قيمة النظرية الفلسفية ليست في موضوعها بل في قوة تبريرها بيروت- جورج جحا: على رغم الثراء في سعة اطلاع الكاتب وتبحره في موضوعه فقد يصل القارىء إلى نتيجة هي أنه أمام عمل تطغى فيه قوة بلاغية وكتابة شبه شعرية جميلة على الصلب الفكري للموضوع ولربما شعر هذا القارىء بأنه إزاء غرابة في التعبير اللغوي وبأنه يسعى إلى فهم دقيق هنا وهناك فلا يوفق في ذلك. وفي أحيان ليست بالقليلة يفرض تساؤل نفسه علينا وهو هل نحن أمام إضافة فكرية فلسفية أم أمام شرح وإعادة إخراج جديدة لقديم.. ولجديد في الزمن نسبيا لكنه بات معروفا لذوي الاهتمام. وقد يجرنا الأمر إلى تساؤل آخر هو.. إذا كان من الصعب جدا بل من المستحيل توحيد "لغة" الناس العاديين فما الذي يمنع أوساطا فكرية في المجالات الفلسفية والنقدية الأدبية مثلا من أمر ليس صعبا جدا كتوحيد أو تقريب بعض "عدّة" شغلهم أو المصطلحات المعتمدة في هذا الشغل. تلك المتعة التي يشعر بها القارىء إزاء نص الدكتور عمارة ناصر قد لا تكون كافية فيجب أن تنقى من تلك الحيرة التي ربما شعر بها هذا القارىء. وإذا كان ثمة "ذنب" في الأمر فهو ليس ذنب الدكتور عمارة ناصر. فالواقع أننا نواجه أحيانا شيئا من هذا القبيل في قراءة بعض نصوص كتاب وباحثين من المغرب العربي بشكل خاص. فما يكون عاديا في تعبيرهم ربما بدا لقارىء من المشرق العربي على شيء من الغموض. وإزاء بعض هذه الكتابات كثيرا ما يتردد قول وإن في صيغ مختلفة مؤداه هو "كأنني اقرأ كلاما مترجما". أما كتاب الباحث الجزائري عمارة ناصر فعنوانه "الفلسفة والبلاغة.. مقاربة حجاجية للخطاب الفلسفي" وقد صدر في 180 صفحة عن "منشورات الاختلاف "في الجزائر العاصمة و"الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت. أما الحجاجية فسنصل في مجال آخر إلى فهم المقصود بها أي إلى الصفحة 86 من الكتاب. والأرجح أن القاريء حتى ذا الإلمام الفلسفي الكافي سيتكل على تكهنه وتحليله لبعض المقصود ليقرر أن هذا المصطلح يعني -كما يبدو- ما ألف أن يفهمه من مصطلح "الجدلية" أو ما يشبه ذلك. وأحيانا نتساءل -والفلسفة شأن العلم تفرض الدقة- عما يعنيه هذا المصطلح أو ذاك التعبير بالتحديد كي لا يترك الأمر مجالا "للايحاءات" المختلفة فهذا وإن كان جميلا في الشعر والأدب عامة يحمل مأخذا على العلمي والفلسفي. نبدأ من بداية مقدمة الكتاب فنقرأ الدكتور ناصر في قوله "تتجه العقلانية الفلسفية المعاصرة بتأثير التداوليات اللغوية إلى مقاربة الحقل العملي وإشكالياته. ومنذ "البلاغة الجديدة" التي بشر بها شايم "حاييم.." بيرلمان ودرسه الحجاجي تم فهم هذه العقلانية كعقلانيات لها أداءاتها المنتظمة داخل اللغة الطبيعية التي تمتلك منطقها الداخلي وسلوكها الحجاجي... "فالامكانات الاستدلالية والبلاغية التي تمتلكها اللغة تشكل مكونا خطابيا للفلسفة إلى جانب التداول المفهومي والاقتراب الاشكالي وبهذا ظهر أن المنظور البلاغي للحقيقة يسمح بفهم أفضل لوظيفة الفلسفة كخطاب عقلاني مترتبط بمخاطب كوني". وعلى سعة ثقافة الكاتب وأسلوبه الحي فقد نجد أنفسنا في وضع مشابه لحالات معينة من التعبير نسعى إلى قراءة كلام ما فنكتشف أن علينا فهمه أولا قبل أن نستطيع قراءته.. لا قراءته كي نفهمه كما هو مفروض. في الصفحة 86 كما ذكرنا يتحدث الدكتور ناصر ببلاغة بينة عن الحجاجية فيقول "يعتبر المنطق "الحجة" بنية صناعية يعتد بها للبرهنة اي يمكن عزلها أو تنصيبها داخل الخطاب ومنه يمكن التمييز بين نوعين من الخطاب.. خطاب حجاجي يشتمل على مجموعة من الحجج يمكن تمييزها وعزلها وخطاب غير حجاجي لا يتضمن على أية حجة ظاهرة يكمن استخراجها ويمكن وصفه بالخطاب الفقير للتهافت والتقويض والانهيار". أضاف مستندا إلى كلام لليونيل روبي أن لكلمة حجة "عدة معان. فالحجة هي نقاش أو جدل نحاول من خلاله التغلب على الخصم ونبرهن على أنه مخطىء أو هي السبب في اثبات قضية ما أو دحضها فهي عنصر أساسي لكل ما هو عقلاني... "الحجة" خطاب يحتوي على استدلال وهو جوهر المنطق نفسه...". في ختام الكتاب يصل الدكتور عمارة ناصر إلى القول بأسلوبه الشيق أدبيا أن "مبررات الفلسفة كضرورة بالنسبة للحياة الاجتماعية والمسيرة العملية هي مبررات المطالب الاجتماعية نفسها التي تجتمع فيها بصفة غير قابلة للذوبان أو الانفصال أبعاد انسانية جمالية وأخلاقية دينية...". ويختم بما يذكرنا بقول مألوف هو أن أهمية الفلسفة ليست فقط في ما تقدم من أجوبة بل في ما تطرحه من أسئلة أيضا. يقول الكاتب "وبهذا اتضح أن قيمة النظرية الفلسفية ليست في قيمة الموضوع بل في قوة تبريرها لطرحها له". Alarab Online |