اللغة العربية والتأنيث
بحث في المؤنث النحوي
د. ادريس عبد النور
دراسة محكمة
أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس- مكناس /المغرب
أستاذ مادة اللغة العربية والديدكتيك والنقد الأدبي النسائي
Abdennour.driss@gmail.com
الكلمات المفاتيح: اللغة العربية، التأنيث، المؤنث النحوي، الجسد، كتابة المرأة.
مقدمة:
اللغة العربية نظام رمزي خالق للتصورات وتسكنه التمثلات، فهي تساهم في فعل التحويل الثقافي لأنها تجدد في سياقاتها وتخلق انطلاقا من التصورات الجديدة معجمها الدلالي والذهني وتجعل من خطاب التأنيث حالة وعي يلقي بعلامته بين يدي المتلقي، حيث يطرح فيه نوعية إقصاء السمات العملية عن المؤنث الذي يتصوره النسق منتجا دوما للمعنى الواحد الذي لا يخرج عن التأنيث، فضحكة الرجل تمثل إشارة متعددة الدلالة، أما ضحكة الأنثى فليس لها سوى معنى واحد قررته الثقافة وحسمت الأمر فيه لأنها تصدر عن جسد مؤنث مطلوب منه إنتاج التأنيث لا غير.
Mots clés : langue arabe, féminin, féminin grammatical, corps, écriture féminine.
Introduction:
La langue arabe est un système symbolique créateur de perceptions et habité de représentations, elle contribue à l'acte de transformation culturelle car elle renouvelle dans ses contextes et crée à partir de nouvelles perceptions son lexique sémantique et mental et fait du discours féminin un état de conscience qui projette sa marque dans les mains du destinataire, dans laquelle se présente la qualité d'exclure les traits pratiques du féminin qu'il imagine. Le système produit toujours un sens unique qui ne s'écarte pas de la féminité, car le rire d'un homme représente un multi- signe significatif, alors que le rire d'une femme n'a qu'un seul sens décidé par la culture et décidé de la matière en elle car il provient d'un corps féminin qui est tenu de produire uniquement la féminité.
1ـ التأنيث مفهوم ثقافي.
لعب المصطلح اللغوي دورا في لفت نظر الثقافة إلى الجسد الأنثوي، حيث تجمدت تمفصلاته في وضعيات مرتبطة بالفترة الزمنية الذهبية للأنثى، زمن الإغراء فأبرز آليات التحويل هذه تأتي من المصطلح اللغوي ومن مجموع المفردات المخصصة لكل فعل أنثوي، " فالجسد المؤنث لا يمشي بوصفه جسدا طبيعيا بل إنه (يتثنّى) و(يتأوّد)و(يرفل)، وهذه مفردات تخصصها اللغة لمشية الحسناوات، اللواتي يمشين (مشي القطاة إلى الغدير)"([1]).
وعندما تُنكر الثقافة قيمها المادية والمعنوية عن هذا الجسد المؤنث، تسمح للرجل باللغة كسمة فحلية، ولا تسمح الثقافة الذكورية للمرأة إلا بنصيب يأخذ من اللغة حاجته، وقد عكس هذا المعطى مشملات حوار الجنسين فأفردت الاختلافات بينهما لغة خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالإناث، نظرا لكون النسق الثقافي في مجمل تجلياته يجعل من الأنوثة صفات وليس جوهرا، على اعتبار أن المرأة إذا حضرت بين الرجال حملت معها تفوقها المؤثر عبر الحكي والجسد وإيحاءات لغتها المتعددة في الصمت والنظرات والكلام، أما إذا حضرت في النص اللغوي فتحتل الهامش الذي يغذي تفوق الذكر ويُبرزه ويُعلي من شأنه، "ومن عادة الرجال أنهم لا يتكلمون في حضور المرأة إلا في حدود. وإذا غابت المرأة انفتحت لغة الرجل على مجالات لا حصر لها، خاصة تلك المجالات الخاصة بنظر الرجل للأنثى وتفسيره للغة جسدها وأحكامه عليها"([2]).
كل ما سبق يدعونا لاستخلاص حقيقة ثابتة تعطي تمايزا ما بين مكونين أساسيين في بحثنا، وهو الوقوف على التمايز الحاصل ما بين كلمة "امرأة " وكلمة "أنثى"، فالمرأة تتضمن الأنثى، والأنثى التي يعرفها النسق الثقافي مرتبطة بالزمن الثقافي ذاته الذي يفرق بدوره ما بين مراحل نمو الجسد الأنثوي، وبذلك تكون المرأة متعددة التسمية بحسب وظيفة جسدها فهي: الصبية والفتاة والزوجة والأم والحماة والعجوز والعذراء، العزباء، الحامل، اليائس والشمطاء..، فيكون المؤنث هنا محمَّلا بقيم ثقافية خاصة، من حيث أنه يُرسخ في الثقافة ارتباط النضج الأنثوي بزمن الأيض، ومرتبط ارتباطا وثيقا بالولادة والتناسل، فالجسد الأنثوي في النسق الثقافي الذي لا يلد ولا ينسُل لا يدخل في دلالة التأنيث، وهذا ما يدعمه الاصطلاح الثقافي عندما يصنف المرأة التي انقطعت عنها دم الحيض في سن اليأس، أي سن اللاأنوثة، وتؤكد الثقافة هنا خصوبة الجسد باعتباره معطى أساسيا يعزز ويحصر شروط المؤنث في صفات جسدية تحل فيه لفترة زمنية معينة، أي مع البلوغ، وتغادره مع سن اليأس لتدخل الأنثى في مرحلة اللاهوية، يقول النسق الثقافي على لسان ابن عبد ربه بن محمد الأندلسي:"وآخر المرأة شر من أوله، يذهب جمالها ويذرب لسانها وتعقُم رحمها ويسوء خلقها"([3])، فبعد سن اليأس لا يرى النسق الثقافي العربي في عالم المرأة إلا عالما يقف عن الدوران، الشيء الذي دفع المرأة إلى الانشغال المرضي بتمديد هذا الزمن حتى تنال رضى الثقافة والنسق، وبالتالي الرضى عن نفسها من خلال ذلك، فتوسلت بالجمال الاصطناعي من زينة ولباس وعطور، ومن وسائل أخرى كشفط الدهون والتنحيف والرياضة، أما المرأة الكاتبة فقد تجمّلت باللغة والثقافة للإعلان عن نفسها بالمعنى والسياق.
وقد عمل الإشهار ايضا على إبراز واستعادة القيم المجتمعية وتخزينها في الوعي الجمعي لجمهور المتلقين والتركيز على الصفات الخاصة بكل جنس، فوصف الذكور بالجنس الخشن، في حين وصف النساء بالجنس اللطيف، وبذلك ساهم الإشهار في شيوع التداول الثقافي للمؤنث الصناعي استجابة للصورة الثقافية التي تحيط به، مستعينا في عملية التحويل هاته بالتطور الصناعي واستخدام اختراعاته التجميلية كوسائط ثقافية للتمويه على القيم الذكورية التي تتنكر لجسد الأنثى (الصبية والكهلة..)، ففي الدولة الأموية كان النخاسون يلجؤون إلى الحيلة والتدليس في إخفاء عيوب الإماء بما أن المشتري المُتفرِّس يقلب الإماء بنظره الثاقب كأي سلعة :"فيعمدون إلى تغيير البشرة فيُحيلون السمراء إلى ذهبية اللون، ويحيلون الدربة إلى بيضاء ويحمرون الخذود المصفرة، ويجعدون الشعور السبطة ويبسطون الشعور المجعدة، ويسمنون الأعضاء الهزيلة، وينعِّمون الأطراف الخشنة، ويزيلون مافي الوجه من آثار الجدري والنمش والوشم والكلف، ويجلون الأسنان، ويخضِّبون البرص، ويطيبون الفم والجسد ويفعلون ماهو أكثر من ذلك، فيجعلون الثيب بكرا، ويخفون الحمل ويغيرون زرقة العين لتصير كحلاء"([4]) فمثلا كان الجسد الأنثوي في التمثلات السابقة أبيض البشرة، وهو الآن ذهبي dorée ومُعتنى بجماليته، وقد حولت الملابس وأنظمة الحمية واختراعات التجميل الصناعية الكهلات إلى إناث يحيطهن الإغراء والمعجبين.
2ـ الجسد الأنثوي كائن لغوي.
لقد كان شهر ماي من سنة 1968 م بداية لمرحلة وُصفت بأنها مرحلة من أجل الجسد، رفعت فيه سيمون دي بوفوار شعارها التاريخي عندما صرخت بأن: "هذا الجسد جسدنا ونحن نريد أن نسكنه بحق ونتصرف به بحرية"، وقد جعلت هذه المرحلة من الجسد أحد وسائطها الرسمية لتخطّي العديد من القيود والتراتبيات الرمزية، ولم يكن من سبب لتحرير الجسد المهان سوى تحرره ليصبح شريكا غير مرتقب لتطور الذات، فمع تطور فعل تحرير الجسد داخل فضاءات ثقافية وعاطفية، تولدت الرغبة في نسج مفاهيم عامة لوصف جديد حياة المرأة: "فتحقق الجسد كمحك للتطور وليس بتاتا شيء خاضع للتحرير، لكنه أصبح الوسيلة ذاتها للتحرر وواسط بين الأنا المتناهي واللامتناهي الأعلى"([5]).
إن أهمية الجسد باعتباره كائنا لغويا، تلخصها إشكالية البحث التي تتمحور حول خصوصيات الكتابة بالجسد الأنثوي كخطاب ينتج لغته الخاصة للتعبير عن هموم ووضعية المرأة على المستوى الأدبي، فللكاتبة عالمها الخاص داخل الخطاب الرمزي الذي يحتاج منا فقط مفتاح الإصغاء إلى صوتها المتميز .
إن الجسد الأنثوي خطاب يتلقاه المتلقي باعتباره ذاتا خارج القيم، مستعملا خلال القراءة المنطق الذكوري الذي يشكل مركزا أساسيا للعنف الرمزي، وإذ يعيش متخيل المرأة هذا التعدد التأويلي، يعيش الجسد الأنثوي بين الحجم الثقافي والمعطى الوظيفي، فالجسد كلٌّ وأجزاء، فالجزء عند المتلقي يحيل على الكل، والكل يقوم بدوره في تطعيم الصورة الذهنية التي توحي بالكل من خلال الجزء.
قد تضع المرأة جسدها في مواجهة المؤسسات، فتجعله أكثر جدبا وإغراء لتسهيل تبادله، وهذا يجعلها تولي جسدها العناية الفائقة وتحوله إلى الرغبة، ولو أنها لاتتمكّن من تحقيق رغبتها الذاتية، فالرغبة ليست مستقلة ولا تنبع من ذواتنا، بل تثيرها في أنفسنا رغبة شخص آخر، لأن الرغبة قضية يستلزمها السياق الرمزي الذي ينتظم داخله المجتمع الذي تعيش فيه المرأة، والتي تختار الانمحاء الوجودي كي تكتب جسدها من الداخل، وتعمل على إظهاره بأشكال مختلفة من الخارج.
إن كتابة الجسد الأنثوي تفضح المركزية الذكورية في كل أشكالها المادية والأيديولوجية المختفية باستمرار داخل اللغة التي أحكمت خناق الذات الأنثوية.
إن التركيز على إشكالية اللغة باعتبارها مسكنا للاختلافات ستكون من بين الإضافات التي تُضاء بها الذهنية الثقافية لمجتمع العربية ، كما أن جعل الجسد المؤنث احتفالا بلاغيا تؤكد فيه الثقافة الذكورية مهارتها الإبداعية اللغوية، فما زالت المرأة المعاصرة داخل الخطاب الذكوري رهينة الممارسات المُخاتلة: " فالجسد قد يكشف ما تخفيه اللفظة، ويعبر بطريقة غير مباشرة بل وهو أهم وسيلة من الوسائل غير المباشرة في التعبير. وتعبيره أقدم تعبير، والتعبير الذي يتجاوز كل لغة تشترك فيه لغات العالم، لأنه كلام حي عضوي معيوش ومنقوش في اللحم والعضم. يعني ذلك أن اللاوعي، أو ما هو قريب من هذا المصطلح، مسجل في الجسد"([6])، لكن يبقى هذا الجسد وبدون وعيه لذاته قابل لأن يهان إلى الأبد في الخطاب قبل الواقع.
فحيث يُنَشّْط الإسطير اللغوي هيمنة الرجال على النساء يتكفل الحفر اللغوي بمساعد النساء على برمجة انسلالهن من مواصفات النسق وتكسير مركزية النص الأدبي، يقول خليل عبد الكريم ،"على فهم الاسطير الفهم الأمثل وعلى تفسير كلياته التفسير الأصح وأن التغاضي عن هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الموضوعية لن يزيد الأمور إلا خطلا وربكا"([7]). فدراسة اللغة في المجتمع ومعرفة الإطار الثقافي الذي يهين المرأة يتحدد أساسا بالنشاط العام الذي تمارسه المرأة داخل المجتمع، وقد أكد رواد علم الاجتماع اللغويsociolinguistique))أن التطور الثقافي يحدث تغيرا في دلالة الألفاظ وحيويتها التوليدية، ولهذا أعتبر السياق اللغوي- الاجتماعي الذي يحيط بالمرأة في مجتمعنا متغيرا وازنا لا بد من إدراكه ومساءلته.
وقد قاربت مارينا ياغيلو Marina Yaguello الوضعية السوسيو- لسانية للغة النساء، فاستندت على الحقل الأيديولوجي، وركزت على متغير الوضعية النسائية أكثر من الجنس، حيث تبنت وجهة النظر الاجتماعية عوض وجهة النظر البيو-نفسية المعتمدة على الطبيعة الأنثوية وأبدية الأنثوي، كما أكدت في كتابها" Les mots et les femmes" وعبر تساؤل قوي ودال عنونت به الفصل الخامس من الجزء الثاني قالت فيه "أيجب إحراق القواميس"([8]).
حيث أبرزت البُعد الكوني للغة في تصنيفها للمرأة وتأبيد اضطهادها، وهي تحيل في سياقاتها المتنوعة على ذاكرة دلالية واحدة تتجسد في القوة المرتبطة بما هو مذكر، وعلى اللين والسهولة المرتبطة بكلمة "أنثى"، ويظهر الاختلاف الجنسي معها كعامل ملتصق أكثر بالحقل السوسيو- ثقافي والذي تنعكس فيه اللغة كنسق سيميوطيقي، وهي من خلال بنيتها ولعبة تدليلها connotation تشبه مرآة ثقافية تعمل على تثبيت التمثلات الرمزية لخلق المرجعيات النمطية التي تعمل على تغذية تلك التمثلات بخصائص استمرارها وحضورها، يقول كريستيان بايلون في هذا الشأن: "إن الخطاب النسائي كتحقيق للنسق التحتي للغة المشتركة كثيرا ما يُعرض كخصائص للمجتمعات البطريركية والبدائية، وهي تعرض كذلك كأساس للتابو"([9]).
- فإلى أي حد تخلصت المرأة الكاتبة من سطوة النسق الاجتماعي واللغوي والثقافي في خلق سلوكها اللغوي الخاص؟
- وهل ساعدت كتابة الجسد الأنثوي في تنشيط الحفر اللغوي؟
- هل لكل من الرجل والمرأة علاقة مختلفة مع اللغة؟
- كيف تتحدث النساء بينهن؟ وكيف نتحدث معهن؟
- كيف نتحدث عنهن؟
- ما هي صورة المرأة التي تعكسها اللغة ؟
لقد ساهم الجسد في الإجابة على معظم التساؤلات، كما ساهم في بناء المفهوم الحقيقي للتذكير والتأنيث، حيث تحول بوساطته اعتبار الجسد الأنثوي قيمة طبيعية ذات جوهر ثابت بيولوجيا إلى مفهوم ثقافي، ومن ذلك أصبح الجسد الأنثوي كائنا لغويا يناقض التصور الذهني الذكوري المنغرس في الوجدان الثقافي والذي يقدم الأنثى باعتبارها كائنا غير لغوي ويصفها فقط بالجسد الشهي ذي قيمة خرساء، ذلك النسق في المجتمع العربي يعتبر بمثابة شرط وجودي وثقافي، الخروج عليه تفقد معه الأنثى موقعها المؤنث، (لقد نطق صمت الأنثى عند الفقهاء واعتبروه ردا إيجابيا في مسألة الخطبة والزواج)، ولهذا لم يكن العقل العربي البطريركي ينتظر من أي كاتب يحمل جسدا أنثويا أن يبدع عبر اللغة، فالرجل فيه جسد وعقل والمرأة جسد وشهوة، ولذلك جعل من فصاحة المرأة سلاطة لسان وثرثرة، يقول محمد عبد الله الغدّامي في هذا الشأن: "أما لماذا يجري تفريغ الجسد المؤنث من اللغة وعزله عن الفعل والتفاعل اللغوي، فهذا عائد إلى التصور الثقافي الذي يرى أن جسد المرأة خال من العقل وهذا تصور عالمي، ونقرأ لدى الدنمركيين هذا المثل: (للنساء فساتين طويلة وأفكار قصيرة)"([10]).
كما نجد بالمثل الانجليزي نفس التصور يقول المثل:(الفتيات لكي تنظر إليهن وليس لتسمعهن).
أما بالعالم العربي فتعتبر حكايا ألف ليلة وليلة خير مثال على التمثيل الثقافي الذي ساد قبلها، واستمر حاضرا في المخيال العربي على المستوى اللغوي بعدها، فالمرأة تقول للمرأة عبر المتن السردي هذه الجملة التي تبتدئ بها سلسلة النصائح التي توجه للفتاة وهي تدخل عالم الرجل (وما خلقت النساء إلا للرجال)، هذه الجملة التي توهم بأصلها الديني، وبمحتوى قصة الخلق التي جاءت على الصيغة التوراتية.
3ـ التمثل اللغوي للجسد الأنثوي.
احتفت الكتابة الأدبية النسائية بالجسد ومن خلال تركيزها على هذه التيمة، اعتُبر جسد المرأة محورا تتمركز حوله اشتغالات النقد الأدبي النسائي الذي انتقل من حركات النساء المطالبة بالمساواة والتحرر إلى مواكبة وإبراز الموروث الأدبي الأنثوي، وإدخاله إلى المؤسسة الأدبية والنقدية، وإذ يشكل الجسد في التمثلات التخيلية الشعرية والروائية والقصصية مكانة متميزة، لايمكن بتاتا اختزال كينونة المرأة في الجسد فقط، دون إغفال عالمها النفسي والشعوري والعقلي والاجتماعي، وإلا تحول الجسد إلى بضاعة يتعمق معها الإقصاء الثقافي، وتستجيب المرأة له بشكل لا شعوري، وتسعى للاحتفال بجسدها بوصفه حاملا للذة، وترى نفسها جسدا مثيرا فقط.
يحتوي الأدب النسائي على مدخلات للجسد باعتباره بؤرة لتجلّي الدلالات وقاعدة للمعنى في حالة تجاذب مع المحيط الخارجي الطبيعي والثقافي الذي أنشأه، فأصبح عبور المرأة لعالم الفن/الكتابة، محاولة للتواجد كجسد، وبذلك أنتجت المرأة الكاتبة جسدا لغويا كشف دواخلها وأعماقها النفسية، مع العلم أن ما تكتبه المرأة يبقى دائما هو المُعَبِّر الأساسي عن كينونة نسائية ضمن وضع مشمول بالضغط الاجتماعي والثقافي، شكّل نظرا لقوته بنية ونسقا، تحدد معه مسبقا الدور الذي سيلعبه كلا الجنسين، حيث لا يمكن للكتابة بالجسد الأنثوي أن تكون إلا ناطقا رسميا عن تلك الكينونة خارج منطق الجبرية البيولوجية التي تعتمد التكوين الجنسي معيارا للقيم الثقافية. ويرتبط الجسد الأنثوي باعتباره واقعة ثقافية بالخطاب اللغوي بكل تنوعاته، إذ هي وسائله المثلى في التعبير عن عمقه الوجودي والتنفيس عما يحسه ويفكر به.
إن الكلام والسرد خصوصا بدأ ينصاع للمؤنث، وتمكنت المرأة في الآونة الأخيرة من استدعاء الكلمات وآليات التعبير التي هيمن عليها "المذكر"، بما هو حامل لسياق ثقافي تاريخي مشمول بالمنطق الذكوري. ولقد عانت المرأة في السابق من غطرسة هذا السياق الثقافي اللغوي الذي كان يؤول لغة المرأة وخطابها، إلى استنطاق ذاتي مملوء بالاعترافات. فحتى التقسيم إلى مملكتين: مملكة الرجل ومملكة المرأة والمحصورة أساسا في تباين الفضاءات التي يتحركون فيها، لا يمكنها أن تعبر إلا عن عقلية ذكورية تضيف المرأة إلى ممتلكات الرجل.
فجسد الأنثى يتمثل في الخطاب اللغوي، وينقسم إلى مناطق حساسة وتمفصلات دلالية تحيل على اللذة والرغبة، وبذلك ترسخ بالنسق الثقافي معجم يحجب عن الأنثى ما يبيحه للذكر، فلغة العربي مثلا ينظر لها على أنها من ضمن خطاب حريمي وفضاء مغلوق لا تلجه المرأة إلا إذا كانت مخترقة للنظام الثقافي السائد. ولذلك لا تجد النساء بدا من التماهي مع الخطاب العام للتعبير عن أنفسهن، بالرغم من أن هناك تمفصلات مورفولوجية بقيت حبيسة خطاب الذكر، حيث لا تجد النساء في اللغة حاجتهن في الوصف والتعبير:" فأفضل وسيلة للبرهنة على أن مفردات [كثيرة] تعوزنا وأن اللغة الفرنسية لم توجد من أجل النساء، هي النزول إلى أسفل جسدنا والتعبير عن اللامعبر عنه واستعمال المعجم، كما هو من غير تورية ولا تعديل"([11]). غير أن اللغة بوصفها نظاما لغويا، تتصف بالبراءة من التحيُّز ضد المرأة.
أخيرا:
صحيح أن الرجل استحوذ على اللغة بسبب الترتيب الذي أقره المجتمع بأفضلية الذكر وتقديمه في اللفظ وفقا لعُرف خارج عن نظام اللغة، تلك التي حمَّلها بالمضامين التفضيلية للذكر على الأنثى واتخذها أداة للإيحاء بأنه السيد/المركز، وهي التابع/الهامش، وحاول إقناعها بشتى الطرق بذلك محتميا بالحتميات البيولوجية التي أعاد تأويلها اجتماعيا، لكن اللغة بوصفها نظاما لغويا، لم تخضع لهذا التحكم حيث حافظت على العناصر الأساسية التي تجعل استخدام اللغة صالحا في التعبير والاتصال لكلا الجنسين.
مراجع البحث
[1] - الغدّامي محمد عبد الله، "المرأة واللغة-2- ثقافة الوهم..مقاربة حول المرأة والجسد واللغة"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، سنة 1998،ص : 53.
[2] - ثقافة الوهم ، نفس المرجع السابق ، ص: 56.
[3] - ابن عبد ربه أحمد بن محمد الأندلسي، " طبائع النساء وما جاء فيها من عجائب وغرائب وأخبار وأسرار "، ترجمة وتحقيق محمد إبراهيم سليم ، منشورات مكتبة ابن سينا، الطبعة الأولى، سنة: 1998، ص: 163.
[4] - الترمانيني عبد السلام،" الرق ماضيه وحاضره" عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الثانية، عدد 23 ، أبريل 1985 ، ص: 87.
[5] - Ysé tardan – masquelier « les chemins du corps », aix –les- bains, albin michel, 1995, p : 12.
[6] - علي زيعور" تأويل لغة الجسد داخل اللاوعي الثقافي العربي" مجلة الفكر العربي المعاصر" عدد 54-55 ، يوليوز وغشت سنة 1988، ص: 68.
[7] - خليل عبد الكريم " العرب والمرأة ، حفرية في الاسطير المخيم" الانتشار العربي وسينا للنشر سنة: 1997، ص: 238.
[8] - Yaguello (marina) « les mots et les femmes, Essai d’approche sociolinguistique de la condition féminine»Petite bibliothèque Payot, Paris, 1978, p : 209
[9] - Christian Baylon « sociolinguistique , société,langue, et discours, Nathan Université, deuxième édition ; 1996, p :120.
[10]- الغدامي محمد عبد الله" المرأة واللغة-2- ثقافة الوهم مقاربة حول المرأة والجسد واللغة" نفس المرجع السابق، ص: 66.
[11] - مجلة علامات، نفس المرجع السابق، ص: 119.
commenter cet article …