنه تحصيل حاصل. غير أنه كان دائما يستغرب هذه الحالة الشاذة. هذه اللحظة البيضاء، التي تمسي فيها كل الأشياء، بدون طعم وبدون رائحة، هكذا حتى بدون أبعاد. لا حجم لها بتاتا. أهي أطياف...

 

ثم أنه الآن يحار، أييمم نحو الشمال أم نحو الجنوب أم نحو الشرق أم نحو الغرب. لا يدري. ضاقت به الأرض بما رحبت. أم تراه يعلو في فضاء السماء الفسيح، متخلصا من الجاذبية. مسافرا بين الأقمار والأجرام، متنقلا بين المجرات، فلا شرطة تكبسه، ولا مخبرين يتشممون آثار أقدامه، ولا دائنين. يتعقبون سحنته المتجهمة."

 

ثم يختم النص بتشتيت رماد وجوده في أبيات رمادية:

" ليس لك شبر أرض أو كوخ يأويك.

لا أهل، لا رفاق، لا أصحاب.

لا زوجة، لا أولاد".

 

أما في نص "حقول الأقحوان وشقائق النعمان"، ف"للضياع" اسم ثان، "الشيخوخة":

" هي !

أنت لم تدرك ذلك أول الأمر. هزة خفيفة من يدها على مرفق يدك اليمنى ثم طبطبة على الكتف. وحين التفت، استقبلك وجهها مبتسما طافحا بالبشر. أنكرتها غير أنك بادلتها التحية و أشرق وجهك بابتسامة مرحبة. من تكون؟

امرأة تعرفني؟ زميلة دراسة قديمة؟ أم تكون ...؟

بسمتها تزداد ألفة و حنانا. العوارض المجلوة البيضاء الناصعة و العينان البراقتان و تصفية الشعر. تشبه "رومي شنايدر".

عيناك تدوران في محجريهما و كأنما دوامة تلولب رأسك ليتدحرج اربعين سنة إلى الوراء.

ميم. رومي شنايدر .

هي بالتأكيد هي. لم يفعل الزمن بها شيئا يذكر غير بدانة طفيفة ورزانة عمر رغم الوجه الطفولي.

هي !"

 

كل شيء لا زال كما كان، الأقحوان وشقائق النعمان إلا الشباب الذي لم يعد يستجيب لدعوة الحبيب إذا دعا:

"هي ذي حقول القمح تمتد مترامية الأطراف، تزينها شقائق النعمان الحمراء. هل أطاردك الآن، حتى يأخذ منا التعب مأخذه؟ هل نقرفص تحت فزاعة لنسرق القبل بعيدا عن أعين الرقباء؟ هل أنت هي أنت،وهل أنا هو أنا؟

لعلها كانت تريد لهذا الحديث الصامت أن يستمر إلى ما لا نهاية. غير أنك مددت لها يدك، فقط لتشد على كفها الصغيرة بأصابعك المعروقة.

وليت وجهك دونها، وأرسلت قدميك على غير هدى"...

 

أما في نص "صانع الأحلام"، ف"الضياع" يلتحف وزرة مريض نفساني لم يعد يميز بين ما يعيشه وما يحلم به وما يقرؤه :

" كان مستعجلا، فلم يخط بدلته عند أشهر خياط بالمدينة، بل اشتراها من محل بيع بدلات جاهزة. و مع البدلة جوارب و قمصانا و ثيابا داخلية و حذاء و ساعة يدوية، و بايبا.

نعم بايب، مثل ذلك الذي يستعمله الدكتور النفساني في قصة "ذلك الشيء" للكاتب أحمد بوزفور .

كان الآن هو والدكتور كلاهما يدخنان البايب في العيادة. هو مضطجع و الدكتور بمحاذاته يجلس على كرسي. قال الدكتور:

-هكذا إذن بدأت أنت كذلك تدخن البايب، ثم بدأت تصنع أحلامك بنفسك، أنت ذكي، وهذا يتعبني كثيرا .

أجاب بفتور .

- لست متأكدا ان كان الدكتور في القصة هو صاحب البايب أم المريض .

ضحك الدكتور،ثم قال مطمئنا :

-لكي تتأكد ارجع إلى القصة مرة ثانية. ما يهمني الآن هو أن أنصت إليك و أنت تتحدث إلي" .

 

أما خاتم النصوص الصّْغيريَةِ في هذه المجموعة القصصية المشتركة، نص " أحلام طاميزودا فيبدأ كأغلب النصوص القصصية بالسرد بضمير الغائب المتجرد الموضوعي العارف بدواخل وأسرار الشخوص الأصم اتجاه المعاناة الفردية... لكن ما أن تحمل الحبيبة على المحمل وتأخذ وجهتها نحو المقبرة حتى يلقي السارد على الأرض بكل الأقنعة والأدوار السردية ويتحرر من كل تجرده وموضوعيته ليعلن "بضمير المتكلم" أنه هو الحبيب وأن الراحلة هي الحبيبة وأن النص ما هو إلا  ذكرى قصة حب كانت لاهبة:

» كانت اللقاءات هنالك، في خلوة عن العالم، عن كل العالم. بعيدا عن الحروب، وعن الدمار وعن الدسائس وعن كل المخلوقات. ترى لماذا اخترنا بالضبط  ذلك المكان؟ الم يكن الرومان يشقون عباب نهر سبو بسفنهم المحملة بالمؤونة  ليرسوا  بها في طاميزودا؟ الم يحبوا هنا؟ ألم يحترقوا بلظى الأشواق، و طول  النأي، و المعاناة المؤلمة لهذا الحب الأزلي؟

أين أنت اﻵن ؟ اﻵن أرى جسدك مسجى على المحمل ، مغسولا ، بعطر الجنان . أراك محمولة فوق الأكتاف ، ليشق مسمعي ، العويل ، و الصرخات الرعناء . اليوم  لا أملك سوى الذكرى ، اليوم أعود عند الغروب منكسرا ، أيمم نحو مدينة كئيبة تغفو مجهدة، لتنكمش على أحزانها الدائمة «

 

على سبيل الختم:

لقد وجد إدريس الصغير في تيمة "الضياع" شعرية خاصة. لذلك رعاها منذ أول مجموعة قصصية أصدرها بالاشتراك مع القاص والناقد المغربي عبد الرحيم المودن عام 1976 تحت عنوان "اللعنة والكلمات الزرقاء". لكن "الضياع" الذي بدأ صنعة وصنيعة بين يدي إدريس الصغير انتهى به المطاف "صانعا" و"فاعلا" بروميثيا . وحين انتبه إدريس الصغير للأمر، انتابه شك في أن تكون يد الضياع قد امتد إلى ملكة الكتابة لديه لتعبث بها تماما كما حدث لغابرييل غارسيا ماركيز الذي عانى في آخر أيامه  من نضوب في الإلهام.  فبتاريخ الرابع من فبراير 2007، بعد دعوتي له للمشاركة في الجزء الثاني من "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"، كتب لي إدريس الصغير ما يلي:

 

 "تحية طيبة  
 وبعد 
كنت متوقفا عن الكتابة إلى أن أرجعني مشروعك الجميل إليها. لقد أصبحت أتفاءل بك.
مرحبا بالتعاون معا لإصدار عمل مشترك.

 لك مني أجمل التحيات."

 

كان هذا هو نص رسالة إدريس الصغير. أما جوابنا فقد تأخر طويلا في انتظار سياق احتفالي كهذا يكرم الرجل وينوه بإسهاماته لنقول له ملء السمع: "كم أنت شامخ، يا إدريس، وكم نحن نحبك !"

 

 

محمد سعيد الريحاني

(ألقيت هذه الشهادة بمناسبة تكريم "جماعة الكوليزيوم الأدبي" المغربي لإدريس الصغير بمدينة مراكش، بتاريخ: السبت  16 أبريل 2011)

 




   
Partager cet article
Repost0
21 janvier 2011 5 21 /01 /janvier /2011 23:38

المغرب بلد قصصي بامتياز

مصطفى لغتيري

 

منذ بواكرها الأولى ،مرت القصة القصيرة في المغرب بعدة مراحل متباينة ،  ميزت نصوص كل مرحلة على حدة  بخصائص معينة ، فوسمتها بميسمها الخاص ، متأثرة في ذلك بإشكالات الواقع حينا و رهانات الكتابة حينا آخر،فأصبح –نتيجة لذلك - الحديث عن الأجيال القصصية له ما يبرره.

و غني عن الذكر أن مرحلة النشأة، خلال الأربعينيات و الخمسينيات من القرن الماضي ،انشغلت باستنبات هذا الفن القصصي في التربة المغربية ، مستلهمة في ذلك التجربة القصصية المشرقية .. و نتيجة للوضع السياسي المميز لتلك المرحلة ،والمتمثل تحديدا في معضلة الاستعمار ، عمدت القصة القصيرة إلى التعبير عن هذا المعطى ، فجاءت مثقلة بمظاهر الاحتلال و التحريض على مقاومته، و تصوير الصراع بين مجتمع تقليدي  مشدود بقوة إلى الماضي، وبين بوادر و إرهاصات تهفو إلى بناء مجتمع حداثي ، محفزة في ذلك بصدمة الاستعمار، و الاطلاع على بعض مظاهر الحياة في المجتمعات الأوربية . و يلاحظ أن المسحة الرومانسية  قد طغت على إنتاجات  هذه المرحلة ،ومن بين كتاب هذا الجيل عبد المجيد بن جلون و عبدالرحمان الفاسي.

في مرحلة ما بعد الحصول على الاستقلال طغى المعطى الإديولوجي على القصة القصيرة ، فجاءت نصوص  هذا الجيل صارخة في وجه الظلم الاجتماعي و السياسي  ، إذ عمد قاص الستينيات و السبعينيات إلى الكشف إبداعيا عن الصراع الطبقي  و الإقصاء السياسي و الاجتماعي  و نذكر من هذا الجيل كل من عبد الجبار السحيمي و محمد زفزاف و إدريس الخوري و محمد ابراهيم بوعلو.

 أما جيل الثمانينيات ، فحاول الحفاظ على مسافة معقولة بين انشغالات الكتابة القصصية و هموم الواقع ، فاهتم- على حد تعبير محمد برادة- "بالجغرافيا السرية للذات بدل جغرافيا الواقع"  ،  وهكذا تمت العودة إلى داخل النص بدل الاهتمام بخارجه ، فتطورت- بالتالي- تقنيات الكتابة القصصية  ، ووظف القصاصون  البعد العجائبي و السخرية في قصصهم  ، فتخلصت القصة القصيرة – نتيجة لذلك – من الطابع المتجهم  و "الجاد" الذي ميزها مع الجيلين السابقين، و نذكر من كتاب هذا الجيل أحمد بوزفور  و مصطفى المسناوي و محمد الهرادي و محمد عزالدين التازي و محمد صوف و محمد غرناط.

منذ بداية التسعينيات برز جيل جديد في المشهد القصصي المغربي  ، نوع مصادره ، فبالإضافة إلى اطلاعه على النصوص المغربية و العربية انفتح  كذلك على الآداب العالمية ، التي لم يتأت للأجيال السابقة تأثيث  وعيها القصصي على خلفيتها ، وأخص بالذكر قصص أمريكا اللاتينية ، فتملك هذا الجيل طموح مشروع لحفر مسار قصصي ، يختلف كما و نوعا عما أنتجته الأجيال السابقة.

 و يتميز هذا الجيل – في رأيي المتواضع- بما يمكن تفصيله فيما يلي :

- إنه جيل تخرج أكثر كتابه من الجامعة المغربية ، بما يعني أنه متشبع باللغة العربية ، ومطلع على المدارس الأدبية و الاتجاهات النقدية و أهم النصوص القصصية المغربية والعربية :سعيد منتسب  - خالد أقلعي – جمال بوطيب – لطيفة لبصير-مصطفى جباري ..

- جيل ركب موجة التجريب  ، فأنتج نصوصا مختلفة و صادمة ، تكسر خطية السرد و لا تحتفي بالحكاية ،  وتمارس اللعب باللغة وتوليد تعابير جديدة لم يسبق تداولها محليا : أنيس الرافعي –عبدالنبي داشين- محمد أمنصور – جمال بوطيب-هشام دحماني..

- جيل تميز بوفرة إنتاجه القصصي ، مصرا بذلك على التراكم ، فاختفت نسبيا تلك الظاهرة المميزة للأجيال السابقة ، المتمثلة في اكتفاء أغلب قصاصيها بمجموعة قصصية واحدة إلا فيما ندر.

-جيل يتوزع على امتداد التراب الوطني ، إذ لم يعد الإبداع القصصي حكرا على مدن بعينها ، بل أصبحنا أمام ديمقراطية قصصية تكاد تتوزع بالتساوي على كل جهات المغرب : عبدالعزيز الراشدي "زاكورة"– اسماعيل غزالي"امريرت"-صخر المهيف "أصيلة"- البشير الأزمي

"تطوان"-عبدالسلام بلقايد"العرائش-محمد البوزيدي و البتول المحجوب "طانطان"عبدالنبي  بزاز " الخميسات" .

-جيل منشغل بهموم الصحافة الثقافية بالإضافة إلى هموم القصة:عبدالعالي بركات - ياسين عدنان- ليلى الشافعي- عبدالسلام المودني -نجلاء البقالي- عبدالواحد استيتو- حسن الأشرف.

 

-جيل تشكل المرأة الكاتبة فيه نصيبا لا يستهان به ، بل أضحت القصة النسائية مع هذا الجيل مؤهلة لأن تخصص لها أنطولوجيا بمفردها ، و بالتأكيد ستكون وافرة العدد و رفيعة القيمة : ربيعة ريحان – لطيفة باقا – مليكة نجيب –رجاء الطالبي-لطيفة باقا- وفاء مليح-رشيدة عدناوي –زينب سعيد-مالكة عسال – مليكة صراري–نجاة الصرار- عائشة بورجيلة.

                                                                                                                                                        --جيل يتحدى عوائق النشر ، ويطبع كتبه على نفقته، حتى تجاوز إنتاجه جميع ما تنتجه دور النشر المغربية مجتمعة.

  -جيل انتظم في جمعيات و نواد مدافعا - من خلالها - على معشوقته القصيرة و متداولا في شأنها باستمرار: هشام حراك-محمد الشايب- عبدالواحد كفيح-أحمد شكر -القاص محمد معتصم- محمد بن عبود-عبدالمجيد جحفة- محمد الحاضي.

-جيل انفتح على المشرق بفضل الأنترنيت ، فضمن لنفسه مواطئ أقدام في المشهدالقصصي العربي ، بعد أن لفت الانتباه إلى إنتاجه القصصي  : نورالدين وحيد – الحبيب الدائم ربي- فاطمة بوزيان- نورالدين محقق- منى وفيق – هشام بن الشاوي – عبد   النور إدريس

- جيل يحصد تباعا جوائز المسابقات أينما وجدت :الزهرة رميج- شكيب عبد الحميد

- جيل استهواه التكثيف و القصر ، فأنتج القصة القصيرة جدا ، إذ لا نكاد نعثر على قاص من هذا الجيل لم يدل بدلوه في هذا المجال : عبدالله المتقي – عزالدين الماعزي – محمد تنفو – المصطفى كليتي- السعدية باحدة- حسن برطال – مصطفى لغتيري

- جيل يجمع ما بين الإبداع و النقد  و الترجمة أحيانا،مما يعني أنه مسلح بخلفية نظرية تؤهل قصصه لتتأمل نفسها باستمرار ، وتحقق تطورا مضطردا : محمد سعيد الريحاني-ابراهيم الحجري- المهدي لعرج-محمد اشويكة-حسن اليملاحي- حميد ركاطة –سعيد بوكرامي - محمد أيت حنا

أمام هذا الجيل المثابر ، والمؤمن بإبداعه ، حققت القصة القصيرة في المغرب  تطورا لا ريب فيه إبداعا و وفرة إنتاج ، بل استطاعت أن تزاحم الشعر و الرواية على مكانتيهما التقليديتين ، وتخلق – بالتالي- حالة قصصية ملفتة ، استقطبت المزيد من الأقلام الشابة ، ولفتت اهتمام النقاد  ، فأنشئت ورشات للكتابة القصصية ، و ألفت كتب نقدية ، و أنجزت أنطولوجيات  و ملفات عامة ومتخصصة.

نتيجة لكل ذلك يحق لنا أن نستبشر خيرا بمستقبل هذا الفن الجميل ، ونراهن على هذا الجيل الجديد ، لجعل المغرب – على الأقل عربيا- بلدا قصصيا بامتياز.

 

 

 

 

 

Partager cet article
Repost0
3 novembre 2010 3 03 /11 /novembre /2010 01:40

آليات التأويل في القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي

د. حسن مخافي 

تندرج هذه المقالة في إطار عام يهدف إلى القبض على أهم الآليات التي تحكمت في تأويل التراث النقدي. ولا شك في أن مبدأ التأويل بالنظر إلى طبيعة التراث النقدي من جهة، وطبيعة النقد العربي المعاصر من جهة ثانية، وبمراعاة السياق العام الذي أنتج قراءات التراث النقدي من جهة ثالثة، هو مبدأ مشروع. ولكن التأويل ـ كما هو معلوم ـ تؤطره مجموعة من القواعد هي التي تقي أطراف القراءة من فقدان التوازن الضروري لكي تكون القراءة مثمرة. وإذا وضعنا نصب العين أن القراءة ليست تنويعاً على المقروء، بقدر ما هي إعادة كتابة له، أدركنا أن المسألة في جوهرها تتعلق بالحاضر، ولا تمس الماضي إلا في حدود كونه عنصراً من عناصر تشكيل هذا الحاضر. ومن ثم فإن أية قراءة للتراث لا تستطيع أن تثبت براءتها، إنها ملطخة بوحل الحاضر، لأنها تحمل في طياتها موقفا من "الآن" و "هنا".

هذا يوضح أن ما يعرف بإشكالية التراث في الخطاب العربي الحديث، ما هي إلا وجه لإشكالية أوسع، تستمد ملامحها العامة من الحاضر، وهو ما يفسر أن "التراث" كما نتداوله اليوم، "إنما يجد إطاره المرجعي داخل الفكر العربي المعاصر، ومفاهيمه الخاصة وليس خارجها" كما يذهب إلى ذلك محمد عابد الجابري. إن هذه النتيجة التي تتعلق بالتراث عامة، تنسحب على التراث النقدي. ذلك أن تتبع مفهوم التراث النقدي لدى الدارسين العرب المعاصرين يبرهن على أن أية صياغة لهذا المفهوم لا يمكن أن تستقيم بدون النظر إلى النقد المعاصر. وهذا ما جعل الاختلاف يحتد بين أولئك الدارسين حول مدى شرعية عدد من المفاهيم المعاصرة في بناء مفهوم التراث النقدي. وهو ما يكشف منذ البداية أن هناك عنصراً ثالثاً يوجه القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي هو النقد الغربي.

صحيح أن تعبيراً مثل "نحن والغرب" لم يعد يستعمل بكثرة كما كان الأمر عليه في منتصف القرن الماضي. ولكن الأحداث التي عرفها العالم، وخاصة بعد أحداث 11 أيلول/شتنبر 2001، جعلت ثنائية الأنا/ الآخر تطفو على سطح الخطاب العربي المعاصر من جديد، وإن بصيغ جديدة. وعندما يوضع هذا العنصر في عين الاعتبار فإن القضية تتخذ ثلاث علاقات إشكالية: فإذا كانت كل قراءة للتراث النقدي تحمل في حد ذاتها تصوراً لحداثة نقدية، فإن هذا التصور لا يمكن استحضاره إلا عبر علاقتين أخريين هما علاقة التراث النقدي بالنقد العربي المعاصر، وعلاقته بالنقد الغربي. هذه العلاقات الثلاث جعلت مفهوم التراث النقدي تعبيراً عن وجهة نظر يقود الدفاع عنها إلى التأويل بمختلف معانيه. وأدت إلى أن قارئ التراث النقدي يلج باب القراءة وهو مسلح بما تسميه أدبيات التلقي فكرة مسبقة. وعلى الرغم من أن مدارس التلقي تركز على أهمية الفكرة المسبقة في فعل القراءة، بالنظر إلى طبيعة القارئ الذي لا يمكن أن يقتحم النص مجرداً من تكوينه، فإن هذا العنصر عندما يصبح مهيمناً على القراءة، يشكل إعلاناً عن إفلاس تلك القراءة. وهذا ما وقعت فيه القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي. ذلك أن أزمة التأسيس التي صاحبت الخطاب النقدي العربي الحديث، والتي تمظهرت في الازدواجية المرجعية لم تمهل الدارسين العرب لتقديم قراءة متأنية لما يسمى النقد العربي القديم. فقد ظلت جهودهم مشتتة بين هدفين استراتيجيين مختلفين: العمل على اللحاق بإنجازات ما أصبح يعرف لدى بعض الدارسين بالنقد العالمي، والدفاع المستميت عن هوية نقدية لها ما يبررها على مستوى طبيعة النص الأدبي العربي من جهة، وعلى مستوى البحث عن موقع في حركة العولمة الثقافية من جهة ثانية. لقد كانت هذه الازدواجية مصدراً لما يمكن أن أسميه انفصاماً في منظومة النقد العربي، فتارة يبحث عن تفسير للظاهرة الأدبية انطلاقاً من التراث النقدي وتارة أخرى يلجأ إلى المناهج الغربية، من أجل مقاربة نص لا ينتمي في سياقه لا إلى هذا ولا إلى ذاك. بل له شخصيته التي تكونت عن طريق التفاعل بين عدد من العناصر أهمها الإطار السوسيوثقافي الذي يبرر وجوده.

إن هذا لا ينفي استحضار التراث النقدي أو النقد الغربي في مقاربة النص العربي المعاصر، ولكنه يعني أن ذلك النقد بعد أكثر من قرن مضى على تأسيسه لم يستطع تلمس الطريق التي بها يتخلص من التنافر المرجعي المشار إليه. إن إحدى علامات هذا الخلل تتجلى في سكوت القراءات العربية المعاصرة على مسألة المنهج الذي يحكم تلك القراءات. وعلى الرغم من أن دارسي التراث الأدبي والنقدي من أمثال طه حسين قد مهدوا لفتح نقاش واسع في هذا المجال بملاحظاتهم المنهجية الثاقبة، إلا أن سيطرة النزعة المدرسية لعقود قد أخمدت تلك الجذوة، وأصبح التراث بعد ذلك يدرس وكأنه مجال للمعرفة الموضوعية لا علاقة له بتطور النقد العربي الحديث. وكان علينا أن ننتظر آخر القرن العشرين، لنعثر على دراسة متكاملة للمسألة المنهجية في قراءة التراث النقدي، حين قدم جابر عصفور تصوراً في الموضوع إلى ندوة "قراءة جديدة لتراثنا النقدي" سنة 1988. لقد وصل النقاد المعاصرون إلى قناعة مفادها أن النقد العربي الحديث يمكن أن يستمد بعض حداثته من التراث، وقد دفعت هذه القناعة أصحابها إلى قراءة التراث النقدي بروح براغماتية كان من انعكاساتها جعل بعض النقاد العرب القدامى حداثيين رغم أنفهم. إن هذا المبدأ الذي زج بمفهوم الحداثة في حمأة النقاش حول التراث النقدي، أدى إلى خلق نوع من التعارض بين الحداثة ذات المرجعية الغربية، والتراث ذي المرجعية العربية. وتحت ضغط هاجس المصالحة بينهما تمت القراءات العربية للتراث النقدي. ومن المفارقات الحادة التي طبعت تلك القراءات أن أصحابها يلتقون في استعمال نفس الآليات في تأويل التراث النقدي على الرغم من اختلاف رؤاهم. إن هذا لا يعني أن هناك فصلاً بين المنهج والرؤية، ولكنه يشير إلى نزعة ذرائعية ظلت تحكم منظور أولئك الدارسين. فالذين يوصفون بالتراثيين كانوا يجتهدون في البحث عن التطابق بين التراث النقدي والنقد الغربي لكي يصلوا إلى أن كل ما في الغرب يوجد في التراث النقدي، فلا حاجة إذن للاستئناس بالمناهج الغربية. والذين يوصفون بالحداثيين كانوا يركبون نفس المنطق، ولكن ليجعلوا المناهج الغربية مشروعة ومستساغة. الفريقان معاً يلتقيان في كونهما يمارسان ما أسميه القراءة الإسقاطية، التي أفضت إلى قراءة التراث النقدي بمفاهيم غربية، وقراءة المناهج الغربية بمفاهيم تراثية. ولقد أدى هذا النوع من القراءة إلى نزعة اختزالية أضرت بالتراث النقدي، ولكنها أضرت أكثر بالنقد العربي الحديث الذي ما زال يقف في مفترق الطرق، تحت طائلة التمزق المعرفي والإيديولوجي الذي جعل وجوده قاب قوسين أو أدنى.

يحكم القراءة الإسقاطية إطار نظري يرمي إلى إخراج التراث النقدي من سياقه التاريخي، بتجريده من شروطه الموضوعية التي أفرزته، وجعله ثقافة صالحة لكل زمان ومكان. وإذا حدث أن لجأ أحد الدارسين المعاصرين إلى النقد الغربي قديمه وحديثه من أجل إغناء تجربته النقدية، فإن معنى هذا أنه عجز بمنطق القراءة الإسقاطية عن كشف ما في التراث النقدي من نظريات ومناهج تتجاوز النقد الغربي وتضاهيه. فكم "من ظاهرة نقدية أو اجتماعية صيغت وقننت ثم دفع بها إلينا. ولو أننا تخلصنا من قابلية التبعية وفتشنا في موروثنا لقلنا بكل ثقة واعتزاز: هذه بضاعتنا ردت إلينا"(1). ينم هذا الحكم عن مفهوم للتراث النقدي يقوم على الكمال المطلق، الذي يجعل النقد العربي القديم محيطاً بقضايا الأدب في الماضي والحاضر والمستقبل. وإذا وقع أن النقد العربي الحديث استعان ببعض المناهج الغربية من أجل مقاربة ظاهرة أدبية جديدة، فإن ذلك لا يعني أن التراث النقدي قد سكت عنها، بل يدل على أن الناقد العربي المعاصر قد قصر في فهم ذلك التراث، ولم يملك من النضج ما يسمح له باكتشاف كل أبعاده.

إن مثل هذا الموقف "الحماسي" من التراث النقدي يعكس إلى حد بعيد الأفق المحدود للقراءة الإسقاطية تجاه هذا التراث، ويبرز وجها من أوجه الحساسية التي يستقبل به بعض الدارسين التراث العربي. ومن الواضح أن الوجه البارز في نظرة هذا الموقف إلى التراث النقدي يتمثل في حضور البعد الوجداني الذي يؤكد على هيمنة ما يسميه محمد أركون "الفكر المتعالي" ومقاومته لكل ثقافة "دخيلة". إن هذا البعد الوجداني الذي يرمي إلى تحديد الهوية بمقومات الماضي هو في واقع الأمر إعادة إنتاج لآليات الخطاب السلفي الذي عرفه العرب مع بداية القرن العشرين، والذي يقوم على القياس مع وجود الفارق. وقد أبان الدارسون عن تهافت هذا الخطاب منذ وقت مبكر(2)، وكشفوا عن منطقه الداخلي(3)، وهم بصدد مقاربة إشكالية التراث. فما هي الآليات التي تستعملها القراءة الإسقاطية وهي تقارب التراث النقدي.

التراث النقدي والنقد الغربي: نفي "الآخر"

يذكر لويس عوض أنه كان في فترة ما من حياته النقدية يعاني من بلبلة مصدرها ذلك التناقض بين العقاد وسلامة موسى وطه حسين فيقول. لقد "تواجد الثلاثة معاً وقد أحطتهم بدرجة عالية من التقدير. هكذا وجدتني حيناً رومانسياً يترجم شيلي، وحيناً عقلانياً ديكارتياً، وحيناً ثالثاً يسارياً أوروبياً من القرن الماضي"(4). إنها الصورة البارزة للثقافة العربية المعاصرة منذ نهاية القرن التاسع عشر، وليس عوض سوى واحد من مثقفين ونقاد عاشوا هذا التشويش نفسه الذي يلخص إلى حد كبير قصة الثقافة العربية المعاصرة في مواجهتها للمعطى الثقافي الغربي بفلسفاته وعلومه، وما يصدر عنها من تيارات ونظريات ومفاهيم وأفكار. وهي ضمن ذلك قصة النقد العربي الحديث الذي أراد أن ينتظم في تلك الثقافة ويحمل سماتها ويعبر عن طموحاتها ويواجه مآزقها. ولا شك في أن دخول النقد العربي الحديث في مرحلة المثاقفة منحه إمكانيات جديدة لشحذ أدواته المنهجية، وتجديد رصيده النظري. ولكن ذلك أدى به من جهة أخرى إلى السقوط في مشكلة التوفيق بين هويته الخاصة التي يعتبر التراث النقدي أحد أسسها، وبين الاستجابة لما تفرضه المفاهيم النقدية الغربية.

إن هذا أدى إلى تقويل التراث النقدي ما قاله النقد الغربي بعد قرون، فراح بعض الدارسين العرب لهذا التراث يتلمسون وجود أشهر المدارس النقدية التي عرفها النقد في القرن العشرين، لدى النقاد القدماء. وهكذا غدا القاضي الجرجاني صاحب منهج فني نفسي إنساني، وقدامة بن جعفر صاحب منهج عقلي، وعبد القاهر الجرجاني متميزاً بالمنهج التحليلي(5). ولقد ذهب بعض الدارسين أبعد من هذا حين ألمحوا إلى أن النقاد الغربيين توصلوا إلى ما توصلوا إليه عن طريق اطلاعهم على النقد العربي القديم. فوجدوا شبها بين ما انتهى إليه عبد القاهر الجرجاني في موضوع دلالة الألفاظ وارتباطها بعضها ببعض، بما انتهى إليه كثير من النقاد المحدثين. يقول محمد زكي العشماوي إننا لو "قرأنا الفصلين الأولين من كتاب "فلسفة البلاغة" للناقد الأنجليزي المعاصر ريتشاردز، لوجدنا أن كل ما يحاول ريتشاردز في هذين الفصلين، لا يخرج عما قاله عبد القاهر في القرن الخامس الهجري فيما يتعلق بقضية النظم"(6). لا شك أن هذا النوع من القراءة يحمل في عمقه وهدفه دعوة إلى الاكتفاء بالتراث، باعتباره معبراً عن كل الأزمنة وشاملاً لكل القضايا التي أثيرت في الماضي وتثار في الحاضر وقد تثار في المستقبل. وبما أن زعماً مثل هذا لا يمكن بأي حال إثباته علمياً، فإن النزعة الإسقاطية قد أفضت بأصحاب هذا الموقف إلى انتهاك قواعد التأويل. ولعل ضعف هذه "القراءة" يظهر أول ما يظهر في القضاء على التوازن الذي من المفروض أن يسود أطراف القراءة الثلاثة: القارئ والنص والسياق.

إن حذف أحد الأطراف يخل بالقراءة ويفرغها من أي معنى. وهذا ما حصل بالضبط لبعض القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي، إذ أصبح القارئ/ الناقد يتعامل مع النص وفق طموح معين كامن في لا شعور الدارس إذا صح أن نستعمل عبارة جورج طرابيشي(7). وأدى هذا إلى غياب السياق الثقافي والاجتماعي للمقروء، وإلى حضور باهت ومحتشم للنص، وإلى سيادة القارئ بكل همومه المعاصرة في عملية القراءة.

التراث النقدي والنقد الغربي: إثبات "الآخر"

إن إشكالية النقد العربي الحديث متشعبة ومتشابكة، وليس من أهداف هذا البحث أن يكشف سوى عن الوجه التراثي فيها، أي عن طبيعة العلاقة التي أقامها ذلك النقد مع التراث النقدي. وقد سبقت الإشارة إلى الوجه الأول من تلك الإشكالية، حين الإلماح إلى ذلك النوع من القراءات التي تدعو إلى الانكفاء على الذات بحجة أن كل ما جاء به الغرب من فتوحات نقدية لا يمثل جديداً لأنه متضمن في تراثنا النقدي. وضمن المنطق الإسقاطي نفسه نسجل آلية أخرى، كانت توجه طبيعة النظر إلى التراث النقدي ويتعلق الأمر بالبحث في التراث النقدي عما يحقق نوعاً من التصالح بين التراث والنقد الغربي بشكل يجعل الاستفادة من هذا الأخير تحظى بشرعية من نوع ما. وإذا كانت إحدى الخلاصات الأساسية التي يلح عليها مفهوم التأويل تتمثل في أن فعل القراءة قد تحرر من أسر الرؤية الأحادية التي كانت ترى النص حقل بيانات، فإن هذا يعني في المقام الأول أن القراءة لم تعد تكتفي باستجابة القارئ لآليات النص أو نية الكاتب، ولم تعد ترى في النص عملاً مستقلاً عن القارئ، بقدر ما هو فعل ينطوي على تفكيك النص لإنتاج نص جديد، وبذلك لم يعد القارئ قارئاً وحسب وإنما أصبح منتج نص وواهب معنى ووجود له. من الواضح أن هذه الخلاصة ترتبط بقراءة النص الإبداعي الذي تتسم لغته بخاصيات تجعله يتسع لأكثر من تأويل، ولكنها تجسد آليات قراءة التراث النقدي لدى النقاد الحداثيين. ومن المفارقة أن نسجل أن الطريقة التي قرأ بها السلفيون التراث النقدي هي نفسها التي قارب بها الحداثيون ذلك التراث. ومن هنا فإن الموقف الذي يرمي إلى تحقيق مشروعية ثقافية لاستلهام المناهج الغربية، بالبحث عن علاقة ما بينها وبين التراث النقدي، سيسلك طريق المقارنة بين الإطارين المرجعيين. وهذا ما جعله يقوم على نفس الأسس العامة التي قام عليها الاتجاه الآخر الذي كان يهدف إلى التقليل من أهمية النقد الغربي، بالادعاء أن كل ما جاء به من مناهج يوجد لدى النقاد العرب القدامى. ومن المعروف أن محمد مندور كان من أوائل النقاد الذين أشاروا إلى هذه الطريقة في مقاربة التراث النقدي، عندما أعلن أن "منهج عبد القاهر هو المنهج المعتبر اليوم في العالم الغربي (...) ولكن لسوء الحظ لم يفهم منهج عبد القاهر على وجهه، ولا استغل كما ينبغي"(8). وبهذه الملاحظة يكون محمد مندور قد دشن قراءة جديدة، تعيد اكتشاف عبد القاهر الجرجاني في ضوء الدراسات الحديثة، كما دعا إلى ضرورة استحضار مثل تلك المقارنات وفق فهم جديد لعبد القاهر الذي ليس سوى واحد من أعلام التراث النقدي.

وبعد محمد مندور كثرت الدراسات التي تعتمد الآليات نفسها إلى الحد الذي يصعب معه إحصاء ما كتب عن عبد القاهر الجرجاني(9) من هذه الزاوية بالذات. وفي هذا الباب نكتفي بالوقوف عند أحد النقاد الحداثيين ممن عرفوا بإضفاء نزعة تحديثية على التراث النقدي. ويتعلق الأمر بكمال أبو ديب. وقد وقع الاختيار على هذا الناقد لأسباب عدة أهمها، أنه من النقاد القلائل الذين يفصحون عن المنهج المتبنى في دراساتهم، وأنه من القراء المتميزين لعبد القاهر الجرجاني. فقد ألف عنه كتاباً نشر بالإنجليزية(10)، وليس هناك عمل من أعماله النقدية يخلو من التركيز على مرجعية عبد القاهر.

التراث النقدي في مرآة الحداثة النقدية

يعتمد كمال أبو ديب في كل ما كتبه عن الجرجاني، وهو كثير، على عناصر المقاربة البنيوية في ما يسميه نظرية عبد القاهر، لإعادة بنائها وفق المقولات اللسانية والبنيوية، في مرحلة أولى. وانطلاقاً مما استجد من مناهج في الدراسات النقدية في مراحل لاحقة. وهذا ما جعل قراءاته لعبد القاهر تتطور بشكل سمح لها بالتنوع الذي أضفى عليها في نهاية الأمر طابعاً تجريبياً. وسيقف البحث الحالي عند نموذج من تلك القراءات، ويتعلق الأمر بدراسة تحمل عنوان "أنهاج التصور والتشكيل في العمل الأدبي"(11).

من المفيد التأكيد على ما سبقت الإشارة إليه من أن القراءة الحداثيّة للتراث النقدي تعكس تحولات النقد العربي المعاصر في تمثله للمناهج النقدية الغربية. ذلك أن هاجس تعويم النقد العربي في ما يسميه كمال أبو ديب "النقد العالمي"(12). أدت به إلى قراءة عبد القاهر من زوايا متعددة، ووفق هدف مسطر بصفة قبلية. ولكن ما يجمع بين زوايا النظر تلك هي الطريقة التي تقوم على وضع التراث النقدي "في سياق الوعي النقدي المعاصر وهمومنا النقدية الحاضرة."(13). ومن هنا راح أبو ديب يطبق قراءته للصورة لدى الجرجاني على مقاطع شعرية لشعراء معاصرين من أمثال بدر شاكر السياب وأدونيس وسامي مهدي وعبد المعطي حجازي وغيرهم، كي يثبت أن نظرية الجرجاني في الصورة تخترق الأزمنة لتصبح أداة ناجعة لمقاربة النص الشعري الحديث. وللوصول إلى جعل عبد القاهر جزءاً من الحاضر النقدي، فإن كمال أبو ديب يلجأ إلى المقارنة بين تصور الجرجاني لطبيعة الصورة، كما أعاد صياغتها، وبين تصور رومان جاكبسون Roman Jakobson في نفس الموضوع. ولكنه لا يقتصر في هذه الدراسة على استنتاج السبق الذي سجله لصاحب "دلائل الإعجاز"، بل يذهب أبعد من هذا فينتصر للجرجاني على جاكوبسون.

قد يحتاج أمر قراءة كمال أبو ديب للجرجاني إلى فحص أكثر عمقاً للكشف عن الآليات المستخدمة في تلك القراءة. وما دام هم هذه الورقة ينصب على توضيح الخلل النظري الذي يوجه مثل هذه الدراسة فإنه يمكن الاكتفاء بتسجيل الخلاصات الآتية:

ـ إن القراءة الإسقاطية للتراث النقدي تنطلق من "المتن" النقدي العربي القديم، لتمارس عليه نوعاً من التهميش يجعل منه ذريعة إما لرفض المناهج النقدية الغربية، كما فعل عبد العزيز حمودة، أو للتبشير بتلك المناهج كما فعل كمال أبو ديب.

ـ وفي الحالتين فإن التراث النقدي يصبح أداة للانتصار لقيم الحداثة أو الحط من شأنها. وهكذا يصبح التراث النقدي مجرد وسيلة الغاية منها الانحياز لمعسكر الحداثة أو لمعسكر أعداءها.

ـ إن التعامل مع التراث النقدي وفق هذا المنظور قد أدى إلى الزج بذلك التراث في أفق ضيق ينحصر في ترجمة المفاهيم التراثية إلى مفاهيم غربية أو العكس. وقد دفع ذلك الدارسين إلى ممارسة الانتقائية على التراث النقدي والنقد الغربي معاً. فالتراث النقدي بما هو معطى تاريخي يشكل أعمالاً يكمل بعضها بعضاً، وكذلك الشأن بالنسبة للنقد الغربي الحديث.

 

هوامش

(1) حسن الهويمل، ملامح الموروث في الظواهر النقدية المعاصرة، أعمال ندوة: قراءة جديدة لتراثنا النقدي، الجزء الثاني، ص526.

(2) يراجع على سبيل المثال لا الحصر عبد الله العروي. الإيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة، الطبعة الرابعة، بيروت، 1989، ص155.

(3) أنظر محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص33. ومحمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، بيروت، 1987، ص17 وما بعدها.

(4) جهاد فاضل، أسئلة النقد. حوارات مع النقاد العرب، الدار العربية للكتاب، (دون ذكر رقم الطبعة ولا مكانها ولا تاريخها)، أنظر الحوار الذي أجراه الكاتب مع لويس عوض، ص290.

(5) أحمد بدوي، أسس النقد الأدبي عند العرب، مكتبة نهضة مصر، الطبعة الأولى، القاهرة 1960، ص105.

(6) محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، دار الشروق، الطبعة الثانية، القاهرة، 1994، ص223.

(7) جورج طرابيشي، مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت، 1993، ص155.

(8) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، ص339.

(9) نشير هنا على سبيل المثال لا الحصر، إلى الدراسات الآتية:

- يمنى العيد. مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني ومسألة النشاط التعبيري باللغة، مجلة الطريق (بيروت). السنة الثالثة والأربعون، عدد خاص مهدى إلى مئوية كارل ماركس. فبراير 1984. وقد تناولت يمنى العيد في هذه الدراسة التحليل العلائقي الذي يقترحه الجرجاني مقارنة مع ما جاءت به البنيوية في الموضوع.

- محمد عباس، الأبعاد الإبداعية في منهج عبد القاهر الجرجاني، القاهرة، 1999. وهو دراسة مقارنة، تناولت منهج الجرجاني وعلاقته بالدراسات الغربية المعاصرة، وتوضيح علاقة النظم بالأسلوبية.

- نصر حامد أبو زيد، إشكالية القراءة وآلية التأويل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، الدار البيضاء/بيروت، 1992، ص149 وما بعدها. حيث يخصص الكاتب مبحثاً عن "مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة في ضوء الأسلوبية" يقرأ فيه عبد القاهر من خلال أسئلة معاصرة، ويبحث في تراثه النقدي عن "إجابات ربما لم تخطر للشيخ على بال".

- عبد الفتاح كليطو، الأدب والغرابة، دراسة بنيوية في الأدب العربي، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت، 1982، ص54 وما بعدها. ويتضمن الكتاب دراسة مقارنة بين أرسطو والجرجاني.

(10) Kamal Abu Deeb: Al Jurjani,s theory of poetic imagery 1979, Aris and phillips Ltd. ENGLAND‏.

(11) كمال أبو ديب، أنهاج التصور والتشكيل في العمل الأدبي. قراءة جديدة لتراثنا النقدي، أعمال ندوة "قراءة جديدة للنقد القديم، المجلد الأول، ص303 وما بعدها.

(12) كمال أبو ديب، المرجع نفسه.

(13) المرجع نفسه والصفحة نفسها.

الكلمة

Partager cet article
Repost0
9 avril 2010 5 09 /04 /avril /2010 08:58

nasir-20Abu-20Hamid3613Elan.jpg«واجب المثقف أن يكون حارساً للقيم لا كلب حراسة»

- نصر حامد أبو زيد


.. ويبدو أننا لا نعرفُ الفرق بين الاثنين، بين أن يكون المثقف حارساً للقيم وبين أن يكون كلبَ حراسة، وبعد أن تسللت الأيديولوجيات والمذاهب العقائدية والسياسية والقومية إلى تخوم الأدب، وتحول النص الأدبي إلى «مطية» أو «بوق» للترويج لهذا المعتقد أو التبشير بتلك العقيدة، تولدت ردة فعلٍ عكسية تطالب بضرورة المحافظة على «أدبية الأدب»، وراجت أديان ثقافية جديدة عقيدتها «الفن للفن»، وأصبح النص الأدبي أقل فاعلية في حضوره الثقافي والمعرفي، لأننا نتعاطى معه كما لو كان تلك «المزهرية» الكرستالية البديعة المصممة لأجل أن نتأملها لدقائق ثم نمضي في طريقنا.. ولما وجهت إلينا أنصال الأسئلة: ما سبب نخبوية المثقف؟ ما سبب هامشية الأدب؟ ما سبب انحسار القراءة؟ ما سبب تراجع الكتاب؟ ما سبب سطحية الثقافة؟ ببساطة شديدة دارينا حقيقتنا وعارنا وقلة حيلتنا وقلنا إن الأدب لم يعد هامشيا، ولكنه ببساطة يقوم «بدوره الجمالي» ويتصرف مثل «مزهرية كرستالية» مهذبة موضوعة على الرف، بعد أن تخفف من دوره السياسي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي.

نعم، أنا أتفق مع القول بأن ما راج من لافتات الستينات والسبعينات من أدبيات قومية ومؤدلجة ومسخرة لخدمة العقائد والمذاهب والأحزاب ليس أدباً في جوهره، ولكنني أيضاً أختلف مع القول بأن الأدب هو كائن جمالي محض يقوم بدوره كقطعة «ديكور» مضافة إلى منضدة عالمٍ قبيح.

الأدب ليس هذا ولا ذاك، الأدب ليس أداة في يد السياسة والدين، ولكنه أيضاً لا يخلو من المعالجة السياسية والمحتوى الديني، لا يدشن النص الأدبي لكي يخوض حرباً سياسية أو اجتماعية أو عقائدية، ولكن هذا لا يعني بأن الأدب في صلبه ليس أحد ظهورات الثقافة، وأن الثقافة ظهور معرفي تتكشف من خلاله -شئنا أم أبينا- أوجه سياسية واجتماعية ودينية وأخلاقية وقيمية.

ما حدث لنا ببساطة، وبعد أن سادت تلك التوجهات النقدية التي بشرت بفكرة الفن للفن، هو أننا نسينا بأن فنية الفن وأدبية الأدب لا تجرد النص من محتواه المعرفي ولا من طبيعته الثقافية، وببساطة شديدة لم نعد نتطرق إلى القيمة، لا نقدياً ولا حتى كتابياً، وصرنا نخافُ أن نكون مع أو ضد أي قيمة أو معنى أو مضمون أو محتوى لكي لا نتهم بالتخلف وعدم المواكبة للموضة الحداثية الرائجة، صرنا فارغين وجبناء، خائفين من أن نستجيب إلى حقيقتنا وأن نأخذ موقفاً إيجابياً من مبادئنا، فقدنا إيماننا بكل ما آمنا به، وشيئاً فشيئاً رأينا القصائد تجرد من المعنى، وتتعرى من المضمون، وتفتقر إلى المحتوى، ورأينا شعراءنا يتباهون بكونهم لا يفهمون ما يكتبونه، ورأينا أناساً يهذون على الورق ويسمون شطحات لاوعيهم إبداعاً، ورأينا روايات ازدحمت بالأبطال الممسوخين الذين يعيشون حياة عشوائية، ورأينا أشخاصاً يتهمون بالتخلف لأنهم يطالبون بنقد ثقافي ويسائلون مضامين تلك النصوص، ورأينا قراءً يتهمون بقلة الثقافة والاطلاع لأنهم لا يفهمون قصيدة الغزالة التي تتحول إلى قلم وأشياء أخرى غريبة، رأينا كتاباً يكتبون عن زنا المحارم ويوصفون بالشجاعة لكسر «التابوهات!» ورأينا كاتبات يكتبن عن الخيانة الزوجية بصفتها الغرام .. إفرازات ثقافتنا الراهنة، الثقافة عديمة القيمة وعديمة الضمير .. ثقافة ديوثة وجبانة، هل نحن سعداء بها حقاً؟

خفنا أن نكون كلاب حراسة، فتقاعسنا عن حراسة القيم، خلعنا على القيم صبغة سياسية وإيديولوجية، ولم نعد نرحب بها في أدبياتنا، نسينا أن النزاهة، والكرامة الإنسانية، واحترام الذات، والحياء، والأمانة، والوفاء والحوار واحترام الآخر .. هي ما يصنع إنسانيتنا أو ينفيها، وإذا كان الأدب مرآة للإنسان، بقدر ما هو الإنسان مرآة للكون، فالأحرى بنا أن نتذكر من نحن، ما الذي يعلي منا وما الذي يحط منا، ما الذي يصب في وجودنا وما الذي يمسخه، وقبل أن نمعن في تشويه نتاجنا الأدبي أكثر، خليقٌ بنا أن نتذكر حقيقة الأدب، الذي هو ليس مطية للإيديولوجيا وليس قطعة ديكور، خليقٌ بنا أن نتذكر بأن الأدب هو ذلك العالم الفادح الذي يجعلنا على صلةٍ بوجودنا وعلى تماسٍ من حقيقتنا، فهل قدرناه حق قدره؟.

 

* صحيفة أوان الكويتية، العدد (858) بتاريخ 5 أبريل 2010
Partager cet article
Repost0
6 mars 2010 6 06 /03 /mars /2010 23:43
mohamed-motasim--72-.jpg
القصة  القصيرة جدا: مساهمة في النقاش

محمد معتصم الناقد الأدبي
   

1/ من الواضح اليوم أن هناك توجها في القصة المغربية ينحو جهة ترسيخ القصة القصيرة جدا كخيار نوعي للتعبير عن الوعي بالمرحلة الثقافية. يدل على ذلك عدد المجاميع القصصية الصادرة خلال السنتين الأخيرتين وما قبلها بقليل، واختيار بعض الكُتّاب الالتزام بهذا النمط من الكتابة المختزلة، وعدد اللقاءات التي تنظم حول هذا النوع التعبيري القصصي… كل هذه المظاهر تدل على أن هناك رغبة عند الجيل الجديد في التميز عبر الكتابة في نوع قصصي جديد.
2/ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو: هل تكفي الرغبة فردية أو جماعية في ترسيخ نوع أدبي محدد ضدا على أنواع أدبية أخرى سابقة عليه؟
والجواب، لو كانت الرغبة وحدها كافية لساءت أحوال الأدب، وفسدت الأذواق. بينما إذا توفرت الشروط الموضوعية الثقافية والسياسية والاجتماعية إضافة إلى الرغبة اللحظة التاريخية وسياقاتها التعبيرية يمكن أن تجد الأنماط سبيلها إلى المتلقين وتُرَسَّخَ كخيارٍ استراتيجي يلبي حاجيات ثقافية وإبداعية.
والحال أن هناك عددا من المعطيات التي تدعم هذا الخيار، ولا أجد شخصيا الحاجة إلى الدعوة إلى إلغاء اختيارات تعبيرية قصصية أخرى ما تزال الساحة الثقافية والمرحلة التاريخية في حاجة إليها، خصوصا وأنها في طور التشكل الفني والتجدد في الموضوعات (المضامين) وفورة توليد الأشكال الجمالية،،، من تلك الخيارات الأشكال التواصلية الحديثة المصاحبة للتقنية الحديثة (الحواسيب، والهواتف النقالة، وشبكة الانترنيت الدولية، والكتاب الإلكتروني…) وقد أثَّرَتْ فعلا في طريقة التلقي (القراءة على شاشة الحاسوب سريعا وفي أماكن مغلقة وأوقات محددة)، وطريقة الكتابة (الكتابة الإلكترونية والرقمية)، وطريقة التفاعل مع النصوص الرقمية والإلكترونية.
لقد أثرت الرسائل القصيرة على الهاتف المحمول (النقال والخلوي) في حجم النصوص، ولغة الكتابة، وطريقة التخاطب، وبالتالي محتوى الرسائل (خطية وصوتية ومصورة).
3/ هل التقنية الجديدة وحدها التي أثرت على/في الكتابة وطرائق التلقي المعاصرة؟ أو هل هناك مرجعية تقليدية للقصة القصيرة جدا في الثقافة العربية؟
من الطبيعي أن يتأثر الأدب بما يحيط به ويعاصره، لكن لا يوجد نوع تعبيري بدون جذور تاريخية/نوعية. لذلك أرى أن عددا من نماذج القصة القصيرة جدا المغربية يحيل على بعض هذه الأشكال التعبيرية (غير المكتملة) فنيا وشكلا لكنها ذات الوظائف الإبلاغية والترفيهية من قبيل: الخبر والطُّرْفة، والحدُّوثة، والأمثولة…
فالنص الخبري والنص الطرفة والنص الحكاية (الحدوثة) كانوا جميعا مكملات لمتون أخرى مركزية. وتمثلت وظيفة هذه النصوص (الملحقة) في إضاءة الجوانب الغامضة في المتون المركزية التاريخية والوعظية يساعدها في ذلك النص (الإيقوني) القصير، واللغة التعبيرية المُخْتَزَلَةُ المخفَّفَةُ من الحشو والإطناب والمحسنات البلاغية التي تزخر بها المتون المركزية، ووضوحُ الهدفِ والقصد…
4/ لا غرابة أن تَمِيلَ العربيةُ والعربيُّ إلى الاختزال والوضوح والقصد في التعبير، نثرا وشعرا، وأمثلة سائرة، لأن في الحذف تختزن طاقة الإبداع، وحرفية المتكلم المبدع الذي ينظم حبات العقيق في الخيط متراصة متناغمة متناسقة تنضح بالمعنى. كذلك ينبغي أن تكون القصة القصيرة جدا مستفيدة من الطاقة الباطنية الكثيفة التي تحفز وعي المتلقي على تجلية المعاني الخفية في ذهنه والمماثلة لما تختزنه القصة القصيرة جدا تركيبا ومحتوى وغاية.
هذه المصطلحات وما يحوم في محيطها حدود ناظمة لنوع القصة القصيرة جدا: التناسق وتناغم المكونات، والحذف، والاختزال، والقصد، والوضوح في المعنى، والإحالة الدالة على مرجع/ سَنَدٍ نصي أو بصري أو صوتي، وكذلك الإحالة على مرجعية ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو واقعة تاريخية أو شخصية محددة… والاقتصاد اللغوي، والقول الحكمي، والعبرة والخبر والحدوثة والمثل السائر الموحي المؤشر على القصة (المثل).
5/ هذه المصطلحات كأعمدة تقوم عليها الكتابة القصصية القصيرة جدا تطرح أسئلة جوهرية حول القصة القصيرة جدا وآفاقها الممكنة أو المستحيلة من قبيل السؤال عن التحديد النوعي للقصة القصيرة جدا، وكذلك السؤال حول مفهوم السرد القصصي، وأيضا حول مفهوم الحكاية.
إنها أسئلة جوهرية، فإذا كانت الأنواع القصصية (الرواية والقصة والقصة القصيرة والأقصوصة) تُحَدَّدُ كخطابات سردية ووصفية، تروي وقائعَ وأحداثا واقعيةً أو متخيلةً، في خطٍّ سردي خَطِّيٍّ أو متعرج أو استرجاعي أو متداخل … وقعت لشخصيات في مكان وزمان محددين واقعيين أو متخيلين، فهل تندرج القصة القصيرة جدا ضمن هذا التعريف؟
إن الاختزال الشديد الذي جعل من بعض القصص القصيرة جدا مجرد لفظة واحدة أو مجرد جملة قصيرة (مسند ومسند إليه) أو قد يكتب بعضهم مجرد شبه جملة أو مجرد صوت (صوت حركة إرادية أو لاإرادية) يقتل مفهومين مركزيين في الكتابة القصصية وهما السرد (وضمنه طبعا الوصف) والحكاية (وضمنها المكونات الأساس: الأحداث، والشخصيات القصصية، والزمان، والمكان).
فالسرد هو الطريقة التي يرى بها السارد إلى الحكاية، أي في الطريقة التي تنظم بها مكونات وعناصر ومقومات الحكاية. لكن القصة القصيرة جدا، وفي كثير من نماذجها المنشورة بالمجاميع القصصية أو على صفحات الإنترنيت، تفتقر إلى السردية [المتواليات السردية أو المتواليات الحدثية (من الحدث)/الحكائية (من الحكاية)]، والحذف والاقتصاد والاختزال والرغبة في تكثيف المعنى، كل ذلك أخل بالبنية الحكائية.
حول هذين المصطلحين أركز سؤالي عن أفق القصة القصيرة جدا، وهو سؤال يقود حتما نحو السؤال عن جوهر القصة القصيرة جدا؛ أي هل هي نوع قصصي أم أنها جنس أدبي، مع العلم أن النوع يمكنه أن يكون هجينا (خليطا مركبا) يحتوى خصائص مشتركة بينه وبين الأنواع المجاورة له، بينما الجنس خالص وجوهر منه تتوزع وتتفرع الأنواع.
6/ القصة القصيرة جدا في نظري ليست سوى تنويع قصصي استدعته شروط ذاتية وموضوعية في المغرب المعاصر، من الشروط الموضوعية ما ذكرته سلفا حول التقنيات الجديدة التي أثرت بقوة في طرائق الكتابة، وطرائق التلقي، وسايرت بعض الأذواق، وهذه الظاهرة ليست جديدة على الأدب العربي، ومن الشروط الذاتية التي تنضح بها مداخلات وبيانات (شبه بيانات) بعض المنتصرين للفكرة محاولة لفت الانتباه والخروج من تحت عباءة الأسماء القصصية الشديدة التميز والحضور في الساحة المغربية والتي رأى فيها هؤلاء حجابا مانعا وحائلا بينها وبين الظهور وإثبات ذات والتعبير عن الموقف الجديد والمفهوم القصصي الحديث، وهذا أيضا شيء مشروع، فصراع الجيال دليل على الحراك والطموح والحيوية.
7/ هل هناك قصة قصيرة جدا في المغرب، بعيدا عن الحماسة الذاتية؟
نعم هناك في المغرب وغيره، على الورق وعلى الصفحات الإلكترونية عدد من الكتاب الذين استوعبوا حقيقة القصة القصيرة جدا من حيث وظيفتها الفنية والجمالية، ووظيفتها التاريخية (المرحلة)، ومن حيث خصائصها ومقوماتها وأساليبها وتراكيبها اللغوية. كما أن هناك من الكتاب من استطاع استلهام الحدوثة والطرفة والمثل وحكايات الأطفال وبعض الأخبار فوظفوها التوظيف السليم الموحي والجديد والمرتبط بوضعيات اجتماعية وسياسية وفكرية ومرتبطة بمواقف خاصة وشخصية.
هؤلاء هم المعول عليهم. وكثير من كتاب القصة القصيرة جدا، وكعادة كل جديد، لم يوفق في استيعاب المفهوم ولا في توظيف المرجعيات، لكن الآفاق ليست مظلمة، وقد تستطيع القصة القصيرة جدا قول الجوهري، والمساهمة في النهوض بدور الكتابة والكاتب في عصر باتت فيه الكتابة مجرد نزوة فردية غير منتجة ولا مربحة كما ينظر إليها أسياد العالم الجديد، وهم في ذلك يجانبون الصواب.

سلا/ المغرب
28/02/2010م

   
Partager cet article
Repost0
15 février 2010 1 15 /02 /février /2010 21:10

http://www.arab-ewriters.com/writers/full/6082506320060514220804.gifعن السحر والكتابة في تجربة أحمد زنيبر النقدية

أنجز الحوار: عبد العزيز بنعبو

 

 

 

 

 

\'قبعة الساحر قراءات في القصة

 

 

في هذا الحوار نحاول الغوص أكثر في هذا

المتن، الذي يقرأ متنا آخر أو بالأحرى متونا أخرى. والثابت أن كل كتب هذا الرجل

سمتها الأساسية هي الجودة والجدية، كما أن الحوار معه متعة معرفية.. 

1 بين \'قبعة الساحر قراءات في القصة القصيرة بالمغرب\' والمتن

القصصي المغربي مسافة قراءة، فهل كانت طويلة النفس أم مقتضبة؟ هل كانت طريقا

مبسوطة أم بها تلال وجبال؟ 

يعود اهتمامنا بمجال

القصة القصيرة، إلى سنوات خلت من القراءة والمتابعة لنصوص قصصية متفاوتة الأحجام

والرؤى، كشفت عن إمكانات هائلة للدرس والتحليل. ولعل المطلع على المشهد القصصي،

قديمه وحديثه، يدرك لا محالة الأشواط الهامة التي قطعتها القصة القصيرة بالمغرب،

في ترسيخ مكانتها بين الأجناس الأدبية الأخرى، شعرا ومقالة ورواية، حيث حرص كتابها

على اختلاف مشاربهم وتباين تجاربهم على تمثل النماذج الكبرى لهذا الجنس الأدبي

ورصد سائر التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، التي طبعت وتطبع

المجتمع بطابعها الخاص وأثرت في سيرورته وديناميته.. 

ومن ثمة، كان لا بد من

أخذ هذه التحولات بعين الاعتبار ومنح الذات القارئة فرصة للتأمل والمساءلة قبل

إصدار أي حكم قيمي على هذا النص أو ذاك. فالطريق لم تكن مبسوطة أو معبدة، بقدر ما

كانت تتخللها منحنيات ومنعرجات تعود إلى طبيعة الذهن البشري الطموح دوما إلى

التغيير والتجدد والاختلاف، دفعا للرتابة والمعتاد. 

ولأجل استعراض هذا

التنوع الإيجابي واستخبار جمالياته الأدبية، جاء كتاب \'قبعة الساحر قراءات

في القصة القصيرة بالمغرب\' ليساهم، إلى جانب كتابات نقدية أخرى، في تسليط

الضوء على بعض مظاهر الوعي الثقافي والفني، التي تتخلل هذا الشكل النثري الجميل. 

2 صفة السحر في الإبداع

جزء من إثارته. فهل وجدت القصة المغربية متوفرة على هذه الصفة؟ 

إن اختيارنا لصفة

\'السحر\'، في علاقتها بالقصة/القبعة تارة، وبالكاتب/الساحر تارة أخرى، لم

يكن اعتباطا أبدا. فما تزخر به القصة القصيرة من حكايات طريفة، حقيقية ومتخيلة، في

آن هو ما يجعلها نصا مفتوحا على تعدد القراءات الممكنة. فالقاص وهو يحاور واقعه

اليومي والذاتي، عبر لغة تمتح من مرجعيات فكرية وثقافية وفنية تروم، بصورة أو

بأخرى، تصوير عوالم قصصية بديعة، أقل ما يقال عنها إنها ساحرة وأخاذة. 

ومن ثمة، كانت موضوعات

الواقع، اليومي منه والهامشي، وكذا موضوعات الحلم والطفولة والذات والمرأة والجنون

والكتابة والرحلة والموت وغيرها، مما يدخل في اهتمامات وانشغالات القاص/القاصة،

تشكل مادة (السحر) التي تعرض وتقدم وفق تقنيات وطرائق لافتة للنظر، حيث تحضر

المراوغة والمباغثة؛ بل والمفاجأة أحيانا، تلك التي تحيلنا رأسا، إلى براعة الساحر

وهو يقدم عرضه أمام الجمهور وما على هذا الأخير سوى متابعة العرض، بتركيز شديد

ومحاولة كشف أسرار اللعبة/الحكاية، إن استطاع إلى ذلك سبيلا... 

فبراعة القاص(ة)،  

ومهارته(ها) في صنع الحكاية وتدبر عوالمها السردية (شخوصا وأحداثا ومشاهد وأفضية)

كان وراء العديد من التنويعات الجمالية، التي تسحر ذهن القارئ/المتلقي وتأخذ

بتلابيبه. فكل قاص له سحره الخاص، وكل قاص له عوالمه المتخيلة، يستثمرها كيف يشاء،

لغة وتركيبا وأسلوبا ورسالة. 

3 هل حقق المشهد القصصي

المغربي تراكما يمكننا من التمييز بين الغث والسمين؟ 

أمر التمييز بين الغث

والسمين بخصوص المشهد القصصي متروك للقراء، إن وجدوا، طبعا، فهم من يوكل

إليهم الحكم النهائي على جودة أو لا جودة النص القصصي، والتاريخ كشاف، كما يقال.

ومع ذلك، فثمة نصوص قصصية كثيرة استطاعت بإبداعها أن تحقق التواصل والانتشار، إما

بلغتها القصصية أو بجرأتها في طرح القضايا والموضوعات، أو بهذا وذاك. ولعل الأسماء

القصصية، التي اشتمل عليها الكتاب: ع.السحيمي، إ.الخوري، ع.مؤدن، أ.بوزفور، أ.الرافعي،

ع.المودني، ر.ريحان، ر.الطالبي، ل.لبصير، م.نجيب، ف.بوزيان، ز.رميج، م.مستظرف.. وغيرهم

وغيرهن، تؤكد هذا الطرح؛ على أن ثمة أسماء قصصية أخرى وازنة لها حضورها المتميز في

الساحة الثقافية القصصية، لم تدرج في الكتاب لسبب بسيط، أننا اكتفينا، مرحليا،

بهذه العينة، على سبيل التمثيل لا غير. 

وحرصا على ضبط آليات   

الاشتغال النقدي في هذا الكتاب، كان لا بد من وضع أسئلة أولية تشكل المنطلق الأساس

لهذه القراءات، منها: ماذا تقول القصة القصيرة؟ وكيف تقال؟ وما رسالتها الفنية؟

وعندنا، جودة القصة لا تخرج عن هذه الأسئلة، التي تجمع بين الجانبين الشكلي والموضوعاتي.

فقد كان اشتغالنا على الموضوعات، باعتبارها عنصرا رئيسا يضع القصة القصيرة في

بعديها التاريخي والأدبي، مثلما كان انشغالنا بالآليات السردية، بوصفها مدخلا لا

غنى عنه للاقتراب من جمالية النص ورصد أبعاده وخصوصياته المتعددة. فالمضمون القصصي

يسير بمحاذاة مع الشكل القصصي. يلتقي به حينا ويفترق عنه حينا آخر. 

4 هل هناك مرحلة جيلية

تتميز عن المراحل الأخرى أم هناك تواصل واستمرارية؟ 

إن التراكم الذي تحقق

في مجال القصة القصيرة يؤكد، كما ألمحنا سابقا، إلى التنامي السريع في وتيرة

الكتابة والنشر والقراءة، وهو علامة صحية حيث تتنوع التجارب من جيل إلى جيل؛ بله

من قاص إلى آخر، تبعا لطبيعة المرحلة حينا وتبعا لثقافة الكاتب، حينا آخر. فجيل

الرواد غير جيل الشباب، إذ رغم الامتداد الذي يمكن أن نتلمسه على مستوى البناء

الحكائي نجد عينة من الكتاب توسلوا بثقافتهم الغربية وراهنوا على ذائقتهم الجديدة؛

وبالتالي حاولوا تمريرها على مستوى الكتابة، لغة وبناء ودلالة. وهو ما يشكل تلك

الإضافة النوعية، التي لامسنا تحققها في بعض المجاميع القصصية الجديدة/الحديثة،

عبر مستويات متفاوتة واستدعت من القارئ/الناقد التسلح بزاد معرفي مغاير يساير

جديدهم ومقترحاتهم السردية. 

غير أنه، أيضا، رغم

التفاوت النصي الظاهر بين هذه التجارب المتباعدة زمنا، والمتفاوتة مرجعا وثقافة

يمكن العثور على أكثر من رابط جوهري يجمع في ما بينها وعلى رأسها طلب الفائدة

وتحقيق المتعة الأدبية، والإنصات للذات الإنسانية وللراهن القصصي. 

5 ألسنا في النثر أفضل

حالا من الشعر، طبعا كمغاربة؟

من الصعب جدا الحسم في

الجواب على مثل هذا السؤال، فالساحة الثقافية تزدان من حين لآخر، بجملة من

الإصدارات في مختلف الأصناف والأجناس، منها القصة والشعر والرواية وغيرها؛ غير أن

الإقبال على هذا الجنس الأدبي دون آخر، راجع بالضرورة إلى الذائقة الفردية وإلى

التحولات العميقة المختلفة، التي يعرفها المجتمع.

وتبعا لذلك، كنا نسمع،

في مراحل زمنية متفاوتة، بـ\'زمن الشعر\' ثم \'زمن الرواية\'،

والآن يتداول \'زمن القصة القصيرة\'، وقد يروج لاحقا لنوع أدبي

آخر، يحظى بالأهمية، لم لا؟ بيد أن هذا التحقيب الزمني لا ينبغي أن يفهم على أساس

التفرقة والتمييز بين الأجناس الأدبية (شعر، نثر) بقدر ما يعني ارتفاع درجة

الاهتمام والقراءة والتداول، لهذا اللون الأدبي أو ذاك، في مرحلة من المراحل، لسبب

أو لآخر. فالكتابة تبقى فنا وتعبيرا ورسالة. ولكل لون أدبي، طبعا، قراؤه ونقاده

يتابعونه ويساهمون في إغنائه وتطويره.

والواقع، أنه لم يعد

هناك من داع أو مبرر لإقامة الحدود الجمركية بين الأجناس، خاصة وأن أغلب الكتاب

يزاوجون، في تجاربهم، بين النثري والشعري. فمنهم من جاء من الشعر إلى النثر والعكس

صحيح. ففي سنة 2009 مثلا، قدم الأستاذ محمد قاسمي، حصيلة بيبليوغرافية تشير إلى هيمنة

\'الشعر\' في الإبداع المغربي المعاصر على باقي الأجناس الأدبية الأخرى، من

خلال ذكر أرقام تبرز تنامي هذا الحضور على مستوى الكم. فقد تم تسجيل حضور أربعين

شاعرا ينشرون لأول مرة باكورة أعمالهم في مقابل ثمانية عشر قاصا انضافوا إلى

المدونة القصصية. ومعنى هذا، أن وتيرة الإنتاج الشعري بخير وفي تنام ملحوظ، إلا أن

ضعف القراءة والمتابعة لهذا المنتوج، لسبب أو لآخر، هو ما يوحي، أحيانا، بتراجع

الشعري على حساب النثري. 

ولعلنا الآن، في أمس     

الحاجة إلى زمن آخر، هو بالتأكيد: زمن النقد/ زمن القراءة؟؟ 

6 ختاما ما الذي تنتظره

من هذا الكتاب في المشهد الثقافي المغربي والعربي ؟ 

آمل، أولا وأخيرا، أن يقرأ   

الكتاب، فتحصل الفائدة الأدبية والعلمية، اللتين أعد من أجلهما. كما آمل، أيضا، أن

أتمكن من إصدار جزء ثان حول مجموعة أخرى من الأعمال القصصية المغربية والعربية،

ضمن رؤية نقدية جديدة..

القصيرة بالمغرب\' هو عنوان الكتاب الذي أصدره الشاعر

والكاتب والباحث أحمد زنيبر. وهو عبارة عن قراءة في المتن القصصي المغربي. الأكيد

أن الكتاب لم يخرج عن الإطار الذي رسمه له صاحبه، بل أضاف الكثير من عمق التحليل

تعدد زوايا الرؤيا وبسط الطريق أمام القارئ سواء المهتم أو المتخصص أو العادي.

Partager cet article
Repost0
28 janvier 2010 4 28 /01 /janvier /2010 18:56

آيت أومغار أو تيه السالكين

 

رحلة في الممتنع الروائي لعبد الغني سيدي حيدة

 

 

                                                         بقلم عبد النور إدريس

                                                               

 

استطاعت الرواية الأطروحة "الدرس الخيميائي" في جزئها االثاني والذي يحمل عنوان ״آيت أومغار او تيه السالكين״ ان تنتزع لنفسها رقعة في عالم السرد الروائي،وأن تضع تاج البطولة في النهاية على رأس كائن يدعى ״أطروحة״ .

ان الروائي عبد الغني سيدي حيدة واحد من الذين اختاروا لغة الحكي للتعبير عن نظرية منذ صدور الجزء الأول من روايته ״الدرس الخيميائي״ سنة 2003 .

ان العالم في هذا النص الذي بين أيدينا عالمان ، عالم يستمتع ببياضه وصفائه وهو يرزح تحت نير الخرافة والشعوذة وعالم يستكنه واقعيته السوداء وعلميته الموضوعية . وقد استطاع الكاتب استدماج عوالمه المتخيلة وهو يراوح بين هذين العالمين من أجل اقناع المتلقي بالمعرفة التي يحاول اعادة بنائها ، فجاء أسلوب الرواية مهتما بتوالي الأحداث التي قامت بوظيفة التوجيه الدلالي أولا : لمجموع الأحداث المروية ، وثانيا : للخطاب الذي تروى به .

ان وظيفة السرد في حكي الروائي عبد الغني سيدي حيدة هي التي تقرر معنى اتصاف الرواية ״بالرواية الأطروحة״ ، من حيث ان الكاتب ذاته يعيش داخل النص كذات راوية ، عارفة بأصل الأحداث ومنبعها ، ويحاول من خلال هذه القناعة ان يغير تمثلات المتلقي الشاردة في ملكوت الخرافي،المنغرس في تيه النظرة التصوفية الملتبسة بالمجهول،الى عالم التمثل العقلي وفق استراتيجية سردية محكومة بهاجس الطرح العلمي،الطرح الذي يقف بين الخطاب الروائي والخطاب النظري الذي اعتمد في حجاجه على هوامش شكلت فيه الملاحق المرفقة بالرواية مادة تاريخية منسجمة مع تعدد الفاعل الأطروحي.

                     -   فأين ينتهي الروائي ليبدأالتاريخ والعلم ?

                     -   وأين ينتهي العلم ليبدأ الروائي ?

           ان رواية ״ايت أومغار أو تيه السالكين״ لا تاخذ مشروعية تداولها الفني والأدبي الا من خلال البعد                             التاريخي والعلمي الذي يعيد انتاج المعلومة التاريخية والعلمية في قالب روائي مشوق .

          ان لعبة السارد التي اشتغل عليها الكاتب لعبة ثنائية داخل/خارج . فالسارد داخل النص يشاكس المحكي                  الشفوي ويعطي الانطلاقة لبداية الخروج كذات عن الخط الآفقي بتيار الفيض الصوفي والسحري الذي يؤثت                  مدارات الحكي،وهو كسارد خارج النص يدخل دواليب الخط العمودي ليتقاطع الحكي مع الملحقات التي تغطي                بتنوعها الفائض في المعلومة للتوسيع من امكانيات استيعاب الفائض المنفلت من السلطة الذهنية التي يسيجها اطار            التلقي التقليدي الذي ينجز فيه فعل القراءة .

                       ان ״رواية الدرس الخيميائي״ (في جزئيها الآول والثاني) تعد بحق تأسيسا جديدا،في عوالم السرد ، لسيمياء الرمز والحرف والعدد في بعدي الزمان والمكان من أجل اعادة قراءة الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل في״ دوائر ثلات״  تمتح من التأويل والاستنباط والتجميع،ولا تخضع الا للعقل والمنطق والتجريب.

                       أدعوكم الى اكتشاف المتخيل الروائي والدرس الخيميائي لعبد الغني سيدي حيدة وهو يقر ضمنيا بأن العالم ينتظم بين مفازات السحري والخرافي والتصوفي والعقلي وأكثره يخضع للانسجام الدقيق ولقانون النسبية وسط مخملية اللوغوس logos والرياضيات .

 

مكناس في 28-01-2010

 

Partager cet article
Repost0
29 novembre 2009 7 29 /11 /novembre /2009 13:52

مدخل إلى الأسلوبية

بقلم السيد/ قليل يوسف *

 

 

نبتغي أن نصنع من هذا المدخل النظري نبراسا نهتدي بنوره في مقاربتنا الأسلوبية للنصوص الأدبية، وأن نقدم للطلبة والباحثين وكل قارئ لهذا البحث حصيلة مركَّزة عن المنهج الأسلوبي وكل التيارات والمناهج التي انصهرت معه لتكوين رؤية نقدية، وكذا الإحاطة بالمصطلحات النقدية المستعملة فيه مثل الأسلوبية، البنية، وخصوصا الانزياح الذي هو جوهر الدراسة الأسلوبية.
انتقل الأسلوب في النقد الحديث من كونه يعني الطريق أو الفن أو المذهب أو الوجه ، ومن كونه عاما مميعا يختص بالموضة والفن والسياسة وتدبير الحياة اليومية ، إلى علم ومنهج نقدي قائم بذاته يتكفل برصد الملامح المميزة للخطاب الأدبي. ويُعرّف الأسلوب في الاصطلاح الأدبي النقدي عادة بأنه: "طريقة يستعملها الكاتب في التعبير عن موقفه، والإبانة عن شخصيته الأدبية المتميزة عن سواها، لا سيما في اختيار المفردات، وصياغة العبارات، والتشابيه والإيقاع" .واتخذ اسما خاصا به هو: "الأسلوبية".
ويرجع الفضل الأول في ظهور الأسلوبية إلى العالم اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير (1913-1857)
Ferdinand De Saussure الذي أظهر علم اللسانيات حيث يعزى إليه التفريق بين اللغة والكلام من خلال معادلته الشهيرة:"اللسان في نظرنا هو اللغة ناقص الكلام" ، حيث أوضح أن اللسان:"نتاج اجتماعي لملكة اللغة، فهو مجموعة من الأعراف الضرورية التي يستخدمها المجتمع لمزاولة هذه الملكة عند الأفراد" ، وأن اللسان:"ما هو إلا راسب من عمليات عديدة للكلام عبر الزمن، أما الكلام فانه تطبيق أو استعمال للوسائل والأدوات الصوتية، والتركيبية والمعجمية، التي يوفرها اللسان" .
لكن الفضل الأكبر ناله تلميذه شارل بالّي (1947-1865)
Charles Bally وهو:"باحث لساني كان مختصا في السنسكريتية واليونانية، ولما استوعب المفاهيم التي جاء بها دي سوسير وتمثلها عكف على دراسة الأسلوب فأرسى قواعد الأسلوبية المعاصرة ابتداء من سنة 1902" .
لقد أحدثت معادلة دي سوسير المفرِّقة بين اللغة والكلام ثورة في ميدان النقد الأدبي الحديث، باعتبار أن اللغة تمثل الثابت والكلام يمثل المتحول، بمعنى أن اللغة المعيارية ذات القواعد النحوية والصرفية الثابتة التي أوجدها علماء النحو، لا لشيء سوى أن يتقيد بها الجميع ويتكلمون بحسب تلك القواعد، سرعان ما يتجاهلها المتكلم ويحيد عنها من خلال الانحراف والانزياح والعدول عنها، ومع كثرة هذه الانزياحات والانحرافات تتحدد احتمالات عديدة وممكنة للكلام، ويصير المتكلم في وضع مريح يسمح له بنحت اللغة على حسب ما يريد التعبير عنه، مما خلق نوعا من الحساسية تجاه النظام والمعيار النحوي تجلت في قول الشاعر:
ولست بنحويٍّ يلوك لسانه --- ولكن سليقيٌّ أقول فأُعربُ
وهذه الحساسية وضَّحها بشكل أفضل عبد السلام المسدي حينما اعتبر أن:"النحو مجال للقيود والأسلوبية مجال للحريات" .
ومن هنا يعمد المتكلم إلى أن يختار من اللغة معجما خاصا يوظفه حسب غاياته التعبيرية، ويركِّبه في شكل جديد وفريد، ينزاح عن المألوف ويقدمه للقارئ في أبهى حلة فينفرد بأسلوبه الخاص.
ومن هنا تظهر عناصر ثلاث (الاختيار، التركيب، الانزياح) في تكوين العمل الفني والأدبي، وهي نفسها مقولات الأسلوبية الهامة في رصد الإبداع الأدبي وتتبع التميز فيه، وأن مقاربة أي نص أسلوبيا لا بد أن تطرق هذه العناصر الثلاث. ومن هنا تولدت الخصومة بين الباحثين من أنصار البلاغة، والمنادين بتجاوزها وتأسيس نحو مستقل عنها، حيث وصف جوليان غريماس
A. J. Greimas وجوزيف كورتيس J. Courtés الأسلوبية بأنها:"مجال بحثي يندرج ضمن التقليد البلاغي،لم تفلح في تنظيم نفسها في علم مستقل" ، بينما وسم كل من تزفيتان تودوروف T. Todorov وأوسوالد دوكرو(ولد عام 1930) Oswald Ducrot الأسلوبية أنها:"الوريث المباشر جدا للبلاغة" .
وفي المقابل نجد ثلة ثارت على البلاغة إلى حد وصفها بالعجوز ، واعتبر ميكائيل ريفاتير
Michael Riffaterre أن البلاغة المعيارية من عراقيل الأسلوبية .
ولعل هذا الخلاف ناتج من الحقيقة العملية التي أثبتت أن الأسلوبية حينما تحاول الإحاطة بالانحرافات الموجودة في النص الأدبي فهي تقارنها بالبلاغة المعيارية، ومن هنا أضحى حضور البلاغة في المقاربة الأسلوبية للنصوص دائما ومستمرا، وأمسى المرجع الأساسي في إثبات الانزياح الأسلوبي.
والأسلوبية كمنهج نقدي يصنفها جون دوبوا
Jean Dubois على أنها:"فرع من فروع علم اللسان" ، وهذا ما يؤكده ميشال أريفي Michel arrivéبقوله:"الأسلوبية وصف للنص الأدبي حسب طرائق مستقاة من اللسانيات" ، وهو إثبات لدور اللسانيات في بلورة مفهوم الأسلوبية، حيث يقول الهادي الجطلاوي:"الأسلوبية موضوعها النظر في الإنتاج الأدبي وهو حدث لغوي لساني" ، الأمر الذي دفع بـ:رومان ياكبسون (1896-1982) Roman Jacobsonفي إحدى محاضراته الشهيرة إلى أن نادى :"بتوثيق العلاقة بين اللسانيات والأدب عموما" ، وتلاه عبد السلام المسدي أيضا حين:"نادى بمد الجسور بين النقد وعلم اللسان عن طريق علم الأسلوب" ، ومعترفا في الوقت ذاته أنه:" من الحقائق التي غدت مقررة في عصرنا أن المعرفة الإنسانية مدينة للسانيات بفضل كثير، سواء في مناهج بحثها أو في تقدير حصيلتها العلمية" ، وكذلك جون لويس كابانيس Jean-Louis Cabanes الذي:"حاول الدفاع عن قوة العلاقة بين علم اللسان والنقد الأدبي، من خلال بيان مظاهر التأثير اللساني (دروس سوسير، مبادئ الشكلانيين الروس، ...)في النقد" .
وترتبط الأسلوبية مع المدارس النقدية الأخرى ومنها الشعرية (أو ما يصطلح عليها بالإنشائية)، هذه الأخيرة التي يصنفها جون دوبوا أيضا على أنها:"جزء لا يتجزأ من اللسانيات، وهي العلم الشامل الذي يبحث في البنيات اللسانية " ، أما جون كوهين
Jean Cohenفيقول:"دل مصطلح الشعر على كل موضوع خارج عن الأدب، أي كل ما من شأنه إثارة الإحساس، فاستخدمت في الفنون الأخرى:شعر الموسيقى، شعر الرسم، والأشياء الموجودة في الطبيعة" . فالشعرية هي ذلك الأثر الذي يلي إنتاج العمل الأدبي وتبقى بصماته باقية بعد ذلك، وهذا ما يقرره تودوروف بقوله:"ليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعريات، إذ ما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي" ، فالأثر أو توليد الإحساس في المتلقي أو كما خلص إلى ذلك كمال أبو ديب:"مسافة التوتر هي منبع الشعرية" ، ويَستخلص مفهوم الشعرية من شبكة العلاقات، القائمة في النّص، إذ يقول:"الشعرية خصيصة علائقية، أي أنها تجسد في النص لشبكة من العلاقات، التي تنمو بين مكونات أولية، سمتها الأساسية أن كلا منها يمكن أن يقع في سياق آخر دون أن يكون شعريا، لكنه في السياق التي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجة مع مكونات أخرى، لها السمة الأساسية ذاتها، يتحول إلى فاعلية خلق شعرية ومؤشر على وجودها" .
ومن هنا يستعين الكاتب أو الشاعر بمعجم خاص يُطَعِّمُه بالنحو المناسب لخلق لغة شعرية، حيث يساهم النحو في صياغة المعجم بطريقة خاصة تخرجه عن الكلام العادي، مثلما يوضِّح ذلك محمد عبد المطلب بقوله:"الشعرية منوطة بالمعجم من ناحية، والنحو من ناحية أخرى، حيث تكون السيطرة لخط النحو على خط المعجم، لتشكيله حسب مقولاته المحفوظة، بما يخرجه عن المألوف، أي: ينقل الصياغة من منطقة الحياد التعبيريّ إلى منطقة الأدبية " ، وهذا في حد ذاته مفهوم الانزياح حيث تتحول لغة الأدب من لغة الاستعمال اليومي إلى لغة شعرية تبعث بالإحساس والتوتر، كما يقول خليل الموسى:"الانزياح هو وسيلة الشاعر إلى خلق لغة شعرية داخل لغة النثر، ووظيفة خلق الإيحاء" .
ويعود فضل كبير إلى ياكبسون الذي:"بدأ الاهتمام بالشعريات معه ونظريته اللسانية التواصلية التي اهتدى فيها إلى مفهوم الرسالة، وما يمكن أن تولده من دلالات كالوظيفة الشعرية التي تكون فيها الرسالة غاية في ذاتها، لأنها العمل الفني المعني بالدراسة" ، والشعريات:"هي بخلاف تأويل الأعمال النوعية لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل علم، ولكنها بخلاف هذه العلوم التي هي علم النفس، وعلم الاجتماع (..)تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته، فالشعريات إذن مقاربة للأعمال مجردة وباطنية في الآن نفسه" ، وهي:"الكليات النظرية عن الأدب نابعة من الأدب نفسه إلى تأسيس مساره، فهي تناول تجريدي للأدب مثلما هي تحليل داخل له" .
ولأهمية اللغة ودورها في بعث هذا التوتر والإحساس من خلال انزياحها المقصود يرى الهادي الجطلاوي أن موضوع الأسلوبية:"هو النظر في الإنتاج الأدبي، وهو حدث لغوي لساني، أما منهجها في النفاذ إلى أسلوب النص فهو منهج لغوي يروم الوقوف على الخصائص اللغوية فيه وعلى العلاقة الرابطة بين هيكله اللغوي ووظيفته الشعرية" ، وتؤكد يمنى العيد ذلك بقولها:"لم يعد بإمكاننا اليوم أن نعالج المسألة الشعرية بمعزل عن المسألة اللغوية، ليس لأن الشعر نص مادته اللغة، بل لأن ما قدَّمته العلوم اللسانية الحديثة من مفاهيم تخص اللغة ترك أثره العميق والمباشر أحيانا على مفهوم الشعر" .
وهنا تبرز مسألة التداخل بين الأسلوبية والشعرية، وهو ما بيَّنه أحد الباحثين بقوله:"للأسلوبية علاقة بالشعرية، بحيث تشمل هذه الأخيرة الأسلوبية بوصفها مجالا من مجالاتها البارزة" ، لكن جون لويس كابانيس يبين ذلك بطريقته الخاصة، حيث يؤكد أن التداخل بين الشعريات والأسلوبيات راجع إلى اهتمامها-في الفترات الأخيرة- بالأسلوب، ومفهوم الانحراف، وفكرة الجنس، فهو على الرغم من انه حاول أن يفرق بين أسلوبيات شارل بالي التي كانت تهتم بالتعبير عن العواطف في اللسان دون الاعتناء بالآثار الأدبية، وأسلوبيات ليو سبيتزر (1887-1960)
Léo Spitzer التي عمدت إلى دراسة أسلوب الكاتب، ونظرت إلى الأسلوب على انه انحراف نسبة القاعدة التي يكونها اللسان المعاصر، فتطورت الأسلوبيات حتى وجدت نفسها معنية بالأسلوب، ومفهوم الانحراف، والجنس الأدبي، والخطاب، فتقاطعت مع الشعريات التي كانت تقوم على دراسة هذه الموضوعات خصوصا ذلك المسمى بالأسلوب الشعري الرمزي، والأسلوب النثري، كما فعله جون كوهين" .
لكنه يعود ويحاول وضع الفرق بينهما في قوله:"الدرس اللساني يفرق بين الشعريات والأسلوبيات من حيث حدودهما العلمية وطبيعتهما، ذلك أن الاتجاه الشعري يظل مسوسا بمنظار منهجي لا يبحث عن الصفة المميزة للأسلوب، ولا يدرس الخصائص المميزة للعلامات إلا داخل منظومة الأثر، لأن الأعمال من مشمولات الأسلوبيات، وذلك هو الفرق بينهما" .
وتقر الأسلوبية بدور القارئ أو المتلقي، حيث يرى ميكائيل ريفاتير أن:"كل بنية نصية تثير رد فعل لدى القارئ تشكل موضوعا للأسلوب" ، كما اقترح فرانسوا راستيي
François Rastier:"نظرية للقراءة عمدتها القارئ" ، وذلك إقرار بأهمية القارئ حين تلقيه للعمل الأدبي ودعوة صريحة لإشراكه في شرح وتفسير النص الأدبي، وهنا تبرز مسألة التأثير وتأثر الأعمال الأدبية بالنظرية التواصلية التي طرحها رامان سلدان الذي:"أبرز دور الرسالة، ودور القارئ الذي يفكك شفرة الرسالة في بناء الفعل التواصلي وإدراك الدلالات المختلفة" .
وأسهم نعوم تشومسكي (ولد عام 1928)
Noam Chomsky من خلال نظريته التحويلية التي تُقَّدِم:"أداة للتحليل الأسلوبي يفسر العلاقة بين الإبداع عند الأديب والإبداع الذهني عند المتلقي" ، والحديث عن الإبداع عند المتلقي الذي يتواصل بالإبداع عند الأديب يطرح أهمية تزود المتلقي بالثقافة المطلوبة وإحاطته بالمجال الذي هو بصدد قراءته، كما يرى مصطفى ناصف أن:"النص الأدبي الرفيع لا يمكن أن يتفتح أمامنا دون ثقافة واسعة في المجال العقلي والروحي الذي ينتمي إليه هذا النص" بمعنى أن هناك:"ظواهر أساسية في تركيب اللغة أو المعنى تحتاج إلى تنوير من خلال الربط بين الشعر واللغة والفلسفة والدين" ، وهنا يتأكد دور القراءة الواعية في تشكيل رؤية جديدة تتكشف لدى القارئ مع كل نص يقرأه، ومع تعدد القراءات يكتسب القارئ مجموعة من الطاقات التحليلية التي كانت غائبة عنه قبل ذلك في شتى مجالات إبداع الفكر البشري، مثلما يقول ليونارد بلومفيلد (1887-1949) Leonard Bloomfield:"لكي يتسنى لنا تحديد دلالة صيغة لغوية معينة تحديدا علميا دقيقا، لا بد لنا من معرفة علمية حقيقية بكل ما يشكل عالم المتكلم" ، وإذا كان هذا منطبقا على شتى أنواع الأدب، فإن الضرورة تقتضي ذلك خاصة في الشعر الذي يحفل بكثير من الإنزياحات ويطلق العنان للخيال والرمز، مما يحتِّم على القارئ الإبحار مع الشاعر والإمساك بالدلالة وإن تعددت أوجه التناص، ولعل هذا ما دفع هنري بير إلى أن يقول:"الحقيقة أظهرت لهاوي الشعر وللذي يقرأه لنفسه وينعم به دون الغوص فيه على تلميح مخفي أو رسالة فلسفية، أن الشعر الجيّد للقارئ الجيّد" أو كما قال ملارميه في مقابلة أجراها معه جول هوريه عام 1891:"على الشعر دائما أن يحمل لغزا، وهو هذا هدف الأدب. أعتقد أن الشعر موجود للنخبة، في مجتمع يعرف ما الأبهة" ، هذه النخبة لا بد أن تكون المتلقي المتمكن والحصيف الذي يستطيع فك الألغاز وبالتالي الإحاطة بالدلالة.
يقول شكري عزيز الماضي:"يرى البنيويون بأن القارئ ليس ذاتا، إنه مجموعة من المواصفات التي تشكلت من خلال قراءاته السابقة، وبالتالي فإن قراءاته للنص وردّ فعله إزاءه تتحدد بتلك القراءات، وبما أن هناك قراء عديدين فإن هناك قراءات متعددة للنص الواحد" ، وهذا يعني أن قراءة جديدة تفيدنا بجانب من جوانب النص النابضة بالحياة، والتعدد في القراءة بقدر ما يستجلي إضاءات مختلفة حول النص، فهو يثري النص وقارئه معا، وكثرة القراءات بقدر ما تبيِّن لنا أهمية النص المقروء، فهي تطلعنا على الزوايا الممكنة والمحتملة التي يمكن النظر من خلالها إلى هذا النص، وبالتالي إمكانية القراءة والتأويل الذي يفرضه الانزياح في بنية النص الأدبي، وتحاول الأسلوبية الإمساك به.
والأسلوبية تهتم بالسياق للإحاطة بالدلالة، فالسياق وحده:"هو الذي يوضح لنا ما إذا كانت الكلمة ينبغي أن تؤخذ على أنها تعبير موضوعي صرف، أو أنها قصد بها أساسا التعبير عن العواطف، والانفعالات وإلى إثارة هذه العواطف والانفعالات، ويتضح هذا بخاصة في مجموعة معينة من الكلمات نحو:حرية، عدل، التي قد تشحن في كثير من الأحيان بمضامين عاطفية" ، أو كما يقول بلومفيلد:"إن دلالة صيغة لغوية ما إنما هي المقام الذي يفصح فيه المتكلم عن هذه الدلالة والرد اللغوي أو السلوكي الذي يصدر عن المخاطب" ، وهذا ما يوضحه أكثر أندري مارتيني (1908-1999)
André Martinet بقوله:"خارج السياق لا تتوفر الكلمة على معنى" ، وأعطى بول جون أنطوان مييي (1866-1936) Paul Jules Antoine Meilletوجها إحصائيا للسياق حينما أكَّد أنه:"لا يتحدد معنى الكلمة إلا من خلال معدل استخداماتها" ، لهذا كان أشهر شعار لدى لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951) Ludwig Wittgenstein :"المعنى هو الاستعمال" ، وهو الشعار الذي تلقَّفه عبد السلام المسدي حينما وسم الأسلوب بالعبارة التالية:"الأسلوب هو الاستعمال ذاته، فكأن اللغة مجموعة شحنات معزولة. فالأسلوب هو إدخال بعضها في تفاعل مع البعض الآخر كما لو كان ذلك في مخبر كيماوي" ، فالكلمة لوحدها معزولة لا نستطيع الجزم بمدلولها، وتبقى الدلالة المعجمية لها مفتوحة على كل التأويلات، أما حين استخدامها في الجملة والنص فيمكن استبعاد بعض الدلالات والاقتراب من دلالات ممكنة أخرى، أو حصرها في دلالة واحدة لا غير.
وبناء على ما سبق يمكن أن نستخلص اتجاهات الأسلوبية ومقولاتها ومستويات التحليل فيها، وبالتالي الاستعانة بذلك في تحليلنا للنصوص الأدبية، وهي كما يلي:
1- الاتجاهات: وهي على تعددها فإنه يمكن حصرها في اتجاهين اثنين هما:
أ- أسلوبية التعبير:
أسلوبية التعبير أو الأسلوبية الوصفية تعنى بمعالجة تعبير اللغة بوصفه ترجمان أفكارنا. ويعد شارل بالّي رائدها بدون منازع ولا مدافع. وهو يحدد الأسلوبية بأنها: "دراسة أحداث التعبير اللغوي المنظم لمحتواه العاطفي، أي دراسة تعبير اللغة عن أحداث الحساسية، وفعل أحداث اللغة على الحساسية" . فهذه الأسلوبية – كما يؤكد بيير غيرو
P.Guiraud -: "تعبيرية بحتة، ولا تعني إلا الإيصال المألوف والعفوي، وتستبعد كل اهتمام جمالي أو أدبي" . ومن أشياع هذا الاتجاه المتأثرين بمنهاج بالي ومفهومه للأسلوبية نلفي جول ماروزو (J. Marouzeau)، ومارسيل كروسو (M. Cressot).
ب- أسلوبية الفرد:
أسلوبية الفرد أو الأسلوبية التكوينية ظهرت على يد النمساوي ليو سبيتزر
Léo Spitzer، كرد فعل على أسلوبية بالي، وبتأثير مباشر من أستاذه الألماني كارل فوسلير (1872-1949). ويرى سبيتزر أن الفرد مستعمِلَ اللغة غير ملزم بالتقيد بقواعد اللغة المتعارف عليها، بل بإمكانه أن يتملص منها، ويبدع تركيبا لغويا جديدا يميزه عن غيره، ويكون بمثابة أسلوب خاص به وحده. وتكمن مهمة الناقد الأسلوبي في دراسة تلك الخواص اللغوية المتفردة الدالة على شخصية الكاتب. ويبدو أن سبيتزر قد تأثر في رأيه هذا بآخرين سبقوه إلى توكيد صلة الأسلوب بصاحبه. بحيث يروى أن ( أفلاطون) قال: "كما تكون طباع الشخص يكون أسلوبه". واعتبر (سينيك) الأسلوب صورة الروح. وكان الكونت بوفون(1707-1788) Buffon قد ألقى في المجمع العلمي الفرنسي عام 1753 محاضرة نفيسة بعنوان "مقالات في الأسلوب"، مما جاء فيها: "الأسلوب هو الرجل عينه"؛ بمعنى أنه صورة لصاحبه، تبرز مزاجه وطريقته في التفكير ورؤيته إلى العالم. وبعبارة المسدي، فهو "فلسفة الذات في الوجود" . وقد أثَّر بوفون بنظريته هذه في كل الذين جاؤوا من بعده من نقاد الأدب ومنظّري الأسلوب (بول كلودال، شوبنهاور، فلوبير، ماكس جاكوب...). إن الأسلوب الفردي – كما يقول فريديريك دولوفر F. Deloffre - "حقيقة بما أنه يتسنى لمن كان له بعض الخبرة أن يميز عشرين بيتا من الشعر إن كانت لـ:راسين (Racine) أم لـ: كورناي (Corneille)، وأن يميز صفحة من النثر إن كانت لـ:بلزاك (Balzac) أم لـ:ستاندال (Stendhal)" . ويجرنا الإقرار بحقيقة الأسلوب الفردي إلى القول باختلاف الأساليب من كاتب إلى آخر. وقيل كذلك:" إن هنالك إلى جانب الأساليب الخاصة بواحد من أئمة الفن أسلوبا عاما مطلقا يصلح لكل زمان ومكان، وهذا الأسلوب العام هو الطريقة الكلية التي تعبر عن كيفية تأثير العقل في الطبيعة" .
وإلى جانب هاتين الأسلوبيتين يتحدث بعضهم عن أسلوبيات أخر، كالأسلوبية البنيوية التي وضع أسسها فرديناند دي سوسير. ومن أعلامها ريفاتير الذي يؤمن بوجود بنية في النص، وبوجوب البحث فيها. ويضيف إلى ذلك أهمية "المتلقي" في تحديد الأسلوب والأسلوبية. فهو يزعم أن هذه الأخيرة " تدرس في الملفوظ اللساني تلك العناصر التي تستعمل لإلزام المرسل إليه أو متلقي الشفرة ومفسرها بطريقة تفكير مرسل هذه الشفرة. بمعنى أنها تدرس فعل التواصل لا كإنتاج صرف لمتسلسلة لفظية، بل كأثر شخصية المتحاور وكانتباه المرسل إليه. باختصار، فهي تدرس الإيراد اللساني عندما يتعلق الأمر بنقل شحنة قوية من المعلومة" . ويرى أيضا أن كل بنية نصية تثير رد فعل لدى القارئ تشكل موضوعا للأسلوب. وكلما كان هذا الرد واعيا، كان الإحساس أقوى بميزة هذا الموضوع . واهتم ريفاتير كثيرا "بالسياق الأسلوبي"، وعرّفه على أنه نسق لغوي يقطعه عنصر غير متوقع ، أي مضاد للسياق، وغير متنبأ به، بحيث عقد له فصلا خاصا في كتابه الشهير(محاولات في الأسلوبية البنيوية)، وقسمه إلى "سياق أصغر" و"سياق أكبر". ونجد في هذا التيار كذلك ياكبسون، وإن كان جيرو يصنفه ضمن أسلوبية أخرى مستقلة، سماها" الأسلوبية الوظيفية".
وبالرغم من اختلاف الدارسين حول جدوى استخدام تقنية الإحصاء في دراسة الأسلوب بين معارض لها (غريماس مثلا) ومؤيد (مولر مثلا)، وكما وسم اولمان الطرق الإحصائية بافتقارها للحساسية الكافية لالتقاط الخبايا الدقيقة للنص، وعدم احتفالها بالسياق، وتقديمها الكم على الكيف، وحشدها لعناصر متباينة على صعيد واحد بناء على تشابه سطحي بينهما ، وذهاب تشومسكي إلى أن:"المصطلحات العلمية الفخمة والإحصاءات المؤثِّرة التي يكسو بها السلوكيون دراساتهم ما هي إلا لون من ألوان الخداع والتمويه يخفون به عجزهم عن تفسير الحقيقة البسيطة التي تقول أن اللغة ليست نمطا من العادات، وأنها تختلف جوهريا عن طرق الاتصال عند الحيوان" . إلا أن الفرنسي جيرو استطاع أن يؤسس لاتجاه أسلوبي بمؤازرة بعض رفاقه، وسمي "بالأسلوبية الإحصائية"، التي تتخذ من الأسلوب واقعة قابلة للقياس الكمي.
2- المقولات: وتتحدد مقولات الأسلوبية في ثلاثة عناصر: الاختيار-التركيب-الانزياح.
أ-الاختيار:
إن لغة النص الأدبي هي لغة مميزة، وهذا التميز يبين لنا أن الكاتب أو الشاعر قد اختار من المعجم اللغوي الضخم مجموعة من الكلمات حتى يستطيع تكوين رسالته وإحداث الأثر المرجو منها وبالتالي التواصل مع المتلقي، فلغة النص الإبداعي الأدبي هي لغة مختارة بعناية ودقة، ولهذا أجمع الباحثون على أن الكتابة أو النظم قوامها اختيار المعجم الخاص لإحداث الأثر الفني، ومن ذلك ما قاله جوزيف شريم:"إن الكتابة إجمالا والكتابة الشعرية خاصة هي نوع من =الاختيار=، يقوم به الشاعر على مستوى كل بيت من أبيات قصيدته" ، وأثبت تشومسكي ذلك بقوله:"الجُمل تولد عن طريق سلسلة من الاختيارات للكلمات داخل الجملة" ، وهو صاحب النحو التوليدي (أو التحويلي)، والذي يسمح بتوليد جملة من البدائل الأسلوبية والكلمات حتى تمكن الكاتب أو الشاعر من فرصة إيجاد خيارات واسعة في استعمال اللغة، وهذا أيضا ما كرره رجاء عيد بقوله:"كانت قناعة البنيويين أن المتكلم ينتقي خطابه على حسب اختياره من تلك الطاقة المختزنة في الذاكرة:اللغة، وفيها يكون انتقاءه لما يناسبه، وعليه فالأسلوب هو دراسة تلك الاختلافات، وتحليل أنماط التباينات" .
ب-التركيب:
إن تركيب النص الإبداعي خاصة حين ثورته على النمط النحوي المعتاد الذي يحترم قانون النحو، وتكوينه لتركيب جديد غير مألوف لدى المتلقي هو الذي يبعث الدهشة والتوتر، ومن هنا كانت الأسلوبية متتبعة له محاولة طرح السؤال "لماذا؟"، والإجابة عن هذا السؤال والتوصل إلى فهم التركيب الطارئ لهو بحق السبيل إلى فهم العمل الأدبي والوقوف على فنيته وإبداعيته، فـ:جون كوهين يرى بأنه:"لا يتحقق الشعر إلا بقدر تأمل اللغة وإعادة خلقها مع كل خطوة. وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة للغة وقواعد النحو" ، لأن:"لكل أديب طريقة خاصة في استخدام الكلمة وتركيب الجملة من حيث النحو البلاغي...يجب أن ندرك أن التركيب=التشكيل=اللغوي هو المادة الحقيقية المشكلة لفن الأدب، لهذا ينبغي بذل جهد كبير في التعرف على كيفية استخدام الأديب للغة" ، خاصة إذا علمنا أن واحدا من الشعراء الكبار وهو ملارميه:"عرَّف نفسه بالعبارة العجيبة=أنا مركِّب=" ، وقد اعتنى قدماء علماء العرب بفكرة أهمية التركيب فهذا عبد القاهر الجرجاني يقول:"الكلام لا يستقيم ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد إلا بمراعاة أحكام النحو فيه من الإعراب والترتيب الخاص" ، الأمر الذي دفع بـ:مصطفى ناصف إلى التصريح بأنه( عبد القاهر):"حرّض الباحثين على أن يعيدوا قراءة الشعر العربي في ضوء فكرة تنظيم الكلمات" . ولا سبيل إذن من أجل الوقوف على أدبية الأدب إلا النظر في كيفية تشكيله وهندسته.
ج-الانزياح:
يشرح لنا انكفست الانزياح (أو الانحراف) بقوله:" سنستعمل مصطلح انحراف لنقصد به الخلاف بين النص والمعيار النحوي العام للغة، ولهذا فالانحراف يعني عدم النحوية وعدم القبول" ، ويحدد بول فاليري الأسلوب بأنه انحراف عن قاعدة أو معيار ما، أي انحراف عن قانون النحو، وبيّن مصطفى ناصف أن:"الاستعارة انحراف عن الأسلوب الواضح الدقيق" . فالانحراف إذن هو الخروج عن المألوف المعتاد في الكلام العادي بين الأفراد في المجتمع، والاتجاه نحو صيغة كلامية تبعث الإيحاء وتحث على التأويل، وبالتالي خلق التوتر والاستغراق في حالة التأثر ومحاولة الشرح، أو كما يسميه بعض الباحثين بـ:"مواطن الخروج على المستوى العام الذي عليه الاستعمال العادي للغة" .
ولإضاءة مفهومه للانحراف عن السياق يورد ريفاتير مصطلحين هامين وهما: الارتداد والتناص، ويعني بالأول تلك الوقائع الأسلوبية التي سبق للقارئ اكتشاف قيمها ثم لا تلبث أن تعدّل معانيها بأخرى بناء على ما يكتشفه القارئ وهو ماض في قراءته، كما يعني بالتناص ذلك الأثر الذي ينشأ عن تراكم عدد من المسالك الأسلوبية لتحدث قوة تعبيرية لافتة، والتي يعدها مثالا للوعي البالغ باستعمال اللغة .
وهنا يطرح برنرد شبلنرن بعض الأسئلة الوجيهة مثل: على أي مستوى لغوي ينبغي أن تكون الانحرافات ممكنة؟ كيف يتحدد مستوى المعيار الذي ينحرف عنه النص؟ أي: عن أي شيء بدقة ينحرف النص؟
لا بد أنها أسئلة مهمة خاصة إذا أدرجنا الفعل التواصلي بين الأديب والمتلقي، فالأديب يهدف من رسالته إلى ملاقاة القارئ وإشراكه معه في الشرح والتحليل، فماذا يحدث إذا تعمق الانزياح كثيرا وأدى إلى غموض الرسالة؟، وهذا ممكن لأن القارئ قد لا يكون قادرا على فك الشفرة والإمساك بالدلالة، وهذا الإشكال يطرحه أحد الباحثين بقوله أن:"الانزياح يؤدي إلى غموض الرسالة، وإضعاف بنيتها، وهذا يعني أنه كلما عمد الشاعر إلى تعميق الانزياح ازداد انفصاله عن الجمهور" ، وقد حدث مثل هذا من قبل فـ:"الشاعر الانجليزي=كيتس= يوم كتب إلى أخيه رسالة في 18 شباط 1819، لام السذج الذين يأخذون الكلمة بمعناها الحرفي دون بعد في خلفياتها" ، ولعل هذا ما يسميه أتباع فيتغنشتاين:"التشنجات العقلية التي تنشأ عن المتاهات التي تخلقها اللغة" ، فالإنزياحات العميقة تخلق متاهات للعقل، وتجعله يسير في دوامة حلزونية لا متناهية تعيق فهمه للنص الأدبي.
إن:"الانزياح هو وسيلة الشاعر إلى خلق لغة شعرية داخل لغة النثر، ووظيفة خلق الإيحاء" ، لكن يبقى السؤال جوهريا: إلى أي حد يمكن أن يستمر الانزياح؟، وهل وظيفة خلق الإيحاء مبرر كاف لمراوغة القارئ والابتعاد عن شريحة كبيرة من القراء، ما دام أن هدف الأدب حسب البعض هو تبليغ الرسالة وبناء فعل التواصل؟ إنه سؤال نضعه هنا على أمل الإجابة عليه في المستقبل.
وتتخذ الأسلوبية من الخطاب الأدبي عامة مادة وغاية لها. يقول الباحث اللبناني بسّام بركة: "إن الأسلوبية تحليل لخطاب من نوع خاص، فهي وإن كانت تعتمد على قاعدة نظرية (لسانية أو سيميائية أو براغماتية)، فإنها أولا وأخيرا تطبيق يمارس على مادة هي الخطاب الأدبي" . وهي لا تقف عند حدود سطح النسج الأدبي، بل إنها" لا تلبث بعد ذلك أن تختلط بالنص ذاته عبر عمليات التفسير وشرح الوظيفة الجمالية للأسلوب لتجاوز السطح اللغوي ومحاولة تعمق دينامية الكتابة الإبداعية في تولدها من جانب وقيامها بوظائفها الجمالية من جانب آخر" .
3- المستويات:
تتحدد مستويات التحليل الأسلوبي من خلال التعريف الذي وضعه دي سوسير للكلام:"الكلام تطبيق أو استعمال للوسائل والأدوات الصوتية، والتركيبية والمعجمية، التي يوفرها اللسان" فيما يلي:
أ- الصوت (أو الإيقاع): يرى أحد الباحثين أن الإيقاع:"هو تنظيم لأصوات اللغة بحيث تتوالى في نمط زمني محدد، ولا شك أن هذا التنظيم يشمل في إطاره خصائص هذه الأصوات كافة...فإن الصوائت التي هي أطول الأصوات في اللغة العربية، هي أكثرها جهرا وأقواها إسماعا، وأما التنغيم فهو نتاج توالي نغمات الأصوات الناتجة عن درجاتها" ، كما أن النبر هو:"ارتفاع في علو الصوت ينتج عن شدة ضغط الهواء المندفع من الرئتين، يطبع المقطع الذي يحمله ببروز أكثر وضوحا عن غيره من المقاطع المحيطة" .
ويعطي رجاء عيد لعلم الصوتيات أهمية بالغة في دراسة الأسلوب حيث يرى أن:" ...هناك بعض أنواع من الأدب لها إمكانية صوتية قوية، فالدراما والشعر يكتبان بكلمات مسموعة، والسمات اللغوية الخاصة التي تعرضها لا يمكن توضيحها إلا بألفاظ صوتية مصقولة، ولا بد أن يكون هذا اللفظ الصوتي قادرا على إلقاء الضوء على مثل هذه المظاهر كالجناس والسجع والقافية، واستخدام الكلمات التي تدل ألفاظها على معانيها والوزن والإيقاعات النغمية ومعرفة الطريقة التي تتباين فيها الحروف اللينة، وتتجمع الحروف الساكنة طبقا للموقع التي ترد فيه وكيفية النطق بها، فالحروف الساكنة تتجمع، والأماكن تتبدل في الوحدات الصوتية في تركيب المقاطع المتتالية، وكلها تمتزج وتتطابق لكي تعطي التأثير الشامل في النهاية" .
وعليه فما على الباحث الأسلوبي إلا دراسة الوزن والنبر والتنغيم والوقوف للإحاطة بما يحمله المقطع الشعري من مشاعر وعواطف وأحاسيس الشاعر والتي تتجسد في إيقاع الحرف والكلمة والعبارة، بالإضافة إلى البحر والقافية.
ب-التركيب: وهو عنصر مهم في بحث الخصائص الأسلوبية كدراسة طول الجملة وقصرها وعناصرها مثل المبتدأ والخبر، الفعل والفاعل، الصفة والموصوف وكذا ترتيبها، ودراسة الروابط مثل الواو، والفاء، وما، والتقديم والتأخير، والتذكير والتأنيث والتصريف، وبحث البنية العميقة للتركيب باستخدام النحو التوليدي لـ: تشومسكي في رصد الطاقة الكامنة في اللغة، ومعرفة التحويلات أو الصياغات الجديدة التي تتولد، والتي تعد أساسا من الأسس التي تكوِّن الأسلوب .
ج- الدلالة: يهتم علم الدلالة بـ:" الجانب المعجمي، وما تدل عليه الكلمات، مع تتبع لمستجدات المعنى الذي يلحق بتلك الدلالات، أو ما يدفع – بسبب التطور- إلى أن يتبدل ما تشير إليه تلك الكلمات أو سواها. ومن الممكن متابعة "الدلالة" من خلال النظام اللغوي الذي يتميز بخصائصه النحوية والصرفية، والتي تشكل لهذا النظام بنيته الخاصة به...وهذه البنية تتشكل منها ما يعرف بالحقول الدلالية، والتي تضم مجموعات تشكل مفهوما مشتركا، أو دلالة تدخل في نطاق واحد" .
وعليه فإن الباحث في الدلالة عليه أن يبحث في تلك العلاقة التي تربط الدال بمدلوله في النص من خلال السياق، وبالتالي فهم وتحديد الدلالة السياقية إن كانت دلالة مباشرة أو تحمل دلالات إيحائية أو تأويلية أخرى( الحقل الدلالي).


* باحث جامعي.جامعة سيدي بلعباس-الجزائر

 

Partager cet article
Repost0
5 juillet 2009 7 05 /07 /juillet /2009 12:04

من ملف العدد الثاني:

الأدب النسائي في الخليج العربي

 

 

صابر الحباشة

 

   يحمل هذا العنوان من الإشكاليات قدرا كبيرا. فهو يزعم وجود " موجة " في السرد " النسويّ " في منطقة الخليج العربيّ. فهل يجوز الحديث عن موجة " جديدة" للسرد النسويّ في الخليج؟

وما مدى اطلاعنا على هذه الموجة، إن وُجدت، وهي جديدة بالقياس إلى ماذا؛ أي هل توجد موجة "قديمة"؟ وما ملامح هذه الموجة الفنية والأسلوبية؟ وهل يمكن إطلاق الأحكام جزافا على السرد النسويّ بطم طميمه، وهل من وجاهة لتخصيصه بالسمات المعنية بهذا السرد المخصوص؟

   إنّ مجال البحث في هذا الحقل الملغم – من نواح كثيرة – يجعلنا نتوقف عن إرسال الأحكام الجاهزة أو العامة بل الأحرى بنا أن نكتفي بنماذج وعيّنات محدودة يمكن مقاربتها بشكل ملموس.

   لا نخفي هلعنا من الانتماء إلى موضة الكتابة عن الأدب النسوي / النسائي / الجندري / أدب المرأة / الأنثى ... وهي مفاهيم لمّا تنضجْ في سياق النقد الثقافي على مستوى التناول العربيّ لهذا المنهج.

   ونودّ أن نبين منذ البداية أنّ ما نعتزم قوله في هذه الأسطر لا يعدو أن يكون ملاحظات وخواطر وسوانح لا ترقى إلى مصاف التحليل العلميّ، فضلا عن عدم أهليتنا للبت في كثير من القضايا المطروحة في هذا السياق.

   ما نشير إليه عموما هو تأخر ظهور الرواية والقصة القصيرة التي تكتبها المرأة الخليجية قياسا بنظيراتها المصرية والشامية والمغاربية. وقد يعود هذا التأخر – الذي يحتاج إلى دراسة توثيقية حقيقية، غير قائمة على حدوس واهمة – إلى أبعاد حضارية تسم المجتمع العربي في منطقة الخليج المتسم بسمات المحافظة والقبلية والنزوع إلى الشعر والبداوة. فظهور الرواية مقترن بالمدينة، ومن ثمّ فإنّ كتابة السرد يحتاج إلى خصوصيات التعقد الاجتماعي، وهي خصوصيات لم تظهر للعيان في المجتمع الخليجيّ بوضوح إلا منذ عقدين من الزمن. وهذا ما سمح – فضلا عن انتشار التعليم في صفوف البنات – بظهور إبداعات أدبية خليجية نسائية.

والملاحظ أنّ عقد الألفين شهد طفرة كمية ونوعية في الإنتاج الأدبيّ الخليجيّ ومن بينه النسائي، وأصبحت بعض العناوين الروائية المكتوبة في الخليج تتصدر المبيعات وتصيب من الذيوع ما لم يكن يخطر على بال، منذ عقدين من الزمان.

فهذا الحراك الروائي يحتاج إلى توقف. هل تكتب المرأة من منطلق إثبات الذات (الفردية والجماعية) أمام تحيز المجتمع الذكوريّ "ضدها" قصدا أو عبر إرث العادات والتقاليد المسيطرة؟

أم هل إنّ المجتمع قد شهد فرزا جنسيا، فسمح للمرأة بأن تبديَ – ولو بشكل حييّ متستر – بعض مواهبها الأدبية، مقابل ضمان الرجل مزيد / أو الاستمرار في احتكار الجوانب الاقتصادية على اختلاف نواحيها؟ وفي هذا التساؤل تبرز فرضية تقاسم الأدوار بين المرأة والرجل، وقد فرضت إفرازات التعليم المنتشر بالتساوي عدديا بين الجنسين، نوعا من ضرورة إعطاء المرأة الفرصة للتمكين. ولمـّا كانت العادات والتقاليد أوغل وأشد بأسا، فقد بدأ تمكين المرأة من النواحي الفنية الجمالية / الأدبية، بما هي أقرب إلى طبيعتها وحساسيتها الأنثوية.

قد يكون هذا التأويل غير مرتكز على أدلة أنثروبولوجية قوية، ولكنه لا يعدو أن يكون حدوسا قد تكون  ذات جدوى في مقاربة البنية العلائقية بين السرد والمجتمع في نصوص الرواية النسائية الخليجية الجديدة.

إنّ النماذج التي اطلعنا عليها من روايات وقصص كتبتها أقلام نسائية خليجية من الجيل الجديد، تبرز وجود سمات مشتركة لافتة، مع وجود تمايزات فردية وأسلوبية خاصة، فالأسلوب هو الرجل (أو هو المرأة، في سياق الحال!).

ولعل قارئ " بنات الرياض" لرجاء الصانع (دار الساقي، 2005، ط.1) أو"ثمن الشوكولاتة" لبشائر محمد (دار فراديس، 2007) أو "القران المقدس" لطيف الحلاج (دار فراديس، 2007، ط.2) أو "فتاة البسكويت"لزينب علي البحراني[تحت الطبع]  أو غيرها من النصوص الروائية والقصصية التي تجري مجراها، وهي كثيرة ومتشابهة في المضمون، يقف على خصائص فنية متشاكلة إلى حدّ بعيد، فحتى على مستوى العناوين نلاحظ أنّ المعجم متشابه (الشوكولاتة والبسكويت) فضلا عن عنوان يعارض بنات الرياض وهو "شباب الرياض" (وإن كان هذا العنوان الأخير خارجا عن اهتمامنا، في سياق هذه الورقة).

   لا تخلو هذه الآثار السردية من جعل المرأة بؤرة لها، ومن ثم فإنه يتم التركيز على المرأة بوصفها مضطهدة، منتهَكة الحقوق، في معظم الأحيان (تربية قاسية – انتهاك جسدي – ابتزاز عاطفيّ – عنف رمزيّ ...) وبوصفها ضحية للعادات والتقاليد الجائرة، ولا سيما قيام هذه الأعمال الروائية بطرق مختلفة على فضح النفاق الاجتماعيّ الذي يولّد تناقضات كثيرة تشرخ كيان الأسرة وتشق لحمة المجتمع...

   ليست الكتابة النسائية في هذه الأعمال – نموذجا – كتابة نضالية بالمعنى الإيديولوجي الذي يمكن أن نحشر فيه كتابات الروائيين ذوي المنحى الالتزاميّ بقضايا الطبقات المسحوقة أو الشعوب المظلومة، بل هي كتابات تنطق بمعاناة فردية في العمق، تم تعميمها بحكم تشابه الوضعيات وانسداد الآفاق وتراكم الاحتقان.

   ولا يخفى توظيف الأدوات الحضارية التقنية الجديدة في نسج خيوط هذه التركيبة السردية النسائية سواء عبر رسائل البريد الإلكتروني (بنات الرياض) أو رسائل البلوتوث (ثمن الشوكولاتة)،... ممّا يعني أنّ الوعي الحداثيّ لم يتجاوز الاستهلاك للمنتجات الغربية إلا نحو توظيفها في الإيهام بالواقعية وبمشاكلة الواقع.

    فضلا عن ظاهرة اعتماد الازدواجية في الراوي، خاصّة في نصوص القصة القصيرة، إذ تعمد الكاتبة إلى اتخاذ رواة ذكور في بعض الأقاصيص وراويات إناث في أقاصيص أخرى، فهل هذه حِيَلٌ فنية اقتضتها طبيعة النصّ وما يحتاجه من معالجة سردية، أم إنّ الكاتبة تتفنن في التمتع بسلطة الكلمة عبر سحبها من الرجل (لا بالمعنى المباشر، بل بالمعنى الرمزيّ) تارة، وإرجاعها إليه تارة أخرى، ليقول ما تريده أن يقول؟!

   طبعا لا تخفى في هذه الأعمال جميعها ظواهر ثقافية تقوم على الاستهلاك وأمركة المجتمع (عبر عادات الأكل والسفر والعمل وتأثير وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والعلاقات العاطفية – إلى حدّ مّا –، على الطراز الأمريكي)، مع التنكر وعدم الاعتراف بمثل هذا الاقتداء والتقليد المضبوع.

   تحاول هذه الآثار السردية أن توهمنا بالتطابق بينها وبين الواقع عبر سرد وقائع من صميم المجتمع ...  لكن الملاحظ أن النضج الفني بقي بعيدا عن تناول هذه الأقلام المصممة على دخول معترك الرواية والقصة، ولا أدلّ على ذلك من كثرة الأخطاء اللغوية الكثيرة التي تعجّ بها هذه الروايات ... قد لا تكون ثمة علاقة مباشرة بين الموهبة السردية والمقدرة اللغوية، ولكن ضعف المستوى اللغوي – لا يعبر فقط عن فشل المدرسة في ترسيخ قواعد الكتابة الصحيحة، أو عدم اعتماد الناشرين مدققين لغويين، فحسب – بل يبيّن كذلك ضعف رصيد الكاتبات من الثقافة العميقة، التي نجدها لدى روائيين من أمثال نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا ويوسف إدريس ومحمود المسعدي، تمثيلا لا حصرا؛ طبعا مع تفاوت بينهنّ، فبعضهنّ ألحن من بعض (نلاحظ أنّ مجموعة "فتاة البسكويت" القصصية أفصح لسانا، بشكل من الأشكال من سائر النماذج المذكورة، مع "ضيقنا" بكثرة التراكيب الإضافية الثلاثية وأحيانا الرباعية في أسلوبها !).

   فلعلّ الكتابة السردية النسائية في الخليج العربي، من خلال الآثار الجديدة التي تدفع بها إلينا المطابع، تبين عن موجة شبابية تودّ أن تعلن عن نفسها رغم افتقارها إلى بوصلة إبداعية تقوم على التشبّع الفنّي بالنسيج السرديّ القديم والحديث عربيا وعالميا، فضلا عن وقوعها تحت طائلة الارتجال والاستطراد والتجميع الاعتباطيّ، في كثير من الأحيان. وهي – في نهاية المطاف –  محاولات قد تفرز أسماء لها شأن في المستقبل، وقد يكون بعضها مجرد سحابة صيف، تولد خديجا، تسمع جعجعة ولا ترى طحنا.

   قد يكون من الاستعجال حشر النصوص السردية النسائية الجديدة في الخليج العربي، في سلّة واحدة، ولكن من المفيد أن نتبيّن – في دراسات تخصّصية أوسع مجالا وأرحب آفاقا – مميّزات هذه الأصوات الجديدة ونفحص حدود الإضافات الفنية التي قد تكون بشّرت بها أو هفت إلى تحقيقها. ويكفي الناقد في سياقنا محاولة فتح الباب أمام مزيد التعمّق في هذه القضايا الفنية والاجتماعية التي تطرحها هذه النصوص على المشهد السرديّ العربيّ عموما بكلّ تحدّ وانطلاق. دون أن نزعم – بالطبع – الإجابة على الإشكالية المحيّرة: هل حققت هذه النصوص تحرّرا فنيا من عقال الموروث السرديّ الشهرزاديّ، أم إنّ كتابة المرأة العربية لمّا تزلْ رهينة إمّا لرثاء الخنساء أو لثارات شهرزاد.     

 

Partager cet article
Repost0
3 juillet 2009 5 03 /07 /juillet /2009 22:18

من ملف العدد الثاني:

 

 

دلالات الجسد الصوفي في شعر وفاء العمراني

 

فاطمة الزهراء بشيري

 

من هامش التمزق الوجودي والتاريخي، تعلن القصيدة النسائية المغربية دخولها في محاورة مع "الجسد"، واستنطاق مختلف خواصه الدلالية، بغية إقحام هذه الكتابة في علاقات تشاكلية قائمة على نبذ وتغيير بنى غير مرغب فيها، ولهذا يلاحظ أن تيمة "الجسد" في المتن الشعري النسائي بالمغرب، تشير إلى جسد ثائر يضيق بحدوده البشرية والمكانية، ليلتحم مع واقع متخيل ينشد فيه الخلاص، وطوق النجاة.

ــــ لقد تعامل هذا النص الشعري مع موضوعة "الجسد" بحذق وتعقيد كبيرين من خلال المراوغة التصويرية، وتسخير ثيمات أخرى تنهل –بالأخص- من عناصر الطبيعة في غرابتها، وحسها الميتافيزيقي الغامض، لخدمة الجسد المتحرك بين ثنايا النص الشعري، مع وعي ذاتي بحرقة الأنا، واغتراب الذات، هكذا يجعل الشعر النسائي بالمغرب من كتابة الجسد "بحثا عن معنى ما، أو عن قيمة ما، يوجدان دوما موضع اشتهاء وتوق"(1) إلا أن الحساسية الشعرية المغايرة التي هجست بها الممارسة النصية، لبعض الشاعرات المغربيات أمثال "مليكة العاصمي، ووفاء العمراني"، والتي يمكن اعتبارها أفقا تجريبيا جديدا، حاولت من خلاله المبدعة، إخراج جسدها من نطاق العتمة الضيق إلى رحابة النور الشاسع، تتجلى في تقديم تجربتها الصوفية على طبق باذخ من ذهب، لا يكترث بمجاهدات الصوفيين، والترويض الشاق لأجسادهم، مع تسجيل ملحوظة هامة، أن هناك شاعرات مبتدئات، يستعملن العبارات الصوفية كحلية نصية أو موضة تعبيرية، في حين تخلو قصائدهن من أي نزعة صوفية تذكر.

لقد حرصت الشاعرة "مليكة العاصمي" على سبيل المثال، على خاصية شعرية جمالية في الكتابة الشعرية الصوفية، وهي اختراق الميثولوجي للصوفي، في حين سعت الشاعرة "وفاء العمراني" –موضوع مداخلتي هاته- إلى تقديم تجربة روحية مغايرة، يحتل فيها الجسد موقع الصدارة في قلب المغامرة الصوفية، وفي الآن ذاته يمارس إغراء إستطيقيا من نوع جديد، لقد ارتقت بجماليات الكتابة الشعرية الصوفية، وطورت من تقنياتها الترميزية، حيث تحفل نصوصها، برؤية إبستمولوجية للفعل الإنساني في علاقة بالجسد، تكاد تصل في بعض الأحيان إلى مقارنة الروح بالحكمة:

                            كلما شطح صوت الجسد

                            أينعت أنوثة الحكمة   (2)

ــــ  إن المتن الشعري لـ "وفاء العمراني"، بمنجزه الجمالي والتخييلي، يراهن على الانفلات من المرجعية الإيديولوجية للمتصوفة، والمفرطة في ولائها الديني، ومن ثم يقدم صوفية معاصرة تنصت لنبض الجسد القوي، والمتسارع في حنينه الخافت إلى الروح، والشاعرة تعرف هذا "الجسد الصوفي" المقترن بالكمال والحضور المطلق، بقولها:

هو الجسد الواجد المنوجد الوجد

اللاقي الملقي اللقيا

الرائي المرئي الرؤيا

استوى الغجري على الملكوت

انبسط الوعاء

انكشف الستر

انقبض الرهان

لا الأين حد

لا الكيف تعرف

لا المتى مسلك

لا الخلل سراج...(3)

ها هنا إذن يقترن التوهج الدلالي ذو الطبيعة المادية للجسد، بهيمنة دلالية ذات صيغة عرفانية تكاد تصل به إلى مقام الألوهية المطلقة، حيث يختزل كل تقلبات المعاني الممكنة، ويذكر بقول النفري في كتاب [المواقف]: "وقال لي أنت معنى الكون كله"(4)، حيث تستطيع الذات الفردية، بلوغ مقام الكلية/المطلقة، أو على حد تعبير غاستون باشلار "يتوحد كون الخارج مع كون الداخل"(5)، بذلك تندرج هذه الكتابة الشعرية الصوفية في أفق دلالي، يخلق نوعا من التواشج بين صوفية معاصرة باذخة، وأخرى تحلق بجناحي الثنائيات الضدية للمتصوفة من قبض وبسط، وانكشاف وستر في "محاولة لتحقيق الكونية ضمن أفق جديد هو الحب الإلهي الممزوج بنظرة استيطيقية للعالم والألوهية"(6)، فالعمراني تتجاوز أعراف الصوفيين في تمجيد الروح واحتقار الجسد، ولا تكترث لهذا الجدل الدلالي الغامض، بل وتقلب موازينه، خاصة حين تعلن في قصيدتها: "مجد العري" إقالة الجسد العارف للروح من منصبها السامي:

مغزو هو الجسد بشكه

مقيل للروح /دليل للنبض

نور هي الرؤية اللاثمة الملثومة

مخرج إلى السر/ مدخل للفيض

والانجراح شفاء...(7)

فالروح لا تملك طاقة دلالية مهيمنة في هذه التجربة الشعرية الصوفية لـ "وفاء العمراني" بل تبدو –هشة- على حد تعبير الشاعرة:

في هشاشة الروح

شيدت صروح حكمتي ونجاتي

عرس الأعالي دمي

شيق هذا التألق بداخلي(8)

ــــ  إن هذا الاغتراب الصوفي، الذي يلازم نصوص "وفاء العمراني"، والذي يدين بالولاء للجسد أكثر من الروح، توجد له أبعاد مرجعية قوية في الكتابة الشعرية الصوفية لأدونيس الذي "حرص منذ وقت مبكر على تحرير التصوف من الكبت الذي سيجه قديما وحديثا، وتعيينه له بوصفه تجربة وجودية وكتابية في آن"(9) فكلا الشاعران [أدونيس ووفاء] يتميزان بالحضور المكثف للجسد في خطابهما الشعري الصوفي، ويسعيان إلى خلق صيغ جديدة للتوحد الشامخ بين الذات والعالم، يقول أدونيس:

وحد بي الكون فأجفانه

تلبس أجفاني،

                   وحد بي الكون،

فأينا يبتكر الثاني (10)

وفي نفس السياق تقول وفاء:

كثيرا ما يخيل لي أني الشمس /

لي كل الجهات

ولا أفق يحدني (11)

ــــ  بهذا المعنى الشعري إذن، يتم الحديث عن سفر دائم، يقوم به الجسد الصوفي، بحثا عن المطلق واللانهائي، وهو ينبثق من وعي ذاتي لدى الشاعرة بأن المعرفة الصوفية الإشراقية، هي تلك اللحظة التي تتلاشى فيها الذات الفردية، لتأذن بانبثاق ذات أخرى أكبر تسع الكون وتتجاوزه، بل وتسعى إلى إعادة اكتشافه عبر هذا السفر الصوفي المغاير:

الملآن لا يظمأ

الشبعان لا يجوع

العارف لا يتوه...

أقول جسدي منبع كل شيء:

سفر الألوان / الأمداء

الجهات / المسافات

الشوق / المابين (12)

إن السفر في الشعر الصوفي العربي يقترن بمعراج روحي، فيه الكثير من العناء والمكابدة والاحتراق، لكنه في شعر "وفاء العمراني" يكتسي دلالات جديدة تخلص للرؤية الصوفية لدى الشاعرة، إنه رحلة استكشافية، طيعة -العارف لا يتوه، يكتسي فيها الجسد بهاءه، والسؤال جوابه:                                       -وأدناني طوعا

1- وبعيدا أخذني بهاء الطين

منذورة أقاصي لحكمة السفر (13)

2- على غابات شهوة السؤال

     أشرعتني غابات السفر عليك

وأدناني، طوعا فجر الحرف

   إليك (14)

إن غابات السفر المشرعة، تحيل على سفر لا تنقضي مدته، وهذا هو المطلوب من الصوفي على حد تعبير "النفري": [يا عبد إبناء معرفتي في غيبتي، إقضاء سفر لا يستريح](15)

ــــ  هذا الجسد الصوفي لا يقر له قرار بين توهجه الخاص، وإمساكه بـ"نار النفري" و "فراشات فريد الدين العطار"، حيث عمدت الشاعرة "وفاء العمراني" إلى خلق مصطلحات صوفية تؤثث تجربتها بطابع انفرادي خاص، فمصطلح "التوهج" بكل إشعاعاته الدلالية، التي تحيل على الانبعاث القوي والمفاجئ للحقيقة، تستعمله الشاعرة للحديث عن جسد يأبى الصمت، في اضطرام أنواره، جمال ودعة وسكينة:

             1- لطفا أيتها الشمس

جسدي منشغل بالتوهج (16)

    2- أضج بالتوهج

يساررني الله

كأن لم ينبضني في هذا الغمر

سواه (17)

            3- لي الشفوف، النسخ، الوهج

والأكوان كلها .. لي (18)

إن التوهج في هذه النصوص المختارة، هو طقس خاص للاحتراق الصوفي الجميل، تتآلف فيه المتنافرات والأضداد، إلى حين الطفرة الإشعاعية الكبرى التي يتوحد فيها اللاهوت بالناسوت، ويختفي الزمان والمكان الفيزيقيان.

ــــ وإذا كان التوهج يرتبط بالإشراق القوي للنور، فإن "النار" في النص الشعري الصوفي لوفاء، تكتسي دلالات وظيفية مغايرة، إنها تشبه نار [النبي ابراهيم عليه السلام]، ليست لها خصيصة الاحتراق بل لها وظائف مضادة:

هوى بي وهدي

لوعد لا قرار

أسلمتني للرياح

أطفأتني بالنار (19)

وفي هذا النص النموذج –مع كثرة النصوص الشعرية التي تعمل على قلب مدلولات النار- اتكاء مرجعي على قولة النفري [وقال لي إذا رأيت النار فقع فيها ولا تهرب فإنك إن وقعت فيها انطفت وإن هربت منها طلبتك] (20)، وغير بعيد عن [النار] تلتفت "وفاء العمراني" التفاتا موجزا إلى "فراشات فريد الدين العطار، ولا تعيد تصوير احتراقها إلى درجة الانصهار من أجل الوصول إلى الحقيقة، بل ترفرف الفراشات الصوفية على القصيدة العمرانية، جذلى سعيدة:

                    1- يا لغبطتي الأكثر روعة

يا لهذا الصوت، بداخلي، المجدول

بجذل الفراشات

يا لفجر الحرف في دمائي ! (21)

             2- يحملني جهلي على جناح فراشة جذلى 

أغادر

لا أستقر لا أتدلى

النسيان زاد الذاكرة (22)

ــــ هكذا إذن يتشكل مشروع الكتابة الشعرية الصوفية لدى "وفاء العمراني" من استبدالات تنويعية، تعيد بناء التصوف وفق منظور إستطيقي ممزوج بالحكمة والمعرفة، ينزع إلى التأكيد بأن الشعر الصوفي ليس دائما [شعرا متألما]* ، فهي التي تحتفي بأعراس الروح وأعيادها، وتصر على ملاحقة جسدها: 

أعلن اللغة عيدا بنفسجيا لروحي وأصر على ملاحقة

 جسدي. انتشاء لهذا القهر المرتمي قرونا على أسيجتي. (23)

إنها كتابة صوفية متورطة في الجسد، ولهذا لم يأت التفاتها القوي للإرث الصوفي للنفري اعتباطيا، فهو يمثل المرجعية الأكثر ملاءمة للرؤية الصوفية المتميزة لدى الشاعرة، والتي تبحث عن الحقيقة والجمال والدهشة في الكون والطبيعة، والنفري في مواقفه ومخاطباته، يحاور الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح، ويفنى في الذات الإلهية فناء جميلا لا ألم فيه، بل يمكن القول بأن هذا البعد المرجعي في شعر "وفاء" يخلخل أفق انتظار المتلقي، الذي تستهويه العبارات الدينية في نصوصها الشعرية**، فيخال أنها متناصة مع الآيات القرآنية، لكن قوة هذا التناص تتجلى في كتاب [المواقف والمخاطبات] وليس في الكتاب المقدس [القرآن الكريم].

إن التجربة الشعرية الصوفية لـ "وفاء العمراني" تمثل نموذجا فريدا لشعر نسائي، يسعى إلى تأسيس هويته المتعالية من خلال التصوف الذي يعيد الاعتبار للجسد الأنثوي الذي طالما سيج في مفاهيم دونية أساءت إليه.

 

الهوامـــش :

 

1- عبد الحميد عقار: صوت الفردانية، الكتابة النسائية: محكي الأنا، محكي الحياة، تأليف: مجموعة من الكاتبات والكتاب، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1: 2007، ص 4.

2- وفاء العمراني: قصيدة: اليوم الثامن، ديوان: أنين الأعالي، دار الآداب بيروت، ط 1، 1992، ص 91.

3- ن م س: قصيدة: مجد العري، ص 26.

4- محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري: كتاب المواقف والمخاطبات "المواقف"  منشورات محمد علي  بيضون، دار الكتب العلمية-بيروت،  ص 5.

5- غاستون باشلار: شاعرية أحلام اليقظة (علم شاعرية التأمل) ترجمة جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 1-1996، ص: 164.

6- عبد الحق منصف: الكتابة والتجربة الصوفية، نموذج محيي الدين بن عربي، دار عكاظ للنشر، ط 1، 1988، ص: 340.

7- وفاء العمراني: قصيدة: مجد العري، ديوان: أنين الأعالي، ص 30.

8- وفاء العمراني: قصيدة: أريج باذخ، ديوان: هيأت لك- أفريقيا .الشرق 2002، ص43.

9- خالد بلقاسم: أدونيس والخطاب الصوفي، دار توبقال للنشر، ط 1، 2000م، ص 6.

10- أدونيس: قصيدة وحدة، الأعمال الشعرية الكاملة، دار المدى للثقافة والنشر 1996، ص 74.

11- وفاء العمراني، قصيدة أحوال التيه، ديوان أنين الأعالي، ص 41.

12- المرجع نفسه، قصيدة مجد العري، ص 24.

13- وفاء العمراني، قصيدة أريج باذخ، ديوان هيأت لك، ص 42.

14- المرجع نفسه، قصيدة نشيد الوفاء، ص 83-84.

15- محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، كتاب المواقف والمخاطبات –المخاطبات- م س، ص 182.

16- وفاء العمراني، قصيدة "ذكراي منه الغياب"، ديوان أنين الأعالي، ص 23.

17- وفاء العمراني، قصيدة "للآتي أنا منذورة"، ديوان فتنة الأقاصي سلسلة صدى ، ط 1، 1997، ص 69.

18- المرجع نفسه، قصيدة "فتنة الأقاصي"، ص 38.

19- وفاء العمراني، قصيدة "باب المجاهدة"، ديوان أنين الأعالي، ص 65.

20- محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، م س، -كتاب المواقف- ص 81.

21- وفاء العمراني، قصيدة أشبهك أيتها الريح، ديوان هيأت لك، ص 56.

22- وفاء العمراني، قصيدة "أوراق الشمس"، ديوان أنين الأعالي، ص 9-10.

* تحدث د. محمد بنعمارة رحمه الله في كتابه "الصوفية في الشعر المغربي المعاصر" عن -الكتابة المتألمة- في التجربة الصوفية، والجدير بالذكر أن المؤلف لم يتناول في هذا الكتاب أية شاعرة مغربية.

23- وفاء العمراني، قصيدة نخب الجسد، ديوان الأنخاب، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 1991، ص 65.

** انظر قصيدة "حكاية نورس يغادر" ديوان الأنخاب، ص 36، حيث تضع الشاعرة جملة للصفح الجميل بين مزدوجتين، وكأنها تحيل المتلقي على الآية القرآنية الكريمة "فاصفح الصفح الجميل"، لكن ظهور كلمة (الشاهد) في آخر هذا النص الشعري، تجل التناص من كتاب "المواقف" للنفري أقوى، حيث يقول في موقف الصفح الجميل ص 58: "وقال لي انظر إلى الشاهد الذي أنت به في الغيبة هو الشاهد الذي أنت به في الذمة".

ملاحظة: نص المحاضرة التي ألقيتها في ندوة:

الأدب النسائي بين البعد المرجعي والبعد الأدبي

10 ماي 2008 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس

والتي نظمت بشراكة مع "بيت الأدب المغربي"

 

 

Partager cet article
Repost0

مجلة وطنية ثقافية شاملة ومحكمة

  • : مجلة دفاتر الاختلاف
  • : مجلة "دفاتر الاختلاف" دو رية مغربية ثقافية محكمة رخصة الصحافة رقم:07\2005 -الايداع القانوني:2005/0165 تصدر عن مركز الدراسات وتحمل الرقم الدولي المعياري/ p-2028-4659 e-2028-4667
  • Contact

بحث

الهيئة العلمية

أعضاء الهيئة العلمية والتحكيم

د.عبد المنعم حرفان، أستاذ التعليم العالي، تخصص اللسانيات، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز فاس المغرب

د.عبد الكامل أوزال، أستاذ التعليم العالي، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.أحمد دكار، أستاذ التعليم العالي مؤهل ، تخصص علم النفس وعلوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

د.محمد أبحير، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وآدابها، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بني ملال/المغرب

د.محمد الأزمي، أستاذ التعليم العالي ، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

د.ادريس عبد النور، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وعلوم التربية والدراسات الجندرية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-مكناس/المغرب

د. عبد الرحمن علمي إدريسي، أستاذ التعليم العالي، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

محمد زيدان، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وآدابها، المركز  الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.محمد العلمي، أستاذ التعليم العالي ، تخصص الدراسات الاسلامية والديدكتيك، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.محمد سوسي، أستاذ مبرز ، دكتور في الفلسفة، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

دة.سميحة بن فارس، أستاذة التعليم العالي مساعد، تخصص الديدكتيك علوم الحياة والارض ، المدرسة العليا للأساتذة فاس / المغرب

د.عزالدين النملي، أستاذمحاضر ، تخصص اللغة العربية والديدكتيك ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين تازة/المغرب

دة.صليحة أرزاز ، أستاذة التعليم العالي مؤهل، تخصص لغة فرنسية، ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.المصطفى العناوي، أستاذة التعليم العالي مؤهل، تخصص الاجتماعيات ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.حسان الحسناوي، أستاذ التعليم العالي مساعد، تخصص اللغة العربية وآدابها ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين تازة/المغرب

د.عمر اكراصي، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

دة.حنان الغوات، أستاذة التعليم العالي مساعد، تخصص علومالتربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.حميد مرواني، أستاذ محاضر مؤهل، المركز الجهوي لمهن التربية

والتكوين فاس- مكناس المغرب

   د.عبد الرحمان المتيوي، أستاذ مبرز في الفلسفة، مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس -مكناس /المغرب

د.المصطفى تودي، استاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة

.فاس-مكناس

دة.الخالفي نادية، أستاذة التعليم العالي مساعد، المركز الجهوي لمهن التربية

.والتكوين الدار البيضاء-سطات/المغرب

د. محمد أكرم  ناصف ، أستاذ مؤهل، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-مكناس المغرب.

هيئة التحرير وشروط النشر

رئيس هيئة التحرير

د.ادريس عبد النور

هيئة التحرير​​

​​​​​د.عمر اكراصي - د.طارق زينون

د.سعيد عمري- ذة. مالكة عسال

ذ.خالد بورقادي إدريسي

الشروط العامة لنشر البحوث:

  • أن يكون البحث ذا قيم علمية أو أدبية، ويقدم قيمة مضافة للحقل المعرفي.
  • أن يتمتع البحث بتسلسل الأفكار والسلامة اللغوية والإملائية.
  • أن لا يكون البحث مستلاً من أطروحة دكتوراه أو رسالة ماستر أو كتاب تمَّ نشره مسبقاً.
  • يلتزم الباحث بإجراء التعديلات التي يقرها المحكمون بخصوص بحثه، حيث يعد النشر مشروطاً بإجراه هذه التعديلات.

المراسلات: Email:cahiers.difference@gmail.com0663314107