Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
24 novembre 2021 3 24 /11 /novembre /2021 14:17
  المقدس الديني بين احتكار النص و وهم امتلاك السلطة الإلهية

           المقدس الديني بين احتكار النص و وهم امتلاك السلطة الإلهية. 

                                                                                                           بقلم: دة. جوهرة القدس عكية   

           إن الدين كلمة عامة تشمل كل ملة يدان بها، يعني وبشكل متبادل الإيمان، ويعرف عادة بأنه الاعتقاد المرتبط بما فوق الطبيعة، وبالأخلاق، والممارسات، إذ يعرفه البعض بالمجموع العام للإجابات التي تفسر علاقة الإنسان بالكون. وعبر مسار تطور الأديان اتخذ الدين عدة أنماط وتمظهرات في ثقافات مختلفة. وفي المعاجم العربية ينطوي جذر "د.ي.ن" على دلالات قوية تؤشر على الخضوع والذل. فالدين من دان يدين دينا وديانة، أي خضع وذل، ودان بكذا فهي ديانة وهو دين، وتدين به فهو متدين. وفي اللغة نقول: دانه دينا، أي ملكه، وحكمه، وساسه، ودبره، وحاسبه، فيتخذ هنا معنى المحاسبة والجزاء، ومنه قوله تعالى "ملك يوم الدين"، أي يوم الحساب. والدين إذا أطلق يراد به؛ ما يتدين به الرجل، ويدين به من اعتقاد، وبمعنى آخر هو طاعة المرء والتزامه لما يعتنقه من أفكار ومبادئ. وعلى هذا الأساس، فكلمة الدين تحيل على وجود علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر ويخضع له "فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرا وسلطانا وحكما وإلزاما، وإذا نظر إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت كلمة الدين هي الدستور المنظم لتلك العلاقة أو المظهر الذي يعبر عنها"(1). ووفق هذا التحديد، فالدين هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء بشكل نظري أو علمي.

           وبغض النظر عن طبيعة الدين إذا كان صادرا عن وحي أو عن غير وحي، وثني، أو سماوي، فإنه يستند إلى موقف معين من القيم الدينية بعامة، وقيمة القداسة بخاصة. ومتى عرف الإنسان المؤمن التدرج من منزلة الدنيوي إلى منزلة أخرى أسمى منها، كان التزامه قويا. ويتمظهر ذلك في الطقوس والشعائر التي يؤديها، أو من خلال المعاملات التي يقيمها مع بني جنسه. فالدين هو" الاعتقاد بوجود ذات غيبية علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشؤون التي تعني الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد، وبعبارة موجزة هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة"(2). إن هذا التعريف وإن كان واضح الدلالة، إلا أنه يستثني الأديان الوضعية التي لا تعتقد بذات غيبية علوية، والتي نشأت دون أن يكون لها في تعاليمها الأولى أدنى اعتقاد بوجود هاته الذات العليا.  

           ومهما يكن من أمر، فالدين هو مجموع العقائد والعبادات والأحكام التي شرعها الله لعباده لتنظيم علاقتهم بربهم وعلاقتهم ببعضهم البعض. ولإقامة الدين شرع الله الأركان الخمس، ولأجل الحفاظ عليه شرع الله الجهاد في سبيله، ونهى عن الابتداع في الدين.

في علاقة المقدس بالديني :

           مما لا شك فيه أن الدين بما هو قيم أخلاقية وروحية، شكل عنصر استقطاب وتميز عبر التاريخ البشري، فقد لعب دورا مفصليا في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحذها، غير أن هذا الدور الطلائعي للدين كان له بالغ الأثر في نفوس معتنقيه، مما يكنوه من قدسية واحترام نابعين من تسليمهم المطلق بالرموز المقدسة إيمانا وتبجيلا ودفاعا عنها حتى الاستشهاد. ولئن كنا "لا نعايش المقدس إلا رمزيا، فإنه يتحول في ذاته إلى قوة فعالة، ويصاحب العلاقات الإنسانية في حركتها الدائبة دون توقف"(3)، ذلك أن ترميز المعايشة

مع المقدس هو ما يجعل منه قوة يصعب اختراقها. فاستحضار المقدس لم يكن قط مغيبا عن الحياة الاجتماعية، فأينما يممنا إلا ونجد الدين أو بعضا من رموزه حاضرة في معيشنا اليومي، "إن الرب يتغلغل في نسيج حياتنا ويشكل عنصرا محوريا في نمط تفكيرنا وعقلنا وشعورنا الواعي وغير الواعي، وإنه معنا في اليقظة وفي المنام، في البيت وفي العمل، في التجارة وفي السياسة، في سلوكنا الخير وفي سلوكنا الشرير؛ إنه بشكل آخر اللازمة التي تميز عقلنا العربي الإسلامي من غيره"(4). وعلى هذا الأساس، يتم حصر مظاهر التقديس على أساسيات الإسلام التي لا خلاف عليها، فالدين ليس ربا يعبد ولا نصا يحفظ، وإنما هذا الإنسان الذي من أجله وجد الدين ليرفعه من دركات الدنيوي إلى أسمى درجات الكمال المحقق لوجوده، والمتماشي وجوهر الإسلام.                                                                                      إن قدسية المقدس تستمد من قدرته على خدمة الإنسان والمجتمع بشكل لا يتناقض وروح الدين وقيمه السامية، ذلك أن الدين ظل لعقود طويلة مجالا مقدسا وطابوها لا يمكن الخوض فيه، بل وحكرا على الفقهاء والأئمة والعلماء ممن يرون في أنفسهم الأهلية لفهم الدين وتفسيره، وتوظيفه أحيانا وفق ما يخدم أغراض المؤسسة الفقهية ومصالح السلطة الحاكمة،

الشيء الذي حال دون الفهم الحقيقي للدين وإدراك معانيه العميقة. ولئن كان الدين سابقا على قيام المؤسسة الفقهية ونزول الكتب المقدسة، مصداقا لقوله تعالى "سورة الشورى، الآية: 13"(6). فالدين ليس فقها يتلقاه الإنسان من فقيه أو عالم أو شيخ أو إمام، بل فطرة جبل الإنسان عليها، ورسالة عمل الأنبياء على تبليغها بالدعوة إلى عبادة الله الأحد، وعدم الشرك به، والإيمان بجميع الرسل والكتب المنزلة. وإذا كان الدين الإسلامي قد آخى بين جميع المسلمين، وجمع كلمتهم، وأنقذهم من ظلمات الجهالة وهداهم إلى طريق الرشاد، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فلأنه خلافا للديانات السماوية السابقة دين كوني متكامل. فهو لم يشرع العبادات والعقائد فحسب، بل لم يدع جانبا من جوانب السلوك والأخلاق الرفيعة إلا شرعه.

           ومن ثم، فإن المقدس ليس حكرا على الدين فحسب - حتى وإن كانت جذوره دينية - وإنما يمتد إلى مجالات غير دينية في أساسها، فهو يتجلى في العادات اليومية، والتقاليد، والأعراف، والموروث الثقافي والفني، والعلاقات الأسرية، ومختلف أنماط السلوك الاجتماعي.

في تعالق الديني بالسياسي : قضية الخلافة والإمامة في الإسلام .

 

          إن قضية الخلافة وأسلوب الحكم من القضايا الشائكة على امتداد التاريخ الإسلامي، وهي مثار جدل شديد وصراع مرير، ابتدأ منذ وفاة الرسول - وقبل أن يوارى جثمانه الثرى- واستمر إلى نهاية الخلافة الإسلامية على عهد العثمانيين في القرن الرابع عشر الهجري. لقد تشكلت أولى ملامح الأزمة على إثر وفاة الرسول، فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لترشيح من يتولى إمارتهم، وإدارة شؤون المسلمين. وتضاربت الآراء بين من ارتأى مبايعة سعد بن عبادة كبير الخزرج أميرا على المسلمين، أو توزيع السلطة بين أمير قرشي من المهاجرين وأمير من الأنصار. وعلى الطرف النقيض أصر المهاجرون ممن وجدوا في السقيفة على وحدة الإمارة تعبيرا عن وحدة الأمة، حيث صرح عمر بن الخطاب ردا على الحباب بن المنذر الأنصاري قائلا: "منا أمير ومنكم أمير، هيهات أن يجتمع اثنان في قرن"، وفي رواية أخرى: " لا يجتمع سيفان في غمد". وبعد أخذ و رد أسفر اجتماع السقيفة على توافق بين المجتمعين، وتأكيد مبدأ الشورى الذي حث عليه الشرع الإسلامي في كتاب الله وسنة رسوله، واستقرار البيعة على أبي بكر الذي آلت إليه الخلافة في نهاية المطاف.

           وعلى هذا الأساس، ثار الجدل حول وجوب الخلافة بين فريق يوجبها بالعقل دون الشرع، وآخر يقر بوجوبها بالشرع دون العقل " لأن الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزا في العقل أن لا يرد التعبد بها، فلم يكن العقل موجبا لها، وإنما أوجب العقل أن يمنع كل واحد نفسه من العقلاء عن التظالم ... ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليه في الدين"(7). غير أن هناك من يرى الخلافة أو إمارة المسلمين واحبة بالشرع وبالعقل، إذ لا يقام الدين إلا بها، ومصالح الناس وأمور دنياهم متوقفة عليها، فالأصل في وضعها خلفة النبي وحراسة الدين وسياسة الدنيا.

           إن مبدأ الشورى الذي يتأسس عليه اختيار الخليفة، مورس خلال اجتماع السقيفة وتولية أبي بكر. وعلى أساس الشورى أيضا جاءت خلافة عمر بن الخطاب كاستمرار لخلافة أبي بكر، فقد سمى أبو بكر عمرا خليفة له قبيل موته وتمت له البيعة، غير أن هذا النهج الذي اعتمد في تولية الخلفاء بعد الرسول سيتم استخدامه في حكم الأمويين بنوع من التجاوز والشطط في تحويل الخلافة إلى ملك، وتوريثها من خلال تسمية ولي العهد في حياة الخليفة، إذ "الثابت أن الحكومة الأموية نظام وراثي ملكي أبعد ما يكون عن الديموقراطية، والتعصب للعنصر العربي وإيثاره على بقية العناصر الإسلامية الأخرى"(8). فنظام الشورى الديموقراطي باعتباره أساس الحكم والسياسة يتنافى وتقويض الخلافة، غير أنه ورغم ما شاب النظام السياسي من تجاوزات، فإن المسلمين رضخوا للوضع الجديد تحت ضغط عاملين اثنين: أولهما الحرص على تحصين وحدة الأمة وتجاوز أجواء الفتن والحروب وحقنا للدماء، وثانيهما هيمنة بطش السلطان وانتشار الخوف من سطوته.

           و باستعراضنا لفصول وأطوار الخلافة الإسلامية تستوقفنا مسألة أساس في عهد عمر بن الخطاب ترتبط بالانتقال من تسمية منصب الخلافة إلى إمارة المؤمنين، وهي تسمية تحمل مدلولا أدق لطبيعة علاقة هذا المنصب بالمؤمنين وشؤونهم ومصالحهم باعتبارهم أتباع الدولة الإسلامية، وأن الحاكم المسلم يستمد شرعيته من هؤلاء المؤمنين. كما أنه، وإلى حدود منتصف القرن الأول الهجري، شهدت قضية الخلافة أزهى مراحلها، غير أنها عرفت خلال نفس الفترة الفتنة الكبرى عقب مصرع الخليفة عثمان بن عفان وامتدت إلى مقتل الحسين بن علي. وفي هذا الصدد يقول الشهرستاني: " إن أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة"(9). وفي اعتقادنا، فإن الخلاف بين مكونات المجتمع الإسلامي وقادتهم حول الإمامة كان طبيعيا بحكم أهمية وخطورة هذا المنصب الذي يستظل بظل الدين. وبالمقابل تختلف نظرة الشيعة إلى الإمامة اختلافا جذريا عن التي لدى أهل السنة، فالشيعة تقول "إن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها"(10)، وهي بذلك تصبح ركنا من أركان الدين " إلى جانب الصلاة والزكاة والصوم والحج تكون فرائض الله الخمس "(11)، بل كالنبوة التي يودعها الله من يشاء من خلقه، والإمام كالنبي معصوم من الخطأ والذنوب، منزه عن كل النقائص والعيوب، متصف بصفات الكمال. وإذا كانت هذه هي صفات الإمام في اعتقاد الشيعة فطاعته واجبة، والخروج عنه مروق وكفر وخروج عن الدين، ذلك أن الأئمة " هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وأنهم الشهداء على الناس، وأنهم أبواب الله والسبيل إليه "(12)

           هكذا، كان لزاما تحديد الفرق بين معنى الإمامة عند الشيعة، ومعناها عند أهل السنة الذي يتطابق مع الخلافة، هذا الفرق الذي تحدده طبيعة الإمامة؛ الإمامة الاثني عشرية نسبة إلى أئمة الشيعة الاثني عشر، والإمامة التي تفيد الخلافة، أي استخلاف النبوة وحراسة الدين وتطبيق الشرع، وسياسة شؤون المسلمين ورعاية مصالحهم وأمور دنياهم.  

في تجاذبات النص الديني وتدفق الصراع السياسي :

           في البناء التشكيلي للسلطة أو نظام الحكم في الإسلام يبرز بشكل، أو بآخر، ذلك الجدل القائم بين القرآن والواقع السياسي الديني الذي أتى بعده، فالواقع السياسي الديني أضفى على النص القرآني وخاصة في قضية السلطة أبعادا تأويلية جديدة ودخيلة عما كانت في وقت التنزيل، فقد انبرت كل طائفة من طوائف الصراع المتمخض عن الفتنة، خاصة الشيعة وأهل السنة، إلى تأويل آي القرآن بشكل يتطابق ويتماشى وتمثلاتها، بل ويزكي نظريتها السياسية في السلطة، متخلية عن حقيقة "السكوت القرآني" فيما يرتبط بهذه القضية. وفي سكوت القرآن ما يفيد أن السلطة في الإسلام لم تتشكل من خلال النص، وإنما تشكلت من خلال التاريخ، بل الأكثر من ذلك ما لعبه تاريخ السلطة من دور جوهري في تشكيل النص. "لقد فعلت السلطة كثيرا في التاريخ، وفعل التاريخ كثيرا في العقل، وبشكل مباشر وغير مباشر، صار العقل المسلم أسير الفعلين كليهما، لفعل السلطة في التاريخ أي لتاريخ السلطة، ولفعل التاريخ في العقل أي لسلطة التاريخ. فأما تاريخ السلطة فقد أورث هذا العقل خضوعا شبه كلي للحكومة بالمعنى المطلق، وأما سلطة التاريخ فقد أورثته خضوعا شبه كلي للماضي بالمعنى المطلق"(13). يقدم، إذن، عبد الجواد ياسين تصورا يبرز الدور الحاسم والمفصلي الذي لعبته السلطة عبر تاريخ الإسلام في تشكيل العقل السياسي الإسلامي، بل وحتى العقل الجمعي الإسلامي العام على حد تعبيره، انطلاقا من اعتبار التاريخ مفتاح العقل، والسلطة مفتاح التاريخ.  

           من هذا المنطلق تحديدا، ادعت الشيعة أن القرآن يثبت بنصوص الوصية لعلي ونسله من بعده، في حين ذهب أهل السنة إلى تأكيد أن القرآن يدعم ويؤيد خلافة أبي بكر، ومنهم من اكتفى بالقول إن القرآن يدعم النظرية السنية في الخلافة. والواقع أن الشيعة كانوا الفرقة الأكثر تأويلا لآيات القرآن في باب الخلافة، كما كانوا الأسبق في استخدام التأويل، ليعمد أهل السنة إلى التأويل كرد فعل على الشيعة في تعاطي التأويل. وعليه، تم التأسيس لما أضحى يعرف بنظرية الخلافة. هذا ويؤكد عبد الجواد ياسين على ضرورة التمييز وعدم الخلط بين "المحتوى الموضوعي" للخلافة الذي يقر بوجوب ممارسة الحكم بمنهاج الإسلام، وبين "النسق الشكلي" الذي تتبلور فيه تلك الممارسة. فالخلافة كمحتوى موضوعي فريضة لازمة بالنصين القرآني والسني، وأما الخلافة كنسق شكلي فلا وجود لها، لا في نصوص الوحي ولا في تاريخ الإسلام، ذلك أن هذا التاريخ لم يفرز نسقا شكليا واحدا مطردا، بل أفرز أنساقا متعددة ومتباينة.

           تأسيسا على ما سبق، يتضح أن إشكالية السلطة تكمن - في اعتقادنا- خلف جل الأزمات التي تنخر جسد الحضارة الإسلامية على مستوى العقيدة والفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع، فضلا عن العلم واللغة والفن. على نحو، تم تأويل النص الديني وتوظيفه لخدمة الإيديولوجيا السياسية المستهدفة بالترويج لها أو الدفاع عنها، حسب ما يمليه الموقع السياسي أو الفكري من السلطة أو المعارضة. ومن ثم، فإن قراءة النص القرآني في ضوء التاريخ، ليست إلا قراءة في التأويل السياسي للنص الخالص.

  من مصادرة الأثر الأدبي إلى وأد التاريخ الديني :

           أثارت العديد من الكتابات في زمانها ضجات صاخبة، وجدالات ونقاشات حادة، انتهت بالبعض من أصحابها إلى محاكمة قضائية، أو مصادرة للأثر الأدبي، أو نعت بالكفر والإلحاد والمروق والفسوق، لا لشيء إلا لأنها تناولت أحد المقدسات، أو خاضت في التعليق على أحداث من التاريخ الإسلامي، وفق منظور مخالف لما هو سائد. فغالبا ما يتخذ السجال حول المقدس بعدا فكريا، لكن بمضمون سياسي، نعتبره صراعا فكريا بقفازات سياسية ناعمة.

           إن الحملات التي شنت على بعض كتب كل من "طه حسين"، و"علي عبد الرازق"، و"صادق جلال العظم"، و"عبد الجواد ياسين"، و"محمد شحرور"، لم تحدث للقيمة التي تحملها هاته الكتب، وإنما جاءت من خلال عنصر الإثارة وإعمال المنهج، ذلك أن الناس لم يعتادوا أن يسمعوا في حق الدين أقوالا تصل إلى هذه الجرأة في مخالفة النص الديني، والتعرض للصحابة.

           وفي واقع الأمر، نعتقد أن هاته الأعمال؛ "في الشعر الجاهلي"، و"نقد الفكر الديني"، و"الإسلام وأصول الحكم"، و"السلطة في الإسلام"، و"الكتاب والقرآن"، ليست إلا معارضة جريئة للفكر المهيمن على المؤسسات الفقهية، وللمناهج المعتمدة في تناول قضايا العصر وامتداداتها الفكرية والثقافية.

           وعلى العموم، فإن خصوصية الوضع السياسي المحلي والدولي تشكل العنصر الحاسم في تحويل أي من هذه الكتب إلى قضية محلية محدودة، أو إلى قضية عالمية كبرى - كما هو حال رواية "الآيات الشيطانية"- التي أثارت ضجة دولية لا سابق لها ، خصوصا، بعد صدور فتوى قتل صاحبها، فعرفت حينها بـ "قضية سلمان رشدي". هذا وقد اعتبرت "الآيات الشيطانية" رواية عابرة للقارات، بل وللحضارات والثقافات والديانات واللغات، تسنت لها الشهرة بموازاة مع التحريم. وعلى هذا الأساس، نظر إليها كحدث ثقافي وأدبي وفكري وديني، فضلا عن تناولها بجرأة بالغة الخوارق والمفارقات التي انطوى عليها النص الديني. 

           ومهما يكن من أمر، فإن مقاربة الدين في تعالقه بالسياسي يصحب معه الكثير من الالتباس والمغالطات، خاصة حين الاصطدام مع أساسيات الدين الإسلامي. وفي السياق ذاته، تعرض علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" لنقد مفهوم الخلافة عن طريق وضعه في سياق السياسة، وإخراجه من نطاق الدين، " إن الخلافة ليست نظاما دينيا، والقرآن لم يأمر بها ولم يشر، وأن الدين الإسلامي بريء من نظام الخلافة "(14)، ذلك أن الخلافة الإسلامية قامت على نظام البيعة المرتكز على الشورى، وتأسست على العدل باعتباره أساس الحكم وجوهره، فالعدل هو المبدأ العام الذي قام عليه الإسلام.

           وفي هذا الإطار، يشير علي عبد الرازق إلى أن "زعامة" النبي، هي "زعامة دينية" جاءت عن طريق الرسالة، وبموت النبي انتهت الرسالة، وأيضا "الزعامة الدينية". ذلك أن كل "زعامة" بين أصحاب النبي بعد وفاته، إنما هي "زعامة سياسية" لا دينية، فخلافة أبي بكر للرسول لم تكن بمعنى خليفة الله، بل خليفة رسول الله، ما حمل البعض على الانقياد لإمارته انقيادا دينيا، فكان الخروج عليه في اعتقادهم الراسخ خروجا عن الدين، وارتدادا عن الإسلام. ولعل "منشأ قولهم أن الذين رفضوا إطاعة أبي بكر كانوا مرتدين، وتسميتهم حروب أبي بكر معهم حروب الردة"(15). إن هؤلاء المرتدين - حسب قول علي عبد الرازق - ما كانوا كلهم مرتدين، بل كان منهم من بقي على إسلامه، لكنه رفض بيعة أبي بكر والانضمام تحت إمارته أو الامتناع عن أداء الزكاة، وأن محاربتهم لم تكن باسم الدين، وإنما هي حروب سياسية بشعارات دينية.

         يتبين، إذن، أن العلاقة بين الدين والسياسة هي علاقة التمايز لا علاقة الانفصال والانفصام، ذلك أن النظرية السياسية في الإسلام لم يؤسس لها النص، بل أنشأها التاريخ بأحداثه التي صبغها بصبغة دينية، لتستغل في تبرير تلك النظرية السياسية. ويشير هذا المعطى إلى أن النص الديني هو مكمن الحقيقة المقدسة والمنزلة، أي حقيقة المقدس، بمعنى أن النص القرآني يستقي شرعيته من تعاليه ومصدره الإلهي. وأن سيطرة الواقع التاريخي وغلبته على النص الديني قرآنا وسنة، فرض نفسه على معطيات الصراع السياسي في عصور الإسلام الأولى، ما أدى إلى محاولة تأويل النص ليتلاءم مع الواقع بما يخدم أهداف السلطة والجهة الحاكمة، فضلا عن تسييج التراث العربي الإسلامي، واعتباره محرما من المحرمات، ووأد الذاكرتين الأدبية والتاريخية.

 

الهوامش :

 

1- محمد عبد الله دراز: الدين، دار القلم، الكويت، (د.ت)، ص: 31.

2- المرجع نفسه، ص: 52.

3- عبد الهادي عبد الرحمن: عرش المقدس؛ الدين في الثقافة والثقافة في الدين، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2000 ، ص: 18.

4- إبراهيم أبراش: حول حدود استحضار المقدس في الأمور الدنيوية: ملاحظات منهاجية، المستقبل العربي، العدد 180، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص:  7.

5- سورة آل عمران، الآية: 65.

6 - سورة الشورى، الآية: 13.

7- أبو الحسن الماوردي : الأحكام السلطانية، والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978، ص: 494.

8- محمود اسماعيل: الحركات السرية في الإسلام، دار سينا للنشر ومؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الخامسة، القاهرة - بيروت، 1997، ص: 14.

9- أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني: الملل والنحل، الجزء الأول، تحقيق أمير علي مهنا وعلي حسن فاعور، دار المعرفة، الطبعة الثالثة،1993، ص:140.

10- محمد رضا مظفر: عقائد الإمامية، سلسلة الكتب الإهدائية، مركز الأبحاث العقائدية، قم – إيران،1422 هـ، ص: 73.

11- أبو جعفر الكيليني: فروع الكافي،الجزء الثالث، دار الأضواء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 1992، ص: 291.

12- محمد رضا مظفر: عقائد الإمامية ، ص: 78.

13- عبد الجواد ياسين: السلطة في الإسلام ؛ العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، 2000، ص:8.

14- علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم ، دراسة وتوثيق؛ محمد عمارة، المؤسسة العربية،  الطبعة الأولى، بيروت، 1972، ص: 92.

15- المرجع نفسه، ص: 178.

 

Partager cet article
Repost0
19 mai 2012 6 19 /05 /mai /2012 22:00
الفلسفة بين الوعي الداخلي والوعي الخارجي: للدكتور عبد النور ادريس

 

الفلسفة بين الوعي الداخلي والوعي الخارجي [1] 

طقـوس لمعرفـة الحقيقـة

ديداكتيكا المواد التعليمية

د. عبد النور ادريس

«أصبحت الفلسفة عصرئذ تفسر العالم الذي اتخذ شكله من خام الفلسفات التي هدفت تغييره سابقا» عبد النور ادريس

إن وعي الفلسفة المعاصر سمح بتقليص الوعي الميتافيزيقي كمنهج وسمح بإمكانية ممارسة هذا الوعي حول الأطروحة الميتافيزيقية كمفهوم، يظهر من هنا أن الفلسفة تريد الإجابة على مسألتين هامتين:

-كيف يكون بوسع الفلسفة تبرير ظاهرة التعاطي واكتساب المعرفة خارج انتمائها للتحليل الابتستمولوجي؟

-كيف تكون أي عقيدة فلسفية جديدة مبررا معرفيا بمجرد احتقار مفهوم المعرفة لدى الفلسفة السابقة.

إن الرغبة في استكمال وإبراز الحقيقة المعرفية بوساطة التحليل الفلسفي هو من صفات كل اتجاه فلسفي غير ميتافيزيقي، لذلك أصبحت المعرفة لا تدرس كظاهرة فلسفية خالصة بل تدرس باعتبارها معطى يحدد التطلعات البشرية لوعي التاريخ الحاضر.

- الوعي الخارجي:

لقد مكن تواجد البنيوية كمنهجية وضع نظرية المعرفة بين فاصلتين:

الأولى: استناد المنظومة المعرفية على مكتسبات الماضي مع الارتكاز على الهياكل الثقافية اللغوية التي تعيد إنتاج الواقع على شكل وعي، بذلك كانت اللغة حصيلة معرفية تحيط بالمعرفة قصد الدلالة على الرموز “الثقافمعرفية” وقد أكد ج. تريير على هذه الخاصية في قوله: “اللغة لا تعكس الوجود الحقيقي لكنها تخلق الرموز المعرفية”.

الثانية: تدارك طبيعة العالم حيث تتضح الفلسفة كأنظومة من الآراء لا تصنع العالم بل تجيب إلى إشكاليات تحيط بالعالم دون طمس الدور الناجح لتدخل سياقات شخصية بشرية في ترتيب هياكل هذا العالم يقول أ.ك. أوليدوف ما يلي: «ليست الأفكار، بل البشر الذين يملكون أفكارا، هم الذين يتخذون سلوكا وقائيا حيال العالم».

فالاختيار البشري يحدد الاختيار البعيد للواقع وبالتالي ينشئ منطلقات واسعة للنظام المعرفي من حيث لا أسبقية وظيفية لواقع ما على حدوث عملية المعرفة التي تقف موقف استهلاك وإنتاج دلالي – مع الارتباط بالعنصر البشري – لكل الإمكانات الايديولوجية التي تصدر عن مرحلة معرفية ما.

إن صمت المعادلة المعرفية يحقق الغياب بخنق المعرفة منذ ولادتها فلا عجب أن أصبح عمر المعرفة ايدانا بانفصام مركب حول الوجود واستمرار الفلسفة في البحث عن قاتل المعرفة.

فليست المعرفة إذن كل ما احتوته الفلسفة بل أيضا ما لم تحتويه باعتباره شرطا من شروطها غير ضاغط على القرار الفلسفي.

وفعلا ظلت العوائق الابستمولوجية تعلن بداية النهاية لانساق معرفية قوامها.

أ) صدور التأمل الفلسفي عن الميتافيزيقي الذي أصبح بديلا معرفيا.

ب) عدم ارتباط المفاهيم الفلسفية بالأرضية الابستمولوجية ذات الوظيفة غير الايديولوجية.

ج) تهافت المنهج المؤدي إلى حقيقة ما حول العالم وعزل الإشكالية التي تنظر إلى العالم قصد تغييره.

بذلك أصبحت الفلسفة عصرئذ تفسر العالم الذي اتخذ شكله العام من خام الفلسفات التي هدفت تغييره سابقا، فارتبطت خصوصيات الفلسفة اليوم بالنزوع لتفتيت مركبات العالم حيث تداخلت وتشابكت حلقاتها ولم تكن قادرة على حمل العلاقة بين الفكر والوجود محمل الجد.

وبذلك صح أن نقول على عكس ما ذهب إليه ماركس، أن الفلاسفة قد ذهبوا في تغيير العالم أشواطا مختلفة، ولكن الأساسي اليوم هو تفسيره بنفس الاهتمام الذي أبدوه سابقا لتغييره.

- الوعي الداخلي

ما المشكل الفلسفي اليوم إلا ضريبة على الوعي المعرفي يزيد في توسيع دائرة الفراغ المعنائي في الإنتاج المبني على نقاش زمن الحقيقة في موت الإنسان، حتى تساءل كولن ولسن قائلا: «أيجب على الفلاسفة الانتحار؟».

إذا كان انتحار الفيلسوف مجرد اختراع الأسئلة الوجودية المبهمة فإن الأعمق من ذلك فشل العلاقات بين الأنا والآخر وقد أشعرنا ريكليه بذلك الصراع المستمر للأنا عندما قال: من يسمعني إذا صرخت؟».

فجل الإرساليات اليوم لا تباشر أي علاقة مع الذهنية المباشرة لمطلق الشخصية البسيكواجتماعي الأفقي، غير أن العلاقة بالأنا كوحدة مستقلة غير العلاقة بين المحور الذي يعيد التقاطع مع الآخر.

إن المعنى يحدد السر، ضمن علاقة تباين دلالي، لهذا تفككت مستويات الحقيقة واختفت في الحرب الدائمة بين الذات والموضوع حتى قال الشاعر كليست: «لن يصل الإنسان إلى الحقيقة إلا إذا انتحر»، وهو انتحار معرفي ودعوة إلى خريطة نفسية تبعد الحقيقة من مجال الذاكرة، فسقراط لم ينتحر لكنه اختار أن يكون حرا في وضع السؤال حول الكيفية التي تمثل طقسا مشروعا لمعرفة الحقيقة.

وقد حاول الفلاسفة الجواب على السؤال الأزلي المطروح «ما الحقيقة؟» دون الوصول إلى نتيجة عامة، غير أن فيخته أجاب بطريقة معكوسة مدعومة بمبررات جعلت وجود الحقيقة في العقل، ثم انتفض متسائلا: «لماذا نهتم للحقيقة المجهولة؟ دعنا ننساها».

عندما يكون الحديث عن الحقيقة من خلال عدم حضورها تكون الكتابة أسطورة والواقع يمثل غنجا تاريخيا ينخرط في زمن ترميم الذاكرة في اتجاه قاعة أن نسيان الوجود أصبح قاعدة لدى بعض الفلاسفة لدغدغة ألغام الحقيقة بينما هناك استثناءات تجعل من هذا التدمير الكلي للذاكرة إصابة الشخصية بالتسمم الذهني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د.عبد النور ادريس


[1] – نشرت بجريدة بيان اليوم، عدد 1060 بتاريخ 27-4-1994.

Partager cet article
Repost0
6 juillet 2011 3 06 /07 /juillet /2011 16:39
مَنْ يصلح مَنْ؟ الصندوق الأسود أم المخزون التنويري؟
 

علي حرب

[ هبة الفكر

في مقاربتي للمشكلات، أذهب الى أن مكمن العلّة هو دوماً في الافكار، كما تتجلّى في نماذج الثقافة وأنساق المعرفة أو في مسبقات الفكر وقوالب العقل أو في منظومة القيم وقواعد التواصل. والاصل في ذلك أن التفكير هو ميزة الانسان ورصيده، في كل مشاريعه ومساعيه وأنشطته، ولذا، فهو منبع الحيوية ومصدر القوة، عند من يحسن ادارة افكاره وبالعكس. وهكذا، فالعالم تصنعه الافكار، من صور وهوامات ونماذج وقيم ومفاهيم ومشاعر… بها نستنير ونتحرّر او نقيّد ونستبعد، ننجح ونتقدم أو نتراجع ونتقهقر، نحقق المعجزات او نرسف في العجز… [ الازدواج والارتداد ولا يعني ذلك أن المرء يملك الحرية في ما يفكر فيه أو يسيطر على فكره تمام السيطرة. فنحن هِبَة الفكر بالمعنَييْن، بمعنى أننا ننتج الافكار، ونشكّل آلتها في الوقت نفسه، تماماً كما أننا

ننتج المعنى وندين له. ولذا، فالافكار لا تأتي دوماً حسب الطلب، وإنما هي تتداعى وتهجم على صاحبها من غير إرادته، أي تتأتّى بما يشبه الضرورة. مما يعني أن هناك دوماً، جانباً يخرج عن نطاق التفكير، في ما نفكر فيه ونعقله او نبرهن عليه وندعي معرفته، مردّه الى عتمات الفكر وسراديب الوعي، او الى ازدواج الدلالة واشتباه الرواية، او الى تعدد المعنى والتباس المفهوم، او الى مخاتلة اللغة وسلطة النص… وهكذا فالمرء يفكّر بحرية، ولكنه لا يملك الحرية في أن يفكر او لا يفكر، ما دامت علاقته بوجوده هي في أساسها علاقة فكرية. ما بوسعه أن يفعله هو أن يُعمِل فكره، لكي يفكر بصورة نقدية، بتأمل ذاته ومراجعة افكاره. واذا كانت ميزة الانسان انه ذات مفكرة، فإن ميزة التفكير هي الانعكاس والارتداد والازدواج، أي ما يخلق المساحة التي تتيح اللعب على الممكنات بسيرها او اجتراحها وبنائها… من هنا اهمية المراجعة النقدية التي تحمل صاحبها على اخضاع تصوراته وقناعاته للفحص العقلاني والدرس المعرفي، لكي يقيم مع فكره علاقة حيّة، خصبة، متجددة، فعّالة، فلا تستبد به عقيدة أو تأسره هوية او يستعمره أصل او نموذج.. وهذه مهمة دائمة، كما يشهد تاريخ الفكر بحقبه وثوراته وأزماته. مع كل حقبة او ازمة تتم مراجعة شبكات القراءة ونماذج الفهم ومناهج الدرس وادوات التحليل. حتى الافكار الخصبة، مآلها أن تستهلك وتفقد مفاعيلها في التنوير والتغيير، اي قدرتها على الشرح والتفسير او على الفعل والتأثير، لتتحول الى عوائق ومآزق. فكيف بالافكار التي هي اساساً مصدر الجهل والحجب والعجز… [ الوحش والتنين قد تكون المداخل عديدة لتفسير الظواهر وتحليل الوقائع. ولكن المدخل من باب الافكار هو الأولى عند صاحب الفكر، فكيف بمن يشتغل أصلاً بميدان معرفي أو يحترف مهنة التفلسف. والفلسفة تصنع لك شيء مفهومه، ولذا فمشكلة كل شيء تكمن في مفهومه بالذات. هذا ما أحاوله لفهم الوقائع وتفسير الظواهر. ففي مواجهة الظاهرة الاصولية، مثالاً، أعمل على تفكيك الشيفرة الثقافية التي تنتجها وتقف وراء صعودها، كما تتجسّد في العقائد الاصطفائية والمنازع العنصرية، في عبادة الاصول وتقديس النصوص، في العقول المغلقة والحلول النهائية، في الهويات الموتورة والذاكرة الجريحة، في ادعاءات العظمة والعُصمة والطهارة… أي كل ما يجعل الواحد يعتقد بأنه الأحق والأفضل والأشرف والأنقى. ومن هذا شأنه يتعامل مع الناس بعقلية الاتهام والاقصاء والانتقام. وذلك هو مآل الاصولية: الاستئصال الرمزي او الجسدي للآخر، أي ما يصنع الوحش الارهابي. هذه الشيفرة الثقافية هي ما أدرجته تحت مسمى « الصندوق الاسود »، (راجع كتابي: الانسان الادنى، 2005). هذا ما أفعله ايضاً في تفسيري للظاهرة الشمولية: تفكيك العقلية التي تقف وراءها، كما تتجسد في الفكر الاحادي والمعتقد الخلاصي، في النموذج الابوي والعقل الأمني، في عبادة الشخصية واحتكار المشروعية المتعلّقة بالأمّة والهويّة، في اعتبار الشعارات والقضايا أولى من الحياة والناس… أي كل ما يجسّم ارادة التأله والقبض والتحكم، لكي يصنع التنين الشمولي. يضاف الى ذلك، عربياً، ترسانة من المفردات تحتاج الى التفكيك، قد احتلّت الوعي وقولبت العقول مثل الوطنية والوحدة والتقدمية والاشتراكية والطليعة والحزب القائد والزعيم الأوحد والبطل المنقذ، ثم تلتها مفردات المقاومة والممانعة، وسواها من الشعارات التي راجت و »ازدهرت » لكي تتحول الى أصنام عقائدية وتنانين فكرية تنتج آلهة وقطعاناً بشرية. والمآل أن تحصد المجتمعات كل هذا الفقر والقهر والعجز او العنف والتخلف والتفكك. [ ديناميكة وجودية وفي المقابل، عندنا ندرس النماذج الحضارية الناجحة، نحاول تفكيك النمط الفكري الذي يقف وراءها. هذا ما يفعله أحدنا اذا أراد أن يفسر اسباب التقدم في الغرب: لقد انبثقت ديناميكية وجودية من تجلياتها خروج الانسان من قصوره العقلي؛ حمله المسؤولية عن نفسه من غير وصاية لاهوتية او كهنوتية، نبوية او رسولية؛ اعادة ترتيب علاقته بذاته وبالعالم، على نحوٍ يجعله يفكر ويعمل كذات تمارس فاعليتها وحضورها، بقدر ما تملك استقلاليتها وتمارس حريتها في المبادرة، والاختيار والمشاركة في صنع المصائر. وفي أقرب مثال الينا، هذا ما أحاوله، عندما أتأمل التجربة في ماليزيا او تركيا. فنجاح النموذج يعود الى انتهاج طريقة مختلفة في إدارة الشؤون والقضايا والهويات؛ بالانفتاح على العالم، أو الافادة من المنجزات التي حققتها المجتمعات الاخرى، أو الأخذ بمبادئ التعدد والتوسط والشراكة، أو كسر منطق التطرّف والاقصاء، او استخدام لغة الخلق والابتكار. فكل مجتمع يبتكر في النهاية نموذجه او يخترع صيغته. وفي المقابل، إذا كانت المشاريع الحضارية في العالم العربي قد أخفقت او تعثرت، فالعطل كامن في الافكار، كما تتجسم في النرجسية الثقافية، والاحادية الفكرية، والقوقعة الايديولوجية، ونظرية المؤامرة، واستعداء العالم، والمماهاة المرضية مع الذات، والخوف الطفولي من المتغيرات، وسوى ذلك من الافكار العقيمة والثوابت المعيقة التي انتجت العجز والهشاشة، وأورثت التراجع والتخلف. من هنا أذهب، في تفسيري للنماذج الناجحة في التحديث الاقتصادي والانماء الحضاري، بقولي أن اصحابها يفكرون ويعملون بمفردات الاعتراف والشراكة، والبعد المتعدد، والتداول المنتج، والتحويل الخلاق، والتركيب البنّاء، والتجاوز الدائم… [ الفاعل الميديائي ومن هذا المدخل الفكري، قرأت الثورات العربية التي اندلعت على نحو مفاجئ أحدث صدمة لدى النخب الثقافية التي ادعى اصحابها أنهم يملكون مشاريع لتحديث المجتمعات وتغيير الواقع، فإذا بهم يخشون المتغيرات التي أتت على خلاف كل تصوّراتهم وبرامجهم. لقد حاولتُ أن أبيّن أن هذه الثورات فجّرتها قوى جديدة من الاجيال الشابة، لم نكن نحسب لها حساب، ولكنها أحسنت تشغيل طاقاتها العقلية باستثمار الامكانات الهائلة التي فتحها عصر المعلومة والصورة والشبكة، للتواصل الاجتماعي والتفاعل الحيوي والتضامن البشري. نحن إزاء نموذج جديد هو « الفاعل الميديائي » الذي ينخرط في موجة الحداثة الفائقة، ويشتغل بالقوة الذكية والناعمة، ويمارس هوية مفتوحة وعابرة، كوكبية وعالمية. هذا مع أنني لا أوثر استخدام عبارة « الصندوق الاسود » للثورات الجارية. لأنها تصلح اكثر للتعبير عما هو سلبي ومعتّم ومدمّر، أي عمّا وقف وراء الوحش الارهابي والتنين الشمولي، لكي نحصد كل هذه المظالم والمفاسد والكوارث. أما ما هو حيوي ومشرق وايجابي، مما يحتاج الى الدرس والتحليل، لتشكيل خطابه وتركيب مفهومه او صوغ نماذجه، فالاولى أن نجد له مسميات اخرى، إذ هو لا يحيل الى صندوق أسود، بل يستدعي مفردات اخرى، مثل شُعلة ومشكاة، أو نبع ونسغ، أو منهل ومستودع، إذ هو يتعلّق بمخزون تنويري من الرموز والمعاني والقيم والاسماء والاحلام التي فجّرت الطاقات وأطلقت قوى خارقة جعلت المستحيل ممكناً، بقدر ما قلبت المعادلات وكسرت الانماط المستهلكة في التفكير والنماذج القاصرة في العمل. وهكذا فالثورات الراهنة هي لحظات استثنائية أطلقت قوى خارقة، لكي يستيقظ من كان غافلاً، أو يظهر ما كان ما مكبوتاً، او يتحرّك ما كان صامتاً، او يشتغل ما كان معطلاً… [ الرعب المزدوج أما الصندوق الاسود، فإنه لا يصحّ على الثورات الجارية. لا يصحّ على تجربة اليمن التي كنّا نظنّ أهلها متخلفين، فإذا بهم يفضحون تخلفنا، بإصرار الناشطين، هناك، على سلمية الثورة، وسط بحار الدماء التي يحاول رأس النظام إغراق البلاد فيها. إنه يصحّ على العقليات المفخّخة والعقول الارهابية التي بنى أصحابها أنظمتهم السياسية على رعب مزدوج: حكّام متشبّثين بسلطاتهم، ولكن مرعوبين في الوقت نفسه من شعوبهم، خائفين من كل رأي مخالف او صوت معارض. ولذا فقد تفنّنوا بابتكار وتطوير واستخدام مؤسسات التطويع والتدجين، أو آليات التخويف والترهيب، او استراتيجيات الاتهام والاقصاء، أو ممارسات الخطف والاعتقال أو التعذيب والقتل كما في الحالات القصوى. وهكذا أقيمت دول أو دويلات حوّلت القضايا الوطنية والمؤسسات العامة والأطر الحديثة، السياسية والنقابية والاعلامية والثقافية، الى مجرّد واجهة، تُمارَس عبرها سلطة مطلقة لمصلحة أسرة أو جماعة او طائفة او حزب وحيد، تحت عباءة زعيم أوحد يختزل مجتمعه وينسب اليه بلده، لكي يتصرّف فيه كما يشاء، فيكافئ المذنب والفاسد، أو يعاقب المظلوم ويدين المقتول، كما يمكن أن تفعل الآلهة. ومع ذلك، فإن هذه الانظمة، وإن تماهت او استندت الى عصبيات طائفية او مذهبية أو قبلية، فإنها لا تحتكر تمثيل طائفة أو عشيرة، وإنما هي تعمل على تجنيد وتسخير او توريط الجماعات التي تدعي الدفاع عنها، من أجل الحفاظ على السلطة وحراسة النظام القائم، بأي ثمن كان، ولو اقتضى ذلك إغراق البلاد والعباد في الفوضى والدماء. بالطبع جرت مطالبة الانظمة العربية بإجراء اصلاحات جذرية تحدث تحولاً في بنية النظام على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية… ولكن لم تحصل اصلاحات جدية ومُقنعة. ما حصل هو العكس. تغليب الحل الامني، واستخدام العنف المفرط في مواجهة التظاهرات الشعبية. [ استحالة الاصلاح مما يشهد على أن الانظمة القائمة غير قادرة على أن تتغير، وفقاً لمبادئ الحرية والشفافية والعدالة، أو لقواعد التعدّد والشراكة والاعتراف بالآخر. ذلك أن علّة وجود هذه الانظمة وقيامها، هو احتكار السلطة والثروة والاعلام، للسيطرة على المقدرات والهيمنة على العباد، بالختم على العقول وارهاب النفوس وتطويع الاجساد، على ما هو شأن الأنظمة الشمولية والحكومات الديكتاتورية والايديولوجيات الحديدية. ولو كانت قابلة للاصلاح، لما لجأت الى الالتفاف على المشكلة، أو أقدمت على مجابهة التظاهرات بكل هذه القسوة والشراسة. نحن إزاء أنظمة شعارها: لا حقّ للشعب لكي يطالب به. فالمطلوب منه، بل واجبه، تقديم فروض الطاعة والتبجيل والتسبيح بحمد زعمائه، إذ هم أولياء نعمته ومصدر رزقه وبقائه، فالأولى أن يفديهم ويضحي من أجلهم، كما يعبر شعار الفداء بالارواح والدماء. وأعتقد أن القذافي هو لسان حال الزعماء. مع فارق أنه يصرح بما يضمرونه. ولكن خطاباتهم تحجب بقدر ما تكشف وتفضح. ولذا من غير المجدي، بل بات من الغفلة والخداع، عند مَنْ يتأمّل المعطيات ويقرأ المجريات، أن يطلب من الانظمة القائمة او يقترح عليها خطط في الاصلاح والتغيير، على ما يفعل رؤساء دول ومثقفون كبار في مناشداتهم ورسائلهم المفتوحة او المغلقة، لأن هذه الانظمة لا تنتج إلاّ ما تشكو منه المجتمعات العربية من الامراض والآفات. (راجع الرسالة التي وجّهها الشاعر أدونيس الى الرئيس السوري بشار الاسد، جريدة « السفير »، 24/6/2011). [ رهان خاسر ولكن رهان الانظمة على المعالجة الامنية خاسر، سواء في ليبيا او في اليمن او البحرين، أو في المحور الذي يمثله الحلف المقدّس المؤلف من ثالوث ايران وسوريا وحزب الله. فالمتغيرات التي يشهدها العالم العربي، بفعل الثورات والانتفاضات، غيّرت المعطيات بصورة جذرية. ولم تعد تجدي مقاومة ارادة التغيير لدى الشعوب العربية، لبناء مجتمعات تستجيب للحدّ الادنى من مطالب الحرية والعدالة والمساواة والكرامة. ولنتأمّل المجريات. فحزب الله يكاد يخسر رصيده الهائل في العالم العربي، نتيجة سياساته وتدخّلاته في لبنان وفي بعض البلدان العربية. وسوريا التي أهملت الداخل وأتقنت اللعب في الخارج، قد فاجأتها الأحداث على أرضها وفي بيتها. أما في إيران فقد ظهر المكبوت وانفجر الصراع بين العقيدة الاسلامية والعقيدة الايرانية. ولا عجب، فإيران دولة قومية، والعلاقة بينها وبين شيعة العرب هي مجرّد قشرة ايديولوجية او ذريعة استراتيجية. وهذه هي حال تركيا مع سُنّة العرب. مع فارق أن تركيا دولة غير دينية، وقد نجحت في امتحان الديموقراطية والتنمية، بقدر ما تنهج نهج التوسُّط والشراكة على الساحة الاقليمية. ويؤمَل أن تبقى على هذا النهج حتى لا تخسر رصيدها وتنقلب الامور ضدها. من هنا فإن محاولات الهروب من استحقاقات الداخل لجمع الاوراق واللعب على ساحات الخارج، هي لعبة خاسرة سوف ترتدّ على أصحابها. الأوْلى، عند من يعقل ويتبصر، أن ينصرف الى حلّ مشكلاته الداخلية. فالقوة العارية والمعالجات الأمنية تخلق مشكلات ولا تحلُّها، تماماً كما أن الهويات المغلقة تنتج العجز والفقر، سيما في عصر القوّة الناعمة والهويات العابرة. وبالعكس، فالذي ينجح في قود شعبه، على سبيل التحديث الاقتصادي والتداول الديموقراطي والعدل الاجتماعي، يبني مجتمعاً هو أغنى وأقوى وأقدر على التواصل مع العالم وعلى ممارسة الفاعلية والحضور على مسرح الأمم، بل أقدر على مجابهة التحديات والضغوطات من الخارج. [ حقبة فكرية جديدة أياً يكن، مع الثورات تطوى مرحلة فكرية بنماذجها ورموزها ومفرداتها لتبدأ اخرى تنفتح معها آفاق جديدة وتتشكل ديناميكية جديدة لا تعمل بمفردات المطلق والمقدس والواحد والثابت والاصولي والنخبوي والمركزي والامبريالي، بل تشتغل بعقلية الاعتراف والشراكة والمداولة، بقدر ما تعمل تحت خانة المتعدد، والنسبي، والمتحول، والافقي، والتواصلي، والكوكبي… ولعلّ ابرز درس يستخلص من إخفاق الثورات السابقة بممارساتها الارهابية واستراتيجياتها القاتلة ومآلاتها المدمرة: الكفّ عن عبادة الاشخاص لأن ذلك هو منبع الاستبداد، التوقف عن تقديس القضايا واختزالها في شخص معين لأن في ذلك مقتلها، كسر منطق الحتميات الصارمة التي تخنق الامكان وتشكّل الطاقة على الخلق، التخفف من اراد القبض والتحكم تحت عناوين السيادة والعَظَمة والعُصمة والبطولة… آن لنا أن نغيّر نظرتنا، كبشر، الى مكانتنا ودورنا وقدراتنا. فبعد كل هذه المصائر البائسة بمآزقها وكوارثها ومآسيها، بات من الزيف الفاضح أن نتشبّث بمفهوم السيادة، سواء بمعناه الديكارتي كمالكين للطبيعة، او بمعناه اللاهوتي كخلفاء لله. فنحن لا نقبض على حقيقة مطلقة او نطبّق خطّة مرسومة بصورة محكمة، بدليل ما نُفاجأ به بعد كل هذه التقدّم العلمي الهائل والتطوّر التقني الفائق. الأجدى أن نتحول نحو مفاهيم مثل الادارة والتدبير او التسيير والتشغيل، مما يعني كسر النظرة الحتمية والمركزية الامبريالية، المستقيمة والتقدمية، للتاريخ نحو نظرة أخرى لولبية، مواربة، مزدوجة، متحركة، مركبة، تأخذ بعين الاعتبار التراجعات والارتدادات، الانقطاعات والثغرات، الالتباسات والمفارقات، الطفرات والمفاجآت… لنتواضع. لسنا سادة الكون، ولا سادة أنفسنا. لا نقبض على قوانين العالم الذي نصنعه بقدر ما تصنعنا أحداثه المفتوحة على غير معنىً واتجاه ومسار… إن العالم لا ينفكّ يحدث ويتشكّل أو يتخلّق ويتهجّن أو يتغيّر ويتحوّل، ممّا يعني الحاجة الى مقاربات تكون أكثر مرونةً وتركيباً وعقلنةً، بقدر ما تؤلّف على نحوٍ خلاق بين مختلف الحقول والاختصاصات والمجالات او المذاهب والتيارات. في أي حال، إذا كانت الثورة كلحظة خارقة تعني خروج المرء من سجنه الفكري، فإن ما بعد الثورة، بما يقتضيه من المسارات والبناءات والتحوّلات، سوف يسفر عن انبثاق وتشكيل عقليات ومفاهيم وقيم أو نماذج وأساليب ومؤشرات جديدة، في ما يخصّ العلاقة مع العدالة والمساواة والثروة والتنمية… [ قواعد اللعبة والكلام على افتتاح حقبة فكرية جديدة، يفتح الامكان ليس فقط لتغيير الافكار، بل ايضاً لتغيير يطال مؤسسات تداولها ومصانع انتاجها، كما يطال ادوار المثقفين والمفكرين واستراتيجياتهم في التدخل والتوسط. مما يعني تغيير مفهومنا للندوات الفكرية وقواعد تنظيمها وآليات عملها. فنحن عندما ننظم ندوة نتحدث فيها عن مشاريع النهوض، في العالم العربي، لا يسعنا أن نتحدث كما كان يجري في المؤتمرات الفكرية الاحادية الجانب، والمقتصرة على المثقفين والدعاة من فلاسفة وفنانين. ما هو متاح لنا، اليوم، هو أن ندعو أناساً من الناشطين الذين أسهموا في انبجاس التحولات العاصفة التي تجتاح غير بلد عربي، وفي إحداث هذه التغيرات الهائلة التي عجزت عن القيام بها الانظمة السياسية والنخب الثقافية، طوال عقود، وربما منذ عصر النهضة. إن الندوات التي تهتم بتدارس القضايا العامة والمشاريع الحضارية، هي شأن عام يخصّ الجميع، وبالاخصّ الاجيال الشابة والقوى الجديدة، ممن حققوا هذا الانجاز الكبير بأفكارهم وتقنيناتهم واستثمارها لعقولهم بصورة خارقة وخلاقة. فمن نجح هو اولى ممن فشل في مناقشة قضايا التغيير تحت شعارات الاصلاح والتحديث والديموقراطية والحرية. والنماذج ناطقة كما يجسدها ناشطون يكتبون على صدورهم العارية: نحن الشهداء المقبلون، فيما نجد مثقفين ومفكرين لا يطيقون بعضهم البعض، بل يتصرّفون كأعداء لبعضهم البعض، ولذا لا يتّسع صدر الواحد لسواه. لنعترف بالحقيقة، إن الاصلاح لا تملك مفاتيحه النخب التي تصدرت الواجهة، عقوداً، لكي نصل الى هذا المأزق. لم يعد الزمن زمن ممارسة الوصاية على العناوين الحضارية والقيم العامة. فإذا كان ثمّة فاعل جديد يظهر على المسرح، فذلك يعني ممارسة أدوار جديدة تتغيّر معها قواعد اللعبة. لقد تداعت أسطورة المثقف المُحرّر للوعي والمنوّر للعقول، لأنّ ما أتقنه المثقفون هو فبركة أوهام لا تغيّر واقعاً ولا تصنع مستقبلاً، لأنها تقوم على نفْيِ الحقائق والعجز عن إنتاج وقائع فكرية تغيّر في مجرى الافكار والاشياء. ولا عجب أن يكون المآل كذلك، لأن مفاهيمنا للديموقراطية والحرية والانسانية والعلمانية والعقلانية والحداثة والعمل المدني، قد صدئت واستهلكت، ولم تعد تعطي سوى مرددها العكسي، من هنا حاجتها الى اعادة البناء على اقل تقدير. بهذا المعنى ليست الانظمة وحدها هي التي فقدت صلاحيتها وباتت غير قادرة على الاصلاح. هذه أيضاً حال المثقفين الذين باتوا جزءاً من المشكلة، إذ هم الوجه الآخر للعملة. من هنا السؤال: مَنْ يُصلِح مَنْ؟ ومَنْ يحرّر مَنْ؟ وبالعكس، نجد بأن الناشطين الذين فجروا الانتفاضات العربية، والذين نخشى منهم على الديموقراطية التي لم نحسن ترجمتها، قد اتقنوا العمل على نحو تواصلي، افقي، تبادلي. وبدلاً من أن نلقي عليهم دروساً في الديموقراطية، الأجدى أن نتحدث معهم لنفيد منهم، أو على الأقل لنتبادل معهم حول قضية الديموقراطية. [ العقل وألغامه إنها لمفارقة في العالم العربي أن يحدث هذا التحول الهائل، في زمن قصير، على يد العاملين على الشبكات والكتب الرقمية، فيما أخفق اصحاب المشاريع الايديولوجية والكتب الدينية، على مدى قرن او اكثر. هذه المفارقة تدعونا الى أن ننصت الى ما يقوله الذين لا يمارسون الوصاية على القيم العامة، ولا على شؤون الفكر والعقل والمعرفة، لكي نتعرف الى نظرتهم الى الاشياء وطريقتهم في التفكير وأساليبهم في العمل والتأثير. هذا ما أفكر فيه من جهتي: أن أتحاور مع افراد من الفاعلين الجدد، لكي أسألهم عما تعنيه لهم كلمة عقل او عقلانية او استنارة أو فلسفة… إن الفلسفة تتجدد ليس فقط من الانفتاح على تاريخها، بل من الانفتاح على ما ليس بفلسفة، تماماً أن العقل يمارس فاعليته بالاشتغال على اللامعقول الذي هو قاعه ومادته وبطانته، بقدر ما هو لغمه او ربما سره ومحرّكه… وتلك هي المفارقة الأصلية، أعني الفجوة الوجودية، بين العقل وموضوعاته، أو بين الوعي وسراديبه، او بين الفكر وطيّاته. وهي فجوة تملؤها الاساطير والمحرّمات والتهويمات والرموز والنماذج الاصلية، كما تملؤها المنازع الطوباوية والرومانسية او القدسية والغيبية. ولا أعني بالغيب هنا الاحالة الى كائن أسمى، هو المصدر والمرجع والمآل، وإنما أعني به كل ما يند عن العقل المنطقي، الحسابي أو الاستدلالي او المصلحي او الادائي، من الميول والاهداف والمقاصد التي تشكّل محفّزات المشاريع البشرية، أكانت فردية ام جمعية. وهكذا فما هو خارج عن نطلق العقل يلعب دوراً مزدوجاً، إذ هو يشكل من جهة المحرك والحافز لمشاريع الانسان ومساعيه، كما يشكل من جهة ثانية المادة التي يعمل عليها العقل لتصييرها معقولة. [ سوية مزدوجة مرة أخرى أجدني أكرر قولي بأنني خفضت السقف الرمزي والمثالي، منذ زمن، في ضوء تجاربي وتأملاتي، ولذا لم أعد أؤمن بوجود عهود ذهبية او فراديس ارضية او ممالك تحررية… والشاهد تقدّمه فرنسا، مصدر الثورات وبلد الحركات والموجات التنويرية والتحرّرية، حيث المرأة تُعامَل ككائن من الدرجة الثانية. ما زالت السيطرة للرجل، بل ما زالت النساء تتعرّض للعنف المتفاقم بشكليه، الجسدي والجنسي. الأمر الذي جعل نائبة فرنسية في البرلمان الاوروبي تعلّق بالقول: من المرعب أن تشهد فرنسا، في العام 2011، تصرّفات « بائدة » من حيث المعاملة مع المرأة (مجلة « ماريان »، عدد 737، 4-10 حزيران 2011). ولا غرابة. فالمجتمع البشري لا ينفك ينتج آليات التفاوت والاقصاء والسيطرة، من وراء شعارات التحرر والتقدم والتمدن. وتلك هي المفارقة. لنعترف بالحقيقة: إن التاريخ لا تصنعه الافكار الكبيرة والقيم النبيلة والدعوات المثالية، وإلا لكان العالم أفضل بكثير، أو أقل سوءاً مما هو عليه. ما يصنع العالم، بدرجة كبيرة، من خلف أو من تحت الشعارات المعلنة والخطابات الرسمية والمشاريع الانسانية، هو التفاصيل الصغيرة والهموم الشخصية والمشاعر الحميمة والأحقاد الدفينة والمنازع العنصرية والعُقد المستعصية والنزوات الغريبة والنماذج البدئية او البدائية، وكل ما نحاول حجبه لكي يفعل بصورة مضاعفة وغير مرئية. بهذا المعنى تشكل الثورات التي نجحت في إسقاط النظام السياسي، لحظات تحريرية او تنويرية، استثنائية وخارقة. إنها بدايات، تشبه شهر العسل، بعدها تعود الامور الى سويتها المزدوجة الملتبسة المنسوجة من الفروقات بقدر ما هي مفتوحة على الصراعات، والتي تنتج المفارقات بقدر ما تضعنا على المفترقات، لكي نتردد أو نتوتر، بين المختلفات من التفاسير والقراءات، او بين المتعارضات من البدائل والخيارات. الامر الذي يتطلب الانخراط في عمل متواصل من المراس والجهد والمعاناة والمكابدة، اشتغالاً على الذات والافكار والواقع، لاعادة البناء والتركيب بالترقيع والترميم، أو الاصلاح والتحديث، او التخطي والتجاوز او الجمع والتاليف… [ الخلق والخرق إذا كنّا لا نقبض على الواقع، فما بوسعنا القيام به هو أن نخلق ما به نساهم في صنع الحدث أو نكون على مستواه، بتعديل الوجهة أو خرق الشروط أو تغيير قواعد اللعبة او اعادة ترتيب الأولويات… ولكن مع ادراكنا بأن ما نخلقه يتجاوزنا ويندّ عن سيطرتنا، أكان المخلوق نصاً أم حرباً، اختراعاً أم ثورة؛ ولأن ما نخلقه من الوقائع هو كذلك، فإنه يشكّل إمكاناً مفتوحاً على شتى الاحتمالات وتعدد التأويلات، بقدر ما يشكل فرصة، من جديد، لكي نُحسن ادارة الواقع وتسييره، بصورة ايجابية وبنّاءة، أو بأقل الأكلاف والأضرار، على أقل تقدير. خلاصة ذلك أن القضية هي أن لا نموّه المشكلة، لأن مشكلة الانسان هي مع نفسه بالدرجة الاولى. هذا معنى النقد الوجودي، بما هو محاولة لفهم ما نحن عليه، أي لما نطمسه ونستتر عليه، أو لما نجهله ونتناساه، او لما نتورط فيه ونتواطأ ضده، او لما نولده من المفارقات والتناقضات، أو لما نرتكبه من الفضائح او نحصده من الكوارث. ولكن للمسألة وجهاً آخر: فإذا كانت أعمالنا تفاجئنا، سلباً، بسبب ما نسميه الهوة الانطولوجية التي تسم بنية الكائن، فالعكس هو ايضاً صحيح، بمعنى أن هذه الهوة هي منبع الامكان ومصدر القوة، بقدر ما تشكل الفاصل الذي يقيمه المرء بينه وبين ذاته، اي مساحة اللعب التي تتيح لنا أن نتعامل مع معطيات وجودنا وأن نشتغل على وقائع حياتنا، بلغة الفهم الخارق والتخيّل الخلاق، كما يتجلّى ذلك مآثر ومنجزات. في اي حال قدر الانسان أن يواجه نزواته ونوازعه وآفاته، لمحاربة الطاغية الذي يسكنه، او المفسد او المخرب او الفاشي أو البربري، بالمراس النقدي الدائم، على نحو يحد او يكسر ارادة الانفراد والاحتكار والهيمنة والتوسّع و الانتقام والاستئصال

Partager cet article
Repost0
5 décembre 2010 7 05 /12 /décembre /2010 17:22

منهجية كتابة الإنشائية في مادة الفلسفة

إن منهجية الكتابة في مادة الفلسفة تتجسد عمليا في مجموع الخطوات العامة التي تهيكل الموضوع، وتشكل العمود الفقري لوحدته وتماسكه. وبما أن الأسئلة تتنوع في السنة النهائية إلى أشكال ثلاثة :

  • النص الموضوع
  • القولة-السؤال
  • السؤال المفتوح

فسنحاول فيما يلي إعطاء تصور عام حول كل طريقة على حدة :

* منهجية مقاربة النص

يجب اعتبار النص المادة التي سينصب عليها التفكير، لذا تجب قراءته قراءة متأنية للتمكن من وضعه (النص) في سياق موضوعات المقرر؛ وبالتالي اكتشاف أطروحة المؤلف وموقعتها داخل الإشكاليات المثارة حول قضية أو إشكاية أو مفهوم... ويجدر بنا أن نشير، في هذا المقام، إلى أن منهجية المقاربة يحددها السؤال المذيل للنص، علما بأن النصوص عادة ما تطرح في السنة النهائية للتحليل والمناقشة بالنسبة لجميع الشعب. وعليه، نرى أن منهجية مقاربة النص لا تخرج من حيث الشكل على أية كتابة إنشائية (مقدمة ـ عرض ـ خاتمة)، إلا أن لمقاربة النص الفلسفي خصوصيات تحددها طبيعة مادة الفلسفة نفسها. وسنعمل في التالي على بسط هذه منهجية هذه المقاربة على ضوء تلك الخصوصيات.

1) طبيعة المقدمة :

إن المقدمة تعتبر مدخلا للموضوع، لذا يجب أن تخلو من كل إجابة صريحة عن المطلوب، حيث يفترض ألا توحي بمضامين العرض، لأنها بهذا الشكل تمنع من استكشاف ما هو آت، وخصوصا لأن المقدمة ستكتسي شكل إجابة متسرعة.

كما أن المقدمة تعبير صريح عن قدرات وكفايات  عقلية، يمكن حصرها في الفهم (الأمر يتعلق هنا بفهم النص وفهم السؤال)، وبناء الإشكالية. وعليه، يجب أن تشتمل (=المقدمة) على ثلاث لحظات أساسية يتم فيها الانتقال من العام إلى الخاص : أي من لحظة تقديم عام هدفه محاصرة الإشكالية (cerner la problématique   ) التي يتموقع داخل النص، تليها لحظة التأطير الإشكالي للنص، وبالتالي موقعته (=النص) داخل الإطار الإشكالي الذي يتحدد داخله، ثم الانتهاء بلحظة ثالثة تتمثل في طرح الإشكالية من خلال تساؤلات يمكن اعتبارها تلميحا للخطوات التوجيهية التي ستقود العرض.

علما بأن طرح الإشكالية ليس مجرد صيغة تساؤلية، وإنما هو طرح للتساؤلات الضرورية والمناسبة، والتي يمكن اعتبار الكتابة اللاحقة إجابة عنها. هكذا يمكن الاقتصار (أحيانا) على تساؤلين أساسيين : تساؤل تحليلي     (يوجه التحليل)، وتساؤل نقدي تقويمي (يوجه المناقشة)، علما بأن هناك أسئلة أخرى يمكن اعتبارها ضمنية نهتدي بها داخل فترات من العرض، حفاظا على الطابع الإشكالي للمقدمة.

إن المقدمة – إذن - ليست استباقا للتحليل، ذلك ما يحتم الحفاظ على طابعها الإشكالي، ومن خلال ذلك الحفاظ على خصوصية مرحلة التحليل التي يفترض أن تكون لحظة تأمل في النص، من أجل الوقوف على الطرح المعروض داخله وإبراز خصوصياته ومكوناته.

2) طبيعة العرض :

يمكن اعتبار العرض إجابة مباشرة على الإشكالية، ومن ثمة فإن العرض يتضمن لحظتين كتابيتين أساسيتين، هما لحظتا التحليل والمناقشة.

2-1 لحظة التحليل :

إن هذه المرحلة من المقاربة عبارة عن قراءة للنص من الداخل لاستكشاف مضامينه وخباياه، وبالتالي تفكيك بنيته المنطقية وتماسكه الداخليين، كأننا نحاول أن نتأمل عقلية المؤلف لفهم الأسباب التي جعلته يتبنى الطرح الذي تبناه، ويفكر بالطريقة التي فكر بها. ومن ثمة، لابد من توجيه التحليل بالأسئلة الضمنية التالية: ماذا يصنع المؤلف في هذا النص، أو ماذا يقول؟ كيف توصل إلى ذلك؟ ما هي الحجاج التي وظفها للتوصل إلى ما توصل إليه؟

فالسؤال الضمني الأول يحتم إبراز الموقف النهائي للمؤلف من الإشكالية التي عالجه و/أو إبراز طبيعة أهمية الإشكالية التي أثارها... والسؤال الضمني الثاني يدفع إلى التدرج الفكري مع المؤلف، والسير معه في أهم اللحظات الفكرية التي وجهت تفكيره. أما السؤال الضمني الأخير هو سؤال يستهدف الوقوف عند البنية الحجاجية التي تبناها المؤلف، وبالتالي الوقوف عند الحجاج الضمنية والصريحة التي وظفها لدعم أطروحته، وتحديد خصوصيتها، وطبيعتها...

فالتحليل – إذن - هو لحظة تأمل في المضامين الفكرية للنص وهو في الآن ذاته لحظة الكشف عن المنطق الذي من خلاله بنى المؤلف تصوره.

2ـ2 لحظة المناقشة :

إن المناقشة لحظة فكرية تمكن من توظيف المكتسب المعرفي، بشكل يتلاءم مع الموضوع وبطريقة مناسبة...

يجب التأكيد، في هذا المقام، على أن المعلومات المكتسبة تؤدي دورا وظيفيا ومن ثم يجب تفادي السرد والإستظهار... وبعبارة أخرى، علينا أن نستغل المعلومات الضرورية بالشكل المناسب، بحيث يصبح مضمون النص هو الذي يتحكم في المعارف وليس العكس. هكذا سنتمكن من اعتبار المناقشة شكلا من أشكال القراءة النقدية لأطروحة النص، التي تكتسي غالبا صورة نقد داخلي و/أو خارجي تتم فيه مقارنة التصور الذي يتبناه النص بأطروحات تؤيده وأخرى تعارضه، وذلك من خلال توظيف سجالي نحرص من خلاله على أن نبرز مواطن التأييد أو المعارضة.

3) طبيعة الخاتمة :

يجب أن تكون الخاتمة استنتاجا تركيبا مستلهما من العرض، أي استنتاجا يمكن من إبداء رأي شخصي من موقف المؤلف مبرر(إن اقتضى الحال) دون إسهاب أو تطويل. فمن الأهداف الأساسية التي يتوخاها تعلم الفلسفة تعلم النقد والإيمان بالاختلاف.

منهجية مقاربة السؤال المفتوح:

  • إن التوجيهات الصادرة في هذا الشأن،  ا تؤكد على تصور منهجي مضبوط لمقاربة السؤال المفتوح، وهذا أمر يفسح المجال لكثير من التضاربات والتأويلات. ونعتقد أن طريقة السؤال المفتوح هي - بالعكس - من الطرق، الأكثر استعمالا لتقييم التلاميذ مقارنة مع طريقة القولة-السؤال. حيث أن الملاحظة الموضوعية تبين أن المواضيع المقترحة – في فرنسا نموذجا – تكاد تنحصر في نوعين : السؤال المفتوح ومقاربة النص. وحتى تكون منهجية مقاربة السؤال المفتوح، في المتناول سنصحب الخطوات النظرية بنموذج، الهدف منه الاقتراب من الكيفية التي يمكن من خلالها فهم الجانب النظري. من أجل ذلك، نقترح السؤال التالي : " هل يمكن اعتبار الشخصية حتمية اجتماعية ؟ "

يمكن أن نلاحظ أن هذا السؤال قابل لكي نجيب عليه بالنفي أو الإيجاب أو برأي ثالث يتأرجح بينهما...إلخ. صحيح أن الفلسفة تفكير نقدي، إلا أنها، في ذات الوقت، تفكير عقلي منطقي ينبني على المساءلة، والفهم، والتفكير، قبل إصدار الأحكام. وحتى لا يظهر موضوعنا في صورة الأحكام القبلية والجاهزة ؛ لا بد من أن يكتسي صيغة إنشاء، أي بناء فكري متدرج ينطلق من الفهم إلى النقد، مستثمرين الأطروحات الفكرية والفلسفية التي نعرفها.

لنتفحص السؤال المطروح أولا :

يلاحظ ، أننا إذا أزلنا الطابع الاستفهامي للسؤال ( هل] يمكن اعتبار الشخصية حتمية اجتماعية [؟ )، نحصل على العبارة التالية : " يمكن اعتبار الشخصية حتمية اجتماعية ". الأمر الذي يستدعي منا، أولا، توضيح ما معنى أن تكون الشخصية حتمية اجتماعية؟ ! قبل أن ننطلق في مناقشة " هل يمكن اعتبارها حتمية اجتماعية ؟ ". ونعتقد أن تسجيل هذه الملاحظة الأولية سيساعدنا على تمثل الخطوات المنهجية اللاحقة.

1) طبيعة المقدمة

لا يجب، أبدا، أن ننسى أن هدف المقدمة في الفلسفة، هو أن نحول الموضوع، المطروح علينا، إلى قضية إشكالية. وعليه، لابد أن يتحول السؤال ذاته، إلى إشكالية. وذلك بتأطيره، أولا، داخل الموضوعة العامة، ثم داخل الإشكالية الخاصة. كما هو الشأن بالنسبة للنص، أو القولة. لكي تنتهي مقدمتنا، بالتساؤلات الضرورية، المستلهمة من السؤال المطروح علينا ذاته. وحتى يكون كلامنا إجرائيا نعود إلى " سؤالنا ".

للتأطير الإشكالي، للسؤال المقترح، يمكن أن يتخذ تقديمنا العام، صيغا متنوعة. كأن نستغل – مثلا - التنوع الدلالي لمفهوم الشخصية، أو نستغل طبيعة الفلسفة وما تتسم به من خصوصية في دراستها للقضايا المتميزة بطابعها الإشكالي، لنخلص بعد ذلك إلى التأطير الإشكالي للسؤال، بإظهار أن هذا السؤال يحتم علينا مقاربة مفهوم الشخصية خصوصا من حيث إشكالية الشخصية وأنظمة بنائها. لننتهي إلى طرح الإشكالية من خلال صيغة تساؤلية كالآتي : ما معنى أن تكون الشخصية حتمية اجتماعية؟ وإلى أي حد يمكن اعتبارها (أي الشخصية) منتوجا حتميا لمعطيات اجتماعية موضوعية ؟ فلا يجب أن ننسى أن المهم في بناء الإشكالية، ليس هو وضع التساؤلات لذاتها، ولا عددها ؛ وإنما التعبير عن التساؤلات التي سنجيب عنها، والتي لن تؤدي الإجابة عنها إلى الخروج عن الموضوع.

2) طبيعة العرض

ينقسم العرض إلى مرحلتين، وبالتالي لحظتين فكريتين متكاملتين :

مرحلة فهم القضية المطروحة علينا لتقييمها، ويجب في ذلك أن نستغل مكتسبنا المعرفي والأطروحات التي درست. حيث يجب أن تنم كتابتنا عن تأطير فكري للقضية التي سنناقشها. ومن أجل ذلك، يجب أن تبتعد كتابتنا عن العموميات و"الكلام المبتذل" الذي يمكن أن نجده عند "أي كان". إلا أنه، في ذات الوقت يجب أن نتحاشى الطابع السردي، الذي لا ينم إلا عن الحفظ والاستظهار. فنعمل، بالتالي، عن الاستثمار الوظيفي الجيد للمدروس (في الفصل أو خارجه).

وبالنسبة " لسؤالنا " يتعلق الأمر هنا بإظهار تميز الخطاب السوسيوثقافي في التأكيد على الحتمية الاجتماعية للشخصية وأهمية التنشئة الاجتماعية في بنائها (توظيف نماذج من الأطروحات السوسيوثقافية)، مع الحرص على إبراز اقتراب بعض التصورات السيكولوجية من هذا التمثل. حيث، أن المدرسة السلوكية – مثلا – تنفي دور الاستعدادات الفطرية، والمؤهلات الفردية، في بناء الشخصية. كما تتميز المدرسة اللاشعورية، بتنويع مكونات الشخصية، إلى جانب فطري (الهو) وآخر ثقافي (الأنا والأنا الأعلى) والتأكيد على توجيه الجانب الثقافي للفطري. مما يؤكد التفاف العلوم الإنسانية (باستثناء المدرسة الشعورية) حول حتمية الشخصية. ويمكن الإشارة إلى وجود أطروحات فلسفية – قريبة من العلوم الإنسانية - تؤكد على الحتمية الاجتماعية للإنسان (الماركسية مثلا).

ليتم بعد ذلك الانتقال إلى مرحلة البحث عن الأطروحات النقيض، وبالتالي، الاستغلال الوظيفي الجيد للأطروحات، التي ترى رأيا مناقضا لما تم طرحه سابقا بعيدا - كذلك - عن الحشو والسرد والاستظهار...

ويتعلق الأمر بالنسبة " لسؤالنا " بالأطروحات الفكرية التي تتمثل الشخصية، وبالتالي الإنسان، بعيدا عن الإكاراهات الاجتماعية المباشرة، أو النفسية، الناجمة عن تلك الإكراهات. ويتعلق الأمر - في هذا الصدد - بالخطاب الفلسفي الذي يربط الشخصية بالوعي (كانط وديكارت مثلا)، والخطاب الفلسفي، الذي ينفي عن الإنسان، كل ثبات، فيرى الشخصية في تجدد أصيل، وفي ديمومة (برغسون). أو يرى أن ليس للإنسان ماهية ثابتة، لأن "الإنسان يوجد أولا، ثم يحدد ماهيته بعد ذلك" معبرا عن إرادته وحريته (سارتر).

3) طبيعة الخاتمة

ما ننفك، نؤكد على أن الخاتمة، لابد أن تتوزع إلى استنتاج، ورأي شخصي. فالاستنتاج يجب أن يكون دائما مستلهما من العرض فيعتبر، بالتالي، حصيلة، وملاحظة موضوعية للتنوع الفكري الذي يشوب النظرة إلى القضايا ذات الطبيعة الفلسفية. الأمر الذي يعطي لنا، كذلك، الفرصة لندلي بدلونا في الأمر، ونعطي رأيا في الموضوع. إلا أن هذا الرأي، لابد أن يكون مبررا باقتضاب، فنوظف - من أجل ذلك - ما نعرفه من أطروحات. وفي كل الأحوال يجب أن نتحاشى الآراء الفضفاضة من قبيل "الأجدر أن نتبنى ما ذهب إليه الخطاب الفلسفي." أو "وفي هذا الموضوع يستحسن أن نتفق مع الخطاب السوسيوثقافي." ...إلخ، لأن هذا، كما يلاحظ، كلام يحتاج إلى بعض التوضيح.

 

منهجية مقاربة القولة 

من الطرق التي تم اختيارها - إذن - لمساءلة المترشحين، لاجتياز امتحان الباكلوريا في مادة الفلسفة، طريقة القولة-السؤال. وفي هذا الإطار، وجب التنبيه إلى بعض الصعوبات، التي يمكن أن نجدها في مقاربة القولة، والتي يمكن أن نحصر أهمها فيما يلي :

  • تعودنا على طريقة مقاربة النص طيلة الدورة الأولى، مما يؤدي إلى تعميم هذه المقاربة على القولة la citation  .
  • حجم القولة (الصغير) الذي لا يساعدنا كثيراعلى إدراك مضمون القولة بسرعة.
  • فهم السؤال المذيل للقولة، وبالتالي موقعته بشكل من الأشكال داخل المكتسب المعرفي السابق.

ولتخطي هذه الصعوبات، وغيرها، لابد أن ندرك، أولا وقبل أي شيء، أن السؤال المذيل للقولة سؤال يتألف من مطلبين : مطلب يفترض فيه، أن يدفع بنا نحو الكشف عن الأطروحة المتضمنة في القولة، وبالتالي استخراجها. ثم مطلب يدفع بنا نحو مناقشة القولة، وبالتالي تقييم الأطروحة المفترض أن تتضمنها القولة. وسنحاول، فيما يلي، تقديم تصور نظري حول الخطوات المنهجية المتوقعة من مقاربة القولة.

1. طبيعة المقدمة

إن من خصوصيات الفلسفة، أنها لاتدرس إلا القضايا ذات الطبيعة الإشكالية. ومن ثمة، لا بد أن نعمل - في مستوى المقدمة - على تحويل القولة إلى قضية إشكالية. وذلك ما يجعل طريقة التقديم، في مقاربة القولة، قريبة من طريقة التقديم في مقاربة النص. ويستحسن، في صياغة الإشكالية، أن تتنوع الأسئلة إلى نوعين أسئلة ذات طبيعة ماهوية، وأسئلة ذات طبيعة نقدية تقويمية. بما أن المطلوب منا، أولا، هو استخراج أطروحة القولة، فالسؤال الماهوي، يتيح إمكانية التعمق في القولة و"الغوص" داخلها، بدل أن نحوم حولها. أما الأسئلة ذات الطبيعة النقدية، فهي توفر مناسبة للابتعاد النسبي عن القولة، وبالتالي إبراز قيمتها الفلسفية والفكرية على ضوء معطيات قبلية، وبالتالي أطروحات اكتسبناها سابقا.

2. طبيعة العرض

يتنوع العرض إلى لحظتين فكريتين مسترسلتين : لحظة القراءة ولحظة التقييم (أو النقد).

1.2 لحظة القراءة :

وهي لحظة مكاشفة القولة، وبالتالي اللحظة الفكرية التي يجب أن نلزم فيها القولة على التفتق للبوح بأطروحتها أو الخطاب الذي تحمله، أو التصور الذي تعرضه .. أو هذه الأمور كلها مجتمعة. وهذه القراءة تتنوع بدورها إلى قراءتين : سنصطلح على تسميتهما تباعا بالمقاربة المفاهيمية، و المقاربة الفكرية. ثم تليهما مباشرة لحظة الاعلان عن الأطروحة المتضمنة في القولة.

1.1.2 المقاربة المفاهيمية :

وهي لحظة وقوف عند المفاهيم الأساسية، للقولة التي يمكن اعتبارها مفاتيح ضرورية للكشف عن أطروحة القولة. إلا أنه يجب الحرص على أن تبتعد القراءة في المفاهيم، عن الشرح اللغوي والخطاب العمومي المبتذل، وأن تحاول الرقي إلى مستوى التنظير الفلسفي. خصوصا وأن المفترض، أنه يتم التعود على هذه المقاربة، أثناء توظيف النصوص داخل الفصل. علاوة على أن هذه مقاربة، يجب أن نتعود عليها في السنة الثانية أدب، على اعتبار أن أحد الأسئلة المذيلة لنصوص الاختبار، قد يحتم علينا ذلك. (بدل شرح "عبارة"، يمكن أن يطلب من تلاميذ السنة الثانية شرح مفهوم أو مفاهيم من النص...)

2.1.2 المقاربة الفكرية :

وهي اللحظة الفكرية، التي يجب أن نحول فيها القولة، إلى "مقولات" فكرية وبالتالي "أطر" نستطيع أن نوسعها فكريا وفلسفيا، حتى نجعلها تأخذ طابع الخصوصية. وبذلك نحول خطاب القولة "المقضب" إلى خطاب رحب، باعتباره، يحمل في مكنوناته أبعادا فكرية، وفلسفية، لايستطيع أن يكتشفها إلا من كلف نفسه عناء التأمل، والتفكر، والتدبر.

بعد ذلك، نستطيع الكشف عن أطروحة القولة، في صورة استنتاج، يظهر أن هذه اللحظة كانت ثمرة للمجهود الفكري الذي قمنا به أثناء القراءة السابقة.

2.2 لحظة التقييم

بما أننا - الآن - نعرف الأطروحة التي كانت القولة تخفيها في طياتها ؛ فإن ما يتوجب القيام به مباشرة - بعد ذلك - هو الانفتاح على المكتسب المعرفي السابق، وبالتالي البحث عن الأطروحات التي تسير في توجه القولة. ونحن نعتبر أن هذه المرحلة ليست تقييما، أو نقدا مطلقا، لأن في ذلك نوع من الإتمام للمرحلة السابقة. فالأطروحات التي سنأتي بها كنماذج، لا تأتي لتزكي طرح القولة فحسب، وإنما لتزكي كذلك القراءة التي قمنا بها، وتبين لماذا حددنا أطروحة القولة في موقف دون آخر، أو لماذا تندرج في خطاب فكري معين دون الخطابات الأخرى ...إلخ

لتأتي بعد ذلك لحظة التقييم الحاسم، والتي تتجلى في البحث عن النقيض، واالمعارض (l'antithèse   ) في المكتسب المعرفي، واستثماره، بشكل يظهر بأن الموقف الذي تتبناه القولة ليس بالموقف النهائي.

3) طبيعة الخاتمة

كثيرا ما يتم الاستخفاف بالخاتمة ونحن نعتبرها لحظة حاسمة من لحظات الموضوع . فهي لحظة تفكر فيما سبق ولحظة تعبير عن الذات. لذا نعتبر الخاتمةاستنتاجا منبثقا من اللحظات الفكرية السابقة، وبالتالي تعبير عن رأينا الشخصي من موقف القولة. رأي ينطلق من الحق الأسمى (الذي لا يتناقض مع روح الفلسفة) الذي نملكه، في أن نكون مع، أو ضد، أي خطاب أو تصور إلا أن ذلك لايجب أن يكون بطرقة جزافية مفتعلة ولا بطريقة مسهبة.

Partager cet article
Repost0
26 novembre 2010 5 26 /11 /novembre /2010 20:55
اليوم العالمي للفلسفة مناسبة طيبة لتأمل الزمان والزمانية!

محمد بلال أشمل

  محمد بلال أشمل  

 

بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، أجرى عبد العالي بركات حوارا مع محمد بلال أشمل نشرته في ملفها الأسبوعي جريدة “بيان اليوم” المغربية لعددها ليومي السبت والأحد 20/21 نوفمبر 2010 تحت عنوان “أيقنع الواحد منا أن يكون مجرد رقم في البنك، ورقم في البيت، ورقم في جواز السفر، ورقم في فاتورات الاستهلاك؟” حيث صدرته قائلة: “يعتبر الباحث في مجال الفلسفة وأحد مؤسسي “الجمعية الفلسفية التطوانية”، محمد بلال أشمل في هذا الحوار الخاص ببيان اليوم، أن الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، هو بمقدار ساعة مما نفكر، ولكنه بمقدار عمر الفكر لما يكون شاهدا على نفسه، وعلى غيره.  ويؤكد في هذا الحوار كذلك على جدوى الفلسفة اليوم، أكثر من أي وقت سابق، لأجل الاستعانة بها في دفع تشيئنا، ورفع ما حاق بنا من تقهقر أنطولوجي فظيع”.

 هنا نص الحوار كما نشرته الجريدة المذكورة ضمن ملفها الأسبوعي الذي خصصته لليوم العالمي للفلسفة 2010 متمنين لكل أصدقائنا في خصوص تطاون وعموم العالم، يوما فلسفيا مليئا بالحق والخير والجمال… 

  •  ماذا يعني لكم اليوم العالمي للفلسفة؟

 مناسبة طيبة لتأمل الزمان والزمانية؛ في الأولى نعرض ما قمنا به من أعمال طيلة العام على محكمة النقد، فإما قبولا لها مع تجديد، أو رفضا لها مع تبديل، مع ما يقتضيه المقام من تمحيص وتعديل وتطوير وإلغاء ومراجعة، أملا في “العلم النافع”، وطمعا في “العمل الصالح”. أما في الثانية، فنستحضر معاني الفلسفة في “ساحة الفدان”، بما هي “أغورا” تطاونية، بموقع مغربي، فننظر فيما تنطوي عليه من الدلالات القديمة والجديدة للحق والخير والجمال، كيف هو حالها؟ ما هو مآلها؟ أما زال “الباطل” يستقوي بالقوة فيمحق “الحق” فلا يجد له نصيرا؟ أم أن الحق في تكاثر، على بطء، ولكن على قوة واستماتة، يكسب الجغرافيا بشرعية التاريخ، فينال المشروعية بقوة السياسة المدنية؟ أما زال “الشر” حرا طليقا فلا يجد من يجعله رهين المحبسين: “الحق” و”القانون”؟ أم تراه بدأ يفقد سلطانه على النفوس والعقول، فإذا هو منبوذ، يحسب كل “صحافة” عليه، هو المفضوح المعلول الأجوف؟ أما زالت البشاعة تستعدي المسخ على الجمال فتقيمان مهرجان السخافة، أم أن الناس وعت أن أقحوان “كيتان” أروع بكثير من كل مطاط العالم؟ اليوم العالمي للفلسفة كما نفهمه، وكما نعيشه، وكما نقضيه، في غفلة حفظة التابوت، وخذلان الأقران في الصناعة، ونكير كل مشاء بنميم، ودهشة “منقذي الغريق، ومطفئي الحريق”، هو بمقدار ساعة مما نفكر، ولكنه بمقدار عمر الفكر لما يكون شاهدا على نفسه، وعلى غيره.

  •  كيف تقيمون الحركة الفلسفية بالمغرب؟

إذا كان لا بد من الحديث عن “الحركة الفلسفية في المغرب”، فدعني أقول لك أولا إنها حركة ذاتية لا محرك أول لها؛ وأقصد بذلك أن لا “مأمون” لها فيشيد لها “بيت حكمة”، ولا معين لها فيوقف عليها أموال الزكاة والخراج والصدقة والغنيمة والخمس. هي محض نزعات فردية، ينهض بها رجال أدركوا أن الانتماء  إلى المغرب مسؤولية فكرية، فسارعوا إلى النهوض بمسؤوليتهم حسب الوسع والقدرة. هذا أولا. أما ثانيا، فهناك من الناس من لا يرضيهم أن تكون في المغرب “حركة فلسفية”، وإذا حاججوا في وجودها، صنعوا ذلك بضعيف الحجة، وسقيم البرهان، مع المعاندة والمكابرة، وهذا أمر شهدناه وعرفناه، في بعض البلاد العربية التي تقرأ المتن المغربي بلسانها،  أو في البر القشتالي، الذي عرف شأننا بالترجمة وساطة، وبالكتابة في لغته مباشرة. ولكن أيخفى على الناس أن المغرب بلاد “الأطروحات”، ونقيضها، والمركب منها؟ ومع ذلك لا نحب أن ننشئ خطابا مدحيا في “الحركة الفلسفية في المغرب”، فنقول عنها إنها حركة “نشيطة”، لأن حركتها كحركة الأفلاك السماوية، بطيئة، وإنما نقول عنها إنها “تدور”، تارة على نفسها، فتقع في “الدور”، وتارة على “غيرها” فتقع في “الاستحالة”. وما بين “الدور” و”الاستحالة”، يقع الثالث الموضوع: الأمل في وجود “حركة فلسفية مغربية” بالهوية، و”حركة فلسفية في المغرب” بالانتماء. علينا فقط أن نصبر على بعض “المتحركين” حتى تنضج خميرتهم كي لا تكون حركتهم “جعجعة بلا طحين”، ونتوسم الخير في آخرين حتى لا تكون حركتهم محض حركة بالعرض، لا حركة بالجوهر.

  • ماهي أهم القضايا الفلسفية المطروحة في الوقت الحاضر؟

إذا كان المقصود بسؤالك أية قضايا يتناولها الفكر الفلسفي في الوقت الحاضر، فهي على العموم قضايا تتعلق جوهريا بالإنسان، وعرضيا بالمحيط الذي يعيش فيه: فسؤال الإنسان هو سؤال الأسئلة في الفلسفة؛ منه تتفرع باقي الأسئلة، تحصيلا لحقيقته الجوهرية أو  ما يعتقد أنها كذلك. وبما أن كل عصر له أسئلته، فلعل الأسئلة الكبرى لهذا العصر هي تلك التي تتصل بـ”السياسة المدنية” من حيث التفكير في الإنسان كمواطن، أية حقوق عليه نيلها، ضمانا لكرامته، وأية واجبات عليه القيام بها، تأكيدا لمواطنته. بل إن الاهتمام يشمل محيطه الاجتماعي حتى يضمن له الفضاء السليم من كل آفة، والمعافى من كل علة، ومحيطه البيئي حتى تصان له حقوقه المدنية والطبيعية في عيش كريم. وهكذا  يصير الاهتمام بالإنسان اهتماما سياسيا، ولكن برؤية فلسفية تؤسس للشمولي والعام في حياة الإنسان. ولعل إقبال الفكر الفلسفي المعاصر على تناول القضايا المتعلقة بالكينونة السياسية للإنسان مرده إلى  ما شهده هذا الأخير وما يزال، من كل ألوان العنت والضيق؛  فحياته لا تطاق جهلا أو  فقرا أو  قهرا، وكرامته مهانة، وجغرافيته محتلة أو  مدمرة، وتاريخه مشوه أو  مجهول،  وساحاته العمومية مسيّجة، وقيمه الثقافية والاجتماعية والدينية  تباع وتشترى في سوق النخاسة ، مثل الأشياء أو أكثر. ومع ذلك فليس كل اهتمام الفكر الفلسفي المعاصر بالإنسان منصبا على القضايا المتصلة بالسياسة؛ هناك عناية بالشأن الميتافيزيقي والمجال الاستيطيقي، والأخلاق النظرية أو  العملية، والعمارة، والجسد، والمعبد، والمتعة، والهامش. النظار المعاصرون مشغولون الآن بالسعي إلى  إخراج الإنسان من الأنثروبولوجيا إلى اللاهوت عن طريق التساؤل مجددا عن معنى الألوهية، واستقصاء التصور المعاصر للدين، وقد حضرت مؤخرا مؤتمرا في مدريد تناول هذا الجانب من النظر ربما طلبا للتصالح مع الإرث المسيحي لأروبا التي تنكرت لأصلها الديني بفضل الثورات الفكرية والسياسية التي عصفت بها منذ النفحة العلمانية التي هيأها المتن الرشدي في جامعات بادوا وباريس وبولونيا، أو  دعوات الإصلاح الديني منذ لوثر وكالفن أو  غيرهما، أو على الأرجح خشية من “الزحف الإسلامي”، والمغربي بخاصة، وطلبا لفهمه من زاوية فقهية كما حصل منذ وقت قريب حينما تنادت أعرق الجامعات الإسبانية إلى  مؤتمر دولي حول “الفقه الإسلامي والتداخل الثقافي” في سرقسطة شهدت فيه كل شئ إلا العلم بمبادئ الدين الإسلامي، وأصول فقهه، وكان عليّ أن أقرر مثلا حقائق موضوعية في المتن الفقهي المالكي مثلا لا بد للخائض في أمور الكفالة التنبه إليها ولكن لا قلب لمن تنادى. وبالمناسبة، فقد ترسخ لدي الاعتقاد من يومها في كون أوروبا، ولا سيما إسبانيا، ما تزال تحت “التأثير السلبي” للتجربة الأندلسية التي تحرص، الكنيسة الكاثوليكية أن لا تتكرر مرة أخرى. وعلاوة على هذه العودة إلى “الأصول”، تحت وطأة التسايس بالدين، أو التداين بالسياسة، يحدث للفكر الفلسفي المعاصر أن يتذكر هوامشه، فيفرح بالجسد، بعد أن أعياه وصال الروح، وتيقن أن الموت واقعة ضمن بداهة الكون والفساد. أليس يخشى على الجسد الآن الانحجاب بـ”البرقع”، وانسجاب “الزي الأوروبي العالمي” إلى  قاع المتحف، وبدء تاريخ جديد من العناية بالجسد أساسها تكريمه باللباس الوطني، وتقويته بالغذاء الوطني، وتحصينه بالثقافة الوطنية؟ خلاصة القول إن الفكر الفلسفي المعاصر يعتني الآن بقضايا محورها الإنسان على ما يبدو عليه من انصراف إلى  قضايا أخرى أكثر قيمة وأهمية. وعلى ذلك فليس هناك قضايا “مطروحة”، وإلا لاحتجنا إلى كثير من الجهد والوقت والمال لإزاحتها من الطريق العام للتفكير، بل كل القضايا مصانة في مستودع التفكير، فيها ما هو تحت العناية المركزة، وفيها ما هو في قاعة الانتظار.

  • ما جدوى الفلسفة اليوم؟

لعلي سمعت هذا السؤال من قبل، ولعله مرّ بي خلال السنوات الأربع الماضية حين احتفلنا باليوم العالمي للفلسفة تحت شعار “الفلسفة ومصير عالمنا”، ولعلني سؤلته مرات عديدة، وكان جوابي فيه -دون التدقيق في طبيعة الفلسفة المقصودة- أن جدوى الفلسفة اليوم هي ذات جدواها بالأمس وغدا، ما دام الأمر يتعلق بضرورات التفكير في مصير الإنسان من حيث هو موضوع للقلق. غير أني أستطيع أن أقول إن جدواها اليوم ربما تكون أكثر ضرورة من أمسها. لقد جزع الفيلسوف الإسباني “خوسي أورتيغا إي غاسيت” يوما من نزع الطابع الإنساني عن الفن، اليوم صارت تنزع إنسانية الإنسان، فما بالنا لا نتحصن بما يعتقد أنها له خصيصة من دون غيره، أن يقول العالم بكيفية أخرى، ويعيشه حياة ثانية. أيرضى الواحد منا أن يعيش محض “رقم” بارد في معادلة الكون وهو على حاله من الطرح والجمع والضرب؟ أيقنع الواحد منا أن يكون مجرد رقم في البنك، ورقم في البيت، ورقم في جواز السفر، ورقم في فاتورات الاستهلاك؟ ولعلنا نستعين بالفلسفة على دفع تشيؤنا، ورفع ما حق بنا من تقهقر أنطولوجي فظيع. ومن هنا جدواها. 

  • ما مدى اهتمام جمعيات المجتمع المدني بالتفكير الفلسفي؟

مدى اهتمام جمعيات المجتمع المدني بالتفكير الفلسفي مدى قصير، ومرده إلى  ضعف تكوين القائمين على تلك الجمعيات، أو  جمودهم على الرهبة من الفلسفة، أو  اقتناعهم منها بقشور عملت عمل “العوائق الإبيستيمولوجية” فمنعتهم من تغيير نظرتهم إليها، والارتياب في المشتغلين بها، وعدم سعيهم إلى  تطوير بضاعتهم العلمية من تآليفها… وكلها أسباب لها تاريخ بعيد في رفض “علوم الأوائل”، وتاريخ قريب في اتهامها في وطنيتها، والتشكيك في عقيدة المشتغلين بعلومها، والطعن في سلامة مضامينها وأن “ضررها على الدين شديد” كما قال ابن خلدون. هذا إذا وجد “التفكير الفلسفي”. والحال أن التفكير السائد الآن إما من صنف خطابي كالشعر أو  القصة، أو  صنف جدلي كالأبولوجيات الدينية والطائفية. ولذلك ترى أن الاهتمام بالتفكير الفلسفي -ندوات أو  مؤتمرات أو  أيام دراسية أو تقديم كتب ذات صلة- هو في حكم النادر، ومن تعاطى هذا الشأن من قبل الجمعيات المدنية، نظر إليه كالخل الوفيّ، وعيب عليه أنه لم يجد أعصى من الفلسفة لكي يصادقها، وترك صداقة المال، وموالاة السلطة، والسعي إلى  الجاه كما هو دأب أغلب الناس اليوم.  ولقد نقم علينا بعض الناس أنّا أسسنا جمعية فلسفية في مدينتنا، وأشد ما ساءهم أنّا باركناها باسم “الجمعية الفلسفية التطوانية”، وشق عليهم أكثر أنّا عنينا فيها بالفكر المغربي والإسباني، واستكثروا علينا أن تكون في مدينتنا حياة عقلية تستجيب لمقتضيات التخوم، وكانوا يريدوا منا أن نقنع بقدرنا في “التهريب” و”الإرهاب” و”الشذوذ الجنسي” و”شبهة الانفصال”، ظلما وعدوانا، مع أنهم يعتبرون أنفسهم أطرافا في “المجتمع المدني”، وجودنا تحقيق لقيمة “الاختلاف” و”التعدد” اللتان يطربون لهما، ولكنهم متى جد الجد يفزعون منهما، ويضيق صدرهم بغيرهم، كأنّا جئنا نزاحمهم على مجد تليد. والغالب على الظن أنهم كانوا ينتظرون منا أن “ننضبط” للمركز، فلا نرى إلا ما يرى، ولا نقول إلا ما يقول، كما يفعل غيرنا وهو راض غير متبرم ولا ساخط. فكيف ستكون عنايتهم بالتفكير الفلسفي وقد نشأوا على الاعتقاد أن ثماره لا تأتي إلا من “أثينا”، وأن لسانه ليس إلا اللسان الفرنسي، وأن رجاله ليسو إلا عمرا وزيدا من ذوي العصبية الحزبية؟ ولقد أصدرت جمعيتنا بعض الإصدارات قدمت في مراكز ومعاهد فلسفية وفكرية خارج البلاد، ولكنها لم تلق “اهتمام” “جمعيات المجتمع المدني” نظرا لأن موضوعها يدور حول نمط من التفكير الفلسفي لم يعهدوه في تداولهم الثقافي، لأنهم جمدوا على مقدمات مشهورة في “العمل الثقافي” بينة التهافت، واضحة الفساد. الهجرة الثقافية مبررة أحيانا، لأن من خبر مقاصد القوم في التداول الثقافي، وقارنها بغيرها لدى أمم أخرى، يحصل لديه الاقتناع ببؤس الأولى، فيهجر إلى الثانية. ولقد اخترنا “أهون الشرّين”: الإقامة في بلادنا، وطلب الحكمة في الصين.    

  • كيف ترون موقع الفلسفة في وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية؟

 لا أرى البتة “موقعا” للفلسفة في وسائل الإعلام؛ لأن مواقعه يتصدرها سقط المتاع. تشتغل حياتنا العقلية بأفضل الآلات وأنبل المقاصد، ولكنها لا تجد لها موقعا يخبر عنها، أو يعرّف بثمارها، أو يقرّب الأفهام من قضاياها، أو يهئ للأجيال نموذجا طيبا للقدوة من رجالها مع أن ضرائبنا لها مجزاة، ومحبتنا لها موصولة رغم الهوى الشرقي والغربي لبعضنا. أما موقعها في المؤسسات التربوية، فبالكاد يرى، ولكن ليس رؤية العقل، بل رؤية العين؛ إذ هي هناك محض “مادة” تنتمي إلى  “استقساط” البرنامج، وهيولى الامتحان، وعنصر “السماع الطبيعي”، وعموم “الكون والفساد”. ليست هناك “حياة فلسفية” بالمعنى المتواضع عليه كحوار عمومي هو ثمرة إعمال نظر شخصي في “قضايا العصر”، ولو بأبسط الأشكال التواصلية كالمحاضرة والندوة والحوار المفتوح وغيرها. المعلمون “يعطون” الدرس، ولا يعيشونه، والطلبة يتلقون المعارف ويغفلون عن المواقف، والإدارة التربوية تتابع الإنجاز، ولا تحفل بكيفياته، والجميع في أعلى عليين.

  • هل دور النشر تشجع على طبع المؤلفات الفلسفية؟

إذا كنت تقصد دور النشر في بلادنا، فلا أعلم من أمرها إلا ما يعلمه سواد الناس: أن لديها معاييرها في النشر قد لا ترضي المؤلف، فيمضي إلى نشر عمله بعيدا عن شروطها، هذا إذا حفلت به، واستجابت لطلبه، رفضا أو قبولا. غير أن هناك دور نشر، لا تكلف نفسها عناء الرد على” زبنائها”، مع أنهم أودعوا لديها مخطوطاتهم خاضعة للعرف العالمي في النشر. خذ أي دار للنشر خارج بلادنا، واسلك معها السبل المتعارف عليها، تجد أنها تسارع إلى إجابة طلبك سواء بالرفض أو القبول. أما لدينا في المغرب، فلا يحسنون آداب التواصل، أو قل لا يريدوا ذلك. فلا تعرف من أمر طلبك شيئا. ولقد نشرنا باكورة أعمالنا الفكرية في جمعيتنا باستكتاب شهري لثلة من المثقفين، وجنبنا أنفسنا مذلة السؤال، ومهانة الانتظار. ولهذا فأغلب المشتغلين بالفلسفة في بلادنا يمضون توّا إلى نشر أعمالهم على نفقتهم إلا في أضيق الحدود لمن لديه سند من “بلدية”، أو دعم من “مجلس حضري”، أو يملك الخريطة السرية لوزارة الثقافة. ونحن من الذين يفضلون ترك المخطوط في دار مؤلفه على تزويجه زورا وبهتانا من إحدى دور النشر عن طريق دفع مستحقات ذيوعه، كما يفعل بعض الناس ثم يزعمون أن الدار المعلومة هي التي استكتبتهم للنشر لديها، وبعد ذلك يطوفون على غيرهم يستكتبونهم نقدا أو”متابعة” لعملهم، وقد كنا نظن أن أعمالهم لاقت استحسانا لدى “النقاد”، فرأوا حاجة للتعريف بها، فإذا هي محض تعاقد مخجل بين مصالح آنية تصطنع من الثقافة وسيلة لتحقيق مقاصدها الغير الثقافية. المؤلف، في أيّ شعب معرفي كان، عليه أن يكون صاحب مروءة، وكرامته من كرامة أعماله، فلا يهينها بالكذب والادعاء واستغفال الناس. ولهذا فنحن نفضل مائة مرة أن نكتب عن أعمالنا المنشورة، أو ندواتنا المقامة، أو محاضراتنا المقروءة باسمنا الحقيقي على الكذب على القراء بوضع اسم مستعار (أو اسم حقيقي ولكنه ليس هو الكاتب الحقيقي) على جميع ذلك. أما إذا كنت تقصد “المطابع”، فهذا شأن آخر. ولقد حدث أنّا وضعنا مخطوطا عند إحداها، فصار يعلن في موقعه الرقمي أن الكتاب مطبوع ولكنه غير مطبوع، ولم يكن يعلم أنه بذلك يحفر قبر إفلاسه الأخلاقي بيده أمام العدول من الناس.  أما إذا كنت تقصد بلدا آخر غير بلادنا، فما أعلمه عن إسبانيا مثلا، بحكم المعايشة والمشاهدة، أن الأمور هناك “شكل ثاني”: المساهمات في الندوات والمؤتمرات تطبع في كتاب جماعي بعد خضوعها لفحص نقدي من لدن اللجان العلمية المختصة، والدراسات العلمية تنشر في المجلات الفكرية المحكمة بعد قراءتها من لدن قارئين مختصين يقرآن العمل وهما لا يعلمان من المؤلف، ولا هذا يعرف من يقرؤه، والغاية تحقيق نزاهة ممكنة في الحكم، ومن ثم في النشر، ومشاريع المؤلفات تقدم إلى  در النشر فيقع تسليم وصل بإيداعها، ويتم الإخبار بشأنها رفضا أو  قبولا مع تعليل مرفق بالأسباب في حالة الرفض، ورجاء بالاستدراك والتعديل في حالة القبول. الأمور واضحة بما فيه الكفاية، ولذلك فهي واصلة بالقدر الذي ترضي الكاتب إن سلبا أو إيجابا.

  • رحل أخيرا نخبة من المفكرين، ما هو الانطباع الذي خلفه فيكم هذا الرحيل؟

 لأنه رحيل حتمي، فهو يخلف لدينا غصة من الحزن لا قبل لنا به إلا مع أعزّ قرابتنا. إذا اقتصرنا على نخبة المفكرين الذين رحلوا من ساعتهم، فقد تركوا لدينا تلك الدهشة الممزوجة بالأسى؛ كأن الموت حق في غيرهم “باطل” فيهم، ومن فرط تقديرنا لهم، لا نصدق أنهم رحلوا، وحين نصنع ذلك، نواسي أنفسنا وبعضنا البعض، بأنهم ما زالوا معنا، نجوما زاهرة في وجودنا العقلي والثقافي، بأيهم اقتدينا اهتدينا. والحق أنهم كذلك، وكيف لهم أن يكونوا غير كذلك ولا أحد فيهم أمهله الموت لكتابة “رسالة الوداع”؟ لما رحل الأستاذ الجابري، قمنا بواجبنا في نعيه إلى  أصدقائنا في الشرق والغرب، وكان مما قاله لنا في إحدى رسائله إلينا صديقنا الأستاذ “أندريس مارتينيث لوركا”، مدير سلسلة “الأندلس، نصوص ودراسات” في دار نشر طروطا التي تولت نشر ترجمة كتاب أبي عصام “نحن والتراث” إلى القشتالية: “نأمل أن لا تضيع سدى بذرة مفكر مستقبل العالم العربي”. كما كتب إلينا صديقنا المفكر الإسباني “خوان كارلوس فيلا ألونسو” يقول: ” الموت خطوة ونقطة في الطريق فحسب، أما فكر الجابري فسيظل مرافقا لنا”. وقلنا في كلمة التأبين التي نظمناها له بتعاون مع شعبة الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بثغر مرتين: ” وكم كنا سنسعد-لو أمد الله في عمر المرحوم الجابري- حتى يرى اسمه ضمن أنطولوجيا الفكر المغربي الحداثي التي نعدها للتداول الفكري باللسان القشتالي، ولكن للأقدار حكمتها واختيارها. ولكن عزاؤنا في أن فكره بعد مماته الحي، سيتلاقح مع كافة الأفكار التي تأتي عبر هذه العملية العجيبة في التاريخ الفكري والحضاري والثقافي بين الشعوب: الترجمة”. رحيل أعلام الفكر المغربي والمغاربي عن حياتنا خسارة فادحة بلا ريب، ولكن واجب الأجيال الحالية واللاحقة استئناف القول والعمل الفلسفيين اللذين دشنهما رجال عصرنا أمثال محمد عزيز الحبابي، وفؤاد زكريا، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ونصر حامد أبي زيد وغيرهم.

  •  هل هناك جيل جديد من المؤلفين؟

 في مجال الفكر الفلسفي، بكل تأكيد، إما باللسان العربي والفرنسي، وهو المعروف، أو  باللسان القشتالي وهو المجهول. غير أن للنقد نظرا في الأمر: أكل ما “يؤلف” يعتد به في مجال الفلسفة؟ لقد اطلعنا على الكثير مما “يؤلف” تحت اسمها، فوجدناه “قلق العبارة”، أو  سقيمها، تقرؤه من اليمين إلى  اليسار فتظن أن صاحبه أخطأ السطر، وكان عليه أن يكتب من اليسار إلى  اليمين، آفة الترجمة فيه واضحة، وضحالة الفكرة عنده بينة، يمتلئ بما طاب من المفاهيم، وتتزاحم على بابه خيرة المفكرين والفلاسفة، ولكن “مؤلفه” نكرة بينهم، يقول ما قالوه، وأحيانا بركاكة كأنها ركاكة “ناشئة الأدب”، ويعيد ما كرروه، ولكن بأخطاء فادحة، “ضعف الطالب والمطلوب”…إلا القلة القليلة ممن يحسن الصنعة، ويعرف أسرارها، وهم على الحقيقة نظار المغرب ومفكروه الذين نحسد عليهم في المحافل الفكرية العربية حسدا يبلغ به صاحبه رتبة العليل المأسوف على حاله، فيمضي إلى  التدليس على الناس كما صنع فلسطيني ممنوع من الدخول إلى  المغرب نسب إلينا، بعد التحريف والتخريف- أنّا قلنا إن “الفكر المغربي عقلاني في مقابل لاعقلانية الشرق” في محاضرة لنا بطرابلس استشكلنا فيها الفكر المغربي المعاصر، وكان غرضه أن يوهم الناس أن المغاربة ميؤوس من حالتهم لما أصابهم من “الغرور” و”الادعاء” بسبب سبق فضلهم على الدراسات الفلسفية في مجال التراث. ولكن هل يخفى القمر؟ 

  •  كيف تنظرون إلى آفاق التفكير الفلسفي بالمغرب؟

هي آفاق رحبة إذا أدرك الفكر المغربي مغزى ما سمّيناه في مناسبة سابقة بـ”ضغط التخوم”؛ ولا سيما فيما يخصنا نحن في الشمال. ونقصد بذلك تخوم التاريخ والجغرافيا: فأما تخوم التاريخ، فلا زلنا لم نحقق مثلا “التراث الفكري للحركة الوطنية في الشمال”، بدءا بنقد المشككين في إسهامها في الفكر السياسي الوطني؛ وانتهاء بفحص مضامينها الفكرية والسياسية، ومرورا بتمحيص أثر الشرق والغرب في رؤيتها العامة لقضايا الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة. هناك متن فكري معتبر لدينا في الشمال وعلينا النظر في مضامينه، وفحص مفاهيمه، وهي بالمناسبة مفاهيم ذات دلالة خاصة مثل مفهوم “السعادة” في سياق “النهضة” أو “البعث” الذي عاشه رجال كعبد الخالق الطريس على سبيل المثال لا الحصر. ثم ألم يحن أوان بسط مفهوم “الشمال” كمفهوم أونطولوجي على بساط التفكير قبل تسييجه بسياج السياسة، فإذا هو محض “ريف”، مثمر للطائفية العرقية، أو هو محض “جبالة” أو “غمارة” قابل للبلقنة الجهوية؟ لم لا يتم السعي إلى التفكير فيه من حيث الوحدة المتوجة للتعدد، والتعدد المخصب للوحدة؟ أو أن هذا ليس من دواعي تفكيرنا؟ بل علينا أن نتبع ملة الشغوفين بالكليات القائمة على جزئيات غيرهم؟ والمغرب؟ أليس ضروريا تجديد التفكير فيه وقد صار ما صار إليه في السياسة والثقافة والاجتماع، والسعي إلى تجديد الانتماء إليه من منطلق التواطن لا “المواطنة” على أساس فكر مدائني يعيد للمدينة عنصرها التوحيدي الحداثي ضدا على دعوات العرقية والقبلية والطائفية الدينية والإيديولوجية. وأما تخوم الجغرافيا، فلا يخفى ما للحدود “الواقعية” الغير الشرعية التي بيننا وبين إسبانيا الرسمية من وقع على رؤيتنا للعالم، نحن الذين تعودنا على الشمولي والكوني، وفاتنا أن ذلك يمكن أن يتحقق بوساطة الذاتي والشخصي؛ إذ ينسى النظار المغاربة أن هناك أرضا لنا محتلة، ومقتضى الفكر الحرية، والإرادة، والاستقلال، ومقتضى الواقع التحرر والفعل والحركة، فكيف لا ينهض بهذه المسؤولية من قدّر له أن يكون الشمال أرضه، وأرض أجداده: أن يبني تداوله الفكري والفلسفي على تلك المقتضيات؟ وعلى ضوء ذلك ينبغي أن يكون تداولنا الفكري له خصوصيته المغنية للمتن المغربي: لم لا يكون المدخل إلى ذلك مثلا النظر في “آراء أهل إسبانيا الحيوية”، واصطناع الفكر واللسان الإسبانيين وسيلة من أجل إخراج مقتضى الفكر والواقع من حالة الإمكان إلى حالة التحقق؟ يعتقد بعضنا أنا نستبدل لسان “موليير” بلسان “سرفانتيس”، ولكنه غفل عن اعتزازنا بالانتماء إلى الفكر المغربي، وثقتنا في  جدوى التعبير  بلغاته الوطنية أو الرفادية، وغاب عنه أن ضغط التخوم في “السمارة” هي غير ضغط التخوم في تطاون، ولا هي ذاتها في وجدة، ولا حتى هي غيرها في الناظور، إذ من جميعها يتكون هذا المغرب الفكري الذي شاء له البعض أن يكون “واحديّ” البصر والبصيرة. من هنا عنايتنا في “الجمعية الفلسفية التطوانية” بالفكر المغربي والإسباني، ومساهمتنا الشخصية فيما سميناه بـ “الاهتمام بالعالم الفلسفي الإسباني”، من منطلق تطاوني، وبامتداد مغربي، ولعلها تلك ميزة  مشاركتنا في الفكر الوطني، وهي الميزة التي ينبغي أن يتسع لها صدر النظار المغاربة، وخصوصا المولعين منهم بالديموقراطية اللغوية والفكرية… آفاق التفكير الفلسفي في المغرب رحبة واسعة إذا أردنا ذلك، ضيقة شديدة الضيق إذا أردنا ذلك أيضا.

عن “الجمعية الفلسفية التطوانية 

Partager cet article
Repost0
24 novembre 2010 3 24 /11 /novembre /2010 20:47

خصوصية علاقة الفلسفة بالدين عند هيجل
زهير الخويلدي


” يبدو أنه قد حل العصر الذي يمكن فيه للفلسفة أن تنشغل بالدين بأكثر حرية وبصورة أجدى وأنجع”
إذا نحينا الدين جانبا واقتصرنا على دراسة الفلسفة كمجال للفكرة الشاملة فإنه من الطبيعي أن نقول بالتخاصم بين الفلسفة والدين باعتبار أن الأولى تهتم بالنقد والحرية والثاني يؤثر التسليم والإتباع.
ان الروح تتمثل نفسها في الدين على نحو خيالي وبتوسط الأسطورة وان التمثلات الأسطورية هي منتجات خيالية ابتكرها الكهنة لخداع الناس ولتحقيق مآربهم الضيقة، ولكن الروح قد تتصور نفسها في الفلسفة على هيئة فكر بالفعل وتنتقل بالإنسان من حال اليقين الحسي إلى الوعي بالذات، وهذا دليل آخر على وجود خلاف بينهما. علاوة على أن الدين أنتج لاهوتا عقليا وكلاما جدليا أبعد الناس عن الإيمان الصافي والرحب وعن التجربة الروحية المتفدقة، بينما الفلسفة أنتجت دينا مدنيا يتلاءم مع شؤون الدنيا ويدعم القوانين الاجتماعية والحقوق الوضعية، وفي ذلك تباين ثالث.
لقد ترتب عن هذا الوضع المتفجر دخول اللاهوت الكنسي في صراع مع الفلسفة وخشيته منها ودخول الفلسفة في صراع مع الدين الشعبي وحذرها الشديد منه وصارت الفلسفة معادية للدين والدين معاديا للفلسفة وبدا وكأن الدين يطلب من الإنسان التخلي عن الفلسفة ليكون مؤمنا حقيقيا وبدا أيضا وكأن الفلسفة تطلب من الإنسان التخلي عن الدين ليصير فيلسوفا بإطلاق. زد على ذلك أن الفلسفة حينما تتدخل في الشأن الديني كثيرا ما تفسده وتهدمه وتدنسه حسب رجال الدين وان الدين حينما يتدخل في الشأن الفلسفي كثيرا ما يحرمه ويعطله ويكفره حسب العديد من المفكرين الأحرار والفلاسفة النقديين.
كما تحدث خصومة وتحدي بين العقل الإلهي والعقل الإنساني وبين علوم الدين النقلية والعلوم الصحيحة والطبيعية التي يبدعها الاجتهاد العقلي، إذ في نظر المتدين يوجد في الدين من الإعجاز والأسرار ما يفوق قدرة العقل البشري، وفي نظر الفيلسوف يوجد في الإبداعية الإنسانية من قدرة على الخلق والابتكار ما لم يخبر به ظاهر الدين. علاوة على أن الحقيقة في الدين تنزل من الفوق إلى التحت ومن السماء إلى الأرض عن طريق الرسالة التي تحملها الملائكة وعبر واسطة الرسل والأنبياء والذين يظهرون المعجزات ويبينون علامات على صدق ما يوحى لهم وما أوصوا به من طرف الله، وهنا تتمثل مهمة الإنسان المخلوق في الإصغاء والتطبيق والحمد والشكر.في حين أن الحقيقة في الفلسفة تصعد من التحت إلى الفوق ومن الأرض إلى السماء وتكمن في قرارة الذات وتحمل علامتها في ذاتها وتبدعها بنفسه وتمنحها للعالم.
لكن هل هذه الخصومة بين الفلسفة والدين هي أمر طبيعي وشيء متوارث أم هو أمر طارئ وخطأ وقع التسليم به دون تحري أو نقاش؟ وألا يسبب لنا التقريب بين الفلسفة والدين إرباكا وحرجا؟ وهل يمكن الإقرار بوجود وحدة بين الفلسفة والدين؟ وكيف نفهمها إذا ما كان الخلاف بينهما قائما والتنافي مستمرا؟
والحق أنه إذا تتبعنا التكوينات الروحية للتفكير والمنابت المعنوية للتفلسف والتجليات الأخرى للروح والمصادر الميثولوجية والرمزية للعقل فإننا نتجاوز كل هذه المعارك والالتباسات ونجد تداخلا وظيفيا وصلة قربى بين الطبيعة الحقيقية للدين والجوهر الصافي للفلسفة ويظهر لنا الإلهي فيما ينتجه الإنسان ويتجلى لنا الإنساني فيما يبعثه الله. فهل ترك هيجل العلاقة بين الدين والفلسفة بهذه الكيفية التنابذية أم أنه أوجد صلة جديدة بينهما على غير عادة الفلاسفة الذين سبقوه ورسم بذلك الطريق الذي سيتبعه الطرفين في المستقبل؟ أليس من الأجدى أن ننظر إلى هذه العلاقة بصراحة ونزاهة وعلى نحو فعلي دون نفاق أو اخفاء وتمويه؟
في الواقع”نجد خلال التاريخ أن الدين والفلسفة كثيرا ما كانا شريكين أو خصمين سواء في عصر اليونان أو زمن الرومان،كما أن تعارضهما سمة هامة جدا في تاريخ الفلسفة، فمجرد زعم أو ادعاء أن الفلسفة كانت تزدرى الدين، إذ الواقع أن الفلسفة لم تهمل الدين إلا في الظاهر فحسب. ففي التاريخ لم يحدث أبدا أن ترك الواحد منهما الآخر دون أن يمسه.”
إن التظاهر بعدم الرغبة في تناول الظاهرة الدينية بالتمحيص والتأكيد على ضرورة الاحترام والتقديس لمحور الإيمان وإبداء الرغبة في عدم المساس يعطي الانطباع بأن الفلسفة في جوهرها تعارض الدين وتنقلب عليه كردة فعل على تجاهل رجال الدين الأفكار الفلسفية وتحرجهم الشديد من صدقية براهينها، ولذلك ينبغي على الفلسفة أن تتوجه دون تردد الى الاهتمام بالدين دراسة وتفهما.
هكذا يتبين لنا أن العلاقة بين الدين والفلسفة وثيقة جدا والقواسم المشتركة بينهما كثيرة وذلك لكون الدين يرتبط بالفلسفة ارتباطا مباشرا ويتضمن قضايا فلسفية وينتمي إلى تاريخ الفلسفة، كما أن الفلسفة تشارك الدين في الاهتمام بالروح الكلي وتتضمن مسلمات دينية وتنتمي إلى الحقيقة المطلقة للدين وحلت محله وأخذت عنه المشعل في العديد من المهمات والوظائف وساهمت في تنميته وتطويره وعقلنته ومكنته من الوعي بذاته. وعلى الرغم من كثرة الاختلافات التي تنشأ بينها تاريخيا إلا أن الفلسفة والدين يمتلكان العديد من النقاط المشتركة ويتبادلان الخدمات في الكثير من الأحيان.
إذا كانت العلاقة بين الفلسفة والثقافة العلمية شكلية وخارجية فإن العلاقة بين الفلسفة والدين مضمونية وترتبط بالمحتوى والغايات وذلك لكون “مضمون الدين ليس هو الدنيوي بل انه يواجه اللامتناهي” وان الأفكار الدينية مع الشعر والميثولوجيا والأسرار هي أكثر تكوينات الروح قربا من الفلسفة .
اللافت للنظر أنه يوجد موضوع مشترك تتقاسمه كل من الفلسفة والدين وهو الحق على نحو مطلق ويسميه الدين الوجود الأسمى وتنعته الفلسفة بالجوهر المطلق والعقل الكلي. كما يطمحان إلى نفس الهدف وهو تحقيق المصالحة مع المطلق والاتحاد بالفكرة الشاملة على قدر طاقة الإنسان. لكن ماذا لو افترضنا خلو الدين من الفكر وخلو الفلسفة من المسلمات الماورائية، وماذا لو كان الدين مجرد معطى طبيعي أو تجربة مدنية والفلسفة اقتصرت على أن تكون مجرد تأمل مثالي أوتجربة مذهبية روحانية؟
الجواب هو أن الفلسفة والدين يتحدان في المضمون والغاية ولكن يختلفان في الشكل. ولكن على الرغم من ذلك نعثر داخل الدين على فلسفة عفوية تعبر عن نفسه بشكل مباشر ونعثر كذلك في الفلسفة على عناصر دينية ومعتقدات ضمنية تمثل الفرضيات القبلية لكل رؤية للكون وتشكل شروط أصلية في تحديد طبيعة الذات والحقيقة والقيمة.
من هذا المنطلق”أن الفلسفة تشارك الدين في المضمون والحاجة والاهتمام: فموضوعها هو الحقيقة الأبدية، انه الله لا غير، انه شرح الله لا غير، إن الفلسفة لا تشرح غير ذاتها عندما تشرح الدين وهي تشرح الدين عندما تشرح ذاتها.إنها الروح المفكر الذي ينفذ إلى هذا الموضوع، إلى الحقيقة، وهي من بعض الوجوه تبلغ في هذا الانشغال بالدين إلى الاستمتاع بالحقيقة والى تطهير الشعور الذاتي، وهكذا فإن الدين يطابق الفلسفة في نفس الموضوع.”
إن الدين هو طريقة يعي بها الإنسان المطلق اللامتناهي ويسمح من خلال العبادة والخشوع بإزالة التعارض بين الناسوت واللاهوت وانجاز المصالحة بينهما وبلوغ درجة الاتحاد والاستمتاع بهذه الدرجة الوجودية، وبهذا يكون المعتقد الديني الانجاز الأسمى للعقل ويسمح بادراك لله من حيث هو مطلق لذاته وفي ذاته وتكون الشعوب قد عبرت من خلاله عن إدراكها للموجود الأسمى وتوقه لبلوغ اللامتناهي. وإن فضيلة الدين تكمن في كونه يساعد عبر نزعته التشبيهية على تقريب العالم الروحي من الأفكار الطبيعية والتعبير بماهو حسي عن الروح المطلق والعقل الكلي.
كما يقول هيجل:”لقد وضعت الشعوب في دياناتها أفكارها حول وجود العالم والمطلق وعما هو في ذاته ولذاته وما كانوا يتصورنه عن العلة والجوهر والوجود وجوهر الطبيعة والروح وأخيرا رأيهم الخاص في الكيفية التي ترتبط بها الروح البشري أو الطبيعة البشرية بتلك الأمور وبالله والحقيقة” .
لكن بقيت جملة من الإشكاليات حري بنا أن نطرحها وهي كالآتي: ماهو الدين الذي تفترضه الفلسفة معقولا؟ وماهي الفلسفة التي يعبر عنها الدين بشكل بديهي؟ و ماهي الأفكار الفلسفية الموجودة في الدين؟ والى أي حد يجب أن نأخذ العامل الديني بعين الاعتبار؟ وكيف نتعامل مع الجانب الإلحادي والريبي في الفلسفي من وجهة نظر دينية؟ وما محل الجانب الأسطوري والغيبي في الديني من الإعراب الفلسفي؟ وهل ينبغي على كل إنسان أن يتخذ لنفسه مذهبا فلسفيا معينا لصلاح دنياه وسداد فعله في عالم الشهادة مثلما يكون ملزما باعتناق ديانة ما لنجاته في الآخرة و هدوء نفسه في عالم الغيب؟ والى أي مدي يجوز القلب الذي قام به فيورباخ وماركس للفلسفة الدينة الهيجلية؟ وهل كان إصرار هيجل على الوحدة بين الفلسفة والدين هو العامل الرئيسي الذي سهل عملية القلب والشروع في النقد الجذري لللاهوت ولكامل الفلسفة المثالية؟ ولماذا تواصل الدين في المشهد الفكري المعاصر وعادت فلسفة مابعد الحداثة إلى الاهتمام بالديني؟ ألا يعني صمود يبعث على الدهشة للهيجلية في حقبة ما بعد ماركسية للعقل؟ وما صحة ما يتردد من انه استعادة هرمينوطيقية لفلسفة دينية ما قبل هيجلية وبالتحديد الى توجه”الدين في حدود العقل” عند كانط أو إلى مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا؟
المراجع:
هيجل، دروس في فلسفة الدين، عن الفرنسية نص ج، جبلان، باريس مطبوعات فران، الجزء الأول.طبعة 1959، ص. 32، نقله إلى العربية د. أبو يعرب المرزوقي.
هيجل- محاضرات في تاريخ الفلسفة، المجلد الثالث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، مكتبة مدبولي، القاهرة، طبعة 1997.
كاتب فلسفي

Partager cet article
Repost0
3 novembre 2010 3 03 /11 /novembre /2010 14:37

في المقاربة الأنطولوجية للغة عند هايدغر

أمينة جلال

 

 

« يتصرف الإنسان كما لو كان مبدع اللغة وسيدها،  في حين أن اللغة هي التي تهيمن عليه»

هايدغر

 

« إن اللغة هي التي تتكلم والإنسان يتكلم فقط بقدر ما يستجيب للغة وهو يصغي لما تقوله»

هايدغر

 

  تتخذ مجاوزة الأفلاطونية مع هايدغر شكل تقص للأساس المنسي، من أجل تملك النسيان والإفلات من شباك الأنطوتيولوجيا، بالانتقال من " السؤال الموجه" إلى " السؤال الأساسي"، أي من الحقيقة الأونطية إلى الحقيقة الأنطولوجية: حقيقة الوجود، اللاأساس كمنبع لكل "يكون"، ولعبة الانكشاف والانحجاب التي تفلت من السؤال لماذا...؟ كسؤال يتقصى السبب. ولاشك أن استعادة سؤال الوجود والعودة إلى "ماهية" الحقيقة أو أساس  الميتافيزيقا هو أيضا دعوة لتجاوز نمط القول المنطقي إلى القول الذي يكون استجابة للكلام المتكلم أي لحقيقة الوجود أو القول الأكثر أصالة.

يتحدد الكلام في المفهوم المتداول، الذي ساد تاريخ الميتافيزيقا، كملكة وكخاصية إنسانية وكتعبير ويتأسس هذا المفهوم على تصور انتروبولوجي للغة، فهو يفترض وجود داخل يتخارج ووجود وظيفة تتمثل في الإخبار وتبليغ الأفكار والمشاعر. غير أن السؤال عن ماهية الكلام، سيأخـذ فــي فكــر الوجود معنى ومنحــى آخر، ليصبــح سؤالا عن موضع الكـلام le site de la parole   وعن المنبع الذي يمنحه كينونته ويٌملِّك الإنسان خاصية التكلم. إن سؤال الكلام عند هايدغر لا ينفصل إذن عن السؤال الأول (سؤال الوجود) وقوة المقاربة الأنطولوجية للغة، تكمن في سعيها للعودة بنا إلى معنى أكثر أصالة  للكلام: الكلام المحض والخالص أو«الكلام من حيث هو كلام»[1] la parole en tant que parole  .

أن نحدد الكلام انطلاقا من الكلام، لا يعني بالنسبة لهايدغر سوى العودة به إلى "الماهية". فالكلام من تحديدات الوجود الذي وهو يتكلم، يعطي الإنسان القدرة على التكلم، لذلك فهو يقول في عبارة يعتبرها العبارة الموجهة له، في تلمسه لدرب الكلام «ماهية الكلام:  كلام "الماهية"»[2]. تؤخذ كلمة ماهية في الشطر الأول من العبارة في حمولتها الميتافيزيقية، التي تدل على ما به يقوم الكلام أي جوهره quiddité     (essentia)  ، الذي يعبر عنه في المفهوم Concept  . أما في الشطر الثاني فتؤخذ كلمة "ماهية " wesen   بمعنى الدوام والبقاء والاستمرار، غير أن هذا  الذي يستمر ويدوم ليس هو ما تصورته الميتافيزيقا من خلال تأويلاتها المختلفة، بل هو الفعل الذي يمنح ويعطي باستمرار.

وحين  يحمل الكلام على "الماهية" محددة  على هذا النحو، يعني ذلك أن التكلم من صميم الوجود، غير أنه لا يكون ضجيجا من الأصوات وتخريجا لداخل يزخر بالأفكار والمشاعر، بل قولا dire    « القول dire    و التكلم parler    ليسا مثيلين، يمكن للمرء أن يتكلم ويتكلم إلى ما لا نهاية، من دون أن يقول شيئا وعلى العكس من ذلك  يمكنه أن يلوذ بالصمت، أن لا يتكلم  ولكن وهو لا يتكلم يكون بإمكانه قول الكثير»[3] .

ليس الكلام إذن ضجيجا من الأصوات والكلمات. الكلام في معناه الأصيل بيان وإظهار وكشف، وكلام "الماهية" هو ما يطلق عليه هايدغر المقال la dite (die sage)   « المقال إظهار montrer  ..... الإظهار وهو يهيمن في كل الأنحاء، يسمح بتجلي ما يأتي إلى الحضور ويسمح باختفاء ما يغادر الحضور»[4] المقال يحيل إلى الفسحة l'éclaircie    كمجال للعبة الانكشاف والاحتجاب، القدوم والانسحاب. في الفسحة ينقال بمعنى يظهر كل حضور وكل غياب. القول كإظهار هو ما يصفه هايدغر من خلال الفعل  approprier  ، الذي يفيد إعطاء الخاصية لما يأتي إلى الحضور- ولما يغادره- بحيث يظهر بما هو عليه وفي تمام ماهتيه وإعطاء الخاصية appropriement   يتجاوز كل فعل لأنه « العطاء ذاته»[5].

وإذا ما كان الإنسان هو الكائن الذي يتكلم ، فذلك لأن نمط كينونته وإقامته تعود إلى الفعل الذي يهب ويعطي الخاصية، فالوجود هو الذي يحمل الإنسان لملاقاة الكلام والإجابة عنه بترديده أي « بحمل المقال الصامت إلى رجع الكلام»[6]، والإنسان يتكلم إذن لأنه يقيم في الكلام، وهو يتكلم بقدر ما يصغي إلى تكلم الكلام. وإذا ما كان يقيم علاقة مع الموجود، فذلك لأنه يسمح للمقال بأن ينقال، هذا السماح هو أصل كل  تمثل بشري للموجود. الكلام البشري ترديد وهذا يعني أنه حين يتكلم يكرر أي يقول ثانية redire   وفي ترديده للأنشودة الصامتة تكمن حظوته باعتباره قريب الوجود.

الإنسان يتكلم لأنه الموجود المعني « بالكلام المتكلم» la parole parlante  ، أي أنه الموجود المنادى عليه من قبل الوجود، بيد أن كلامه لا يكون كلاما إلا بمقدار ما يكون إصغاء أصيلا للكلام الأصلي واستجابة له وتوافقا معه « يتكلم الإنسان بمقدار ما يجيب عن الكلام. أن نجيب معناه أن نصغي. يكون هناك إصغاء حيث يكون الانتماء إلى إيعاز الصمت»[7]. هذا ما كان يقصده هرقلطس وهو يتحدث عن الإنصات للوغوس، بمعنى الانخراط في ما قيل وتحمل  الإقامة في الانكشاف وفي قلب حقيقة الوجود. إن المقال وبالرغم من أنه هو منبع الكلام البشري، يظل وإلى الآن لا متكلما وقلة هم من دون شك هؤلاء الذين ينصتون حقا: المفكرون والشعراء فهم « يسهرون على المأوى وسهرهم  هذا إنجاز لانكشافية الوجود، من حيث إنهم، من خلال قولهم، يحملون هذا الانكشاف إلى اللغة ويصونونه داخلها»[8].

تحمل المقاربة الهايدغرية للغة، خلخلة لفلسفة اللغة واللسانيات ولكل علم يجعل من اللغة ملكة إنسانية ونسقا من العلامات وأداة للتواصل. لقد انتهى التأويل الميتافيزيقي للغة، من خلال المنطق والنحو و العلوم، إلى إفراغ الكلام من ثرائه وإلى تحول اللغة في الأزمنة الحديثة، وفي عصر التقنية وبفعل الفكر الحسابي وعبر عملية الصورنة Formalisation  ، إلى أداة للسيطرة على الكائن، ليفقد الكلام القدرة على التكلم وليغدو مجرد ثرثرة وضجيج من الكلمات، وهو ما يعني بالنسبة لهايدغر أن ماهية اللغة تظل  تفلت من إنسان الميتافيزيقا وأن تجربة الكلام تظل تمتنع عن العقل الحاسب.

 التكلم بمعنى القول الذي يظهر هو أنشودة العطاء الصامتة و« اللغة هي مسكن الوجود الذي يقيم الإنسان في كنفه»[9]، فالإنسان يقيم في الكلام وأن يتكلم يعني ذلك أن يصون المأوى وأن يردد الأنشودة بحملها إلى رجع الكلمات وفي الشعر العظيم نعثر، حسب هايدغر، على هذا المعنى الأصيل للكلام. إن القول الشعري يسمي الأشياء، غير أن التسمية هنا، لا تكون مجرد كلمات أو نعوت نضيفها على الأشياء أو مجرد علامات لسانية للدلالة على الموجودات « أن نسمي  يعني ذلك أن ننادي بالاسم. للتسمية نداء ودعوة تجعل المنادى أكثر قربا»[10] إن التسمية في مناداتها للأشياء، تتوجه إليها في بعدها وفي غيابها لتدعوها إلى الحضور وفي استجابتها وقدومها ينعكس «العالم» . إن الشاعر الشادي حين يسمي الشيء أو الموجود، يدفع به لأن يكون ما هو عليه ولأن ينكشف في تمام ماهيته. فهو ينشد الأنشودة أو يردد الكلام كقول وإظهار Montrer، لذلك يقول هايدغر عن الشعر إنه  «تأسيس الوجود من خلال الكلام»[11]، وهو حين يدعونا إلى تجربة الكلام يكون المقصود بذلك، أن ندع الكلام الذي يعنينا يأتي إلينا، يصيبنا وأن نتحمل الإقامة  فيه وأن نتعاطاه بأن « نحمل إلى الكلام من حيث هو الكلام»[12] .

لاشك أن عملية تحرير اللغة من التأويل الميتافزيقي ومن قيود النحو والمنطق، تستدعي جهدا ومثابرة وعملا لا ينتهي إلا  ليبدأ من جديد وهذا ما تكشف عنه كتابات هايدغر نفسها في سعيها للانزياح عن المفهوم التقليدي للغة، ذلك المفهوم الذي يتوافق مع التعريف " الحيواني " للإنسان ويحجب كل منهما ماهية الإنسان ماهية اللغة، « إننا نرى في الصوت أو الكتابة جسم الكلمة ونرى في اللحن والإيقاع النفس كما نرى في الدلالة عقل اللغة. نحن نفكر عادة في اللغة في توافق مع ماهية الإنسان وقد تم تمثله كحيوان عاقل. غير أنه مثلما يظل الوجود المنفتح Ek-sistence محتجبا في إنسانية الإنسان الحيواني... كذلك التأويل الميتافيزيقي للغة على النمط الحيواني يحجب ماهيتها التاريخية الأنطولوجية»[13]. غير أن تجاوز التعريف المتداول للغة، لا يعني استبداله بتعريف آخر أو تعديله وتصحيحه أو تنفيذه، فهو يظل ضروريا ضرورة الميتافيزيقا، باعتبارها قدر الوجود وتاريخه، فما يهدف إليه هايدغر وهو يسائل اللغة، هو العودة بها إلى أساسها الماهوي وإلى منبع حصولها التاريخي الأصيل وذلك لأن أفول اللغة وإفراغ الكلام من ثرائه في عصر اكتمال الميتافيزيقا يحيل إلى الخطر الذي يتهدد ماهية الإنسان والذي يكمن في اغترابه عن مواطنه. إن كل إنجازات الإنسان الثقافية، لم تمكنه إلى الآن من الإقامة الحقة فوق هذه الأرض. يتجلى ذلك في « انسحاب الآلهة وتخريب الأرض وتدجين الإنسان وانتشار كل ما هو رديء ومبتذل»[14]. إن مشكلة الإقامة لا تكمن في أزمة السكن التي يشهدها عصرنا هذا، والمتمثلة في قلة المشاكل، بل في كون الإنسان لم يبلغ بعد ماهية الإقامة « إن أزمة السكن الحقيقية لا تكمن في نقص المساكن... الأزمة الحقيقية للسكن تقوم في أن البشر مازالوا يبحثون عن ماهية الإقامة وأنه يتوجب عليهم بدء تعلم الإقامة»[15].



[1] - Heidegger : "la parole" in Acheminement vers la parole, p18 , Gallimard 1976

[2] - Heidegger : "le déploiement de la parole" in Acheminement…..op cité, p185

[3] .- Heidegger : "le chemin vers la parole" in Acheminement ……….op cité, p239

[4] - Ibid ,p244

[5] - Ibid ,p246.

[6]  - Ibid ,p249

[7]  - Ibid ,p36

[8]  - Heidegger :  lettre sur l'humanisme , p 68 ( rec question 3 et 4 Gallimard 1996).

[9] - Ibid ,p67

[10] - Heidegger : "la parole" in Acheminement….op cité , p 22.

[11]  - Heidegger : Approche de hôderlin , p52, Gallimard 1973.

[12] .- Heidegger : "le chemin vers la parole" in Acheminement ……….op cité, p228

[13] - Heidegger :  lettre sur l'humanisme , op cité, p 91.

[14] - Heidegger : introduction à la métaphysique p54 Trad G.Kahn .P.U.F 1958 .

[15]- Heidegger :  Bâtir Habiter penser …in Essais et conférences , p 193 Gallimard 1958.  

 

 

 

Partager cet article
Repost0
3 novembre 2010 3 03 /11 /novembre /2010 14:30
زهير الخويلدي
الوعي الإنساني في التصور الفنومينولوجي
إمدادات هذا الكاتب  زهير الخويلدي 31 أكتوبر 2010

الوعي الإنساني في التصور الفنومينولوجي
زهير الخويلدي


“هذه الضرورة بالنسبة إلى الوعي في أن يوجد من حيث هو وعيا بشيء آخر غير ذاته يسميها هوسرل قصدية.”
لقد ادخل البحث في مطلب الوعي منذ الوهلة الأولى التساؤل عن ماهية الإنسان إلى صميم التفكير الفلسفي ولقد أيد المعنى الايتيمولوجي هذا الربط بين المعرفة والأخلاق وحازت ملكة الوعي على لقب الضمير.
غير أن الجديد الفلسفي عند ديكارت بالمقارنة مع السابقين هو المعنى البسيكولوجي الذي أعطاه للوعي وذلك بالانتقال من تعريف الإنسان بكونه جوهر ميتافيزيقي وحيوان ناطق يخضع إلى نواميس الكون عند الإغريق والعرب والرومان إلى التعامل معه على أنه ذات عارفة وأنا مفكر وثنائية تتصل فيها النفس بالجسم ولكن النفس تحدد وفق ثلاثة معان:
- النفس هي مبدأ حيوي يغذي ويوجه الجسم.
- النفس موجود روحي متميز عن الجسم وغير فان ويجعل من الإنسان كائنا دينيا وأخلاقيا.
- النفس هي جوهر كل طبيعته أو ماهيته تقوم على الفكر.
على النحو يعرف ديكارت الذات بالاعتماد على الوعي والكوجيتو وإذا كان الوعي هو الإدراك الذاتي والمعرفة التي يتقاسمها المرء مع غيره وينقسم إلى وعي مباشر يرافق كل واحد منا في حركاته وأفكاره ووعي منعكس على ذاته يطرح نفسه في علاقة مع موضوعه سواء كان وعيا بالذات أو وعيا بالعالم الخارجي ووعي أخلاقي وهو ملكة خاصة بالحكم على القيمة الأخلاقية للأفعال بطريقة عفوية فإن الذات تتمثل في الكائن الذي نتكلم عنه بالتعارض مع الصفة التي تحمل عليه أيضا تتحدد في الكائن الذي يكون مبدءا لأفعاله وعارفا أفكاره التي يعرفها بالتعارض مع الموضوع المعرف. غير أن الأهم هاهنا هو اعتبار الكوجيتو جوهر الذات ويقين أول ومبدأ الفلسفة ويربط بين التفكير الشخصي والوجود الذاتي بحيث ينقطع التواجد إذا كف المرء عن الحضور في الذات عن طريق الوعي ويترك المجال لتدخل فرضية ميتافيزيقية حافظة هي فكرة الإله الضامن المتعارضة مع فرضية الشيطان الماكر التي هي مصدر الشك والتضليل.
لكن هل يمكن أن نعرف الإنسان بواسطة الوعي؟ أو هل يكفي الكوجيتو لوحده لتحديد جوهرية الذات؟
إن طرح واقعية الجوهر المفكر قد مكن ديكارت من إثبات سيادة الفكر على مجموع انتاجاته ومن المماهاة بين الفكر والوعي وبين الشك والتحرر وبين الأنا والذات وان المبتغى الذي تحقق هو أن هذا الوعي الديكارتي قد جعل من الإنسان ذاتا منطوية على ذاتها ومشاهد خارج الأشياء ينظر إليها من موقع متعال.
يعلق سارتر على فكرة الكوجيتو الديكارتي:”إن كل ما يتصور خارجا عن هذه الحقيقة الأولية، حقيقة أنا أفكر أنا موجود يقع في عالم امكانيات لا يتصل بالواقع والحقيقة وهو لذلك يذوب في العدم. إننا لا نستطيع أن نحدد الممكن إلا إذا تملكنا الحقيقي الواقعي إذن فمن شروط إيجاد حقيقة ما يجب أن نعتمد حقيقة مطلقة، وهذه الحقيقة بسيطة للغاية: هذه الحقيقة هي في متناول الجميع وهي لا تعني أكثر من أن علينا أن نعي أنفسنا بأنفسنا وبدون أية واسطة كانت” .
ان اللافت النظر هو أن الكوجيتو الديكارتي تعرض إلى قراءات متنوعة ومراجعات عديدة من كل الاتجاهات تقريبا سواء كانت تجريبية مثل هوبز وهيوم ولوك و أو مثالية مثل باركلي وفيخته وشيلينغ وهيجل أو نقدية مثل كانط وماركس ونيتشه أو علمية مثل فرويد ولاكان وكلود ليفي ستروس ولكن أهم المنهجيات المعاصرة التي اشتغلت عن كثب على هذا المبدأ هي المدرسة الفنومينولوجية من خلال منهج الوصف والتمعين والتفسير والتأويل والفهم وهي اجراءات متفرقة قام بها هوسرل وسارتر ومارلوبونتي وريكور.
لقد تفطنت الفنومينولوجيا في البداية الى وجود وعي قبل تفكيري هو الذات من حيث هي موجودة في العالم وتحوز على وعي يحضر في العالم وتلقي به نحو الأشياء من أجل إعطائها دلالة وجودية. كما انتبه إلى خضوع الوعي إلى جملة من الشروط الموضوعية عند ظهوره ويرافق عادة ظاهرة الحياة عندما تبلغ درجة عليا من النمو والتعقيد وتحوز على ملكة إحساس ناضجة وتخيل واسع وتذكر عميق ويعكس ثراء البنية العلائقية التي تربط الكائن الفردي بالأسرة والجماعة والطبقة والمجتمع والتاريخ والمطلق اللامتناهي. فهل يمكن أن نفسر الذات تفسيرا متكاملا بواسطة الوعي؟ ولماذا نقوم برسم حد فاصل بين الوعي وموضوعه؟ وألا ينبغي أن نعود إلى الإنسان كما هو موجود العالم قبل كل معرفة مسبقة؟
على هذا” لا يتوانى هوسرل في التأكيد بأننا لا نستطيع إذابة الأشياء في الوعي…إن الوعي يتطهر وهو واضح مثل ريح قوي ولا يوجد شيء فيه سوى حركة هروب منه وانزياح من ذاته.”
من هذا المنطلق يكشف مارلوبونتي عن وجود ثلاثة معان للوعي:
1- معنى نفساني ويتمثل في إدراكي لذاتي ككائن مفكر وهي تجربة فورية ويقين مباشر لا يمكنني أن أشك فيه يمنحني الوجود ما دمت أفكر. وهذه الحقيقة الأولى المفهومة تظل هي الحقيقة الوحيدة أو لا تستطيع أن تصاغ كحقيقة ولذلك فهي تختمر في اللحظة ويقع التثبت منها بصمت.
2- معنى مثالي لا يقتصر على فعل التفكير وإنما يتعدى ذلك إلى المواضيع التي يقصدها هذا الفكر وهنا تحصل بداهة ليس فقط بالوجود الخاص بل وأيضا بالأشياء التي يفكر فيها أو على الأقل كما يتمثلها وهنا يكون الكوجيتو هذه البداهة المثالية حيث تكون الذات شفافة تماما بالنسبة إلى ذاتها.
3- معنى واقعي ثابت هو حركة الشك التي تضع بين قوسين كل المواضيع التي تطالها التجربة الإنسانية وتعي ذاتها كتجربة واقعية قائمة الذات ولا يمكن أن تضع ذاتها في موضع شك. إن اليقين الذي تكون الذات عن ذاتها هو إدراك واقعي وعلى الحقيقة.
“ان الكوجيتو هو الحصول على الوعي بهذه الباطنية. لكن كل دلالة هي من هنا مدركة بذاتها بوصفها حركة فكر وبوصفها عملية للأنا المجرد.” ألا تمثل هذه الباطنية نوع من الأنانة أو الأناوحدية؟ وكيف السبيل للخروج من الانفصال عن العالم والتعالي عن الجسم الذي يسم الوعي الديكارتي؟
غني عن البيان حسب مارلوبنتي”أن الفكر معطى إلى ذاته وقد قذف بي بشكل ما في الفكر وأدرك ذاتي بذلك. وبهذا العنوان أنا متيقن من أني أفكر في هذا أو ذاك في نفس الوقت الذي أفكر فحسب.”
يتمثل التصور الفنومينولوجي للوعي في إشباع العقل في مقابل كثافة المادة وإعادة الاعتبار إلى سمو الشخص بالنظر إلى الفكر بكونه ملقى به في العالم وفي مواجهة الأشياء وهو فكر متحرك نحو جملة من المقاصد وملتزم بجملة بالمهام ولذلك يمكن الخروج من الوعي النفساني والبحث عن كوجيتو كوني خاصة وأن الوعي ليس حدثا متكونا وإنما هو فكر يتحرك ولا يقدر على بلوغ حقيقته المثالية وبالتالي لا يستطيع في كل عملية تفكير أن يقدم جميع شروط تحققه ولذلك يفضل أن يكون الأفق لكل عملياته فحسب. ان”القصدية التي نحن هنا بصددها ليست قصدية وجدان ترنسندنتالي، إنها قصدية حياة كما يقول هوسرل قصدية شخص غائص في أعماق العالم الأصلي لذلك يبحث مرلوبونتي عن مصدرها في الجسد ذاته” .
من هذا المنطلق إن الوعي الفنومينولوجي هو وعي قصدي يتجاوز فراغ المحتوى وحالة الانثناء على الذات ويهم بالخروج نحو عالم الأشياء دون مبارحة عالم الذات وذلك بأن يكون لحركة الوعي وجهة ومشروع تنجزه. بين إذن أن “الوجود – يقول هايدغر- هو الوجود في العالم، وافهموا هذا الوجود في العالم بمعنى الحركة. إن الوجود هو الانفجار في العالم ، انه الانطلاق من عدم العالم والوعي من أجل الانفجار فجأة وعيا في العالم.”
لكن كيف ينظم الوعي عملياته التفكيرية؟ وما الفرق بين الذات الواعية والموضوعات التي تظهر على سطح الوعي؟ وكيف يستطيع المرء أن يرى في ذاته العالم الخارجي وهو ليس له وعيا واضحا بذاته؟ وكيف يستطيع أن يرى ما يحدث داخل ذاته وهو ليس له وعيا واضحا بالعالم الخارجي؟
إن العمل المميز للوعي يتمثل في حفظ الماضي عبر الذاكرة والانتباه إلى الحاضر عبر التعقل والفطنة وتوقع المستقبل المداهم عبر الافتراض والتخيل ولذلك يفترض الوعي قدرة الذات على رؤية ذاتها بل أكثر من ذلك بعبارة الضمير المتكلم: إني أريد أن أرى أني أرى وذلك لكون الوعي هو القدرة على الترائي والرجوع إلى الذات تماما مثلما يحدث في العملية البصرية لاسيما وأن عمل الوعي ينقسم بين التصور والنظر ويكون إذن أساس الحرية والمعنى ،وفي اختبار الوعي يدرك المرء عمله وكأنه معروض أمامه في خزانة من البلور المضاءة ويتكلم عنه ويصدر بشأنه قرارا نفيا أو إثباتا.
إن الوعي هو بالأساس استعداد المرء للانخراط في تجربة التفكير والنظر عبر المفاهيم والتمثلات نحو العالم والالتزام النقدي بالبحث عن الحقيقة والمعرفة ، وفي الوقت الذي يفكر فيه في المواضيع الخارجية لا ينفك يفكر في نفسه ولا يستطيع ألا يدرك ذاته وعندما يفكر في نفسه لا يمسك نفسه عن النظر في حقائق العالم الذي يندرج ضمنه ويضفي عليه المعنى. وكما يقول مارلوبونتي:”انه داخل ذواتنا نعثر على وحدة الفنومينولوجيا ومعناه الحقيقي…وان الأمر يتعلق بالوصف وليس بالتفسير ولا بالتحليل…وان العودة إلى الأشياء ذاتها يعني العودة إلى هذا العالم قبل المعرفة حيث تتكلم المعرفة دائما عنه.”
في النهاية يمكن طرح بعض الاعتراضات مثل :هل يمكن أن يعكس الوعي الذاتي الفردي وعي المجموعة الثقافية التي ينتمي إليها؟ ماذا لو كان شعور المرء بأنه واع مجرد أضغاث أحلام وشعور زائف؟ ألا يمكن التمييز بين الوعي المباشر والوعي المنظور الذي يعطي المرء اليقين إلا بتفعيل التفكير؟ وهل اللاوعي هو عدم القدرة التي عند المرء في تذكر الماضي وصعوبة الانتباه إلى الواقع الحاضر والخطأ في توقع المستقبل؟ وهل يؤدي ذلك إلى استحالة وجود كوجيتو كوني ووعي كلي؟
المراجع:
جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة كمال الحاج، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1983.

جان فرنسوا ليوتار، الظاهرتية، ترجمة خليل الجر، سلسلة ماذا أعرف 43، المنشورات العربية.

Jean – Paul Sartre, situations1, Gallimard, 1947.
M. Merleau-Ponty, phénoménologie de la perception, éditions Gallimard, paris, 1945.
M. Merleau-Ponty, le primat de la perception et ses conséquences philosophiques, Bulletin de la société française de philosophie, Armand Colin (oct- dec.1947).

Partager cet article
Repost0
14 septembre 2010 2 14 /09 /septembre /2010 11:21
سقراط ... العمل بحماس من أجل كمال النفس

قيس مجيد المولى
الحوار المتمدن - العدد: 3123 - 2010 / 9 / 13 
 
       


يولي اليونانيون القدماء أهمية إستثنائية للتاريخ السياسي والإجتماعي . وقد أدى ذلك بالمؤرخين في وصفهم لما يجري في بلادهم أن يسهبوا بالحديث عن الذين برزوا في هذين المجالين وقلما أو بالكاد أن يذكروا ضمن واجهات ذلك الصراع المفكرين من الكتاب والفنانين ولذا فإن محاكمة سقراط قد دخلت في الإتجاه السياسي والإجتماعي والتي خلفت فيما بعد جدلاً كبيراً حول مشروعية الحكم عليه بالموت . ولد سقراط في أحد الأقاليم المتأخمة لأثينا للعام 469ق.م من والدٍ ينحت الحجارة ووالدةٍ تجيد فن التوليد وقد ألهمته مهنة والدهُ(النحت) أن يسير بهذا الإتجاه في بداية شبابه لينشغل بهذا الفن فترةً ليست بالقصيرة وأستطاع من أن يلم بمكونات هذا العمل ويبدع فيه حيث ذكر الذين لازموه تلك الفترة بأن سقراطَ قام بتنفيذ مجموعة من التماثيل الصغيرة التي تجسد الإلهه عند اليونانيين والتي تسمى (الكاريت) ولأهميتها فقد كانت توضع أمام مدخل معبد الإكروبول وقد إنقسم المؤرخون حول المام سقراط بالنحت وقيامه بنحت هذه التماثيل تحديداً بين فريق يؤيد صحة هذا العمل وإجادته وفريق أخرَ أعتبر ذلك نوعاً من الميثولوجيا . ولابد من الإشارة إلى أن الفلسفة التربويه اليونانيه تولي أهمية لتربية الشباب اليوناني وكانت مناهجها تنسجم مع التوجهات الأثينيه حيث كانت التربيه الأساسيه المنهاج الرئيس لإعداد الشباب والذي يتضمن الموسيقى والتربيه البدنيه وكانت الموسيقى تُعَلَم بإتجاهين الإتجاه الأول والذي يشمل الإعداد الموسيقي لتعلم العزف على الناي والقيثاره ثم الغناء والرقص والذي يستند أصلاً على البطولات والمأثر وتمجيد القاده ومعارك أثينا مع الفرس في أواسط أسيا وسيطرة الأثينيين على شرق البحر المتوسط والإتجاه الأخر في تعلم الموسيقى هو الإهتمام باللغه أي دراستها وتعلمها وكان ذلك الإهتمام منصباً على حفظ نصوص الشعراء الملحميين والشعراء الغنائيين ( هوميروس _بيندار ) لان هذه الأعمال أحد وسائلهم لتثوير الحماس لدى النشئ للاعتداد بإنتمائه وبالتالي إستعداده التام للتضحية في سبيل أمته أما برنامج التربية والتعليم فغضافة غلى مايتم تعلمه من علوم الحساب والهندسة فهناك الإهتمام بالجانب الجسدي أي التربيه البدنيه (المصارعة- السباقات- الرمي- إجتياز الحواجز- المطاولة ) وغيرها من الفعاليات البدنية والتي تنمي أساساً حب المواجهة والدفاع عن الوطن والنفس ولقد كان سقراط ضمن ذلك المناخ التربوي والذي طغى فيه الإتجاه الأول الذي ذكرناه من تلك الفلسفة التربوية . أما حياته العائلية فلم تمر بسلام فقد كان يعيش بمشاحنات يوميه مع زوجته بسبب إستياء الزوجة من زوجها الذي يقضي اليوم بكامله في شوارع أثينا وأسواقها وساحاتها بدافع الحصول على المعرفة من خلال المجادلات التي يجريها مع أصدقائه ومعارفه ومن يراهم في تلك الأماكن حتى إن هذه المشاحنات قد تعمقت في نفس زوجته لتنقلب إلى سلوك شرير بدءاً من وصف زوجها بأوصاف غير لائقة فتنعته تارة بالثرثار وتارة بالكسول وأحياناً ترمي عليه النفايات أو تقلب من أمامه مائدة الطعام إلى قيامها بطرد أصدقائه الذين يأتون إليه لإحياء حلقات المجادلة وإستكمال حواراتهم التي لم يستكملوها ورغم ذلك السلوك فإن معاصري سقراط (أكسينوفان وأفلاطون) يشهدان على أن (أكزانتيت) وهو إسم زوجة سقراط كانت إمراءة محترمة وأمراءة مُحبة تسعى لتربية أولادها والقيام بالواجبات الأسريه المطلوبة ولم تجد في سقراط ماينسجم مع طبيعتها تلك ولعل الغرابة حين سئل سقراط عن سبب هذا الإختيار الصعب فقال بانه إمتحان لي فإذا ماتحملتها فسوف أتحمل التعامل مع الناس الأخرين . لقد ركز سقراط في فلسفته في البحث عن الحقيقة وتلك التي تسمح بتعريف المفاهيم الأخلاقية بإبراز السمات العامة والأساسية لمفهوم ما أي تلك السمات التي تفسر الماهية ليقدم ذلك بطريقة الأسئلة والاجوبة ويتجه في كشفه للحقائق من أن إختيار المفهوم العام شئٌ معقد لذا يقترح على الأخرين الأخذ بأحد أركان هذه الحقيقة المراد الوصول اليها وهذا ماطبقه في حواراته عن (الفضيلة- الشجاعة- الحكمة ) وغيرها من هذه الحقائق . لقد رائ سقراط إن المعارف تسمح للانسان أن يمتلك سلوكاً حكيماً يستطيع من خلال هذا السلوك تفجير قدراته ويستخدم بدراية كامله طاقاته الماديه ومواهبه العقليه وميوله ورغباته لذا فان سقراط قد إستنتج بأن المعرفه تعني (الخير ) وإن الجهل يعني (الشر) ونصح بأن يعمل المرء بحماسه من أجل إكتمال النفس وإن إختراقاً فكريا وأخلاقياً للأنا قادرٌ بأن يصل بالانسان إلى الحياة السعيدة الفاضلة لذلك فقد وضع الجسد وأفعاله في البون الأخر حين دعا الإنسان بمقولته الشهيره (إعرف نفسك بنفسك)
أما في محاكمته فقد تصرف كمعلم لمحاكميه داعياً مواطنيه إلى السمو بالفضائل الروحية وجعلها فوق مستوى الفضائل المادية ولم يتنكر سقراط لروح المبادرة لدى الأثينيين في تعزيز قوتهم ومضاعفة ثرواتهم ولكنه يعتقد إن إزدهار المدن يقوم على غنى الحياة الروحية ولايقوم على ركوب المراكب وأجتياز الأسوار وأمور أخرى ودعا إلى خلق المواطن ( النخبة ) ووصف توجه الدوله بعكس ذلك بأنه إغراق المواطنيين بالبلاده الاخلاقية والعقليه . لقد رفض افلاطون إخلاء سبيله لان هذا الإخلاء يعني لديه التوسل للصفح عنه ورفض حضور عائلته إلى المحاكمة كي لايفسر بأنه يستدر العطف ويؤثر على قرار القضاة وتقبل الموت من أجل سمو المعرفة

Partager cet article
Repost0
27 août 2010 5 27 /08 /août /2010 14:52

الهوامل والشوامل، حول الإسلام المعاصر" لمحمد اركون

 



باب الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة
اختار محمد اركون عنوان كتابه "الهوامل والشوامل" (اصدار دار الطليعة – بيروت) تيمنا بالعلاقة الروحية التي تربطه بأبي حيان التوحيدي الذي وضع كتابا بالاسم نفسه. الكتاب هو الجزء الاول من كتاب بعنوان "الف باء الاسلام، من اجل الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة"، ويتركز على جملة اسئلة واجوبة توخى فيها اركون اقصى التوضيح للمفاهيم التي يطرحها ولمشروعه في نقد العقل الاسلامي، خصوصا ان الكتاب يرمي الى مخاطبة الآخر الاجنبي والسعي الى التفاعل مع هواجسه ونظرته الى الاسلام كما يقدم نفسه في العقود الاخيرة. ترجم الكتاب وقدّم له هاشم صالح.
يرمي مشروع اركون الى تحرير التراث او بمعنى آخر تفكيك الانغلاقات اللاهوتية القائمة في كل الاديان التي تستخدم المقدسات لتبرير العنف او لخلع المشروعية الالهية عليه. هذا ما نلحظه في الخطاب الاصولي الذي يلجأ الى التغطية اللاهوتية واصدار الفتاوى الدينية التي تبرر العنف الممارس من جانب الحركات الاصولية المتطرفة. مع الاشارة الى ان آليات النبذ والاقصاء وعدم الاعتراف بالآخر هي قواسم مشتركة بين الاديان التوحيدية الثلاثة بصرف النظر عن عقائدها المتكونة او طقوسها الممارسة على امتداد تاريخها. يترتب على هذه النظرة مهمة اساسية مطروحة على المجتمعات العربية والاسلامية لتجاوز هذه الانغلاقات، الا وهي القيام بنقد العقل الاسلامي المهيمن والمحدد لمجمل الثقافات والممارسات السلطوية. ويشدد اركون على "نقد العقل الاسلامي" وليس نقد العقل العربي، وفق ما يقول به محمد عابد الجابري، لكون المسلمين جميعا، وفي كل مكان يسود فيه الاسلام، محكومين بالمسلّمات اللاهوتية نفسها التي تتحكم بعقولهم وبطريقة اشتغال العقل ومساره، اضافة الى كون المسلمين لم يتجاوزوا حتى اليوم المرحلة اللاهوتية او الغيبية، لينتقلوا الى مرحلة العقل العلمي او العلماني، من دون ان يؤدي ذلك الى التضحية بجوهر الدين الاسلامي وبالمثل الاخلاقية والقيم الروحانية التي ينطوي عليها.تقوم منهجية اركون في قراءته للتراث الاسلامي على استخدام ما يعرف في علم التاريخ بالمنهجية التقدمية – التراجعية، التي تذهب الى ان كل مشكلة في الحاضر لها جذور عميقة في الماضي، بحيث يصعب فهمها واقتراح حلّها من دون النبش في جذورها. وهو يستعين بما قدّمته مدرسة الحوليات الفرنسية وخصوصا منها كتابات بروديل حول منظور "المدة الطويلة" للحفر عميقا في الطبقات المتراكبة للتراث ونزعها طبقة طبقة. اكثر ما جعل اركون استخداما لهذه المنهجية، انما يعود الى واقع المجتمعات العربية والاسلامية التي انتجت لاهوتا في القرون الوسطى لا تزال تعتقد انه ذو طابع سرمدي وابدي من غير المسموح نقاشه او المس به، وبحيث يقدم هذا التراث الاسلامي نفسه في كونه فوق التاريخ وفوق الواقع وفوق الوجود، على غرار ما تقدم نفسها المسيحية واليهودية. لذا كان لا بد من الحفر الاركيولوجي في مجمل العقائد الاسلامية المعتبرة ذات رسوخ وقدسية، للكشف عن تاريخيتها، وعن بشريتها، بحيث يشكل هذا البحث التاريخي وسيلة لإسقاط الاوهام المسيطرة على العقل الاسلامي وخلق وعي تاريخي وعلمي بهذا التراث.
في كتابه الراهن، كما في باقي كتبه، يسعى اركون الى الكشف عن ابعاد النزعة العقلانية والانسانية في التراث الاسلامي لا سيما في عصره الذهبي في القرون الوسطى، والى تعيين ما اصاب هذه المجتمعات بعد القطيعة التي رافقت دخول العالم الاسلامي عصور الانحطاط التي لا تزال تتحكم برقاب الشعوب العربية والاسلامية وعقولها حتى اليوم. بل ان المصالحة اليوم بين الاسلام والحداثة تبدو مشروطة بهذه المراجعة والغربلة النقدية لموروثنا القديم السائد، على غرار ما عرفته اوروبا منذ عصر الانوار حتى اليوم، حيث لم يكن الانغلاق اقل جبروتا في المجتمعات المسيحية عما هو عليه في المجتمعات الاسلامية.
السؤال الدائم الذي يلاحق اركون ويؤرقه ويخترق كل كتاباته هو الآتي: كيف يمكن ان نخرج من انغلاقاتنا اللاهوتية كيهود وكمسيحيين او مسلمين لكي نستطيع ان نتعرف الى الاخر ونصيبه من المشروعية الدينية والانسانية؟ وكيف يمكن ان نخرج من عقلية التكفير والنبذ المتبادل بين اتباع هذه الاديان الكبرى على مدار التاريخ؟ مما يوجب تشكيل نزعة انسانية محلية وكونية تنخرط فيها جميع الشعوب ومعها الاديان.
في اجوبته عن بعض الاسئلة، يتوقف اركون عند مسألة وجود معرفة علمية حقيقية عن الاسلام في الغرب، فيجزم بضعف هذه المعرفة بشكل عام، وبنظرة غير موضوعية يراها متعمدة احيانا من جانب المثقفين المعنيين بتقديم الاسلام والتعريف به. لا شك ان عوامل موضوعية ساهمت في تقديم صورة سلبية عن الاسلام في الغرب، اولها الثورة الايرانية ونمط الحكم الذي ولّدته واسلوب الحياة الذي فرضته على المجتمع الايراني بالقوة والسيف، وتقديم نفسها النموذج الاسلامي الواجب تطبيقه. عامل آخر يتصل بانبعاث الحركات الاصولية المتطرفة وصعودها، ورفعها شعار العنف، معتبرةً غير المسلم كافرا بما يسمح بإعلان الحرب عليه، واستخدمت في ذلك نصوصا دينية تعود الى زمن الدعوة ورأت فيها اسلاما واجب التطبيق ومنها ما يعرف بآيات الجهاد او العنف. لعل هجمات الحادي عشر من ايلول عام 2001 كانت من ابرز نتائج هذا الصعود الاصولي وتطبيق الثقافة التي يحملها تجاه غير المسلمين. لعل ضربة 11 ايلول سجلت اهم العوامل التي جعلت الكثيرين في الغرب يدمجون بين الاسلام والارهاب ويساوون في ما بينهما. اضافة الى هذه العناصر، كان الصراع العربي - الاسرائيلي احد العوامل في النظرة السلبية تجاه الاسلام، سواء من خلال الانحياز الغربي لإسرائيل او من استخدام العمليات الانتحارية باسم الإسلام ضد المدنيين في الاراضي المحتلة وخارجها، هذا من دون ان نتجاهل ما يقدّمه بعض المسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية من نمط مسلكي وممارسة عنف لم تعد المجتمعات الغربية تهضمه وتقبل به. الى هذه العناصر الموضوعية وجود عناصر ذاتية تتصل بالكيفية التي يقرأ فيها الإسلامَ كتّابٌ من الغرب، مما اوجد نتاجا سطحيا لا يتصل بالفهم العلمي للإسلام والتمييز بينه كدين وبين الاسلام كإطار تاريخي امكنه بلورة ثقافة متعددة الجوانب والمشارب، وحضارة ذات تاريخ واثر مهم على النهضة الاوروبية نفسها.
يولي اركون اهتماما بتوضيح معنى كلمة "اسلام ومسلم"، فيشير الى ان كلمة اسلام تعني في حقيقتها تسليم النفس بكليتها الى الله، وان ابراهيم "التوراتي" مقدّم في القرآن على انه مسلم، مع العلم ان "ابراهيم يجسد في شخصه الموقف الديني التأسيسي للتوحيد او للوحدانية قبل بلورة الطقوس والشعائر والشرائع المختلفة التي ادت الى التمايز بين الاديان التوحيدية الثلاثة لاحقا. انه ابو الاديان التوحيدية الثلاثة". مع الاشارة الى ان القرآن استعاد في نصه القصص القديمة التي تحفل بها التوراة والانجيل، فأجرى تعديلات عليها بما جعلها تتوافق وتتكيف مع واقع المجتمع العربي في الجزيرة العربية وظروفه في بداية القرن السابع الميلادي. يهدف اركون من خلال هذه التوضيحات الى طلب تحاشي استخدام كلمة اسلام من اجل وصف مجتمعات شديدة الاختلاف والتنوع، فالاسلام الذي نشأ في الجزيرة العربية ليس هو نفسه الذي انتشر في مجتمعات آسيوية وافريقية واوروبية طبعت الاسلام الآتي فعدّلت في هذا الاسلام واثّرت فيه، كما اصابها من تأثيراته الكثير. وهو امر يدعونا الى القول بإسلام واحد من حيث العقيدة الدينية، واسلام متعدد من حيث الشرائع والفقه، مما يعني ان هناك "اسلامات" بقدر ما هناك مجتمعات بشرية وليس اسلاماً واحداً.
في اجوبته حول موضوع الوحي والقرآن، يعتبر اركون ان من شروط دراسة الوحي بشكل علمي وموضوعي ان نضع على محك البحث ما تعنيه الكلمة في تحديداتها اللاهوتية في اليهودية والمسيحية والاسلام، لان كل دين من هذه الاديان يقدم نفسه على انه قائم على الوحي. فالتصور الاسلامي التقليدي للوحي يحدده على انه "التنزيل"، اي النزول من السماء الى الارض. ويذهب المفسرون المسلمون للوحي الى القول بأنه "إلهام يحصل إما كفكر يثيره الله في روح شخص ما لكي يتيح له القبض على جوهر الرسالة المنقولة، وإما كعبارة لغوية مقدمة في لغة بشرية". في هذا المعنى يلعب الوحي دورا في تغذية التراث الحسي للطائفة التي تؤمن به، فتستمد منه "غذاءها الروحي بين وقت وآخر"، خصوصا عندما ترى فيه الوحي الحقيقي فيما تشكك في الوحي لدى الطوائف الاخرى، لا سيما في حالة النزاع على الدين الحق وأخطار استخدامه في الصراعات السياسية والاجتماعية.
يولي اركون تجربة اتاتورك في تركيا اهمية بالنظر الى التساؤلات عن إمكان تطبيقها في المجتمعات العربية والاسلامية وحظوظ نجاحها. يرى ان اتاتورك استطاع انتزاع تركيا من مستنقع التخلف العثماني المديد، واقام تحديثا ماديا اكثر منه حداثة فكرية، وفرض العلمانية على المجتمع التركي. لكن "الاطر الاجتماعية التركية للاستقبال والذاكرات الجماعية المختلفة لم تكن قادرة على هضم المتغيرات الضخمة التي فرضها على الشعب واستيعابها... ان قطاعات واسعة من المجتمع التركي ظلت بمنأى عن العلمانية التي ادخلها اتاتورك بالقوة وفرضها على المجتمع من فوق". وهذا ما يفسر الانتصار الكاسح في السنوات الاخيرة لحزب التنمية والعدالة الاسلامي في تركيا، وعودة الكثير من الرمزيات والمظاهر التي كان اتاتورك قد منعها بالقوة من قبيل الحجاب وبناء المساجد بكثرة، ومعها سعي الاحزاب الاسلامية الدؤوب للحد من الهيمنة العلمانية وإدخال قوانين ذات طابع اسلامي في التعليم والمدارس والثقافة اجمالا. لا يقلل تمسك الجيش بالحفاظ على النظام العلماني من أخطار هذه العودة الى الاسلام على مجمل الوضع التركي مستقبلا.
في جوابه عن ماهية النصوص الاسلامية التأسيسية للاسلام بعد القرآن، يشير اركون الى ما يعرف بـ"السنة"، التي تتشكل من مجموعة الاحاديث الواردة على لسان النبي محمد، وهي تعني عمليا مجمل الكلام والسلوك اللذين صدرا عن النبي ابان حياته. وهذا "ساهم في تشكيل تلك الشخصية الرمزية والنموذجية المثالية العليا لمحمد، وهي شخصية تجمع بين وظيفة الرسول الناقل لكلام الله الى البشر من جهة، وبين قائد الامة الوليدة لجماعة المؤمنين من جهة اخرى... ورفع محمد من مرتبة الانسان العادي الى مرتبة الانسان الاعظم الذي يجسد الذروة العليا للهيبة والسلطة والمشروعية".
كيف تتمفصل ذروة السيادة الروحية العليا مع السلطة السياسية في العالم العربي؟ سؤال اجاب عنه اركون بتفصيل، معيدا منطقه التاريخي والتلاعب السياسي اللاحق به. يفتح السؤال على مسألة العلاقة بين الاسلام والسياسة، وبين الدين والدنيا، وهي من اهم المسائل اليوم في الفكر الاسلامي المعاصر. يقول اركون: "الهدف الاول للخطاب القرآني كان يتمثل في زحزحة المشروعية القبلية او العشائرية وتجاوزها من طريق تقديم بديل منها الا وهو المشروعية الفوق قبلية او العابرة للقبائل من جهة، ثم التوحيدية دينيا، اي غير المؤمنة بتعددية الالهة وعبادة الاوثان كما كان سائدا في قريش آنذاك". انطلاقا من هذه الوجهة بدأ الحديث عن وجود سيادة روحية عليا تشرف على السلطة السياسية وتهديها بنورها.
لا شك انه خلال فترة التبشير، كان النبي محمد يجمع بين موقعه كرسول لله يتلقى الوحي وينقله، وبين هيبة الزعيم الذي يحسم الامور ويتخذ القرارات المتعلقة بالصراعات ضد الكفار و"استراتيجيات الهيمنة" ويقود المؤمنين بدعوته. تلك فترة استثنائية مرتبطة بشخص النبي. عندما استولى معاوية على الحكم بالقوة والعنف، عمد الى تقليد ما كانت عليه فترة الرسالة الاولى، فأضفى على سلطته هيبة القانون الالهي واعتبر ان هذه السلطة مستمدة من الله. شكلت المراحل اللاحقة من الصراعات على السلطة والدولة مجالا لاستخدام كل طرف "ذروة السيادة العليا" لتشريع موقفه واعتباره مستندا الى الحق الالهي، وهو امر سار عليه مجمل الخلفاء والملوك، كما وجد ترجمته مجددا في القرن العشرين في مقولات الامام الخميني وبعده سائر القادة الايرانيين من طريق مقولة "الولي الفقيه".
تحتاج المجتمعات العربية والاسلامية بقوة الى ان تدخل في مشروع نقد تراثها وغربلته ولفظ ما تقادمه الزمن، والافادة مما يتوافق مع العصر. تبدو هذه المسالة مصيرية في تكنيس الموروثات المعششة في العقول، وشرطا لنهضة عربية اسلامية ذات صلة بالتقدم والحداثة.

 

كتبها : المثقفون العرب مجلة الفكرالعربي
Partager cet article
Repost0
27 août 2010 5 27 /08 /août /2010 14:10

 




موريس أبوناضر

عندما نتحدّث عن الشك، أو نقول عن شيء إنه ديكارتي، فهذا يعني أنّه عقلاني. وعندما ننطق بكلمة عقلانية نرى فيها ارتباطاً وثيقاً بالحداثة. الحداثة التي قلّصت في الغرب المجالات الغامضة والمبهمة في العلاقات التي تربط الإنسان بالوجود، وأزاحت كل ما يعترض التفكير الحرّ
يتفق العديد من المؤرخين والفلاسفة، أنه مع ديكارت الذي يعدّ أبا الفلسفة الحديثة أصبح الإنسان يستمدّ يقينياته من ذاته، وليس كما كان الشأن عليه في العصور الوسطى من تعاليم عقيدة أو سلطة أخرى غير سلطة ذاته، ويتفقون أيضاً أنه مع ديكارت صارت القاعدة المعرفية «أنا أشك إذاً أنا موجود» محور التفلسف.
كان ديكارت يتعرض لملاحقة للإرهاب الأصولي المسيحي لأنه كشف زيف الأخطاء الشائعة التي تفرض نفسها وكأنها يقينيات لا تمسّ ولا تناقش، وفي مقدّمها بالطبع القول إن الأرض هي مركز الكون، وإن الشمس تدور حولها وليس العكس. وهي مقولة أرسطاطاليسية وبطليموسية، كانت الكنيسة في القرن السابع عشر تبنّتها وخلعت عليها المشروعية القدسية، ومن ثمّ فمن يعترض عليها يعترض على الدين
كان ينبغي أن تكون بطلاً في ذلك الزمان على ما يقول الكاتب السوري هاشم صالح لكي تواجه الأصوليين الذين يهيمنون على عامة الشعب ويفرضون أفكارهم وكأنها إلهية لا بشرية، فعندما تقول لهم بأن للدين مجاله، وللعلم مجاله، ولا ينبغي الخلط بينهما يردّون عليك بآية من العهد القديم أوالعهد الجديد. وقد حاول غاليله أن يشرح لهم أكثر من مرة أنه يحترم العقائد الدينية كل الاحترام، ولكنه مضطر الى استخدام أدوات القياس والحساب والتجريب العلمي إذا ما أراد فهم العالم الطبيعي، واستخراج القوانين التي تتحكّم فيه. ولكن عبثاً كانوا يوقفونه عند حدّه. ففي رأيهم كل شيء موجود في الكتاب المقدس، وينبغي أن يؤخذ بحرفيته حتى ولو تناقض مع أبسط قواعد المنطق والعلم الحديث
تجرّأ ديكارت الفيلسوف الفرنسي على أن يقوم بأكبر انقلاب فلسفي في تاريخ العصور الحديثة، من خلال اعتماده الشك في كل شيء في العقائد والعلوم وفي الإنسان نفسه. إذ كان هدفه نقل المعرفة وموضوعاتها من الكونيات الإلهية الى الفيزياء، ومن نظام العلل الأولى الى أنظمة المكينيكا، والتخلي عن النظر بعين الله الى العالم. إضافة الى تقديمه الإجابات على كثير من القضايا التي شكّك فيها في كتابه «مقال في المنهج» من خلال تحرير نفسه من عالم الأحاسيس والآراء الخادعة التي لا تسمح له بالصعود من الوقائع الى الأفكار لاكتشاف نظام العالم. وانتقاله الى اعتبار العقل الإنساني قادراً على بلوغ الحقيقة
ينقل الكاتب الفرنسي مكسيم روفير عن ديكارت في الملف الذي وضعته المجلة الفرنسية «ماغزين ليترير» قوله: «لقد أدركت منذ فترة أنني في سنواتي الأولى تعلّمت عدداً من الآراء الخاطئة معتبراً إياها حقيقية، وبنيت في ضوئها مجموعة من المبادئ، اكتشفت فيما بعد أنها غير أكيدة ومشكوك فيها. لذلك كان عليّ أن أتخلّص منها». ويضيف ديكارت إني أعمل بكل جدّ، وبحرية، على هدم كل آرائي القديمة». إن الغاية من الشكّ عند ديكارت كما صار واضحاً، هي الهدم. هدم كل ما اعتاده الإنسان وتعلمّه في صغره. هدم الآراء المسبقة حول الأشياء، وهدم الحقائق القائمة كالأصنام، واليقينيات التي تعتبر تحصيل الحاصل، ولا حاجة الى إعادة التفكير فيها
يعتبر طه حسين ديكارت العرب الأول والأخير كما يبدو. فهو يعلن من دون وجل أو خوف اقتداءه بديكارت في كتابه «الشعر الجاهلي» قائلاً: «أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أوّل هذا العصر الحديث. والناس جميعاً يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرّد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وان يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوّاً تاماص». وراح طه حسين يدعو الى الأخذ بهذا المنهج في دراسة الأدب العربي القديم والتأريخ له، وذلك بضرورة نسيان الباحث قوميّته وكل مشخّصاتها، ودينه، وكل ما يتصل به، وألّا يتقيّد بشيء
اعتمد طه حسين إذاً، منهج الشكّ الديكارتي الذي حمله على رفض الكثير من الروايات التي تتعلّق بالشعر الجاهلي. الروايات التي أحصاها المؤرخون في كتبهم من غير تثبّت ولا تحقيق لقلة نصيبهم من النقد، ولعدم ثبوتها أمام البحث والتحليل. يكتب طه حسين في هذا الشأن «هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أن أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر سيزورّون عنه ازوراراً. ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أريد أن أقيّده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدّثت به الى طلابي في الجامعة»
كان طه حسين ينظر الى الشعر من خلال نظرته الى الأدب حيث لاحظ أن هذا الأخير يخضع الى رؤيتين متناقضتين : رؤية ترى في أقوال القدماء حقائق علمية تاريخية مسلّم بها، ورؤية تضع علم المتقدمين كله موضع البحث. وهذا من منطلق الشك المنهجي. وأعلن طه حسين أنه من أنصار الرأي الثاني لأنه يريد: «ألا نقبل شيئاً مما قال القدماء في الأدب إلا بعد بحث». وهكذا فإن طه حسين لا يقبل آراء القدماء إلا بعد إخضاعها الى البحث والتثبّت الذي يلي الشك ويؤدّي الى الحقيقة.
إن في وسع طه حسين بكلام آخر دراسة «الشعر الجاهلي» على الطريقة التقليدية فيكرّر الآراء المألوفة، ويقول أصاب فلان وأخطأ فلان، وبذلك تبقى الأمـــور علـــى حالها، ولكنه أراد التغيير والتجديد بخلخلة الواقع الثقافي، فاختار لذلك طريقة المجدّدين الذين لا ينطلقون من رأي مسلّم به، ولا يثقون في إجماع القدماء. لقد قاده حسّه النقدي الذي حصّله بتثقّفه بالشك المنهجي الديكارتي الى التساؤل هل هناك شعر جاهلي؟ وإن كان هناك شعر جاهلي فما السبيل الى معرفته، وما هو؟ وبمَ يمتاز عن غيره
قدم طه حسين هذه التساؤلات وغيرها، واستنتج: «أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وانما هي منتحلة مختلفة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثّل حياة الجاهليين». وبحث عن الحياة الجاهلية في هذا الشعر فلم يجد لها أثراً واضحاً اللهم إلا في القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى. التساؤلات التي انطلق منها طه حسين في دراسته الشعر الجاهلي كان مدركاً نتائجها العلمية والعملية. فمن الناحية العلمية أراد أن يحضّ المستنيرين لإكمال مشروعهم التنويري في الحرية والعدالة والتقدّم، بمزيد من الأسئلة حول مشروعية السلطة الدينية والمعرفية والعلمية. ومن الناحية العملية أراد التوجّه الى عامة الناس، والى تلك الفئة من العلماء الذين قنعوا بما عندهم من كلام الأقدمين بأن الشك هو الطريق الملكي للوصول الى الحقيقة
كان ديكارت يتعرّض في زمانه لمطاردة الأصوليين المسيحيين لأنه شكّك باليقينيات المطلقة التي تواضع عليها قومه حتى حرّم المس بها أو مناقشتها. وكان طه حسين محل حصار الأصوليين المسلمين في زمانه لأنه شكّك بوجود الشعر الجاهلي. فسحب كتابه حول هذا الشعر من السوق بأمر من المحكمة، وأحرق في بعض الأماكن. وهكذا حرّر ديكارت وطه حسين بشكّهما فعل المعرفة ذاته، وفي الوقت الذي كانت المعرفة تعتمد قبلهما على هيبة الأقدمين من العلماء ورجال الدين، صار مرجعها معهما العقل الذي يفكّر ويشكّك ويحلّل وينتقد باسمه وليس بأي اسم آخر.

 

كتبها : المثقفون العرب مجلة الفكرالعربي
Partager cet article
Repost0
12 avril 2010 1 12 /04 /avril /2010 20:40

تحليل موضوع فلسفي:

 الصيغة

Names0604.jpg

   

       هل يقود تطور العلوم إلى إنكار قيام حقيقة نهائية؟

 

 

 

 

 

 

 

الجواب المقترح:

 

المقدمة: يعتبر الفيلسوف رجلا عاشقا للحقيقة وباحثا عنها بشكل دائم ومستمر. ويبين تاريخ الفلسفة أن هناك عدة نظريات وتصورات حول الحقيقة، تختلف بحسب المنطلقات العقلية والمشارب المذهبية، ولذلك نجد فريقا من الفلاسفة يقول بوجود حقيقة مطلقة وثابتة، وفريقا آخرا يقول بحقائق نسبية ومتغيرة. وإذا تموقعنا في مجال تاريخ المعرفة العلمية، فإننا نلحظ أن التطورات الهائلة والقفزات النوعية التي عرفها العلم ابتداءا من العصر الحديث بينت صعوبة التمسك بحقيقة واحدة ونهائية، وكشفت عن التعديلات والمراجعات التي طالت مختلف المفاهيم والتصورات التقليدية حول الحقيقة. هنا يمكننا التساؤل هل الحقيقة أهي مطلقة أم نسبية؟ وهل التطورات التي عرفها العلم تؤدي إلى التخلي نهائيا عن أية حقائق مطلقة؟

إذا تأملنا بدقة في السؤال المطروح سنجد أنه يقيم علاقة وثيقة بين تطور العلوم من جهة، وإنكار قيام حقيقة نهائية من جهة أخرى، وهو يدعونا إلى إثبات هذه القضية أو نفيها. لكن الحديث عن مفهوم الحقيقة هو حديث يتجاوز تاريخ العلوم، ويطال تاريخ المعرفة البشرية عموما والفلسفية منها على وجه الخصوص. لذلك نجد أنفسنا نتواجد في مجال المعرفة، سواء الفلسفية أو العلمية، فإلى أي حد يمكن القول بحقيقة مطلقة ونهائية أو القول بخلاف ذلك.

إذا نظرنا في البدايات الأولى لتاريخ الفلسفة، وجدنا الفيلسوف اليوناني أفلاطون يقول بوجود حقائق يقينية ومطلقة مكانها هو عالم عقلي مفارق سماه بعالم المثل، وهي حقائق يتوصل إليها عن طريق التأمل العقلي الخالص. هكذا اعتبر أفلاطون أن ما يوجد في العالم المحسوس هو مجرد ظلال وأوهام تمدنا بها الحواس، في حين يمدنا التأمل الفلسفي بالحقيقة الموضوعية، الثابتة والخالدة.

 وقد بين باسكال فيما بعد أن للقلب حقائقه التي لا يمكن للعقل أن يستدل عليها، وهي حقائق حدسية تدرك على نحو مباشر، يعتقد صاحبها في ثباتها وصحتها المطلقة. ولعل الكثير من الحقائق الدينية هي من مثل هذا القبيل.

وفي نفس السياق اعتبر  ديكارت بأن العقل يحتوي على مبادئ وأفكار فطرية، لا يمكن الشك في صحتها نظرا لبداهتها ووضوحها وتميزها في الذهن. ومن ثمة فهي تدرك بشكل حدسي مباشر، ومنها تستنبط باقي الحقائق الأخرى.

وبالرغم من أن كانط قدم فلسفة نقدية حاول من خلالها تجاوز النزعتين العقلانية والتجريبية معا، إلا أنه وفي مجال المعرفة الأخلاقية على وجه التحديد، يتحدث عن مبادئ وقوانين أخلاقية ذات طابع صوري، مجرد ومطلق.

وفي مقابل هذا التصور المثالي المطلق للحقيقة، نجد تصورات فلسفية أخرى تقول بنسبية الحقيقة وتطورها. ويمكن أن نورد في هذا الإطار موقف جون لوك، كأحد ممثلي النزعة التجريبية، والذي يرفض وجود أفكار أولية فطرية كتلك التي ادعاها ديكارت، واعتبر على العكس من ذلك بأن العقل صفحة بيضاء والتجربة هي التي تمده بالمعارف والحقائق. وإذا كانت تجارب الناس مختلفة، فمعنى ذلك أن الحقائق التي تحملها عقولهم ليست على نفس المنوال.

 أما إذا انتقلنا إلى الفلسفة المعاصرة، فيمكن أن نقدم التصور البرغماتي كتصور يقول بنسبية الحقيقة وتعددها. ومن بين ممثلي النزعة البرغماتية نجد وليام جيمس الذي يرى أن الحقيقة ليست غاية في ذاتها، وأنها لا تمتلك أية قيمة مطلقة، بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أخرى. هكذا يقدم لنا جيمس تصورا أداتيا ونسبيا للحقيقة؛ بحيث يقول بارتباطها بالمنافع والوقائع وبمدى قدرتنا على استعمالها في وضعيات مختلفة.

 وإذا انتقلنا  إلى حقل المعرفة العلمية الخالصة، وإلى مجال تاريخ العلوم الدقيقة،فإننا نرى أن ما عرفه العلم من تطور في الأدوات والمناهج المعتمدة، وما رافق ذلك من ظهور عدة نظريات علمية تتجاوز النظريات السابقة، كان له انعكاس على تصور العلماء و الفلاسفة لمفهوم الحقيقة ومراجعتهم للعديد من المفاهيم والتصورات الكلاسيكية. هكذا نجد الإبيستملوجي الفرنسي غاستون باشلار يؤكد على الطابع النسبي للحقيقة العلمية، ويعتبرها خطأ تم تصحيحه. فتاريخ العلوم في نظره هو تاريخ أخطاء؛ ذلك أن الكثير من الحقائق العلمية تم تجاوزها واستبدلت بحقائق ونظريات أخرى جديدة. من هنا نرى أن الحقائق في مجال العلوم الحقة تختلف من حقل علمي إلى آخر من جهة، وتتطور بتطور الأدوات والمناهج العلمية المستخدمة من جهة أخرى. وقد أكد باشلار على أهمية الحوار بين العقل والتجربة في بناء الحقيقة العلمية؛ ولذلك رفض المبادئ والحقائق البديهية كتلك التي تحدث عنها ديكارت، كما رفض اعتبار العقل صفحة بيضاء تتلقى المعرفة جاهزة من الواقع كما ذهبت إلى ذلك النزعة التجريبية الساذجة، وذهب بخلاف ذلك إلى تأكيد الطابع البنائي والمتجدد للمعرفة العلمية، خصوصا أن بناءات العقل وبراهينه لا تتم في نظره بمعزل عن الاختبارات والتجارب العلمية. هكذا فحقائق العقل العلمي المعاصر مشروطة بطبيعة الموضوعات التي يريد معرفتها، فهي ليست حقائق منغلقة ثابتة بل منفتحة على الواقع العلمي الجديد.

وإذا كانت النزعة الوضعية التجريبية تؤكد على التجربة كمعيار لصحة النظرية العلمية، وتبين الدور الحاسم الذي تلعبه هذه التجربة في التمييز بين النظريات العلمية وغير العلمية، فإننا نجد بيير تويليي يجسد موقفا يقر من خلاله بعدم وجود تجربة حاسمة، إذ تظل نتائج التحقق التجريبي جزئية وقابلة للمراجعة، كما يدعو إلى ضرورة خروج النظرية من عزلتها التجريبية وانفتاحها على نظريات أخرى تختبر نفسها من خلال مقارنة نفسها بها.

وفي نفس السياق استبدل كارل بوبر معيار التحقق التجريبي بمعيار القابلية للتكذيب؛ بحيث تكون النظرية علمية إذا كانت قابلة للتكذيب في المستقبل، أي قادرة على تقديم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز الثغرات الكامنة فيها. وهذا يدل على الطابع النسبي والمنفتح للحقائق العلمية.

 هناك الكثير من الوقائع التي عرفها العلم المعاصر أدت إلى خلخلة المفاهيم والأسس التي كانت ترتكز عليها التصورات الكلاسيكية للحقيقة، سواء في مجال العلم أو الفلسفة الكلاسيكيين؛ فظهر تصور جديد لمفهومي المكان والزمان مع الهندسات اللاأقليدية ونسبية إنشتاين، كما تمت زحزحة مبدأي الهوية وعدم التناقض الأرسطيين باكتشاف الطبيعة المزدوجة للضوء وظهور الفيزياء الذرية، وغيرها من الوقائع التي جعلت، كما أكد باشلار، العقل الكلاسيكي يعيد النظر في مبادئه والحقائق التي يؤمن بها.

 الخاتمة: هكذا يمكن أن نستنتج في الأخير أنه كان للتطورات التي عرفها العلم المعاصر انعكاسات كبيرة على تصور الفلاسفة لمفهوم الحقيقة والنظرية العلمية؛ فظهرت فلسفات تقول بنسبية الحقيقة وخضوعها للمراجعة والتعديل المستمر، غير أن هذا لا يجب أن يحجب عنا وجود بعض الفلسفات والمذاهب، سواء في الماضي أو الآن، تتشبث ببعض الحقائق وتعتبرها مطلقة ونهائية، خصوصا إذا تعلق الأمر بمجالات الأخلاق والدين والسياسة، فنحن نعلم أن للحقيقة مستويات وأوجه عدة، وما العلم سوى أحد هذه الأوجه.        

 

 

Partager cet article
Repost0
24 mars 2010 3 24 /03 /mars /2010 11:00

الإبداع في الفلسفة والشعر

أود في البداية أن أقدم توضيحا بصدد العنوان الذي اخترته لهذا العرض. لن أحاول رصد الشروط العامة للإبداع في مجالي الشعر والفلسفة بقدر ما سأعتمد على وجهة نظر تاريخية تكمن في اختيار فلاسفة وشعراء ينتمون إلى مراحل تاريخية مختلفة خصصوا جزءا من تفكيرهم وكتاباتهم للموضوع.

وسوف أقسم المقال إلى جزأين: جزء أول سأركز فيه على فيلسوفين يلتقيان، رغم التباعد الحاصل بينهما فيما يخص الأزمنة التي عاشا فيها، وكذلك الأسس الفلسفية التي طوراها، في حصرهما للإبداع في مجال الفلسفة دون الشعر؛ وجزء ثان سأتناول فيه شاعرا وفيلسوفا يتفقان معا على كون الشعر مجالا خصبا لتحقيق الإبداع وعلى أن الفلسفة لن تنال حظها بصدد هذا الأخير إلا في الحالة التي يدرك فيها الفيلسوف شروط التجربة الشعرية ليوجه وفقها تفكيره. سألجأ في الختام، طبعا، إلى استخلاص أهم الفوارق الموجودة بين الفلسفة والشعر، تلك الفوارق التي تجعل الجمع بينهما يخل في الحقيقة بإحدى أهم وظائف الفلسفة أي وظيفتها التأسيسية، كما يمكن أن يخل في الوقت ذاته بالتجربة الشعرية لأن هناك من سيعتقد، في حالة القول بالجمع، في إمكانية ربطها بالوظيفة التأسيسية. حرمان الفلسفة من التأسيس أو إسناد التأسيس للشعر، هذا هو الخطأ (إن لم نقل الخطر) الذي ينطوي عليه القول بمماهاة الإبداع في الفلسفة والشعر.

يلتقي كل من أفلاطون ونيتشه في كون إنتاج الشعراء لا يرقى إلى المستوى الذي نطلق عليه الإبداع. والسبب في ذلك راجع بالنسبة للفيلسوفين معا إلى كون الشعراء في نظرهما يظلون مرتبطين بالمعرفة السائدة عند العوام. إنهم يقيمون معرفتهم على المعرفة العامية، كما يسخرونها في إرضاء العامة. تكاد التعابير تكون واحدة بهذا الصدد عند كاتب الجمهورية وكاتب هكذا تكلم زردشته. يقول الأول: "مع ذلك فإنه (الشاعر) لن يتردد في المحاكاة دون أن يعرف الجانب الذي يجعل كل شيء حسنا أو قبيحا(…) إن ما يبدو جميلا للعوام والجهلة سيكون هو بالضبط ما سيحاكيه الشاعر"(1) ونقرأ عند الثاني ما يلي: "ولكن افتراض شخص ما يقول بكل جدية إن الشعراء يغالون في الكذب، فإن هذا الشخص لن يكون على خطإ، ذلك لأننا نغالي في الكذب (…) فلأن معرفتنا فقيرة فإننا نرضى من أعماق قلوبنا بضعفاء الفكر وخاصة إذا تعلق الأمر بالنساء الصغيرات! والأكثر من ذلك فإننا نرغب فيما تتراوده العجائز فيما بينها ليلا. ذلك الذي نسميه نحن شخصيا بالمؤنث الأبدي".

نلاحظ بعد هذا الالتقاء الكامن في القول بالطابع العامي للمعرفة الشعرية التقاءهما أيضا في ربط الإنتاج الشعري (أي إبداعه) بالأشباح. "إن فن المحاكاة، يقول أفلاطون بعيد إذن عما هو حق. إذا كان في استطاعته إنجاز كل شيء فذلك لأنه لا يحس، على ما يبدو، سوى جزء صغير من كل شيء. وما هذا الجزء الصغير إلا شبحا". ثم يضيف: "لنمعن النظر فيما يلي: "إن مبتكر الأشباح، أي المحاكي، لا يفهم شيئا فيما يخص الواقع. إنه لا يعرف سوى الظاهر"(3) يعبر نيتشه عن الفكرة ذاتها في كتابه السالف الذكر حيث يقول : "نفخ في الأشباح ومحاذاتهم. هذه هي قيمة هرج قيثارهم بالنسبة إلي"(4).

هناك نقطة أخرى يلتقي حولها أفلاطون ونيتشه وهي كون إنتاج الشعراء يتسم بالضعف والرداءة. إذ "لا تخلق المحاكاة بالنسبة لأفلاطون سوى ما هو وضيع" (الجمهورية ص 315). وهذه هي الفكرة ذاتها التي يعبر عنها نيتشه حينما يقول على لسان زردشته: "لقد ألقيت بشباكي في بحارهم (أي الشعراء) وأردت اصطياد الأسماك الجيدة: غير أن ما اصطدته من جديد هو رأس إله قديم. هكذا كان نصيب الجائع من كرم البحر هو الحجر" (ص165).

ونورد في الأخير، بصدد التقاء الفيلسوفين في انتقادهما للشعر والشعراء، إثارة مؤاخذتهما لهؤلاء على عدم نفاذهما إلى أعماق الأشياء. تتضح الفكرة عند أفلاطون حينما يعتبر أن مرجعية الشاعر لا تخرج عن إطار الصورة أو الظل، أي عما هو ظاهري، وكذلك حينما يؤكد على أن العنصر الفاعل في التعامل مع هذه المرجعية يختزل على العموم في المشاعر والأحاسيس الحيوانية، أي المكون السيء للروح. "إننا على حق في مهاجمته (أي الشاعر) ووضعه في المكانة ذاتها التي نضع فيها الرسام، ذلك لأنه يشبهه في كونه ينجز أعمالا ذات ثمن بخس إذا ما قارناها بالحقيقة؛ وإنه ليشبهه أيضا في العلاقات التي تربطه بجزء من الروح ذي الثمن البخس أيضا. بينما لا تجمعه أية علاقة بالجانب الأفضل منها" (ص 317).

وإذا انتقلنا إلى نص نيتشه عن الشعراء فإننا نقع، وفي وضوح تام، على الانتقاد ذاته حيث يقول بدوره: "لقد تعبت من الشعراء، القدماء منهم والجدد على حد سواء. إنهم سطحيون كلهم وبحار بدون عمق بالنسبة إلي. إلى الأعماق الحقة لم تصل أفكارهم، بحيث إلى الأعماق لم تنفذ مشاعرهم. شيء من اللذة وشيء من الضجر، هذا كل ما اهتمت به أفضل تأملاتهم" (ص 165).

هذه إذن مجموعة من النقاط تؤكد لنا التقارب الكبير الحاصل بين أفلاطون ونيتشه في نظرتهما إلى الشعر والشعراء. ولكن هل هي كافية للقول بوحدة النظرة عند فيلسوفين يجمع مؤرخو الفلسفة على تعارض فلسفتهما؟ إن فحص منطلقيهما في تقويمهما للشعر يجعلنا نقلل من أهمية الالتقاء الحاصل بينهما في هذا الإطار ونبحث عن معطى محدد يسمح في نهاية المطاف بالاحتفاظ بالفكرة رغم ما يمكن أن تنطوي عليه من تعسف.

يفصح أفلاطون في الكتاب العاشر من الجمهورية، الكتاب ذاته الذي اعتمدنا عليه أعلاه، على أن رفضه للشعر جاء نتيجة تناقض هذا الأخير، في نظره، مع تأسيس الدولة وسن قوانينها، ومن ثمة مع تحقيق العدالة وباقي الفضائل الأخرى (ص 317-319). إن الفلسفة وحدها، حسب النص المذكور، هي التي يكون في استطاعتها تحقيق مثل هذه المهمة. هكذا يكون الفيلسوف هو المبدع ويكون الإبداع هو خلق الأسس المتينة التي تسمح ببناء مجتمع يسود فيه العدل وباقي الفضائل الأخرى. الإبداع مقرون إذن بالنموذج العقلي. وهذا ما يفسر تركيز النقد الأفلاطوني على صنف معين من الشعر وهو الشعر القائم على المحاكاة ("عدم قبول هذا الجزء من الشعر الكامن في المحاكاة" ص305) أي الشعر المعبر عما هو موجود. إن شرط الإبداع في مجالي الشعر والفلسفة بالنسبة لأفلاطون هو التوجه نحو واجب الوجود أو نحو النموذج، نقول بتعبير آخر الاهتمام بمسألة التأسيس.

أما إذا انتقلنا إلى نيتشه فإننا نلاحظ أن انتقاده للشعر ينطلق من كون الشعراء لا يتمكنون من خلق الإنسان المتفوق نظرا لفقر معرفتهم، أي لعدم ارتقائها إلى مستوى دحض القيم السائدة وتحطيم طابعها الخالد. ما الذي يسمح بالاعتقاد في خلود القيم؟ الجواب دقيق وبسيط حسب النص الذي نعتمده في تطوير هذا الموضوع أي عن الشعراء. إنه الاعتقاد في خلود الروح، ذلك الموقف الذي لا ينفصل عن القول بفناء الجسد وبممارسة احتقاره. لقد قدم زردشته موقفه من الشعراء، ذلك الذي لخصناه أعلاه، بعدما أكد في بداية المقال: عن الشعراء على معرفته الجيدة للجسد "منذ أن بدأت أعرف الجسد بشكل أفضل لم يعد الروح بالنسبة إلى روحا إلا على مستوى الكلام. وكل ما هو خالد فما هو أيضا إلا صورة (ص 162). تسير نهاية المقال بدورها في هذا الاتجاه، أي التخلص من الفكر المرتبط بخدمة الروح، حيث يقول: "التائبون عن خدمة الروح، هؤلاء هم الذين رأيتهم قادمين. وعن أولئك (الشعراء) نشأ هؤلاء" (ص 166).

إذا كان الالتقاء بين الفيلسوفين واضحا بصدد النقاط التي ذكرناها في البداية فإن الاختلاف هنا أوضح. إذا كان أفلاطون يعيب على الشعراء قصورهم فيما يخص التأسيس، إن لم نقل تعارضهم مع هذه الوظيفة،فإن نيتشه يرفض إنتاجهم لأنه لا يرقى إلى مستوى دحض المبادئ الخالدة أي إلى مستوى اللاتأسيس. يرتبط الإبداع إذن عند نيتشه فيما يتصل بالفلسفة والشعر بعملية اللاتأسيس وبالضبط بالهدم. هدم ماذا؟ هدم الأسس التي تستند إليها القيم كي تضفي على ذاتها طابع الخلود.

ولكن لنتساءل مرة أخرى عما إذا كان الاختلاف لا يحتاج إلى مزيد من التحديد وعما إذا كان لا يؤدي في نهاية المطاف إلى التقاء وطيد.

أعتقد أن التقارب حاصل بين الفيلسوفين لأن الإبداع مقرون عندهما معا بالرسالة من جهة، وبالتأثير في الواقع من جهة ثانية. لا يهم إن كانت الرسالة تحمل الإيجاب أو السلب. المهم هو التنصيص على الرسالة. هكذا يتبين لنا من ربط الإبداع في الفلسفة والشعر بالرسالة أن الخلاف يكمن بين الفيلسوفين في المرجعية التي ينبغي أن يستند إليها الشاعر والفيلسوف وليس في مسألة المرجعية ذاتها. كما يتبين لنا، وهذا هو المهم، أن الاتفاق حاصل في كون الفلسفة تظل تأسيسية فتبتعد بذلك عن الشعر الذي يبقى بعيدا عن مثل هذه المهمة.

لننتقل الآن إلى الموقف الثاني الذي يقر بالالتقاء بين الإبداعين الفلسفي والشعري، أي بالصلة الوثيقة بين الفلسفة والشعر، ولنسجل أهم النقاط التي يعتمد عليها في هذا الإقرار. وسنركز هذه المرة على فيلسوف وشاعر وهما هيدغر وريلك نظرا لانطباق ما يقوله كلاهما عن مجاله على مجال الآخر. إن معظم العناصر التي يطالب ريلك بتوفرها في التجربة الشعرية يثيرها هيدجر بدوره في إطار تنظيره للتجربة الفلسفية.

يمكن القول إن هيدجر وريلك يقومان معا بتجذير مفهوم الإيبوكي للتوصل إلى الغياب الفعلي للمرجعية كي يتحقق الإبداع في الفلسفة والشعر بالطريقة ذاتها التي يتحقق بها في مجال الفن التشكيلي مثلا.

الرجوع إلى الأشياء ذاتها أو الأشياء كما هي، هذا هو منطلق الفينومينولوجيين، ويفيد محاولة التخلص من المعاني السائدة، أي محاولة إرجاع المعنى إلى درجة الصفر. هناك الفيلسوف (أو الشاعر) من جهة وهناك الأشياء، من جهة ثانية، وهي فارغة من كل ما شحنت به من المعاني. وحتى إذا لم يكن من الممكن الحديث عن غياب المعنى فإنه من الممكن، على الأقل، الحديث عن المعنى الواحد. ويقصد بالمعنى الواحد تساوي الأشياء فيما بينها في لحظة معينة، أو إمكانية الفيلسوف (أو الشاعر) ممارسة هذه المسألة وأخذ الأشياء من حين لآخر في مستوى واحد. يمكن أن يكون كل شيء غنيا، كما أن كل شيء يمكن أن يكون فقيرا فيما يخص المعنى.

لا معنى في البداية بالنسبة للفيلسوف، حسب هذا المنطلق، لتفضيل مجال عن مجال آخر، وجانب من الحياة عن جانب آخر، أو نوع من المعرفة عن نوع آخر. وهذا ما يعبر عنه ريلك حينما يقول: "ليس هناك فقر بالنسبة للمبدع، كما أنه ليس هناك مكان فقير وبدون أهمية"(5). لا يستعمل ريلك تعبير الرجوع إلى الأشياء ذاتها، على الأقل في النص الذي نعتمد عليها هنا، ولكنه يستعمل مع ذلك "الرجوع إلى الطبيعة"، و"ربط العلاقة بالطبيعة" حيث ينصح صديقه قائلا: "اقترب إذن من الطبيعة" (ص37) و"وابحث على أن تكون قريبا من الطبيعة"(ص 58) كما يستعمل كذلك تعبير "الحياة الخالصة". إنها تعابير تفيد كلها تغييب المرجعية أو تغييب المعنى القبلي كشرط للإبداع في التجربة الشعرية. إنه شرط يؤكد عليه هيدغر باستمرار في التجربة الفلسفية.

وفي هذا الإطار تدخل أيضا نصيحة ريلك لصديقه الشاعر القاضية بعدم الاهتمام بالنقاد وبعدم قراءة الكتابات النقدية. فالاهتمام بالنقد قد يجعل الشاعر يحبس نفسه في إطار معين محدد سلفا من طرف غيره من حيث الشكل ومن حيث المضمون. إنه سيخضع إنتاجه لنظام قائم وضعه الآخرون، فكيف يمكن أن يحصل الإبداع إذا ما انضبط المبدع للنظام؟

لا يعني انمحاء المعنى أمام الفيلسوف والشاعر طبعا انمحاء الفيلسوف أو الشاعر ذاتهما. تفيد العملية إعطاء الأولوية للشاعر وللفيلسوف، وتفيد تقدير العلاقة التي يمكن أن تنسج بينهما كليهما والعالم الخارجي، وتقدير التفاعل الناتج عن تلك العلاقة. إن مفاد انمحاء المعنى هو السماح للشاعر أو الفيلسوف بتجسيد المعاني المتعددة والمختلفة التي تخترق باله وتوهج أحاسيسه. إنها فرصة لأخذ الحرية والتفكير خارج الممنوع وغير اللائق لطرح مختلف الأسئلة التي تراود المبدع والإجابة عنها وفق حدة تفاعلاته مع عالمه. إنها لحظة ينتفي فيها الانتقاء على مستوى طرح السؤال وعلى مستوى تقديم الجواب.

وإذا كان هيدجر يؤكد على هذه المسألة فيما يخص الفلسفة في كثير من كتاباته وعلى الخصوص في الفصل الأول من مدخل إلى الميتافيزيقا فإن ريلك بدوره يثيرها في مراسلاته، والأكثر من ذلك فإنه يؤكد على حصر السؤال في المستوى الذي يمكن فيه للشاعر أن يقدم الجواب، وذلك حفاظا على صدق أحاسيس الشاعر وعلى طبيعة فكره. يقول ريلك وهو ينصح صديقه الشاعر: " عليك أن تتحلى بالصبر اتجاه كل ما يتردد بصدده قلبك وأن تحاول محبة الأسئلة ذاتها كما لو كانت غرفا مغلقة، أو كما لو كانت كتبا مؤلفة في لغة أجنبية. لا تبحث الآن عن الأجوبة التي لا يمكن أن تقدم إليك لأنك لن تستطيع أن تعيشها. يتعلق الأمر بعيش كل شيء. عش الآن الأسئلة. ومن الممكن أن تتوصل يوماما في المستقبل البعيد، وبدون أن تنتبه إلى ذلك، إلى الدخول في الجواب. من الممكن أنك تحمل بداخلك إمكانية الصياغة والتشكيل، ففي طريقة الحياة هذه سهولة وصفاء خاصان"(ص 48).

يثير ريلك نقطة أخرى ستجد صدى قويا في فلسفة هيدجر(6)، وعلى وجه الخصوص في كتابه مدخل إلى الميتافيزيقا. يتعلق الأمر بما يسميانه باستعصاء الوضع، وهي نقطة تلتقي بدورها بما قلناه أعلاه. إن إضفاء الصعوبة والثقل على الأوضاع والأشياء معناه عدم الاستخفاف بأي شيء، وعدم الانسياق مع الحلول التبسيطية التي تعتمد في أغلب الأحيان على المنع أو الإقصاء. لنتأمل في قوليهما بهذا الصدد. يكتب ريلك ما يلي: "لقد أوجد الناس (اعتمادا على الأعراف) الحلول لكل شيء بشكل هش وهش جدا. في حين أنه لأمر واضح أنه علينا أن نقف بجانب الخطورة. فكل من يحيا يوجد بجانبها. كل شيء في الطبيعة ينمو ويقاوم حسب طريقته الخاصة، ويشكل انطلاقا من ذاته شيئا خاصا،ويحاول بأي وجه أن يكون كذلك فيواجه كل عرقلة. نعرف الشيء القليل ولكن يقينا لن يغادرنا وهو أنه علينا أن نكون بجانب ما هو خطير. إنه لأمر جيد أن يعيش المرء العزلة لأن العزلة خطيرة. وأن يكون شيء ما خطيرا ينبغي اعتباره بمثابة سبب للتعاطي إليه (ص 61).

سيعبر هيدجر فيما بعد على الفكرة نفسها بصدد الفلسفة حيث يقول: "إنه لمن ماهية الفلسفة أن تجعل الأشياء أكثر صعوبة وأكثر ثقلا وليس أن تجعلها أكثر سهولة وأكثر هشاشة. إن إضفاء الخطر على الأشياء والموجود يعيد لها الثقل (الوجود). لماذا هذا الأمر؟ لأن إضفاء الخطر على الأشياء يشكل إحدى الشروط الأساسية والحاسمة لنشأة كل ما هو عظيم" (Introduction à la métaphysique p. 23-24.).

لا بأس أن نضيف نقطة أخرى تنتمي إلى ماهية الشعر حسب تصور ريلك لهذا الأخير وتحتل مكانة متميزة في التحديد الهيدجري للفلسفة. يتعلق الأمر بالإمكان وفتح الآفاق. إذا كان ريلك يصر على ضرورة تقدير الشاعر لتجربته الفردية فذلك لترك المجال مفتوحا لمختلف الإمكانيات المتوفرة لديه في فهم الحياة وبالخصوص في سبيل فتح الآفاق.تنحو المعرفة الشعرية، حسب ريلك، والفلسفية، حسب هيدجر، نحو المستقبل لخلق فجوات داخل الواقع الذي تنشأ فيه وليس لتحديد الشروط والوسائل التي ستمكن من تحقيق المستقبل المنشود (انظر كتاب ريلك ص 51 و 72 وكتاب هيدجر ص 23). معنى هذا أن الإبداع في الفلسفة والشعر بعيد كل البعد عما يسمى على العموم في اللغة الفلسفية بالتأسيس. لا يسعى الشاعر والفيلسوف إلى الفعل في الواقع بشكل مباشر وإلى توجيهه والسيطرة عليه. إنهما يكتفيان بالبحث عن الانفلات من قوته الاستدراجية وخلخلة الطابع القدسي الذي تسعى تلك القوة إلى إضفائه على نفسها.

بقي أن نتساءل الآن عما يمكن استخلاصه من الالتقاء الذي سجلناه بين التصور الهيدجري للإبداع في المجال الفلسفي والتصور الريلكي للإبداع في المجال الشعري. إننا نلاحظ بكل وضوح أن الالتقاء جاء نتيجة التحول الذي أحدثه هيدجر في ماهية الفلسفة حيث بذل كل جهده، في مختلف كتاباته، وبدون استثناء، من أجل تحويل الفلسفة عن الوظيفة التي ارتبطت بها مع نشأتها، أي الوظيفة التأسيسية.

هناك شرط واضح إذن لكي يلتحق الإبداع الفلسفي بالإبداع الشعري ألا وهو أن تبتعد الفلسفة عن فكرة وضع الأسس وعن فكرة البناء. لا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن هيدجر يجردها مما عبرنا عنه سابقا بالرسالة. كل ما هنالك هو أن الرسالة يتغير معناها. إذا كانت الرسالة تفيد بالضرورة المرور من القول إلى إخضاع الواقع للقول أي إلى ضبطه انطلاقا من هذا القول فإن الفلسفة ستكون حسب التحديد الهيدجري متنافية مع الرسالة. وأما إذا اكتفينا بربط الرسالة بالبحث عن المعنى وخلق المعنى وإظهار المعنى فإن الفلسفة لن تتنافى في هذه الحالة مع الرسالة.

ولكن هل يمكن اعتبار تحويل الفلسفة عن مهمتها التأسيسية من طرف أحد كبار فلاسفة القرن العشرين مسألة كافية لإلحاق الإبداع الفلسفي بالإبداع الشعري؟ الجواب في نظرنا لن يكون إلا بالسلب. ستظل الفلسفة بدون شك مقرونة بالتأسيس، ولن تحافظ على مكانتها إلا بأدائها لهذه الوظيفة. إننا نعتقد أن هيدجر ذاته لم يتخل في نهاية المطاف عن فكرة التأسيس بشكل قطعي(7). كل ما في الأمر، في نظرنا، هو أنه انتبه إلى صعوبة التأسيس في عالمنا المعاصر وظل في الوقت ذاته ينظر إلى التأسيس بالطريقة التي تم تناوله بها في الفلسفات السابقة عليه. فبدل أن ينتهي، بعد انتباهه إلى الصعوبات التي يطرحها التأسيس، إلى التساؤل والبحث عن طرق أخرى في إنجاز التأسيس، نجده أعطى الأولوية للعملية المعاكسة أي اللاتأسيس.

وإذا كنا نثير انتباهه إلى صعوبة التأسيس في العالم المعاصر كعامل أساسي في تحويله للفلسفة عن وظيفتها التاريخية فإننا لن نغفل نقطة أخرى كان لها دورها الكبير، في نظرنا، في تحديد توجهه هذا. نعتقد أن تخلي هيدجر عن التفكير في التأسيس جاء أيضا وبالخصوص نتيجة تصوره له بالطريقة القديمة أي التأسيس وفق المركز أو القمة ووفق السيطرة التامة والخضوع التام. ولكن هل من الضروري أن يفكر الفلاسفة المعاصرون في التأسيس انطلاقا من مثل هذا التصور؟ هل من الضروري أن ينحصر الإبداع الفلسفي المقرون بعملية التأسيس في هذا الإطار بالذات؟ لا نعتقد ذلك، والدليل هو وجود فلاسفة معاصرين جاءوا بعد هيدجر وفتحوا المجال للإبداع الفلسفي في الإطار نفسه الذي يرفضه فيلسوف الاختلاف، دون السير مع ذلك في الخط الذي انضبط فيه القدماء والمحدثون*

الهوامش:

1 - Platon, La République, trad. Emile Chambry, ed. Gouthier 1977, p. 313.

2 - Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, trad. Maurice de Gaudillac, ed. Gallimard, p. 164.

3 - Platon, la République, p. 312.

4 - Nietzsche, p. 165.

5 - Rilke,Lettres à un jeune poète,Trad. Claude Mouchard et Haus Hartje, ed. Livre de poche 1989 p.37.

سأكتفي في الإحالات الأخرى على ريلك بذكر الصفحة فقط لأن المرجع سيكون دائما هو ذاته.

6 -

نتجاوز هنا مسألة تأثير أحدهما على الآخر. لقد اطلع هيدجر على ريلك وكتب عنه ولكنه لا يحيل عليه مثلا حينما يتحدث عن قيمة السؤال في الفلسفة أو حينما يربط هذه الأخيرة بفتح الآفاق أو حينما يطالبها بالعمل على استعصاء الوضع. كل ما نسعى إلى تسجيله هو إمكانية (أو ضرورة) الالتقاء بين الفلسفة والشعر انطلاقا من تحديد هيدجر وريلك لهما.

7 - هناك فعلا هيدجريون كثيرون لن يقبلوا بتاتا هذه الفكرة، ولكننا نتجرأ مع ذلك على إثارتها لأن هناك مجموعة من الأقوال تخترق كتاباته، وبعض المقالات خاصة المقال المعنون: لماذا الشعراء؟ (أو لماذا كان عصرنا في حاجة إلى الشعراء؟) تؤكد أن عملية التأسيس ظلت تراود هيدجر بشكل قوي. سنحاول تطوير الفكرة في مقال آخر

 


عبد الحي أزرقان

عن موقع الامبراطور

Partager cet article
Repost0
13 mars 2010 6 13 /03 /mars /2010 15:48

http://t2.gstatic.com/images?q=tbn:S6uWX_zoT99vwM:http://www.alfalsafa.com/images/img788172.jpgأولية السؤال عن الآخر على السؤال عن الوجود عند لفيناس

أولية السؤال عن الآخر على السؤال عن الوجود عند لفيناس
هل الأنطولوجيا المعاصرة هي أنطولوجيا أساسية؟

ترجمة زهير الخويلدي

يشكك عمونيال لفيناس في هذا المقال الذي يمهد للأثر الكبير “الكلية واللانهائي” الذي ظهر في 1961 في أسبقية الأنطولوجيا (معقولية الوجود).يعوض لفيناس السؤال عن الوجود بالإتيقا التي تتعهد بأن تكون في مرتبة الفلسفة الأولى كرد فعل ضد فلسفة هيدجر الذي تميزت الميتافيزيقا عنده بنسيان الوجود. وتعني الإتيقا انفتاح الأنا المطابق على غيرية الآخر. هكذا ينجز لفيناس قلبا في التراتبية المتبلورة مع هيدجر بين الوجود والموجود بمعنى أنه يطرح تفوق الموجود على الوجود والموجود ليس الخضوع للوجود المجهول بل التمعن في الموجود الآخر بوصفه وجهVisage . إن السؤال عن الآخر يفيض على السؤال عن الوجود.
1- أسبقية الأنطولوجيا:
هل تستند أسبقية الأنطولوجيا بالمقارنة مع اختصاصات المعرفة على واحدة من أكثر البديهيات لمعانا؟ ألا تتضمن كل معرفة بالعلاقات التي تربط أو تعارض الموجودات الواحدة بالأخرى سلفا فهم الفعل الذي توجد به هذه الموجودات وهذه العلاقات؟
أن نمفصل دلالة هذا الفعل – وأن نستعيد مشكل الأنطولوجيا- المحلول عند كل واحد بشكل ضمني، والمنجز في صورة نسيان- يعني، على ما يبدو، أن ننشئ حكمة أساسية دونها تبقى كل معرفة فلسفية أو علمية أو عمومية معرفة مبتذلة. إن كرامة البحوث الأنطولوجية المعاصرة مدينة لهذا الطابع الملح والأصلي لهذه البداهة. إن المفكرين بالارتكاز عليها قد ارتفعوا مباشرة فوق نواقص النوادي الأدبية من أجل أن يتنفسوا من جديد هواء المحاورات الكبرى لأفلاطون وللميتافيزيقا الأرسطية.
أن نضع هذه البداهة الأساسية موضع تساؤل هو مشروع جسور. لكن اقتحام الفلسفة عبر طرح هذا السؤال هو على الأقل صعود نحو المنبع في ماوراء الأدب ومشاكله المرضية.
2- الأنطولوجيا المعاصرة:
إن الأنطولوجيا المسماة أصيلة تتفق مع حدثية الوجود الزمني. وأن نفهم الوجود من جهة كونه موجود،- يعني أن نوجد الآن هنا. ليس لأن الآن- هنا يكشف ويطهر النفس بالبراهين التي يطرحها ويسمح لها حتى ببلوغ القابلية إزاء الوجود. وليس لأن الآن- هنا يفتح تاريخا حيث يسمح التقدم وحده بادراك فكرة الوجود. لا يستقي الأنا – هنا أفضليته الوجودية من الصعود الذي يقوم به ولا من الحضارة التي أوجدته. من هنا بدأ يتعلم فهم الوجود في هذه الاهتمامات الزمنية. إن الأنطولوجيا لا تبلغ منتهاها لما ينتصر الإنسان على وضعه وإنما عند التوتر نفسه الذي يضطلع به هذا الوضع.
هذه الإمكانية في تصور العرضية والحدثية ليس بوصفها وقائع ممنوحة للتعقل بل بوصفها فعل التعقل – هذه الإمكانية في إظهار انتقالية الفهم والقصد الدلالي في خامية الواقعة ومضامين معطاة- إمكانية مكتشفة بواسطة هوسرل ولكنها ارتبطت مع هيدجر بتعقل الوجود بصفة عامة- تمثل التجديد الكبير للأنطولوجيا المعاصرة. عندئذ لا يفترض فهم الوجود موقفا نظريا فقط بل كل تصرف بشري. كل الإنسان هو أنطولوجيا. إن أثره العلمي وحياته العاطفية وإشباعه لحاجياته ولشغله وحياته الاجتماعية تمفصل فهم الوجود أو الحقيقة وفق صرامة تضمن لكل واحد في هذه اللحظات وظيفة محددة. إن الوجود الذي يخصنا ينبع برمته من هذا الفهم- وهذا الأخير يتأثر بنسيان الوجود. ليس لأنه ثمة إنسان فإنه ثمة حقيقة. بل لأن الوجود بصفة عامة يظهر غير مفصول عن قبليته- ولأنه ثمة حقيقة، أو ،لو أردنا،لأن الوجود مدرك فأنه ثمة إنسانية…
3- إلتباسية الأنطولوجيا المعاصرة:
إن المماهاة بين فهم الوجود وثراء الوجود العيني تهدد أولا باختراق الانطولوجيا للوجود. هذه الفلسفة الوجودية التي رفضها هيدجر من جهته ليست سوى الأطروحة المرفوضة ولكن التي لا يمكن تفاديها في تصوره للأنطولوجيا. إن الوجود التاريخي الذي يهم الفيلسوف بالقياس إلى كونه أنطولوجيا يهم الناس والأدب لأنه وجود مأساوي. عندما يقع الخلط بين الفلسفة والحياة، لم يعد المرء يعرف أنه يجنح إلى الفلسفة لأنها تعاش أو يتشبث بالحياة لأنها فلسفية. إن الإسهام الجوهري للأنطولوجيا الجديدة قد يظهر في معارضتها للتعقلية الكلاسيكية. فأن نفهم الأداة ليس أن نشاهدها بل أن نعرف نستعملها، وأن نعرف وضعنا من الواقع ليس أن نكتفي بتعريفه بل أن نوجده في انعطاء عاطفي، وأن نفهم الوجود يعني أن نوجد. كل هذا يشير على ما يبدو إلى قطيعة البنية النظرية للفكر الغربي. أن نفكر لا يعني البتة أن نتأمل وإنما أن نلتزم وأن نكون محاطين بما نفكر فيه وأن نكون متشابكين- مع الحدث الدرامي للوجود في العالم.
إن الكوميديا تبدأ مع الأكثر بساطة من حركاتنا. وإنها تتصرف جميعها وفق خطا لا يمكن تفاديه. اذ عندما أمدد يدي لتقريب كرسي فإنني أجرح فخذ جليسي وارسم خطا في المكان وأجعل مطفأة سجائري تسقط . وبفعل ما أردت فعله أكون قد فعلت ألف شي لم أرده. إن الحركة لم تكن خالصة لأنني تركت آثارا. ولما سعيت إلى محو هذه الآثار فإنني تركت آثارا أخرى. لقد طبق شارلوك هلمز علمه على هذه واحدة من محاولاتي الكبيرة وغير قابل للاختزال ومن هنا أمكن للكوميديا أن تدور حول التراجيديا. ولما يعود خطأ الحركة على الهدف المتبع فأننا نكون في حضن التراجيديا.
يقوم لايوس بما يجب القيام به من أجل التخلي عن التخمينات الرهيفة ومن أجل أن يتم استكمالها. إن أوديب يهتم ببؤسه لكي يتفوق. مثل الفريسة التي تهرب من ضجيج الصيادين على طبقة الثلج السميكة في خط مستقيم ولكنها تترك بالتحديد الآثار التي تؤدي إلى ضياعها.
هكذا نكون مسؤولين عن ماوراء قصدياتنا. ويستحيل علينا بالنسبة إلى النظرة التي توجه الحركة أن نتفادى الفعل بواسطة الانتباه. نحن نضع إصبعنا على الزناد والأشياء تسير ضدنا. هذا يعني أن الوعي الذي يخصنا وتحكمنا في الواقع عن طريق الوعي لا ينفذان إلى علاقتنا به ، حيث نكون حاضرين عبر كل السعة التي تخص الوجود. وأن لا يكون الوعي بالواقع متفقا مع سكننا الخاص في العالم – هذا هو الذي أنتج في فلسفة هايدغر ضغطا قويا في عالم الأدب.
بيد أن فلسفة الوجود تتلاشى أمام الأنطولوجيا. فعل اشتباك هذا وهذا الحدث الذي أكون فيه ملتزما ومرتبطا حيث أوجد مع ما ينبغي أن يكون موضوعي بواسطة روابط لا تختزل في أفكار، هذا الوجود يؤول بوصفه فهما. عندئذ يتعلق الطابع المتعدي لفعل عرف بفعل وجد.
إن الجملة الأولى من ميتافيزيقا أرسطو “كل الناس يرغبون بالطبع في المعرفة” تظل صحيحة بالنسبة إلى فلسفة كانت على الأخف قد خلقت مستهجنة من طرف المفكر. إن الانطولوجيا لا تأتي فقط لتسرع علاقاتنا العملية مع الوجود مثلما يسرع تأمل الماهيات في الكتاب العاشر من اتيقا إلى نيقوماخوس الفضائل. إن الأنطولوجيا هي ماهية كل علاقة مع الموجودات وحتى كل علاقة مع الوجود. ألا ينتمي الفعل الذي يكون به الموجود مفتوحا إلى فعل وجوده عينه؟ إن الوجود العيني الذي يخصنا يؤول وفق وظيفة دخوله في انفتاح الوجود بصفة عامة. إننا نوجد ضمن حلقة ذكاء مع الواقع- الذكاء هو الحدث عينه الذي يتمفصل معه الوجود. وكل عدم فهم ليس سوى ضرب من الانكماش في الفهم. هكذا يحدث أن تحليل الوجود وما يمكن أن نسميه إنيته
Ecceité ليس إلا وصفا لماهية الحقيقة وشرط المعقولية ذاتها للوجود.
4- الغير بوصفه محاور
يرتكز الفهم عند هايدغر في نهاية المطاف على انفتاح الوجود (…) ويتمثل ذكاء الموجود حينئذ في الذهاب إلى ماوراء الموجود – في الانفتاح تحديدا – والعمل على إدراكه في أفق الوجود. هذا يعني أن الفهم عند هايدغر يلتقي بالتقليد الكبير للفلسفة الغربية: أن نفهم الوجود المخصوص يعني من الآن فصاعدا أن ننتقل إلى ماوراء الخصوصي – وان نفهم يعني أن نتصل بالخصوصي الذي وحده هو الموجود بواسطة المعرفة التي هي دائما معرفة بالكوني. لا يمكن أن نعارض المفضولات الشخصية بالتراث العجيب الذي يواصله هايدغر. ولا يمكن أن نفضل علاقة مع الموجود بوصفه شرط الأنطولوجيا على الأطروحة الأساسية التي بمقتضاها كل علاقة مع موجود خصوصي تفترض الحميمية أو نسيان الوجود.
وقعنا في الاختزال على ما يبدو منذ أن التزمنا بالتفكير وتحديدا للأسباب ذاتها التي منذ أفلاطون أخضعت الإحساس بالخصوصي للمعرفة بالكلي والعلاقات بين الموجودات لبنى الوجود والميتافيزيقا للأنطولوجيا والوجودي للوجوداني. فكيف عندئذ يمكن أن تكون العلاقة مع الموجود منذ البدء شيئا مغايرا لفهمه كموجود – وفعل التحرر يتيح له أن يوجد باعتباره موجودا؟
ما عدى الغير. إن العلاقة التي تربطنا به تتمثل بكل تأكيد في أن نريد فهمه لكن هذه العلاقة تتجاوز الفهم. وذلك ليس فقط لأن معرفة الغير تقتضي، خارج الفضول، أيضا التعاطف أو الحب وهي طرق وجود متميزة من التأمل المتعمق. ولكن لأن هذا الأخير لا يؤثر فينا في علاقتنا الخاصة مع الغير بالانطلاق من مفهوم. انه موجود ويعد كذلك.
هنا يعترض المنتمي إلى الأنطولوجيا ألا يشير قول الموجود من الآن فصاعدا إلى أنه هو الذي يهمنا من خلال اشراقة الوجود وتبعا لذلك يتحول إلى انفتاح على الوجود، وهو الذي قد تبلور منذ البدء في حضن الفهم؟ وماذا يعني بالفعل استقلال الموجود إن لم يكن إحالته على الأنطولوجيا؟
أن نتعلق بالموجود من حيث هو موجود يعني بالنسبة إلى هايدغر أن نسمح الموجود بأن يوجد وأن نفهمه بوصفه مستقلا عن الإدراك الذي يكتشفه ويدركه. انه ينعطى بواسطة هذا الفهم تحديدا بوصفه موجودا وليس فقط بوصفه موضوعا. إن الوجود مع الغير –
Miteinandersein – يرتكز حينئذ بالنسبة إلى هايدغر على العلاقة الأنطولوجية.
نحن نجيب: إلا يتعلق الأمر في علاقتنا الخاصة مع الغير بالسماح بالوجود؟ وألا يستكمل الغير استقلاليته في دوره الخاص بالحوار؟ هل نفهم الذي نتحدث معه في وجوده منذ الوهلة الأولى؟
كلا. ليس الغير موضوع فهم أولا ومحاور بعد ذلك. إن العلاقتين تتطابقان. وبعبارة أخرى إن فهم الآخر لا ينفصل عن التضرع إليه
Invocation. أن نفهم شخصا ما يفيد من الآن فصاعدا أن نتحدث إليه. وأن نطرح وجود الغير بالسماح له بالوجود يعني إذن أن نحسن قبول هذا الوجود وأن نعيره الاهتمام. حسن القبول وإعارة الاهتمام لا تتطلب فهما ما ولا السماح بالوجود. إن الكلام يخط علاقة أصلية. إن الأمر يتعلق بادراك وظيفة اللغة ليس بوصفها خاضعة للوعي الذي نكونها من حضور الغير أو من مجاورته أو الاجتماع به، وإنما بوصفه شرط الحصول على هذا الوعي. يقينا، ينبغي أيضا أن نفسر لماذا لا يحتل حدث الكلام مكانه على مسطح الفهم. لماذا لا يتم توسيع معنى الفهم فعليا وفق الصياغة المشهورة الراجعة إلى الفنومنولوجيا؟ ولماذا لا يتم إظهار الاندماج مع الغير بوصفه الطابع الخاص لفهمه؟
هذا الأمر يبدو لنا مستحيلا. إن معالجة المواضيع المستعملة تؤول مثلا بوصفها أشكال من فهمها. لكن توسيع معنى المعرفة يتحقق في هذا المثال من خلال تجاوز المواضيع المعروفة. انه يكتمل رغم كل ما يبديه من التزام تأملي قبلي باستعمال الأدوات. إن الموجود في حضن الاستعمال يقع تجاوزه في الحركة نفسها التي تصل إليه- وإننا نتعرف في هذا الماوراء الضروري على الحضور بالقرب من المسار عينه من الفهم. إن هذا التجاوز لا يسمح فقط بالظهور الأولي للعالم عند كل مرة نمسك فيها بالاستعمالي كما يريد هايدغر. انه يرتسم أيضا في امتلاك واستهلاك الموضوع. ليس بهذه الصورة عندما يتعلق بعلاقتي مع الغير. لو أردنا هنا أيضا أن افهم الوجود في الغير وفي ماوراء خصوصيته الموجودية. إن الشخص الذي أوجد معه على صلة أسميه وجودا، ولكن عند تسميته بالوجود فاني أنادي عليه. إني لم أفكر فقط في كونه موجودا بل إني أتكلم معه. انه كان شريكي في حضن العلاقة التي يجب أن تجعلني حاضرا فقط. لقد تكلمت معه، بمعنى أني قمت بتخفيف الوجود الكوني الذي يتقمصه من أجل الاهتمام بالموجود الخاص كماهو. هنا يجب أن تفقد الصياغة “قبل أن أكون في علاقة بالوجود ينبغي أن أقوم بفهمه بوصفه وجودا” تطبيقها الصارم: عند فهم الوجود أقول له بالتوازي فهمي. إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا استطيع أن أقابله دون أن أعبر له عن هذه المقابلة نفسها. إن المقابلة تتميز عن المعرفة تحديدا بهذا. إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يمكن أن أقابله دون أن أعبر له عن هذه المقابلة ذاتها. ثمة في كل موقف تجاه الإنسانية الخلاص- وألا يكون رفضا للتخليص. إن الإدراك لا يتم إسقاطه نحو الأفق –حقل حريتي وقدرتي وملكيتي من أجل تحصله في هذا العمق المشترك للفرد. انه يرتبط بالفرد المحض.وبالموجود من حيث هو كذلك. وهذا يعني تحديدا، لو أردنا التعبير عنه بألفاظ الفهم، أن فهمي للموجود بماهو كذلك هو من الآن فصاعدا التعبير الذي أمنحه لهذا الفهم.
هذه الاستحالة في الاقتراب من الغير دون التكلم معه تعني هنا أن الفكر غير مفصول عن التعبير. لكن التعبير لا يتمثل في تحويل بشكل ما فكر يخص الغير إلى روح الغير. هذا نعرفه ليس فقط منذ هايدغر بل منذ سقراط. والتعبير لا يتمثل البتة في تمفصل الفهم الذي أتقاسمه منذ الآن مع الغير. إن التعبير يتمثل قبل كل مشاركة مع محتوى معين بواسطة الفهم في تشييد اجتماعية عبر علاقة لااختزالية بالنتيجة في الفهم. ليس العلاقة مع الغير أنطولوجية . وهذه الصلة بالغير الذي لا يختزل إلى تمثل للغير بل إلى التوسل له ،حيث التوسل لا يكون سابقا على الفهم، نسميه الدين. إن ماهية الخطاب هي صلاة. وما يميز الفكر الذي يقصد ربط الصلة مع شخص ما هو أنه في هذا الأخير يتمفصل منادي: ما سمي وجد وفي نفس الوقت هو ما وقعت مناداته.
5- الدلالة الإتيقية للغير:
عندما يتعلق الفهم بالموجود في انفتاحه على الوجود يعثر على دلالته من خلال الوجود. في هذا المعنى لا يتضرع إليه بل يسميه فقط وهكذا فإنه يستكمله بالنسبة إليه بعنف ونفي. والعنف هو نفي سلبي. وهذه الجزئية توصف في الفعل الذي يوجد فيه الموجود دون أن يضيع تحت قدرتي. إن النفي الجزئي الذي هو عنف ينفي استقلالية الموجود: انه يكون بالنسبة إليَّ. إن الامتلاك هو النمط الذي من خلاله يكون الموجود من جهة كونه موجود منفيا جزئيا. لا يتعلق الأمر فقط بالفعل الذي يكون به الموجود آلة وأداة- أي وسيلة، وإنما هو أيضا هدف – انه غذاء مستهلك وعند الشهوة يمنح ويقدم إليَّ.
إن الرؤية بكل يقين تقيس قدرتي على الموضوع غير أنها من الآن فصاعدا أصبحت شهوة. إن مقابلة الغير تتمثل في الفعل الذي لا أمتلكه بالرغم من امتداد هيمنتي عليه ومن عبوديته لي. انه لا يدخل البتة في انفتاح الوجود حيث أمسكه من الآن فصاعدا بوصفه داخل حقل حريتي. انه يأتي إلى مقابلتي ليس بالانطلاق من الوجود بصفة عامة. كل ما يأتيني منه بالانطلاق من الوجود بصفة عامة يمنح يقينا إلى فهمي والى امتلاكي. أنا افهمه بالانطلاق من تاريخه ومن وسطه ومن عاداته. وما يستعصى فيه عن الفهم يعني هو الموجود. وأنا لا أستطيع أن أنفيه جزئيا وفي العنف ندركه ونمتلكه بالانطلاق من الوجود بصفة عامة.إن الغير هو الموجود الوحيد حيث لا يمكن أن يعلن النفي سوى تاما: القتل. الغير هو الموجود الوحيد الذي يمكنني أن أرغب في قتله. يمكنني أن ارغب. ولكن هذه الإمكانية هي العكس الكي للقدرة. ان انتصار هذه القدرة يعني خسارتها كقدرة. إذ في اللحظة التي تحقق قدرتي على القتل يكون الغير قد تخلص مني. يمكنني بكل تأكيد أن أحقق هدفا عندما أقتل ويمكن أن أقتل مثلما أصطاد أو مثلما أقطع الشجار أو الحيوانات- لكنني إذن أبلغ الغير في انفتاح الوجود بصفة عامة بوصفه عنصر من العالم الذي أمسكه واني أتصوره من جهة الأفق. إني لم أنظر إليه من جهته المقابلة ولم ألتقي بوجهه. تقاس غواية النفي التام اللانهائي في هذه المحاولة واستحالتها – انه حضور الوجه. أن نكون في صلة مع الغير وجها لوجه – انه ليس القدرة على قتله. انه أيضا منزلة الخطاب (…)
سواء كانت العلاقة بالموجود توسل من خلال الوجه وفيما ما مضى خطابا وصلة بالعمق وبالأحرى مع أفق ما – ثقب من الأفق- وأن يكون مجاوري
Mon prochain الموجود بامتياز فإن كل هذا يمكن أن يظهر مفاجئا جدا إذا ما رجعنا إلى تصور الموجود، غير الدال في حدا ذاته، ظلال لأفق لامع، وهو لا يحصل على دلالة إلا من خلال حضوره في الأفق. إن الوجه يعني آخرية Autrement. وفيه تكون المقاومة اللامتناهية للموجود في متناول قدرتنا وتثبت نفسها تحديدا ضد إرادة القتل التي تتحداها، بما أنها عارية تماما- وعري الوجه ليست مجرد صورة أسلوبية- انه يدل في حد ذاته. إننا لا نقدر حتى على التصريح بان الوجه يكون انفتاحا، هذا سيؤدي إلى جعله أمرا نسبيا بالمقارنة مع الوفرة المحدقة
هل يمكن أن يكون للأشياء وجوها؟ أليس الفن هو الفاعلية التي تعطي وجوها للأشياء؟ ألا تكون واجهة منزل هو منزل يشاهدنا؟ إن التحليل الذي قادنا إلى هنا لا يمنحنا الجواب الكافي. مع ذلك نحن نطلب لو أحجمنا عن الجمع بين الانطلاق المجهول والفاتن والمدهش للإيقاع في الفن والاجتماعية والوجه والكلام. نحن نقترح دلالية الوجه ضد الفهم والدلالة الحاصلة نتيجة الأفق.
هل تمكننا الإشارات المختصرة التي من خلالها أنتجنا هذا المعنى من أن نستشف دوره في الفهم في حد ذاته وكل الشروط التي يرسمها حقل العلاقات المعرض للعطب؟ إن ما نتوقعه يبدو لنا قد لمحت إليه على الأقل فلسفة كانط العملية والتي نشعر بأنفسنا قريبين منها بالخصوص.
في ماذا لم تكون النظرة إلى الوجه نظرة بل استماع وكلام- وكيف أمكن لمقابلة الوجه بمعنى الوعي الأخلاقي- أن توصف باعتبارها شرط الوعي القصير جدا وللانكشاف، وكيف يثبت الوعي نفسه بوصفه استحالة ارتكاب الجرم، وماهي شروط ظهور الوجه، بمعنى الغواية واستحالة القتل، كيف أستطيع أن اظهر إلى نفسي بوصفي وجه، وفي النهاية وفق أية مقياس تكون العلاقة مع الغير أو مع التشاركية هي العلاقة التي تخصنا واللامختزلة إلى الفهم، ومع اللانهائي- هذه هي المباحث التي تشتق من هذه المنازعة الأولى مع أولوية الأنطولوجيا. ما انفك البحث الفلسفي في كل الأحوال بالاقتناع بالتفكير في الذات أو في الوجود. إن التفكير لا يسلمنا إلى سرد المغامرة الشخصية لنفس شخصية تعود إلى ذاتها بلا انقطاع حتى وان كانت تظهر في حالة فرار. إن الانساني لا يمنح نفسه إلا في علاقة غير متكافئة.”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Extrait de Revue de métaphysique et de morale « l’ontologie est-elle fondamentale ? », Janvier 1951, PUF, pp.88-98.

كاتب فلسفي

عن موقع دروب الثقافي

 

Partager cet article
Repost0
3 mars 2010 3 03 /03 /mars /2010 22:00

http://t2.gstatic.com/images?q=tbn:5gg-XDrHpBhHiM:http://www.neelwafurat.com/images/lb/abookstore/covers/normal/172/172813.gifسوسيولوجيا العالم العربي.. مواقف وفرضيات

 د. عبدالكبير الخطيبي
1) الفرضية الأولى:
تتمثل المهمة الأساسية للسوسيولوجيا في العالم الثالث في القيام بعمل نقدي مزدوج:
أ‌. "تفكيك المفهومات"
Deconstruction الناتجة عن المعرفة السوسيولوجية والكتابة السوسيولوجية اللتين كانتا تتكلمان بإسم العالم العربي ويغلب عليهما الطابع الغربي وإيديولوجيته المتمركزة على الذات.
ب‌. وفي الوقت ذاته نقد للمعرفة والكتابة السوسيولوجية اللتين أنجزتهما مختلف مجتمعات العالم العربي حول ذاتها.
نقصد إذاً حركة مزدوجة منسقة نرى أنها وحدها قادرة على تجاوز مجرد الإعادة والتكرار وتفتح أمام رجال علم الاجتماع إمكانية عملية أقل استلاباً وأكثر تكيفاً مع خصوصية الموضوع المطروح.
ماذا نريد بقولنا "تفكيك المفهومات"
Deconstruction؟ إن هذه المفهومات وقائع تاريخية وتأخذ بنيتها بالنسبة لتفكير خاص وأحداث معينة في الزمان والمكان. وتندرج في كتابات لها منطقها الخاص وتنمو بالاستعارات التي يأخذها علم من آخر وحسب، ولكن أيضاً بواسطة مجموع تحولي بين التاريخ والعلم والإيديولوجيا. والمفهومات والكتابات تترابط ولكن نلاحظ أنها في كل مرة تأخذ صورة نظرية، وبطانة إيديولوجية تهيمن عليها. ويفيدنا علم الإشارات Semiologie أن كل كتابة هي تداخل وترابط بين عدة نصوص Intertextualite، هي مجموع تحولي بين عدة نظم اصطلاحية، من المفهومات، والكتابة السوسيولوجية لا تخرج عن هذا التحديد. وكما أن نمطاً من الانتاج لا يستطيع أن يسيطر على أنماط الانتاج الأخرى لتكوين مجتمعي ما إلا بقدر ما يظل موجوداً معها، كذلك الكتابة السوسيولوجية لا تمحو أبداً الكتابات السابقة من دون أن تدمجها في حيزها الخاص، تدمجها بتجاوزها.
غير أننا نجد أن العلوم الاجتماعية قد نمت وتطورت في الغرب، وهو تطور معاصر للتسلط الامبريالي.
فإذا تقبلنا هذه النسبة التاريخية فماذا سنفعل؟ يجب علينا أن نستخلص بعض النتائج، أولها: يجب أن نعيد النظر من جديد في التاريخ والمعرفة لا بالنسبة لمركز أو أصل (الغرب) كما كنا نفعل من قبل ولكن لما يسميه عالم اجتماع مصري: "عقلانية ذات متغيرات متعددة". وغير خاف أن أقوى سيطرة (على مستوى المعرفة) هي التي تجعل المسيطر عليه يصل إلى الاعتقاد أو التفكير بأن نقطة ومركز وأصل كلامه هو نفس نقطة ومركز وأصل المسيطر.
هذه النسبة التاريخية الثقافية ستكون أهميتها ضئيلة بالنسبة لنا إذا لم تسمح لنا بأن نحيط، على أحسن وجه، بصلاحية بعض الفرضيات العلمية. لنأخذ مثالاً على ذلك: في الدراسة النمطية التقليدية تنزع الماركسية إلى تصنيف المجتمعات في حالة ما قبل الاستعمار ضمن نمط الانتاج الآسيوي. (الاهتمام من جديد بموضوع كهذا هو أمر له مغزاه). لكن هذا المفهوم ذاته مبهم وغامض لا يمكن أن يطبق على العدد العديد الذي لا يحصى من المجتمعات. ففي مجتمع واحد قبل الاستعمار كالمغرب نميز بين عدة أنساق في الصراع: النسق الأبوي، القبلي، الرأسمالية الحرفية، نسق الأسياد، النسق المخزني مع العلم أن هذا النسق كان هو المسيطر. نعتقد بأن من الواجب التخلي عن الدراسة النمطية في السوسيولوجيا لأنها تخفي وراءها ميتافيزيقيا "الكليات"
Totalite في حين أننا نود أن نقضي على تمركز المعرفة الغربية وننزعها شيئاً فشيئاً عن ميتافيزيقيتها الأرسطية.
هناك فرضية فرعية تسمح لنا بأن نزيح أول عائق لهذه السيطرة العلمية. وبما أنه لا توجد سوسيولوجيا في ذاتها أو كتابة سوسيولوجية في ذاتها فمن اللائق أن نقوم بالنقد المزدوج الذي تكلمنا عنه. لا تدفعنا إلى ذلك ضرورة استراتيجية علمية إيديولوجية فحسب ولكن أيضاً لأن التاريخ ذاته هو أثر لحركة مزدوجة: فالشمولية والخصوصية تقومان بلجم حركة النمو التاريخي.
لنأخذ مثالاً حتى نوضع الجانب الثاني من النقد المزدوج: نعرف أن الفكر العربي المعاصر لا يمكن أن يتخلص من أسسه الدينية والثيوقراطية التي تطبع إيديولوجية الإسلام. فنحن نلاحظ، من دون عناء، أن النزعة التوفيقية تهيمن عليه: يتعلق الأمر في بعض الحالات بتعبير تغفله المفهومات الميتافيزيقية. والسوسيولوجيون العرب والمستشرقون يستعملون غالباً مفهوم العصبية المأخوذ عن ابن خلدون. لكن هذا المفهوم يتضمن رؤية دورية للتاريخ، رؤية العودة الأبدية، فكيف يمكن لتفكير جدلي أن يدمج فيه مفهومات ضد الجدلية؟ هل من السهل أن نضع مفهوم العصبية ضمن مفهوم صراع الطبقات لأن الجدال الضمني هنا هو بالرغم منا جدل حول التناقض بين أونتولوجيا دينية وأونتولوجيا تاريخية، بين إيديولوجيا أساسها لاهوتي وإيديولوجيا ترى الطبقات المجتمعية موضوعاً للتاريخ. إن الممارسة الوطنية العربية تعيش مأساة هذا التناقض سواء في السياسة أو المعرفة.
في كل سوسيولوجيا نجد إيديولوجيا موازية لها، تعبيراً مقنعاً عن عدة كتابات ونقلاً غامضاً للمفهومات من تراث معرفي إلى آخر. هذه الإشكالية يعلن عنها بوضوح ج. دريدا
J. Derrida في ما يتعلق بالاثنولوجيا: "الاثنولوجيا، ككل علم، تتولد داخل عنصر الكتابة، إنها أولاً علم أوروبي يستعمل مفهومات تقليدية، وبالتالي سواء شاء الاثنولوجي أم أبى، إذ لا يتعلق الأمر بقرار من طرفه، فإنه يضم في كتابته مقدمات التمركز حول الذات Ethnocentrisme في اللحظة نفسها التي يعلن فيها رفضه لها. هذه الضرورة لا يمكن إزاحتها فهي ليست احتمالية تاريخية، يجب أن نتمعن فيها بكل متضمناتها. ولكن إذا لم يتهيّأ لأي عالم أن يتخلص منها وإذا لم يكن أحد مسؤولاً عن الخضوع مهما ضعف هذا الخضوع، فهذا لا يعني أن كل الرضوخ لها يجب أن تكون بالملاءمة نفسها.
إن نوعية وخصوبة كتابة ما قد تقاس بالنقد الدقيق الذي يتناول به الفكر علاقة الاثنولوجيا بتاريخ الميتافيزيقا والمفهومات الموروثة. نقصد هنا علاقة نقدية للغة العلوم الإنسانية، ومسؤولية نقدية للكتابة. نريد أن نضع بوضوح وبمنهجية مشكل مقومات كتابية تستعير من تراث ما المصادر الضرورية لتفكيك هذا التراث ذاته. أي أن المشكل هو مشكل اقتصاد واستراتيجية.
اقتصاد، استراتيجية. هذا توضيح آخر للنقد المزدوج، توضيح يسمح لنا بأن نميز من جهة المفهومات التي لها قدرة ابستمولوجية يمكن تحيينها. ومن جهة أخرى المفهومات التي يجب أن نصنفها في تاريخ المعرفة ليس إلا. فالتحليل، هنا، ضروري لكي نتحكم في كل مجهود لإعادة التأويل، في المدى الذي يكتسب فيه المفهومات الناتجة عن معرفة المجتمعات المسيطر عليها وعن العلوم الاجتماعية الغربية، معنى تاريخياً وصدقاً ابستمولوجياً.
2) الفرضة الثانية:
الكتابة السوسيولوجية ككل كتابة فنية، ممارسة (خاصة في كل مرة) للتاريخ، والعلم والإيديولوجيا.
يجب أن نضع مقابل الكتابة الانعكاسية التي ترى اللغة العلمية تصوراً منقولاً عن الواقع، فكرة كتابة عرضية على ثلاثة مستويات:
- التاريخ: الكتابة تأخذ بنيتها بالنسبة إلى وقائع مادية وبالنسبة لمؤسسات اجتماعية (جامعات، شركات، نقابات، أحزاب...).
- العلم: كل كتابة تحاول أن يكون لها أساس بصفتها لغة مستقلة لها منطقها الخاص في سيرها وتحولها.
- الإيديولوجيا: تكون في ثنايا كل لغة علمية، كتابة موازية. فاستعمالنا مثلاً لمفهومات العالم الثالث، أو مجتمعات نامية أو العوالم الثلاثة
Tricontinental لا يتطابق مع اختيار مفهومات إيديولوجية متماثلة، بخاصة في السياسة. ففي حالة نامية نعني إيديولوجية تقنوقراطية تقيس التقدم بمعايير كالتصنيع، المردود، الانتاجية، والدقة. وفي الحالة الثانية (العالم الثالث Monde – Tiers) يمكن القول إننا نلح على مفهوم السيطرة في حين أنه في الحالة الثالثة (العوالم الثلاثة Tricontinental) نلمس اختياراً ثوروياً واضحاً: هذا المفهوم يلح على السيطرة بقدر ما يلح على التضامن المؤمل بين هذه البلدان للقضاء عليها. إذاً، في كل كتابة سوسيولوجية، اقتصاد واستراتيجية.
الكتابة السوسيولوجية لا يمكن أن تكون في رأينا إلا ممارسة عنيفة تأخذ على عاتقها التاريخ والإيديولوجيا والعلم. يجب إذاً أن نحقق قطيعة عنيفة مع السيطرة الثقافية الغربية، وتتجاوز قوتنا القاصرة، إذ ليس هناك قول بريء بل على كل قول أن يجيب بطريقته الخاصة عن شعلة الحياة.
يجب إذاً أن نفكر في الآخر ضمن مجال تفكيرنا الخاص. وقد يعترض علينا: ذلك مستحيل: لأن استعمالكم للعلوم الاجتماعية الصادرة عن الغرب وأرضيتها الفلسفية سيجعلكم تنساقون في طريق مجموع نظري لستم متمكنين منه وسيسهل ضياع الثقافة العربية بل أسوأ من ذلك سيؤدي إلى سيطرة أقوى وأدق.
إنكم تحاربون سيرورة التقليدية
Traditionalisation والمعرفة الغربية Occidentalisation، معتمدين على ابستمولوجيا خطرة تقصي المعرفة العربية داخل ماضٍ إيديولوجي.
المعرفة العربية الراهنة هي بدون شك تشابك صراعي بين معرفتين إحداهما (غربية تسيطر على الأخرى، وتعيد تكوينها من الداخل وتجعلها، بطريقة ما، غريبة عن ذاتها لأنها تقتلعها من أرضيتها الفلسفية والميتافيزيقية بحيث أصبح معها العالم العربي متبحراً في المعرفة الغربية لا يعرف من أي مكان يتكلم، ومن أين تأتي المشكلات التي تقلقه. لكن المعرفة العربية لها بعض الاستقلال الذاتي، على الأقل من حيث اللغة. وليس هذا بالقليل ما دامت كل قولة لغوية تأخذ صيغتها بحسب المنطق وبحسب بنية نظام اصطلاحي
Code لغوي خاص.
تؤدّي هذه الوضعية الغامضة (التي يجب أن ندرسها بتفصيل يوماً ما) إلى نتيجة أولى: رجل العلم العربي يصبح أساساً المعبر والمترجم عن مجموع نظري ومنهجي تكون في لغة وبلد آخرين يكاد لا يدرك، في غالب الأحيان، التجذر الفلسفي ونوعيته التاريخية لهذا المجموع. وهو يشعر بالانسحاق تجاه الانتاج للآخر. وبعملية تراكم سريع فيكتفي، منزوياً في ظل المعرفة الغربية، بإقامة معرفة ثانوية، مختنقة به وبالآخر، وفوق كل ذلك آثمة لأنها لا ترضي أحداً.
إن كل شيء يهتز نظرياً، ما إن ننزع القناع عن مسألة هذا الصراع. وعندما يوقف العالم العربي نظرياً عملية التراكم هذه، ويتفرغ ليصوغ مقوّمات وقوانين نشاطه، فيعي أن عليه أن يبدأ كل شيء من البداية، أي أنه حينما يتمكن بعمق من المعرفة الغربية يرى أن الأمر لا يدعو إلى تبني وترجمة هذه المعرفة فحسب ولكن في الوقت ذاته أيضاً تحليل تكوينها، وتحولها، وانقطاعها في المجال التاريخي. مع العلم أن كل نظرية هي نسق للتفكير ناتج عن التاريخ وأساسه التفكير ذاته، شريطة ألا نراه مجرد حركة في خط مستقيم (المذهب التطوري وخلافه) ولكن كنسيج من العلاقات بين مجموعات من الأحداث، تستمدّ تلاحمها الوحيد من نسق تفكيرها الخاص بنا، لا من العراء والانكشاف الوهمي للحدث.
وتظل أمامنا مهمات صعبة في المعنى الثاني الذي تحيلنا فيه العلوم الاجتماعية إلى مبادئ أساسية (حقيقة، عقل، موضوعية...) أقل ما نقول عنها إنها تنتمي إلى رؤية ميتافيزيقية وفلسفية. ونسيان اللحمة بين الفلسفة والعلوم يعني التمسك بالعمل في العماء. وعلى رغم هذا تظل تلك الاثباتات البدهية المشار إليها مبعدة ومرفوضة باسم وضعية ساذجة.
ولا يعني هذا أننا سنقوم بنقد الغرب نيابة عنه ولكن المقصود أن نفصل ونبين مقومات العلوم الاجتماعية ضمن اشكاليتنا نحن، وعلى كلٍ فالمعرفة الغربية مدروسة من الداخل من خلال قوى التجاوز واللاتمركز وتبرز لنا طبقاً لنموذجية متناقضة وصور متنوعة، مرسومة هي ذاتها في إطار الصراع المجتمعي. لكي نبسط هذا التحليل المختصر يمكن إبرازه في ثلاثة أنماط من النظريات:
- نظريات تنظيمية: تجعل إيديولوجية التمركز حول الذات مشروعة مع الإعلان في الوقت نفسه عن نزهة شمولية ونزعة انسانية مجردة تبعد وتنكر جدلية الخصوصي والشمولي، وجدلية الهوية والاختلاف.
- نظريات نقدية: تدخل في قلب المعرفة الغربية تزحزها مفهومياً عن المركز، وتغييراً للأرضية الفلسفية التي تقوم عليها. على رغم أنها لا تستطيع الانفلات من قيم ثقافتها (وكيف لها ذلك؟)، ونأخذ هذه النظريات في اعتبارها التباعدات الفروقية، والتباينات بين المجالات الثقافية، وخلاصة القول فإنها تؤسس مبدأ (الاختلاف) كعنصر حاسم في كيان الابستمولوجيا.
- نظريات مائلة: بالمعنى الذي لا تبرز فيه مباشرة إيديولوجية التمركز حول الذات وتظل منفتحة على التحول.
هذا التحليل في المستويات الثلاثة إنما هو خطاطة تحليلية. ولم نشأ أن نرتب مختلف فروع المعرفة الغربية في كل خانة من الخانات الثلاث، ذلك أن نظرية معينة يمكن أن تنتقل من مستوى إلى آخر (أو تمر بها كلها) لأسباب تتعلق بالتحول الداخلي أو الارتباطي، ولأسباب تتعلق بالتغير التاريخي. والاستشراق من الفروع التي تركز انتباهها على التغاير الثقافي، وقد ساعد الغرب على التخلص من بعض الأحكام الخاطئة، ولكن سرعان ما تحول إلى مجموع إيديولوجي يبرر العرقية الذاتية وذلك بتجميده الثقافات الأخرى في إطار الأثرية التقليدية، التي تحن إلى القيم التي فقدها الغرب. وقد اهتم الاستشراق بوجه خاص باللغة واللاهوت وهيأ بطريقته الخاصة الإشكالية السلفية بحيث نستطيع الانتقال من الاستشراق إلى السلفية (والعكس صحيح) من دون وجود موضوع مهم ومن دون وعي واضح، ذلك أن الوعيين بانعكاس أحدهما على الآخر، ينتهيان إلى تهدئة صراعهما بطريقة لعبة المرآة.
والمعرفة عند الغرب ليست كلاً متجانساً، ولا كياناً متعالياً مركزاً حول الاشكالية نفسها وموضوعات التحليل نفسها. إنها مقعرة من كل ناحية بفعل الفوضى التي تصاحب كل تحول تاريخي وعلمي.
كذلك المعرفة العربية الحالية، فأرضيتها التنظيمية (التقليدية) هي مجموع تركيبي يشمل سواء اللاهوت أو الفلسفة العقلانية أو التصوفية، أو العلوم العلمية، أو المعرفة الخاصة بالثقافة العربية أي الأدب. وإيجابية مختلف هذه المعارف تقابل وعياً تاريخياً متطوراً الآن بالرغم من أن كتاباتها ما زالت تتسم بالحيوية.
هذه المعارف تخفي الفقر النظري بواسطة عملية تكرار ما أنتج. فعدد كبير من الباحثين العرب يعملون من دون وعي واضح في هذا التراث "محولين الوثائق إلى آثار"
Les Documents en Monuments كما يقول الفيلسوف ميشيل فوكو (Foucault). فكيف يمكن معالجة ومباشرة هذه المعرفة؟
يجب أولاً أن نقطع كل صلة بالمحاولة المترتبة على تقديس التراث، تلك الحجة التي تسعى إلى تعمية الوعي النقدي، عن طريق عودة وهمية إلى مجد غابر، وحنين نكوصيّ.
والنقد المزدوج المطلوب هنا يجد موقعه الاستراتيجي في:
1- تقليص المفهومية الميتافيزيقية الناتجة عن المصدرين معاً: المصدر الغربي (يوناني في نهاية المطاف) ومصدر الثقافة العربية (وقد ألححنا على هذه النقطة).
2- أن نعيد التفكير في مقومات وإيجابية العلوم الاجتماعية الرائجة على ضوء إدراك مختلف للتاريخ، ليس بصفته فراغاً يضيع خطواتنا إما في تاريخية تقدس الماضي وإما في محاكاة رعناء. (وغالباً ما تتعايش الحركتان في الوعي الممزق نفسه). نريد التاريخ بصفته ممارسة نقدية لما يحدد وجودنا هنا. والآن. وإذا حررنا مشكلة التاريخ فمعنى ذلك أننا سنزعزع دعائم النظام المسيطر للمعرفة الحالية. من المعلوم أن لا فائدة من المرور ثانية بطريقة أو بأخرى بكل المراحل التي مرّ بها الفكر الغربي، كذلك لا جدوى من الاعتقاد بإمكانية عقد صلة متكاملة مع المعرفة القديمة. وإذا سبرنا غور كلتا المعرفتين وأعدنا التفكير في سياق مسيرتهما التاريخية والمجتمعية، فليس معنى ذلك أننا سنبعث المعرفة الغربية ونحاول تقليص الحيوية، التي لا مجال للشك فيها للمعرفة الأخرى.
وإذا وضعنا هذه العملية في حيز التعليق فذلك يعني أننا سنضع أسس كتابة جديدة من البديهي أنها لن تتم برمتها بين ليلة وضحاها، ولكن بفضل صبر لا متناهٍ سنستطيع تفكيك الأغلال النظرية التي تنتشر حولنا وفينا. وهذه مهمة لا نهاية لها من دون شك، مع العلم أن في ميدان المعرفة لا يوجد مكان للمعجزات وإنما انقطاعات نقدية.
3- الفرضية الثالثة:
إن النقد المزدوج يؤدي إلى إعادة تشييد بنيان العلوم الاجتماعية ولا نريد هنا أن نقترح تصنيفاً جديداً لهذه العلوم: ذلك أن هذا النوع من الأعمال يظل عادة مجرد ملتمس لا جدوى منه، وغالباً ما يظل خارج المسيرة التاريخية. وبالعكس يمكن أن نعين بدقة توجيهاً ما، ونفكر في اختيارات حاسمة في ضوء هذه الإشكالية. ذلك أن المعرفة العربية الحالية تعمل على هامش المعرفة الغربية لا في داخلها إذاً، فهي تابعة لها ومحدودة بها. ولا خارجها لأنها لا تفكر – الخارج الذي هو أساس لها. هذا الهامش يتخذ في الحقيقة مظهر حدّ أعمى.
فالنقد المزدوج يكمن بالتالي في معارضته المعرفة الغربية عن الخارج مع "تنظيرها" أي وضعها في نظريات، ليس إلا، أو بتعبير آخر أن نضع ترتيباً تدريجياً للأقطاب الاستراتيجية.
أ‌. إذا أعطينا الامتياز للتاريخ (كما حددناه أعلاه) ضد كل معرفة لا تعدو أن تكون مجرد مزامنة فذلك سيؤدي إلى اندثار الاثنولوجيا (حتى نقتصر على هذا المثال فقط).
لماذا نطالب لهذا الاندثار؟ ليس لأن الاثنولوجيا في نهاية التحليل ظاهرة مرتبطة بالاستعمار والامبريالية فحسب (وهذا شيء بديهي) ولكن أساسها النظري مشبوه هو أيضاً. وفي الواقع هل يمكن دراسة (الآخر) كنظرة صرف؟ إنني لا أرى عيني الآخر فحسب "بل أرى أيضاً أنه ينظر إليّ" كما يقول شللر. وبتعبير فلسفي، تنطوي جدلية الأنا والآخر على كل تواصل، كل رغبة، في حين أن الاثنولوجيا تطرح موضوعاً وهمياً في تحليلها للتماثل والاختلاف، فبعكس ذلك نجد ليفي ستروس على رغم اعتقاده بأن من بين العاملين على تغيير الاثنولوجيا لا يعدو أن يرجع موضوع تحليله إلى الفلسفة والسيميولوجيا.
إن المثال الوحيد للاثنولوجيا يطلعنا على أننا لم نُصَفَّ حسابنا بعد مع مقومات العلوم الاجتماعية ومقومات كتاباتها. يجب إذاً أن نعمل على توسيع مجال هذا التفكير مع العلم أن كل سوسيولوجية لا يمكن أن تتخلص من التاريخ. وقد سبق أن حذرنا ماركس: "إننا لا نعرف سوى علم واحد هو علم التاريخ".
ب‌. هذا يفترض أيضاً أولوية الكتابة السوسيولوجية التاريخية ضد كل شكل من أشكال المذهب الوظيفي الذي يسيطر بقوة على العلوم الاجتماعية كما نعرف.
ج. يصبح إذاً من الضروري وفي أسرع وقت أن ننشئ أجهزة من المفهومات ندركها بحسب النظام الاصطلاحي الخاص باللغة العربية. وترتبط السيطرة الثقافية بالسيطرة السياسية والاقتصادية على رغم أن كل سيطرة لها أحكامها الخاصة وحركتها الخاصة. وطالما لم يعمل العربي على تنمية بحث أساسي باللغة العربية فإنه سيظل منغمراً في آلية الترجمة. وهذا لا يعني أبداً إهمال أو جهل اللغات الأجنبية بل بالعكس نعتقد بأن لغة علمية جديدة بالعربية لا يمكن أن تتقدم إذا لم تدمج في كتاباتها فروق النظم الاصطلاحية المتعلقة بلغات أخرى.

 

Partager cet article
Repost0
8 janvier 2010 5 08 /01 /janvier /2010 23:34

العقل والرغبة

جان بيير شنجو

ترجمة: محمد المعزوز

"يستغل الفن الملكات الما قبلية للدماغ من أجل تقوية العلاقات ما بين العقل والرغبة، وتوفير عنصر الانسجام بين قوانين العقل ووظيفة المعاني -كما كتب شيلر- لهذايعد الفن قوة جامعة وموحدة.

وباستثناء التراث الفني إلى أصالته وما يتقوم به، تمكن من امتلاك شيء جديد باستمرار، إنه تلك الذاكرة التي أصبحت عاملا مخصصا للتقدم والإبداع"(1).

من الإحساس إلى التعرف:

قال سبينوزا: "إن الناس يحكمون على الأشياء وفق مقتضيات وأوامر الدماغ". وبالدماغ كذلك يتأملون اللوحة التشكيلية المحددة فيزيقيا على شكل توزيع متفرق لصباغات ممتدة على مساحة مسطحة. وبالنظر المباشر إلى لوحة "مبكى المسيح الميت" (لبلانج Ballange)، نجد العين ترصد مؤشرات فيزيقية لهذه المساحة الملونة، فالإشعاعات التي تبثها العين وتحققها تحت مؤثرات كهربائية، يصل امتدادها إلى القشرة الدماغية الخارجية (Cortex cérébral) بل إلى الدماغ نفسه.

من هنا، ينبني ذلك الشيء الذهني، وذلك التمثل الداخلي للوحة, غير أن هذا لن يتم إلا بإمعان النظر المدقق في مكونات اللوحة المحمولة على الشكل واللون ومقتضيات الفضاء، (وهي خاصيات تعبيرية يمارسها التشكيلي انبنائيا في إنجازه للظلال والأضواء).

وارتباط الحركة (وهي هاهنا رؤية المتفرج) بالوجوه والأشياء المشكلة على القماش، هي أشياء تحلل في مجال مستقل ومعزول؛ ذلك أن الطرق والمجالات تختلف، ولكن في ارتباطها الداخلي المتحقق عبر القشرة الدماغية يحدث لها نوع من الارتباط الداخلي الناتج عن الاحتكاك البصري باللوحة، خاصة في المساحات المرئية (الأساسية والثانوية) المرتبطة بالجبهة الأمامية للدماغ.

وبعد هذه العملية التي يطلق عليها التحليل، يأتي ضرب من التركيب قد شكلت جهاته مادة لدراسات رائدة حول رؤية الألوان، ومنها دراسة سمير زكي بخاصة. ذلك أن رؤية اللوحة في وسط النهار وعلى ضوء النهار نفسه، أو في الليل على ضوء اصطناعي، قد تظهر (مثلا) لوحة "المبكى" وبشكل عملي على أنها واحدة، بالرغم من أن هذه اللوحة تعكس ضوءا من تأليف مختلف أوقات اليوم. لهذا قد شغلت مسألة ثبات الألوان كثيرا من علماء الفيزيولوجيا، ابتداء من "هلموتز" نفسه. وتقتضي مسألة الثبات هاته، أن الدماغ يفرز -انطلاقا من طاقات ضوئية تعكسها اللوحة- خاصية لا متغيرة للمساحة الملونة. وهذا ما يعرف اليوم بـ" الانعكاسية": أي طاقة العكس بأشكال مختلفة لطول الذبذبات الضوئية.

ويستدعي هذا الثبات كذلك، أن تكون المسافة الملونة المتفحصة متوقعة في "سياق" مجموعة متعددة من المهام الملونة، حيث تمتلك كل واحدة منها انعكاسيتها الخاصة.

وبتعبير آخر، فالدماغ يعيد إنتاج حالة ثابتة داخلية ممثلة للون المدرك؛ وذلك انطلاقا من الثوابت الخارجية. وانسجاما مع هذه التصورات، فقد اكتشف زكي في القشرة الدماغية للعلامة (المدركة للألوان بحساسية)، أن العصبونات (neurones) التي تسنن عمليات الإدراك لا تحقق خدمة لأطوال الذبذبات المستقبلة من طرف العين (التي تختلف وفق أوقات اليوم)، وإنما يحقق خدمة للون ذاته كما ندركه نحن. وهذا يعني أن عملية توزيع الفنان التشكيلي للنقط الملونة على القماش، قد تكون محققة ضمن علاقة مع حالة فيزيقية مقيسة للدماغ، إذ يمكن اعتبارها واحدة "من حالته الذهنية الأساس"، وهي حالات قد شغلت كثيرا الفلاسفة. إن إعادة تشكيل اللوحة، تتجاوز المساحات المخصصة في رؤية الألوان؛ وتنشيط العصبونات الحاضرة في هذه المساحات، يتم باتفاق مع الأجزاء المجاورة للقشرة الدماغية، المكلفة بتحليل اللواحق، والشكل، ومكونات الفضاء، والحركة… ولا يكتمل هذا التحليل إلا بفعل التركيب؛ لكنه إذ كان يمكن للتحليل أن يحدث بطريقة سلبية، فإن التركيب يدل على تبئير إيجابي لاهتمام المتفرج، لأن الشيء الذهني للوحة يتكون بشكل تدريجي.

أما خاصية "التعرف: فإنها تتحدد في مستوى تنظيمي متقدم للإدراك، لأن الأمر لا يتعلق فقط بـ"تقديم" وجه (أو شيء)، ولكن بتحديد هويته ومواضعته في اللوحة. فيكون السؤال دائما ما هو هذا الوجه؟ وأين يوجد؟

هناك -إذن- مناطق قشرية (corticaux) تميز المساحات المرئية، وتحدد في مقدمة هذه المساحات، في مناطق صدغية وتجويفية؛ وجميعها تساهم في هذا العمل الخاص بالتعرف والتعيين الزمني.

ولقد وصف المتخصصون في الأعصاب لدى بعض المرضى وجود عجز غريب لديهم في معرفة الناس والوجوه (Prosopagnosie)؛ غير أن هذا العجز لا يقدم أية علامة ظاهرة على الانهيار الفكري ولا على الخلل اللغوي، لأن هؤلاء المرضى يتعرفون بسهولة على الأشياء المتناولة أو على الحيوانات التي يربونها؛ ولكنهم لا يستطيعون معرفة مرشح في الانتخابات مثلا من خلال صورة فوتوغرافية تمثله، ولو أنهم قد سبق لهم رؤية هذا المرشح وأنهم قد عرفوا اسمه مسبقا. هناك -إذن- روابط جد مسيجة للقشرة الدماغية، تؤدي إلى مرض عجز معرفة الوجوه. وكل منا قد تعرض لتجربة خضوعه إلى كثير من المراحل المتتابعة لمعرفة الوجوه، حيث إننا نصاب إزاءها بثقب عرضي في الذاكرة؛ إذ الأمر يتعلق بوجه معروف بحق، ولكن يستحيل تبين هويته من جديد، أو تذكر المكان الذي رأيناه فيه آخر مرة، أو كما يحدث كثيرا تعذر تذكر اسم هذا الشخص المعين. فكل منا يعرف كذلك، أن كثيرا من مراحل هذه المعالجة تحدث دون أن نعيرها أي اهتمام أو أي انفعال عاطفي.

وهكذا، جاز لنا أن نقر بوجود "عصبونات" فردية تختص بتقديم الوجه المألوف في جهته الأمامية، وليس في جهته الجنبية أو العكس، كما تختص بتحديد تعابير هذا الوجه من ملامح، أو خاصية العينين واتجاهات النظر، أو الشعر…

إن التخصيص الوظيفي لكل خلية مسؤولة على ما ذكر، شيء مذهل حقا، ولو أن بعض ما اكتشف بخصوصها لم يكن مجربا. ومع ذلك، فإن الذي يدعو إلى التفكير هو أن أشباه هذه العصبونات التي تسمى أحيانا وحدات معرفية، توجد في دماغنا وأن نشاطها يتغير لما يتحول نظرنا إلى الوجوه والشخوص أو إلى الأشياء التي تساهم في تكوين اللوحة.

وبالنسبة لـ"مشكين"، فإن هذه العصبونات المتحركة في اتجاه انتقائها لنفس الوجه أو الشيء، تقوم بوظيفة إخبارية حاسمة عن طريق الانتقال من عصبون (neurone) إلى عصبون آخر، وذلك عبر مسافات بصرية موصلة إلى تجويفة الصدغ المؤهلة إلى الإجابة عن السؤال: ما هو هذا الوجه؟ أو الشيء؟

ثم هناك انتقال آخر منتشر عبر ألياف تجويفة الدماغ من أجل تحديد العلاقات الفضائية الرابطة ما بين هذه الوجوه، أو ما بين هذه الأشياء، وضبط حركيتها الدالة على وجودها.

إن تنشيط الخلايا العصابية المتخصصة، والكائنة تراتبيا تحت المسافات البصرية، لا يحدث إلا بهدف بلورة التمثل الداخلي للوحة وفق مستويات واسعة من القشرة الدماغية. وقد يضاف إلى هذا، وجود تطور نوع من اللاتوازي الوظيفي ما بين نصفي الكرة الدماغية (hémisphéres)؛ فالنصف الأيمن يتكفل بمهمة التنقيب في الفضاء، والأيسر ينتهض بتجميع الصور المعقدة. أما الخلايا المعرفية فهي تتجمع متداخلة للمساهمة في التعرف على الأشكال الأكثر تعقيدا، وفي استقصاء كذلك الملامح العامة لهذه الأشكال ضمن فضاء اللوحة. وهكذا يتحصل في النهاية نوع من التجريد، بل ستحول الهياكل الملونة عبر الأشكال إلى مفاهيم ضابطة ثم إلى تركيب مؤلف وجامع لهذه الأشكال جميعها.

نص مترجم من كتاب: "Raison et plaisir"

Jean-Pierre Changeux, Ed. Odile Jacob, Paris 1994,

من ص 33 إلى 38.

ـــــــــــــــــــــــــــ

1 - المقدمة مترجمة من ص 25.
عن مجلة فكر ونقد 

Partager cet article
Repost0
29 novembre 2009 7 29 /11 /novembre /2009 17:07

 

 

مدارات فلسفية العدد 13

الخطاب الديني بين الشعرية والرمزية
بول ريكور

ترجمة : عبد المجيد خليفي

                                                                               


إن التجربة الدينية لا يمكن اختزالها بالضرورة في اللغة الدينية. لكن مع ذلك كلما شددنا على الشعور بالارتباط المطلق وعلى الثقة اللامحدودة وعلى الأمل بدون ضمانة وعلى الوعي بالانتماء إلى تراث حي، وعلى الالتزام الكلي في المستوى الأخلاقي والسياسي إلا ونجد أن كل لحظات التجربة الدينية تجد في اللغة وساطة ضرورية ليس فقط للتعبير عنها، بل لجعلها تتمفصل في المستوى نفسه الذي تظهر فيه وتنمو. فالتجربة غير الموصولة باللغة تظل عمياء مبهمة ولا تواصلية، وإجمالا فالأمر لا يتعلق بلغة في تجربة دينية، بل لا وجود لتجربة دينية بدون لغة.

الخطاب الديني مزدوج: قبل مفهومي ومفهومي

بيد أن هذه اللغة، لكي تمارس وظيفتها التمفصلية والتعبيرية والتواصلية، فهي لا تتطلب نظمها في لغة تأملية، ولنقل في لغة مرتبطة بالمفهوم.

وتشهد على ذلك الأجناس الأدبية التي تحفل بها التوراة والعهد الجديد، ففيها نصادف قصصا وقوانين ونبوءات وحكما وتراتيل ورموزا وأمثالا. والحال أن هذه الأجناس الأدبية في مستواها القبلمفهومي، تتكون فيها اللغة الدينة الأولية. فمن المؤكد أن هذه اللغة عندما تخضع لتأويلات متباينة وجدالات خارجية وكذا لتمزقات داخلية خاصة بالجماعة المؤمنة، فإنها تكون مجبرة على التعبير عن نفسها في أفكار موثوقة، وعلى المجاهرة بالإيمان حيث يتميز أولا عمل المفهوم. هذا بالإضافة إلى أن "عقيدة" الكنيسة المسيحية - عندما تكون في مواجهة مع اللغة الفلسفية - تستعمل وسائل غير ملحوظة أو غير مستعملة للمفهومية سواء باللجوء إلى استعارة خارجية أو إلى توضيح داخلي من أجل أن توضع في نفس مستوى الفلسفة. وبذلك تدخل اللغة الدينية على نحو ملائم في القانون التيولوجي. فمن هذا التغيير للقانون والجدل بين المستوى القبلمفهومي والمستوى المفهومي نشأ جنس مختلط للغة يمكن نعته من الآن فصاعدا بلفظ الخطاب الديني.

السمة الرمزية للخطاب الديني

هناك سمات خاصة للمستوى القبلمفهومي لهذا الخطاب الذي نقترحه هنا للاستكشاف، إذ يمكن تسمية هذا المستوى من الخطاب "بالرمزي" لأسباب سنشرحها فيما بعد. ويمكن القول منذ الآن إن اللفظ سيؤخذ في معنى أقل انتشارا بالنسبة للمناطقة والعلميين الذين لا يستعملونه أثناء حديثهم عن المنطق الرمزي أو الرمز الرياضي أو الرمز الكيميائي. فالمدلول الواسع الذي نعطيه للفظ رمز هو الذي منحه إليه "كاسيرر" في "فلسفته عن الأشكال الرمزية"، يعني بنيات التجربة الإنسانية المتوفرة على قانون ثقافي والقادرة على ربط أعضاء الجماعة فيما بينهم والذين يعترفون بهذه الرموز كقواعد لسلوكهم. وبالمقابل فاللفظ سيؤخذ في معنى أكثر انتشارا لا يريده له الكتاب الذين يربطون فكرة المعنى "الخفي" - الذي هو فقط في متناول المطلعين على المذهب "الباطني" - بفكرة الرمز� وفي هذا الصدد فإن المدلول الجزئي الذي نعطيه للفظ رمز هو الذي اعترف به "بيرس" في سيميو طيقاه، يعني العلاقة بين مستويين من الدليل مؤسسة على التشابه. فالتحليل اللاحق سيتم بين هذين المعلمين الأقصيين: مستوى المعيار الثقافي ومستوى نزعة التشابه السيمانطيقية.

الرمزية المحايثة للثقافة

ففي مرحلة أولى سنأخذ بعين الاعتبار وظيفة الرمزية في مستواها القبل أدبي"، يعني قبل أن تسمح لنا بإنتاج مثبت في نصوص بالمعنى الدقيق للمؤلفات المكتوبة. فالحضارات التي لم تعرف الكتابة كما تصفها الإتنولوجيا (المسماة أنتربولوجيا في التقليد الأنكلوسكسوني) لا تعرف سوى هذه الوظيفة للرمزية. فرمزية التقليد الشفوي باعتبارها تفتقد إلى قانون واضح ووجود متميز، تكشف عن نفس البعد الثقافي، يعني كونها "واسطة رمزية". فإذا كان بإمكان التجربة الإنسانية أن تصور كلاميا وتحكى وتؤسطر في رموز ظاهرة وفي رسوم وقصص وأساطير، فذلك لأنها كانت دائما مرتبطة من الداخل برمزية محايثة، ضمنية وأساسية، والتي يعطيها الأدب، القانون الواضح للرمزية المستقلة والصريحة وذات التمثيلية.

السمات الخمس للرمزية

يمكن تحديد هذه الرمزية في بعض السمات التالية:

     - يجب أولا التركيز على الطابع "العمومي" للتفمصلات الدالة للفعل. فـحـسـب عـبارة "كليفـورد جيرتـز" أحد أساتذة الأنتروبولوجيا الثقافية الأمريكية فـي"The Interpretation of cultures":"فالثقافة هي عمومية لأن الدليل عمومي". و"كلود ليفي ستراوس" لن يفند بدون شك هذا القول. فهو الذي أكد بعد "مارسيل موس" - أن ليس المجتمع هو الذي ينتج الرمزية، بل الرمزية هي التي تنتج المجتمع. من هنا تأكيد الطابع التأسيسي للوسائط الرمزية التي تضمن دلالة الفعل. فهذا الطابع يتمفصل مع سمة الفعل المشار إليه أعلاه، يعني أنه يؤول إلى التفاعل بين عدة عوامل. لكن فكرة التأسيس تضيف لفكرة التفاعل هذه، السمة التي يؤلف بها التأسيس كليات Totalit�s غير قابلة للاختزال إلى أجزائها (أسر، جماعات متساوية في السن، طبقات اجتماعية، مجتمعات، دول وحضارات) والتي تنسب أدوارا للأفراد الذين يشكلونها، حيث ترتكز فيها أولى وظائف الرمزية المحايثة.

- لنركز أيضا على الطابع "البنيوي" للتركيبات الرمزية. فالرموز تشكل نسقا في حدود أنها تحافظ على علاقات التعاون أو التفاعل أو كما قيل أعلاه عن علاقات بين الأدلة. فقبل تأليف نص على المستوى الأدبي، تقدم الرموز تركيبا دالا. وهكذا لفهم طقس ما، يتعين التمكن من إعادة وضعه في نسيج الطقوس التي من أجل فهمها يجب موضعتها بدورها في عبارة خاصة، وبصورة تدريجية في مجموع المعتقدات والتواطؤات التي تشكل شبكة الثقافة من أجل تثمين الدور الاجتماعي للطقوس الممارسة وتأثيرها على البنيات الاجتماعية الأخرى. فهنا سيبدو إحلال البنيوية اللسانية محل الأنتروبولوجيا مبررا.

- يرتبط أيضا مفهوم "القاعدة" أو "المعيار" بمفهوم النظام. ويمكن الحديث بهذا المعنى عن تنظيم رمزي وتحديد للفعل الإنساني كسلوك محكوم بقواعد وذلك حسب peter winch في the idea of social science، كما يمكن أيضا التركيز مع "كليفورد جيرتز" على التشابهات والاختلافات بين الشفرات الوراثية والشفرات الثقافية. فالواحدة والأخرى يمكن أن توصف "كبرامج" تشفر encodent الفعل. لكن على خلافات الشفرات الوراثية، تستقر الشفرات الثقافية في مناطق ضعف التنظيمات الوراثية. ولهذا السبب يمكنها إذن أن تقلب مجراها subvertir وذلك بإحلال قصديتها وغايتها محل الإكراهات التنظيمية للشفرات الوراثية.

- كما أن فكرة القاعدة تميل بدورها نحو فكرة "التبادل". "فكلود ليفي ستراوس" في أعماله الأولى قد بين كيف أن تبادل الممتلكات والرموز والنساء يشكل أنساقا متجانسة داخل نفس الثقافة. فبإدخال معيار التبادل نبعث واحدا من الأدلة الأكثر قدما للفظة رمز كعلامة اعتراف بين فريقين، كل واحد منهما حارس لجزء مقطوع من الرمز الكلي، وأن تقارب هذين الجزأين يعطي للرمز قيمته الدالة التي تفعل فعلها وذلك بإعادة ربطه (هكذا بالمجاهرة بالإيمان الكنسي المسيحي البدائي التي تسمى أحيانا رموزا، لأن أعضاء الجماعة المؤمنة بوسائلها الخاصة يراقبون انتماءهم المشترك لهذه الجماعة). فهذا المعيار الجديد يؤكد المعيار السابق ويصححه في نفس الوقت، فبقدر ما تبرر قاعدة التبادل التحويل إلى السوسيولوجيا الثقافية للإجراءات المطبقة أولا على النظام السيميولوجي بامتياز، أي اللغة، بقدر ما يحذر الطابع الملموس للتبادل الأنتربولوجيا ضد فصل الرمزية عن الفعل الذي يحكمها. ففي الفعل الاجتماعي تفعل قاعدة التبادل فعلها، حيث تنتمي إلى ما أسماه "كليفورد جيرتز" "المنطق غير الصوري للحياة الواقعية". وبهذا المعنى فترابط النسق الرمزي المغلق ليس هو المعيار الرئيس لوصفه، بل هو فعاليته الاجتماعية.

- يمكن القول -لكي نوقف التحليل هنا- إن الأنساق الرمزية تقدم سياقا وصفيا للأفعال الفردية. فمثل هذه القاعدة الرمزية "كعبارة من قبيل..." "وتبعا لـ..." تسمح لسلوك معزول أن ينظر إليه "كدال" لهذا الشيء أو ذاك. ففهم إشارة رفع اليد يعني حسب هذه الحالة أو تلك "تأويلها كـ" تحية، كتهديد، كتعيين، كتوسل... أو كتصويت. وبهذا المعنى فالرمز في حد ذاته هو قاعدة للتأويل. فالرموز قبل أن تكون إذن موضوعات للتأويل هي مؤولات داخلية للظواهر الثقافية: فبموجب هذه العلامات المحايثة للتأويل، فإن مثل هذا الفعل الخاص كـ يصلح لـ...ويعد كـ... وباختصار "يؤول" كـ...يسمح للتحليلات الصورية البنيوية، بفضل هذه الوظيفة أن يعاد توجيهها نحو التأويل الواقعي.

وفي المحصلة، فإن الرموز المحايثة للجماعة ولثقافتها تمنح "وضوحا أساسيا" للفعل وتشكل معه شبه نص. فليس المؤولون للأعمال الثقافية في نص الأنتربولوجي أو السوسيولوجي هم الذين يصبحون موضوعات للتأويل، بل التبادلات وحدها بين شبه النص الثقافي والنص العلمي هي التي تسمح للعلم الاجتماعي بأن يبقى حديثا مع أجانب، والذي بفضله تصبح تأويلاتهم في وضع حواري مع تأويلاتنا. فهذا الهاجس هو الذي يبقي الأنتروبولوجيا الثقافية في وضع تبعية للشعرية.

الرمزية الصريحة والأسطورة التنظيم الرمزي في الكتابة

لقد وقفنا في التحليل السابق عند أحد طرفي الدائرة الرمزية الذي هو السمة الثقافية للرمز المشار إليه إذن. وسننتقل من الآن فصاعدا إلى القطب الآخر المتمثل في البنية "التشابهية" للرمز من وجهة نظر نزعته السيما نطيقية. والحال أن هذه البنية لا تتكشف إلا عندما تنفصل الرمزية في المستوى الأخير عن البنيات الاجتماعية الأخرى لكي تصبح طبقة couche متميزة داخل الحقل الثقافي، وأن هذا الانفصال قد تم مع الأدب المكتوب. غير أنه منذ المرحلة الشفوية، أمكننا رؤية الرمزية تتكثف في الأنشطة الشفوية المستقلة والقابلة للتحديد على الوجه الأكمل. فالرموز التي سنتحدث عنها الآن، تستجيب لهذا الاعتبار المزدوج: فالنزعة السيما نطيقية التشابهية من جهة هي متكشفة بشكل واضح فيها، وهي من جهة أخرى تتجسد في أفعال Actes اللغة المحددة بشكل دقيق، حيث أن الكتابة لا تجد صعوبة في تثبيتها حتى وإن كان لها وجود شفوي قد يم قبل أن ينقشها الكتاب المحترفون على لوحة صلبة، ويعطوها وجودا نصيا. فهذه الرمزية الصريحة والمتميزة هي الرمزية بمعناها الحقيقي.

حصول معنى ثان بواسطة معنى أول

نقصد مؤقتا بالبنية التشابهية Analogique، بنية العبارات "بمعناها المزدوج" حيث يحيل فيها المعنى الأول إلى معنى ثان. وهذا الأخير هو الذي يقصده الفهم فقط، دون أن يتمكن مع ذلك من الوصول إليه مباشرة. يعني بوجه آخر أنه بواسطة المعنى الأول سنوظف فيما بعد المجاز كالذي يميز لحظة التجديد السيما نطيقية بشكل خاص. وفي هذه اللحظة نعتبر أن الوظيفة الإجمالية للرمز وبالخصوص امتداده، هي أكثر شمولية من تلك المتعلقة بالمجاز، مادامت تشبه وظيفة الأساطير المأخوذة بمعنى حكايات الأصول.

كنت قد نقبت فيما مضى في "رمزية" الشر في منطقة التعابير الرمزية المبنينة جيدا بصفة خاصة، مثل تعابير الإقرار بالشر، وعلى وجه الخصوص تعابير الإقرار بالذنوب في لغة التقليد الكنسي المسيحي. فرمزية الإقرار قد تبوأت إذن مكانة في النشاط اللغوي المحدد بكيفية مضبوطة، والذي له قوته الخاصة الغير معبرة Illocutionnaire والمتمثلة في الإقرار. وكنت قد أشرت في تلك المرحلة إلى سمتين كبيرتين لهذه الرمزية التي أنوي إعادة وضعها اليوم في قالب أكثر اتساعا.

رمزية مبنينة

فالسمة الأولى لهذه الرمزية هي بالتأكيد طابعها "المبنين". ويمكن فعلا الكشف عن طبقات عديدة من بين رموز الشر الأولى المقر به Confess�، إذ نصادف في أدنى درجته، رمزية الطاهر والنجس المرتبطة بطقس التطهر الذي لا تختلط فيه الطهارة والوضوء أبدا بأدران الجسد. فالقذارة هي مثل الوسخ دون أن تكونه، وأن رمزية طقوس الطهارة هي التي تـكشف - على الصعيد العملي- المهمة الرمزية المتضمنة في تمثل التعفن، قبل أن تعين القوانين الدينية أو المدنية حدود الطاهر والنجس، وأن النصوص الأدبية سواء كانت إغريقية أو عبرية، تضفي قوة لغة قابلة للنقل Transmissible على الإحساس القاتم. فجناس أفلاطون في "كراتيل" هو مفيد في هذا الصدد: أبو لون هو الإله الذي ينظف Apolou�n، ولكنه أيضا الإله الذي يفوه بالحقيقة الأنطولوجية Haploun. فإذا كان الصدق والحالة هذه يمكن أن يكون طهارة رمزية، فإن كل شر هو لوثة Tache رمزية. فالشر في درجته القصوى يتميز بشكل ترابطي بكونه ذنبا "أمام الله" وخطيئة. وهذا مناقض لروح المسيحية ذات المصادر الرمزية العظيمة. ولهذا السبب فهو يعبر عن نفسه في أكبر عدد من الصور:خطأ الهدف، واتباع الطريق الملتوية والتمرد وصيرورة الزنا والانحناء للريح وللعاصفة ولتفاهة الفراغ ولكل الرموز التي لها مقابلها في رمزية الغفران كالهداية والتكفير عن الإثم والطاعة والإخلاص بشكل موثق وهو ما عبرت عنه Jeremie بقولها:"إأذن لي بالتوبة وسأتوب". وأخيرا يتميز الشر أيضا في مرحلة أكثر تهذيبا بجوانية الإثم. إنه الذنب في صورته الجنائية.

وهكذا رأت رموز جديدة النور: كعبء الخطيئة واستبداد الحيرة وقرار الإدانة من لدن قاض يحكم بشكل تعسفي.

ويمكن القول صراحة إن هذا الصرح الرمزي ينحو نحو المستوى المفهومي لحرية العبد Serf-libre التي تأخذ كل دلالتها من الرمزية نفسها بموجب العمل الدؤوب لإعادة التأويل الذي به يصب مستوى رمزي في آخر. فالمفهوم ليس سوى "النواة" "Telos" القصدية لهذه السيرورة الشاملة لإعادة التأويل.

رمزية من طبيعة سردية

أما السمة الثانية للرمزية فليست أقل أهمية في تحليلنا اللاحق، ولن نتناولها ثانية إلا في خانة: الرمز والسرد، إذ من الملاحظ في الواقع أن هذه الرمزية الأولى لن تكون هي نفسها مستساغة لنا إلا عبر رمزية من درجة ثانية ومن طبيعة سردية أساسا هي رمزية "أساطير" البداية والنهاية. وأنا آخذ هنا لفظة أسطورة بالمعنى الذي نجده عند "مرسيا إلياد" مثل حكاية الأحداث المؤسسة (بكسر السين) الطارئة In Illo Tempore، وهو ما أسميته قبلا بحكاية الأصول. إذ من المؤكد أن الأسطورة ليست أسطورة إلا بالنسبة إلينا نحن المحدثين الذين كونا فكرة عن زمن تاريخي، به زمن الأصول ليس أكثر تنسيقا مما ليس(ه) مشهد الأحداث المؤسسة مع الفضاء الفيزيائي والجغرافي المحصي تجريبيا. غير أن فقدان الوظيفة التفسيرية السببية Etiologique للأساطير يعري بالضبط وظيفتها الرمزية التي لا يستسيغها في عريها التام إلا وعي ما بعد نقدي post-critique. فلفهم الأسطورة كأسطورة يتعين فهم ما أضافته إلى وظيفة الأساطير الأولى التبشيرية بفضل بنيتها السردية الأصلية. وهكذا تتمثل الوظيفة الأولى لأساطير الفناء والخراب والضلال الإلهي والعصيان والرد عليها في أساطير الإعلاء والإلهام والمغفرة كما هي مرتبة، في إضفاء وحدة العالم المادي على الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك فالسرد يولد حركة ودينامية وتوجيها من البداية إلى النهاية: تاريخ نموذجي يعبر (بتسكين العين) تواريخنا. وبشكل جوهري فالأسطورة تعطي تأويلا سرديا للغز الوجود، يعني التنافر بين الخير الأصلي للخلق والشر التاريخي الذي ينعيه الحكماء. فالأسطورة تحكي، كحدث طارئ على أصل الأزمان، الصدع la faille الذي تكشف عنه الحكمة.

الأسطورة والأليغوريا (Allegorie)

والحال أن هذه الرموز المنقولة بواسطة الأسطورة ليست أكثر قابلية للترجمة إلى لغة مباشرة وأدبية، من الرموز الأولى، وهذا ما يميز الأسطورة عن الأليغوريا، إذ من الممكن مبدئيا تعويض الأليغوريا Allegorie بخطاب مباشر مفهوم من طرفه هو نفسه. وبمجرد وضع هذا النص الأول تصبح الأليغوريا غير ضرورية. إنه السلم الذي نزيحه بالرجل بعد أن نتسلقه. فبوظيفتها الثلاثية المتمثلة في الشمولية الصلبة والتوجيه المؤقت والاستكشاف الوجودي Existentielle والأنطولوجي Ontologique، تبرز الأسطورة سمات الشرط الإنساني الذي لن يستطيع أي تراث يعبر بوضوح مضاهاته أو أن يسد مسده. فالأسطورة حسب عبارة "شيللينج" في "فلسفة الميتولوجيا" تدل على ما تقوله: فهي ذات دلالة حقيقية وليس أليغورية (مجازية)

Le mythe signifie ce qu�il dit : il est taut�gorique et non all�gorique.

فاستبعاد التأويل الأليغوري All�goriques لا يقتضي استبعادا لكل تأويل، سواء أحدثت الأسطورة عمليات سردية جديدة لها نفسها قيمة تأويلية كمـا أظهر ذلك Frank Kermode في"Genesis of secrecy"، أم أن مثل هذه الأسطورة تثير Susciter مواجهة مع أساطير عصر آخر مثل ما بيـن الحكاية التوراتية المتعلقة بالعصيان وحكايات الخـراب من نمط أورفي-أفلاطوني Orphico_Platonicien وأن عمل التأويل يقتضي Suscite خطابا في المستوى شبه مفهومي كما مع معتقد Dogme الذنب الأصلي عند القديس أوغسطين، أم أخيرا أن التأويل يقتضي استكشاف حقل التجربة المفتوح من طرف الأسطورة، مانحا هذه الأخيرة تحقيقا وجوديا قابلا للمقارنة بالاستنتاج الترنسند نتالي لمقولات الفهم عند كانط. لكن هناك شيئا لا ننتظره من التأويل هو أنه يجدد كمال التجربة التي تحددها Designer الأسطورة في صورة لغز. ويمكن القول صراحة إن الأسطورة تشهد على اتفاق حميمي بين الإنسان ومطلق الوجود، بين الطبيعي والخارق للطبيعة. وباختصار فهي تشهد على وجود سابق على الانفصال. لكن وبالضبط لأن هذه الوحدة ليست معطاة في أي حدس، حيث لا تكون إلا دالة ومروية وربما لنفس السبب فإن الأسطورة هي نفسها مقسمة Scind� إلى عصور عديدة، وتركيزات سردية متميزة، التي ولا واحد منها مساو لقصد Vis�e الأسطورة.

Partager cet article
Repost0
29 novembre 2009 7 29 /11 /novembre /2009 17:03

 

 

مدارات فلسفية العدد 6

رسالة في النزعة الإنسانية

مارتن هايدغر

ترجمة: مينة جلال

         إننا لم نفكر بعد، بشكل حاسم، في ماهية الفعل(1). إننا لا نعرف الفعل إلا كإنتاج لمفعول تقدر حقيقته تبعا لما يقدمه من نفع، غير أن ماهية الفعل هي الإنجاز(2). الإنجاز معناه: بسط شيء ما في تمام ماهيته وبلوغ هذا التمام. لا يمكن أن ينجز بالضبط إلا ما هو موجود مسبقا. والحال أن ما يوجد قبل كل شيء هو الوجود L�Etre. إن الفكر ينجز علاقة الوجود بماهية الإنسان. إنه لا ينشئ ولا ينتج هو نفسه هذه العلاقة. الفكر يعرضنا فقط على الوجود بوصفها ما أعطي له هو نفسه من قبل الوجود. تقوم هذه الأعطية على أن يأتي الوجود، عبر الفكر، إلى اللغة. إن اللغة هي مسكن الوجود الذي يقيم الإنسان في كنفه. والمفكرون والشعراء هو أولئك الذين يسهرون على هذا المأوى، وسهرهم هذا إنجاز لإنكشافية الوجود، من حيث أنهم، من خلال قولهم، يحملون هذا الانكشاف إلى اللغة ويصونونه داخلها. إن الفكر لا يرقى إلى مرتبة الفعل لمجرد أن مفعولا يترتب عنه أو لأنه يطبق على... الفكر يفعل من حيث أنه يفكر. وهذا الفعل هو ربما الفعل الأبسط والأسمى في ذات الوقت لأنه يخص علاقة الوجود بالإنسان. والحال أن كل فاعلية تقوم داخل الوجود وتتوجه من ثمة نحو الموجود، بيد أن الفكر، على العكس من ذلك، يستجيب لنداء الوجود ليقول حقيقة الوجود. إن الفر ينجز ويكمل هذا الترك. فالتفكير هو التزام من الوجود بالوجود. لا أدري ما إذا كان بإمكان اللغة أن توحد بين "من" و"ب" في صيغة واحدة كهذه: التفكير هو التزام الوجود، فصيغة الإضافة هنا، التزام الوجود، ينبغي أن تفيد أن المضاف إليه ذاتي وموضوعي في نفس الوقت غير أن الذات والموضوع، في مقابل ذلك، اصطلاحان ميتافيزيقيان غير ملائمين � هذه الميتافيزيقا التي استحوذت باكرا على تأويل اللغة، عبر أجناس "المنطق" و"النحو" الغربيين. إن ما يتكتم داخل حدث كهذا، يمكننا بالكاد أن نستشعره اليوم. إن تحرير اللغة من قيود النحو، من أجل مفصلة أكثر أصالة بين عناصرها، مهمة موكولة إلى الفكر والشعر. ليس الفكر مجرد انخراط في الفعل من أجل وبواسطة الموجود منظورا إليه بوصفه واقع الحال الراهن. الفكر هو الالتزام والانخراط بواسطة ومن أجل حقيقة الوجود، هذا الوجود الذي لا يكتمل تاريخه أبدا بل يظل دوما في حالة انتظار. إن تاريخ الوجود هو ما يسند ويحدد كل حالة ووضعية إنسانية. إذا كنا نريد فقط أن نتعلم التجربة الخالصة لماهية الفكر هاته التي نتحدث عنها، الأمر الذي يعني إنجازها، فإنه يتوجب علينا أن نتحرر من التأويل التقني للفكر والذي تمتد أصوله إلى أفلاطون وأرسطو. في هذا العصر سيكتسي الفكر نفسه قيمة التخني، إنها عملية في خدمة العمل والإنتاج. لقد تم إذن تصور الفكر مسبقا من منظور البراكسيس والبويسيس. لهذا فنحن إذا ما نظرنا إلى الفكر في ذاته، فهو لا يكون "عمليا". هذه الكيفية في تمييز الفكر بوصفه "تيوريا" وفي تحديد فعل المعرفة كموقف "نظري"، كانت قد حدثت قبلا داخل تأويل "تقني" للفكر. إنها بمثابة محاولة على شكل رد فعل، استهدفت الاستمرار في الحفاظ على استقلالية الفكر أمام الفعل والعمل. ومنذ ذلك الحين و"الفلسفة" في حاجة مستمرة لتبرير وجودها أمام "العلوم". إنها تعتقد أنه بإمكانها تحقيق ذلك بشكل أكيد، إذا ما ارتقت هي نفسها إلى مرتبة علم. غير أن هذا الجهد يعني التخلي عن ماهية الفكر. يلاحق الفلسفة إذن خوف من ضياع التقدير والصلاحية إن هي لم تصبح علما. نرى هعنا ما يشبه النقص الذي يعزى إلى اللاعلمية. الوجود من حيث هو عنصر الفكر يتم الابتعاد عنه داخل التأويل التقني للفكر، حيث القرار يعود "للمنطق" الذي بدأ ينشر سيادته منذ عصر السفسطائيين وأفلاطون وبات الحكم على الفكر حسب مقياس لا يلائمه. هذه الطريقة في الحكم تماثل عملية تسعى إلى تقدير ماهية الأسماك وإمكاناتها بناء على قدرتها على العيش في اليابسة. الفكر انتقل منذ زمن طويل، طويل جدا، إلى اليابسة. هل يحق لنا الآن أن ننعت "باللاعقلانية" ذلك الجهد الرامي إلى إعادة وضع الفكر داخل عنصره؟.

        إن الأسئلة الواردة في رسالتكم، كان بالإمكان توضيحها بيسر أكبر من خلال حوار مباشر. في النص المكتوب يفقد الفكر حركيته بسهولة. بل إنه لا يتمكن بالخصوص من الحفاظ على تعددية الأبعاد الخاصة بمجاله إلا بصعوبة. إن صرامة الفكر لا تكمن، على خلاف العلوم، في الدقة المصطنعة أي التقنية-التنظيرية للمفاهيم. إنها تقوم فيما يلي: أن يظل القول خالصا داخل عنصر الوجود وأن يسمح بهيمنة ما هو بسيط في أبعاده المتنوعة. غير أن النص المكتوب يمنح، من ناحية أخرى، ضغطا يكون صحيا لأجل فهم يقظ بواسطة اللغة. سأكتفي اليوم بعزل واحد من أسئلتكم. إن الفحص الذي سأجريه عليه من شأنه أن يلقي الضوء على باقي الأسئلة.

        تسألون: كيف نعطي من جديد معنى "للنزعة الإنسانية"؟. يكشف هذا السؤال نية الإبقاء على الكلمة. أتساءل إذا ما كان ذلك ضروريا. ألم ينجل بما فيه الكفاية، الضرر الذي ينجم عن هذا النوع من التسميات؟ صحيح أننا بدأنا نحتاط منذ أمد طويل من (ياء النسبة وتاء التأنيث) ismes ... غير أن سوق الرأي العام يطالب باستمرار بالمزيد منها. وهناك دوما استعداد لتلبية هذا الطلب. إن مصطلحات ك"منطق"، "أخلاق"، "فيزياء" لم تظهر هي نفسها إلا حين أصبح الفكر الأصيل على مشارف الأفول. لقد فكر الإغريق خلال عصرهم الذهبي من دون هذه التسميات حتى أنهم لم يسموا الفكر "فلسفة". يكون الفكر في طريقه إلى الأفول حين يبتعد عن عنصره. العنصر هو ما يكون بإمكان الفكر أن يكون فكرا انطلاقا منه، العنصر هو بالضبط ما -له- قدرة: القدرة. إنه يتكفل بالفكر ويقوده بذلك إلى ماهيته. في كلمة واحدة، الفكر هو فكر الوجود. للإضافة هنا معنى مزدوج: فالفكر يكون من الوجود ومن حيث أنه يحصل بالوجود فهو ينتمي إليه والفكر يكون في ذات الوقت تفكيرا في الوجود إذ يصغي إلى الوجود من حيث أنه ينتمي إليه. يكون الفكر ما هو عليه تبعا لمصدر حصوله الأساسي، فمن حيث أنه ينتمي إلى الوجود، فهو يصغي إلى الوجود. الفكر يكون وهذا معناه: أن الوجود قد تكفل، في كل مرة وتبعا لقدريته، بماهيته. أن نتكفل ب"شيء" ما أو "شخص" ما في ماهيته، يعني أن نحبه، أن نرغب فيه. تدل هذه الرغبة، إذا ما فكرنا فيها بكيفية أصيلة، على: صفة للماهية، رغبة كهذه هي الماهية الخاصة للقدرة، التي لا يكون بإمكانها فقط تحقيق هذا أو ذاك ولكن أيضا جعل شيء ما يتجلى في حصوله الأصيل أي أنها مصدر حصول الكينونة. قدرة الرغبة هي هذا الذي - ب"فصله" يكون بالضبط لشيء ما القدرة على أن يكون. هذه القدرة هي بالضبط "الممكن" الذي تقوم ماهيته في الرغبة. بإيعاز من هذه الرغبة يحيط الوجود الفكر بقدرته، يجعله ممكنا. إن الوجود، من حيث هو رغبة تتحقق كقدرة، هو الممكن الأصيل. إنه يكون، من حيث أنه العنصر، تلك "القدرة الهادئة" للقدرة المحبة، أي للممكن. تحت هيمنة "المنطق" و"الميتافيزيقا" لم يتم بالفعل التفكير في كلمتي "ممكن" و"إمكان" إلا في تقابل مع "الواقع"، أي انطلاقا من تأويل محدد -ميتافيزيقي- للوجود مدركا كفعل actus وكقوة potentia، وهو تقابل نطابقه بذلك الذي يقوم بين الوجود existentia والماهية essentia. عندما أتحدث عن "القوة الهادئة للممكن" فأنا لا أقصد إمكان إمكانية تكون متمثلة فقط، ولا القوة الكامنة كماهية لفعل الوجود (الجوهر-العرض)، بل الوجود l�Etre نفسه الذي، وهو يرغب، تكون له القدرة على الفكر ومن ثم على ماهية الإنسان أي على علاقة الإنسان بالوجود. تعني القدرة على شيء ما هنا: الحفاظ عليه في ماهيته، والإبقاء عليه داخل عنصره.

        حين يكون الفكر في طريقه إلى الأفول وهو يبتعد عن عنصره، فإنه يعوض تلك الخسارة بأن يضمن لنفسه قيمة ذات طابع تقني كأداة للتكوين، ليصبح بعد ذلك تمرينا مدرسيا وينتهي على شكل مشروع ثقافي. تتحول الفلسفة شيئا فشيئا إلى تقنية في التفسير من خلال العلل الأولى. لم نعد نفكر بل ننشغل بالـ"الفلسفة". داخل لعبة التنافس، تقدم مثل هذه الانشغالات نفسها إلى الميدان العمومي على شكل نزعات مذهبية ismes ... وتنحو إلى المزايدة. إن تفوق مثل هذه التسميات لا يعود إلى الصدفة. إنه يرتكز، وخاصة في العصور الحديثة، على الديكتاتورية الخاصة لما هو عمومي. فما ندعوه "وجود خصوصي" ليس بعد، مع ذلك، هو الأساسي، أي الوجود الحر للإنسان. إنه ليس إلا تصلبا في نفي ما هو عمومي. "الوجود الخصوصي" يظل هو المطمور الذي يتوقف على ما هو عمومي ولا يتغذى إلا من خلال تراجعه أمامه، فيشهد بذلك، رغما عنه، على تبعيته لما هو عمومي. والحال أن ما هو عمومي هو ذلك الجهد المشروط ميتافيزيقيا لأن جذوره ترجع إلى هيمنة الذاتية وذلك من أجل توجيه انفتاح الموجود نحو الموضعة اللامشروطة لكل شيء وجعله يقيم داخلها. وهذا هو ما يجعل اللغة تسقط في خدمة الوظيفة التوسطية لوسائل التبادل التي تتمكن الموضعة بفضلها -بوصفها ما يجعل كل شيء في متناول الكل على نحو متجانس- من الانتشار رغما عن كل الحدود. هكذا تسقط اللغة تحت ديكتاتورية العمومية التي تحدد مسبقا ما هو قابل للفهم وما ليس كذلك وينبغي إقصاؤه. إن ما قيل في "الوجود والزمان" (1927)، (الفقرة 27 و35)، حول الـ"هُم" (on)، لم يكن الهدف منه إطلاقا أن يضع فقط خلال الطريق مساهمة في السوسيولوجيا. كما أن الـ"هم" لا تعني فقط المطالبة، على المستوى الأخلاقي-الوجودي، بالوجود الذاتي للشخص. إن ما قيل عن الـ"هم" يتضمن، بالأحرى، بناء على الانتماء الأصيل للكلمة إلى الوجود، إشارة مفكرا فيها انطلاقا من السؤال المتعلق بحقيقة الوجود. هذه الصلة تظل محتجبة بفعل هيمنة الذاتية التي تعرض نفسها كشيء عمومي. لكن حين تعود حقيقة الوجود إلى الفكر وتصبح بالنسبة له ما هو جدير بأن يفكر فيه، يتوجب على التفكير آنذاك في ماهية اللغة أن يحتل مرتبة أخرى، إذ لن يظل بإمكانه أن يكون مجرد فلسفة للغة. وذلك هو السبب الوحيد الذي لأجله يتضمن "الوجود والزمان" (الفقرة 34) إشارة إلى البعد الأساسي للغة ويلامس السؤال البسيط: ضمن أي نمط من أنماط الكينونة توجد اللغة فعليا كلغة؟ إن إفراغ الكلام من ثرائه، هذا الإفراغ الذي ينتشر بسرعة في كل الأنحاء، لا يتوقف فقط على مسؤولية، ذات طابع جمالي وأخلاقي، نتحملها عند كل استعمال من استعمالاتنا للكلام. إنه ينجم عن مخاطرة بماهية الإنسان. والعناية الفائقة التي قد نبديها عند استعملنا للكلام لا تدل بعد على أننا أفلتنا من هذا الخطر الجوهري. فهي قد تكون اليوم علامة أيضا على أننا لا نرى إطلاقا هذا الخطر ولا نستطيع رؤيته، لأننا لم نتعرض أبدا بعد لجسامته. إن انحطاط اللغة، هذا الانحطاط الذي بتنا نتحدث عنه كثيرا منذ عهد قريب، وبكيفية جد متباطئة، ليس هو السبب مع ذلك، بل هو قبلا نتيجة لتلك العملية التي تخرج بموجبها اللغة عن عنصرها، شبه مرغمة، بفعل هيمنة الميتافيزيقا الحديثة للذاتية. لا تزال اللغة تكتم عنا ماهيتها، أي كونها مسكن حقيقة الوجود. اللغة تعطي نفسها بالأحرى إرادتنا  ولنشاطنا كأداة للسيطرة على الكائن، الذي يظهر هو نفسه بوصفه الواقع داخل نسيج العلل والآثار. فنحن نداهم الكائن سالكين طريقا غير مباشر هو طريق الحساب والفعل، بل طريق علم وفلسفة ينهجان التفسير والتعليل ولا شك أننا نؤيد تخليهما عن جانب يستعصي على التفسير. ونعتقد، مع أحكام من هذا القبيل، أننا في حضرة السر الخفي. هذا كما لو كان من الممكن لحقيقة الوجود أن تقبل التحديد على مستوى العلل والأسباب أو، وهكذا يعني نفس الشيء، من خلال عدم قابلية الإدراك الخاصة بها.

        لكن إذا ما كان على الإنسان أن يصل في يوم إلى جوار الوجود، فإن عليه أن يتعلم أولا كيف يوجد في ما لا اسم له. عليه كذلك امتلاك مهارة التعرف على إغواء ما هو عمومي كما على وهن الوجود الخصوصي. على الإنسان، قبل أن يأتي بكلمة، أن يستجيب أولا من جديد لنداء الوجود وتبليغه له، من خلال هذا النداء، بأن ليس لديه ما يقوله، كرد، إلا قليلا أو نادرا. حينئذ فقط يعاد للكلام ثراؤه الذي لا يقدر ويعاد للإنسان مسكنه ليقيم في قلب حقيقة الوجود.

        لكن أليس في هذه المناداة على الإنسان من قبل الوجود، كما في محاولة إعداد الإنسان لهذه المناداة، جهدا يخص الإنسان؟ أية وجهة لل"هم" souci إن لم تكن إعادة تأسيس الإنسان في ماهيته؟ هل يعني هذا شيئا آخر غير جعل الإنسان إنسانيا؟ فالإنسانية تظل في صميم فكر من هذا القبيل، ذلك أن النزعة الإنسانية تقوم على ما يلي: أن نفكر وأن نحرص على أن يكون الإنسان إنسانيا وليس لا إنسانيا، "بربريا"، بمعنى خارج ماهيته. والحال، فيم تكمن إنسانية الإنسان؟ إنها تقوم في ماهيته.

        لكن، كيف وانطلاقا من ماذا تتحدد ماهية الإنسان؟ يطالب ماركس بمعرفة الإنسان الإنساني وبالاعتراف به. وهو يعثر على هذا الإنسان في "المجتمع". الإنسان "الاجتماعي" بالنسبة له هو الإنسان "الطبيعي". فداخل "المجتمع" يتم تأمين "طبيعة" الإنسان، أي مجموع "حاجياته الطبيعية" (المأكل، الملبس، التناسل، الحاجيات الاقتصادية). المسيحي يرى إنسانية الإنسان في تحديدها انطلاقا من علاقتها بما هو إلهي. فعلى مستوى تاريخ الخلاص يكون الإنسان إنسانا بوصفه "ابن الله"، الذي يدرك نداء الأب في المسيح ويستجيب له. والإنسان ليس من هذا العالم، من حيث أن "العالم" مفكرا فيه على نحو أفلاطوني-تجريدي، لا يكون سوى ممرا عابرا نحو الماوراء.

        إن تقدير الإنسانية والسعي إليها بشكل واضح تحت هذا الاسم، كان قد حدث لأول مرة في عهد الدولة الرومانية، حيث يقابل الإنسان الإنساني الإنسان البربري. ويكون الروماني آنذاك هو الإنسان الإنساني الذي يعلي ويغظم من شأن المهارة الرومانية "باستدماج" ما كان الإغريق قد باشروه تحت اسم الـ"بيديا". والإغريق هنا هم إغريق الهلينية المتأخرة التي تلقن ثقافتها في ندارس فلسفية. ثقافة تقوم على البحث في مجال الفنون الجميلة. تترجم الـ"بيديا" مفهومة على هذا النحو ب"الإنسانية". وفي مثل هذه الإنسانية تقوم رومانية الإنسان الروماني وفي روما نصادف أول نزعة إنسانية. لذلك تظل النزعة الإنسانية في ماهيتها تجليا رومانيا على وجه الخصوص، نجم عن التقاء ما هو روماني محض بالثقافة الهلينية المتأخرة. إن ما ندعوه نهضة القرنين الرابع عشر والخامس عشر بإيطاليا هو إحياء للنزعة الرومانية ومادام الأمر يتعلق بالنزعة الرومانية، فهو يتعلق بالإنسانية وبالتالي ب الـ"بيديا" الإغريقية. عير أن الهلينية هنا تؤخذ دوما في شكلها المتأخر، الروماني على وجه التحديد. والإنسان الروماني لعصر النهضة يتعارض بدوره مع الإنسان البربري. إلا أن ما يقصد هنا ب لا إنساني هو تلك البربرية المزعومة للسكولائية القوطية في العصر الوسيط. لهذا نجد أن النزعة الإنسانية، في تجلياتها التاريخية، تقتضي دوما بحثا إنسانويا يقصد إحياء الارتباط بالعهد القديم، وتقدم نفسها في كل مرة على هذا النحو كانبعاث للهلنستية. هذا ما تكشف عنه النزعة الإنسانية للقرن الثامن عشر كما جسدها Winkelmabb Schiller, Goethe, أما H�lderlin، فعلى العكس من ذلك، لا ينتمي للنزعة الإنسانية، لسبب وجيه وهو كونه يفكر في قدرة ماهية الإنسان بكيفية أصيلة أكثر مما يمكن لهذه النزعة الإنسانية القيام به.

        لكن إذا كنا نفهم من النزعة الإنسانية بوجه عام الجهد الرامي إلى جعل الإنسان حرا من أجل إنسانيته وإلى تمكينه من اكتشاف كرامته، فإن النزاعات الإنسانية ستختلف حسب التصور الذي يكون لدينا عن "الحرية" وعن "طبيعة" الإنسان، وستتباين بنفس الكيفية وسائل تحقيقها. فالنزعة الإنسانية لدى ماركس لا تتطلب أية عودة إلى القديم، تماما كما هو الشأن بالنسبة للنزعة الإنسانية التي يتصورها سارتر تحت اسم الوجودية. وبالمعنى العام المشار إليه سالفا، تكون المسيحية أيضا نزعة إنسانية، من حيث أن كل شيء، في مذهبها، يرتبط بخلاص النفس وأن تاريخ الإنسانية يندرج في إطار تاريخ الخلاص. غير أنه مهما اختلف أشكال النزعة الإنسانية من حيث الهدف والأساس، الصيغة ووسائل التحقيق وبناء تتفق رغم ذلك حول هذه النقطة وهي كون إنسانية الإنسان الإنساني تكون محددة انطلاقا من تأويل وضع قبلا للطبيعة، للتاريخ، للعالم، لأساس العالم أي للموجود في كليته.

        تتأسس كل نزعة إنسانية على ميتافيزيقا ما أو تجعل هي نفسها منها أساسا لها. وكل تحديد لماهية الإنسان يفترض مسبقا، سواء عن وعي أو عن غير وعي، تأويلا للموجود من دون طرح السؤال المتعلق بحقيقة الوجود، يكون ميتافيزيقيا. لهذا، فنحن إذا ما نظرنا إلى الكيفية التي تتحدد من خلالها ماهية الإنسان، فإن خاصية كل ميتافيزيقا ستتجلى في كونها "إنسانية". وبنفس الكيفية تظل كل نزعة إنسانية ميتافيزيقية. إن النزعة الإنسانية، في تحديدها لماهية الإنسان لا تكتفي فقط بعدم طرح سؤال علاقة الوجود بماهية الإنسان ولكنها أكثر من ذلك، تحول دون طرحه، لجهلها به ولعدم فهمها له والسبب في ذلك أن أصلها يوجد داخل الميتافيزيقا. وخلافا لذلك فإن ضرورة السؤال المتعلق بالوجود وصيغته الخاصة، السؤال المنسي داخل الميتافيزيقا وبسببها، لا يمكنها أن ترى النور، إلا إذا طرحنا، داخل قبضة الميتافيزيقا بالضبط، السؤال: "ما الميتافيزيقا؟". أكثر من ذلك، يتوجب عند البداية، على كل سؤال حول أل "الوجود" بما في ذلك السؤال حول حقيقة الوجود، أن يقدم نفسه كسؤال ميتافيزيقي.

        إن النزعة الإنسانية الأولى، أقصد تلك الخاصة بروما، وكل أشكال النزعات الإنسانية التي توالت إلى اليوم، تفترض جميعها بداهة ووضوح ال "ماهية" الأكثر شمولية للإنسان. ينظر إلى الإنسان باعتباره ذلك الحيوان العاقل. وهذا التحديد ليس مجرد ترجمة لاتينية لكلمات إغريقية، بل تأويلا ميتافيزيقيا. إن مثل هذا التحديد الجوهري للإنسان لا يكون خاطئا بل مشروطا ميتافيزيقيا. وبالمقابل، فما اعتبره "الوجود والزمان" جديرا بالمساءلة هو حصوله الأساسي وليس فقط حدوده. وما يكون جديرا بأن يوضع كسؤال، لا يسلم للفعل الهدام لنزعة شكية فارغة بل يوكل إلى الفكر بوصفه ما يتعين عليه هو نفسه أن يفكر فيه.

        صحيح أن الميتافيزيقا تتمثل الموجود في وجوده، فتفكر بذلك في وجود الموجود l��tre de l��tant. بيد أنها لا تفكر في الفرق الاختلافي بين الوجود l�Etre والموجود l��tant (في ماهية السبب 1929 ص8، كنط ومشكلة الميتافيزيقا 1929 ص225 و"الوجود والزمان" ص230). إن الميتافيزيقا لا تطرح السؤال المتعلق بحقيقة الوجود نفسه. لهذا فهي كذلك لا تتساءل أبدا بأية كيفية تنتمي ماهية الإنسان إلى حقيقة الوجود. هذا السؤال ليس فقط ما لم تطرحه الميتافيزيقا بعد إلى يومنا هذا: إن الميتافيزيقا من حيث هي ميتافيزيقا لا تبلغه. ويظل الوجود يترقب استذكار الإنسان بوصفه ما هو جدير بأن يفكر فيه. وبالنظر إلى هذا التحديد الماهوي للإنسان، سواء عرفنا عقل الحيوان وعقل الكائن الحي بأنه "ملكة المبادئ" أو كـ"ملكة المقولات" أو بأية طريقة أخرى، فإن ماهية العقل تقوم أينما كان ودوما فيما يلي: بالنسبة لكل فهم للموجود في وجوده، يكون الوجود نفسه قد انفسح قبلا وحصل في حقيقته. بنفس الكيفية، يفترض لفظ "حيوان" تأويل مسبقا لل"حياة"، يستند بالضرورة إلى تأويل للموجود كجسم وكفيزيس يتجلى داخلهما الكائن الحي. لكن، يبقى، إضافة إلى ذلك، أن نتساءل قبل أي شيء آخر، من وجهة نظر أصيلة تقرر سلفا بالنسبة لكل شيء عما إذا كانت ماهية الإنسان تقوم في بعد الحيوانية، وبصفة عامة، هل تكون في الطريق الصحيح المؤدي لاكتشاف ماهية الإنسان، حين نعرف الإنسان، وطالما بقينا نعرفه، ككائن حي ضمن كائنات حية أخرى مقابلين إياه بالنبات، بالحيوان، بالإله؟ نستطيع بالفعل أن نسلك على هذا النحو فيكون بإمكاننا أن نعرف الإنسان ككائن ضمن كائنات أخرى، وأن تصدر بصدده تبعا لذلك أحكاما صائبة. إلا أنه يتوجب علينا أن ندرك جيدا أن الإنسان سيجد نفسه، وقد تم الدفع به قطعا إلى المجال الماهوي للحيوانية، حتى وإن كنا نبعده عن التماهي بالحيوان بمنحه اختلافا نوعيا. فمبدئيا، سنظل نفكر في الإنسان الحيواني، حتى وإن افترضنا النفس كمبدأ للحياة والتفكير وبعدها الذات، والشخص أو الروح. إن موقفا من هذا القبيل يدخل في نهج الميتافيزيقا. غير أن تقدير ماهية الإنسان على هذا النحو، تقدير يتسم بفقر شديد، إذ لا يفكر فيها مطلقا في حصولها، ذلك الحصول الأساسي الذي يظل دوما المستقبل الأساسي بالنسبة للإنسانية التاريخية. الميتافيزيقا تفكر إذن في الإنسان انطلاقا من الحيوانية، ولا تفكر في اتجاه إنسانيته.

        إن الميتافيزيقا لا تلتفت إلى المعطى الأساسي البسيط وهو أن الإنسان لا يتجلى في ماهيته إلا من حيث كونه مدعوا من قبل الوجود. فانطلاقا فقط من هذا النداء يقف حيث تقيم ماهيته. وانطلاقا فقط من هذه الإقامة تكون له اللغة كمأوى يحفظ لماهيته خاصيتها الانجذابية. الإقامة في فسحة الوجود(3) Lichtung، ذلك ما أدعوه الوجود-المنفتح(4) للإنسان Ek-sistence، وحده الإنسان يختص بهذه الكيفية في الكينونة. والوجود-المنفتح، وقد فهم على هذا النحو، لا يكون فقط هو أساس إمكانية العقل، إنه ذاك بالضبط الذي تحفظ فيه ماهية الإنسان الحصول الأصيل لتحديدها.

        لا يصدق الوجود-المنفتح إلى على ماهية الإنسان، أي على تلك الكيفية الإنسانية في ال"كينونة"، ذلك أن الإنسان لوحده يكون، وعلى قدر خبرتنا بذلك، انخراطا في قدر الوجود-المنفتح. لهذا أيضا لا يمكن أبدا أن يفكر في الوجود-المنفتح كنمط خاص ضمن أنماط أخرى تخص الكائنات الحية، وهذا إذا ما افترضنا أن قدر الإنسان هو أن يفكر في ماهية كينونته، وليس فقط أن يضع تقارير وصفية حول بنيته ونشاطه، ومن وجهة نظر العلوم الطبيعية أو التاريخ. هكذا، فما أسندناه إلى الإنسان، انطلاقا من مقارنته بال"حيوان" كحيوانية، يتأسس هو نفسه في ماهية الوجود-المنفتح. فجسم الإنسان هو أساسا شيء آخر أكثر من مجرد كائن عضوي حيواني. وخطأ النزعة البيولوجية لا يتم تجاوزه بإضافة النفس إلى الواقع الجسماني للإنسان، وبإضافة التفكير إلى النفس، وبإضافة الخاصية الوجودية إلى التفكير، وبالتأكيد أقوى من أي وقت مضى على القيمة العليا للعقل... لكي نعيد في النهاية إسقاط كل شيء داخل التجربة الحياتية، معلنين بكل ثقة أن الفكر يحطم مجرى الحياة، من خلال مفاهيمه المتصلبة وأن فكر الوجود يشوه الواقع. أن يكون بإمكان الفيزيزلوجيا دراسة الإنسان كعضوية من وجهة نظر العلوم الطبيعية، فذلك لا يثبت أبدا أن ماهية الإنسان تقوم في "الخاصية العضوية" أي في الجسم المفسر علميا. فشبيه بهذا إدعاء حصر ماهية الطبيعة في الطاقة الذرية. إذ من الممكن جدا أن تكون الطبيعة قد أخفت بالضبط ماهيتها في ذلك الجانب الذي تقدمه للهيمنة التقنية من طرف الإنسان. فكما أن ماهية الإنسان لا تقوم في أن يكون عضوية حيوانية، كذلك القصور الذي يطبع هذا التحديد الماهوي للإنسان، لا يقصى ولا يختزل، حين نخص الإنسان بنفس خالدة وبملكة عقلية، أو بالخاصية التي تجعل منه شخصا. ففي كل مرة، كانت الماهية تفلت منا، وذلك بسبب نفس المشروع الميتافيزيقي.

        إن ما هو الإنسان، أي "ماهيته" باللغة التقليدية للميتافيزيقا، تقوم في وجوده-المنفتح. غير أن الوجود-مفكرا فيه على هذا النحو لا يكون مطابقا للمفهوم التقليدي للوجود existentia والذي يشير إلى الواقع في تقابله مع الماهية Essentia مدركة كإمكانية. فنحن نجد في "الوجود والزمان" (ص42)، هذه العبارة مكتوبة بأحرف بارزة "ماهية الدازاين تكمن في وجوده" إلا أن الأمر لا يتعلق هنا بتقابل بين الوجود والماهية (existentia et essentia)، ذلك أن هذين التحديدين الميتافيزيقيين للوجود l�Etre بوجه عام، وأهم من ذلك العلاقة بينهما، لم يوضعا بعد كسؤال. ولا تتضمن العبارة كذلك منطوقا عاما حول الدازاين، إذا ما كان ينبغي لهذه التسمية التي ظهرت في القرن الثامن عشر للدلالة على "الموضوع"، أن تعبر عن المفهوم الميتافيزيقي لواقعية الواقع. إنها تعني، بالأحرى، أن الإنسان ينشر ماهيته بحيث يكون هو هذه ال"هنا" le  l� أي فسحة الوجود l��claircie de l�Etre. كينونة ال"هنا" هذه، وحده، تشمل الخاصية الأساسية للوجود-المنفتح، أي للإقامة المنفتحة داخل حقيقة الوجود. تقوم الماهية المنفتحة للإنسان في الوجود-المنفتح الذي يظل متميزا عن الوجود مفكرا فيه ميتافيزيقيا. ذلك الوجود الذي تتصوره فلسفة العصر الوسيط كفعلية actualitas ويعرضه كانط بوصفه الواقع الذي يأخذ معنى موضوعية التجربة. في حين يحدده هيجل باعتباره فكرة الذاتية المطلقة وهي تعي نفسها ويتصوره نتشه كعود أبدي لذات الشيء. أما فيما يتعلق بمعرفة ما إذا ما كان هذا المفهوم (الميتافيزيقي) للوجود، من خلال تأويلاته كواقع -وهي تأويلات لا تبدو مختلفة إلا للوهلة الأولى- يكفي للتفكير ولو في كينونة الحجر، أو حتى في الحياة وفي كينونة النبات أو الحيوان، فإننا نترك السؤال معلقا. يبقى أن الكائنات الحية تكون ماهي عليه، من دون أن تقيم، انطلاقا من كينونتها بما هي، في حقيقة الوجود، أو تحفظ داخل هذا الوضع ما يجعل كينونتها تنشر ماهيتها. يبدو أن الكائن الحي يكون، ضمن كل ما هو كائن، الأصعب بالنسبة لنا عندما نطرحه للتفكير، ذلك أنه إذا كانت تربطنا به، بشكل ما، قرابة وثيقة، فهو في ذات الوقت ينفصل من خلال هوة عن ماهيتنا، من حيث هي وجود-منفتح. في مقابل هذا، قد يبدو أن ماهية الألوهي تكون أقرب إلينا من هذا الواقع الممتنع للكائنات الحية، أقصد وفقا لمسافة أصلية، تكون مع ذلك من حيث هي مسافة أقرب إلى ماهيتنا كوجود-منفتح من القرابة الجسدية مع الحيوان التي تظل من طبيعة يتعذر سبر أغوارها، ويمكن بالكاد تخيلها. إن أفكارا كهذه تسلط ضوءا غريبا على الطريقة المتداولة، ومن تم المتسرعة دوما، في تحديد الإنسان كحيوان عاقل. فإذا كانت النباتات والحيوانات تفتقر إلى اللغة، فلأنها تظل سجينة داخل محيطها المكتنف من دون أن تتعين بشكل حر في فسحة الوجود. والحال أن هذه الفسحة هي وحدها ما يكون "العالم" غير أنها إذا كانت تظل معلقة من دون عالم داخل محيطها المكتنف، فليس مرد ذلك إلى امتناع اللغة عنها. ففي كلمة "محيط مكتنف" يتركز، بالأحرى، كل لغز الكائن الحي. ليست اللغة وسيلة تتخارج من خلالها العضوية، كما أنها ليست تعبيرا لكائن حي. لهذا السبب، فنحن لن نعرف أبدا كيف نفكر فيها بكيفية تتوافق وماهيتها، إذا ما انطلقنا من قيمتها كعلامات ولربما أيضا من قيمتها الدلالية. اللغة هي مجيء الوجود ذاته، المجيء المفصح والكاتم في ذات الوقت.

        إن الوجود-المنفتح، مفكر فيه كانجذاب، لا يلتقي مع الوجود (بالفعل) existentia لا شكلا ولا مضمونا. يدل الوجود-المنفتح في مضمونه على انبثاق وخروج [عن الذات] ex-stase في سبيل حقيقة الوجود. على عكس ذلك يدل الوجود (بالفعل) على الواقع في مقابل الإمكانية الخالصة مدركة كفكرة. يشير الوجود-المنفتح إلى التحديد المتعلق بما يكونه الإنسان في قدر الحقيقة. في حين يظل الوجود (بالفعل) الاسم الذي نعطيه للتحقق الخاص لما يكون عليه شيء ما، عندما يتجلى في فكرته. إن القضية: "الإنسان يتواجد تواجدا منفتحا" ليست جوابا عن السؤال المتعلق بمعرفة ما إذا كان الإنسان واقعيا أم لا، إنها جواب عن السؤال المتعلق ب"ماهية" الإنسان، وهو السؤال الذي يساء طرحه، سواء حين نسأل: ما هو الإنسان؟ أو من هو الإنسان؟ ذلك أننا سواء مع من؟ أو ما؟ ننظر إليه مسبقا من خلال الشخص أو الموضوع. والحال أن، مقولة الشخص، تماما كما هو الشأن بالنسبة لمقولة الموضوع، تدع ما يجعل الوجود-المنفتح التاريخي -الأنطولوجي ينشر ماهيته، يفلت منها كما تحجبه في ذات الوقت. لذلك كان وضع كلمة "ماهية" بين مزدوجتين داخل العبارة المشار إليها في "الوجود والزمان" (ص42). وقصدنا من ذلك أن الماهية لم تعد تتحدد أبدا ومن الآن، لا انطلاقا من القوة ولا انطلاقا من الفعل ولكن انطلاقا من سمة انفتاح الكينونة- هنا (الدازاين). فمن حيث هو وجود-منفتح، فإن الإنسان يتحمل كينونة -ال- هنا كـ"هم" souci حين يستقبل ال -هنا بوصفها فسحة الوجود. بل إن كينونة ال- هنا هذه تبسط هي نفسها ماهيتها بوصفها ما "القي به"، إنها تبسطها فيما يعرضه الوجود، هذا الوجود الذي يكون الحصول قدره.

        سيكون أكبر سوء فهم هو محاولة تفسير هذه القضية حول ماهية الإنسان كوجود-منفتح، كما لو كانت تحويلا دنيويا لفكرة اللاهوت المسيحي (الله هو موجد الوجود) وقد تم تطبيقا على الإنسان، ذلك أن الوجود-المنفتح ليس تحقيقا لماهية مثلما أنه لا ينتج ولا يضع هو نفسه مقولة الماهية. فأن نفهم "المشروع" في "الوجود والزمان" كفعل يضع(5) في إطار التمثل، يعني ذلك أن ننظر إليه كتحقيق للذاتية وألا نفكر أبدا في أن "فهم الوجود" وحده يمكن أن يفكر فيه في نطاق "تحليل الوجود الأصيل" ل"الكينونة-في-العالم" أي بوصفه تلك العلاقة الانجذابية بفسحة الوجود. إن كون الفصل الثالث من الجزء الأول من "الوجود والزمان": "الزمان والوجود" لم ينشر حين ظهور "الوجود والزمان" (أنظر "الوجود والزمان" ص:39)، قد جعل، بكل تأكيد، الإتمام والإنجاز الكافي لهذا الفكر المخالف، الذي يغادر الذاتية، أمرا صعبا. ففي هذه النقطة بالذات ينقلب كل شيء. وعدم نشر هذا الفصل يعود لكون الفكر لم يتمكن من التعبير عن هذا القلب بشكل كاف وهو لم يتمكن من ذلك بالاستناد إلى لغة الميتافيزيقا. والمحاضرة التي تحمل كعنوان "حول ماهية الحقيقة"، والتي تم التفكير فيها وإلقاؤها سنة 1930 ولم تنشر إلا سنة 1943، تجعلنا نتبين شيئا ما فكرة قلب "الوجود والزمان" إلى "الزمان والوجود". هذا القلب لا يمثل إنزياحا عن الوجهة التي ينظر من خلالها "الوجود والزمان" ولكن من خلاله بلغ الفكر الذي يبحث عن نفسه منطقة ذلك البعد الذي يخبر "الوجود والزمان" انطلاقا منه، يخبر انطلاقا من التجربة الأساسية لنسيان الوجود.

        يصوغ سارتر، على العكس من ذلك، مبدأ الوجودية على النحو التالي: الوجود يسبق الماهية. وهو هنا يأخذ الوجود والماهية بالمعنى الذي تعطيه إياهما الميتافيزيقا التي ترى منذ أفلاطون أن الماهية تسبق الوجود. إن سارتر يقلب هذه القضية. غير أن قلب قضية ميتافيزيقية يظل قضية ميتافيزيقية. فتكون هذه القضية من حيث هي كذلك، ومعها الميتافيزيقا، استغراقا في نسيان حقيقة الوجود. إن الفلسفة سواء حددت بالفعل علاقة الماهية بالوجود، كما في جدالات العصر الوسيط، أو بالمعنى الذي يعطيه لها ليبنتز أو بأية طريقة أخرى، فإن علينا، أولا وقبل أي شيء، أن نتساءل انطلاقا من أي قدر للوجود حدث أمام الفكر هذا التمييز في الوجود بين وجود ماهوي ووجود فعلي. وأن نفكر في لماذا لم يطرح أبدا السؤال حول قدر الوجود ولماذا لم يكن بالإمكان التفكير فيه. بل، ألا يتضمن مصير هذا التمييز بين الماهية والوجود، علامة على نسيان الوجود؟ يحق لنا أن نفترض أن هذا القدر لا يعود إلى مجرد قصور للفكر الإنساني، ولا إلى ضعف في قدرة الفكر الغربي عند بداياته. إن التمييز بين الماهية (الماهوية) والوجود (الواقع)، هذا التمييز المتكتم في حصوله الأصيل، يهيمن على قدر التاريخ الغربي كل التاريخ كما حددته أوروبا(6).

        إن المبدأ الأول لدى سارتر، ذلك المبدأ القائل بأسبقية الوجود على الماهية، يبرر بالفعل إعطاء هذه الفلسفة اسم "الوجودية". إلا أن المبدأ الأول لل"وجودية" ليست له ولو نقطة التقاء مع العبارة الواردة في "الوجود والزمان". أضف إلى ذلك، أن قضية حول علاقة الماهية بالوجود لا يمكن التعبير عنها مطلقا في "الوجود والزمان" مادام الأمر، في هذا الكتاب، لا يتعلق سوى بإعداد أرضية ذات أولوية أصيلة. وحسب ما تمت الإشارة إليه، لم يتم تحقيق ذلك سوى بكيفية يطبعها عدم الاكتمال إلى حد كبير. ما يتبقى أيضا قوله اليوم، ولأول مرة، لربما يكون بإمكانه خلق الاندفاعة التي ستقود ماهية الإنسان، من خلال الفكر، إلى الالتفات إلى بعد حقيقة الوجود الذي يهيمن عليها كليا. إن حدثا كهذا، إضافة إلى ذلك، لا يمكن أن يحصل في كل مرة إلا من أجل كرامة الوجود ولصالح كينونة ال-هنا التي يتحملها الإنسان في الوجود-المنفتح وليس لحساب الإنسان لكي تشع الحضارة والثقافة من خلال نشاطه.

        إذا ما أردنا مع ذلك، نحن أناس اليوم، بلوغ بعد حقيقة الوجود هذه، لكي نتمكن من التفكير فيها، فيتعين علينا أولا أن نبين بكل وضوح كيف يداهم الوجود الإنسان وكيف يدعوه ويناديه. إن تجربة أساسية كهاته تعطانا حين نشرع في فهم أن الإنسان يكون بقدر ما يتواجد تواجدا منفتحا. وإن شئنا التعبير أولا داخل اللغة التقليدية، قلنا: جوهر الإنسان وجوده-المنفتح. لهذا تتكرر مرات عديدة في "الوجود والزمان"، العبارة التالية: ""جوهر "الإنسان وجوده" (ص117-222-314)، غير أن كلمة "جوهر"، مفكرا فيها على مستوى تاريخ الوجود، هي أولا تلك الترجمة المحرفة لكلمة "أوسيا"، التي تشير إلى حضور ما هو حاضر كما تدل أيضا، في معظم الأحيان، من خلال ازدواجية ملغزة، على داك الذي يحضر بالذات. ونحن إذا ما فكرنا في الحد الميتافيزيقي "جوهر" في إطار هذا المعنى الذي يعلن عن نفسه في "الوجود والزمان" طبقا لـ"التقويض الفينومينولوجي" المنجز داخل هذا الكتاب، فإن القضية ""جوهر "الإنسان وجوده" لا تعني شيئا آخر سوى ما يلي: إن الكيفية، التي من خلالها يكون الإنسان، تبعا لماهيته الخاصة، حاضرا بالنسبة للوجود هي الإقامة المنفتحة في حقيقة الوجود. والتأويلات الإنسانوية للإنسان كحيوان عاقل، كـ"شخص"، ككائن مفكر-وهب-نفسا-و-جسدا، لا تعتبر خاطئة بالنسبة لهذا التحديد الماهوي للإنسان ولا تقصي من قبله. بل إن قصده الوحيد هو الكشف، بالأحرى، على أن أعلى التحديات الإنسانوية لماهية الإنسان لم تخبر بعد الكرامة الخاصة بالإنسان. بهذا المعنى يكون الفكر الذي يعلن عن نفسه في "الوجود والزمان" فكرا ضد النزعة الإنسانية. غير أن هذه المعارضة لا تعني أن فكرا كهذا ينحو منحى يتعارض مع ما هو إنساني، يقف إلى جانب اللاإنساني، يدافع عن التوحش ويحط من كرامة الإنسان. بل إننا إذا كنا نفكر ضد النزعة الإنسانية، فذلك لأنها لا تضع إنسانية الإنسان في مقام أرفع. والرفعة الماهوية للإنسان لا تقوم بكل تأكيد في أن يكون جوهر الموجود كـ"ذات" لهذا الأخير، لتذوب موجودية الوجود في تلك الموضوعية الرائجة، لوصفها مستودعا لقوة الوجود.

        إن الإنسان هو، بالأحرى، ذاك الذي "ألقي به" من قِبل الوجود ذاته، في قلب حقيقة الوجود، لكي يرعى، كتواجد منفتح، حقيقة الوجود ولكي يتجلى الموجود كما هو في نور الوجود. أما فيما يتعلق بمعرفة ما إذا كان الموجود يتجلى وكيف يتجلى، ما إذا كان الإله والآلهة، التاريخ والطبيعة يلجون فسحة الوجود وكيف يلجون، ما إذا كانوا حاضرين أو غائبين وبأية طريقة، فإن الإنسان لا يقرر في ذلك. إن قدوم الموجود يقوم في قدر الوجود. أما بالنسبة للإنسان فتظل مطروحة مسألة معرفة ما إذا كان يجد ذلك الائتلاف الخاص بماهيته والمنسجم مع هذا القدر، ذلك أنه، تبعا لهذا القدر، يكون عليه، ومن حيث أنه يتواجد منفتحا، أن يرعى حقيقة الوجود. الإنسان هو راعي الوجود. وهذا بالضبط ما يضعه "الوجود والزمان" كمشروع للتفكير، حين يخبر الوجود-المنفتح كـ"همّ" (الفقرة 44 ص226).

            إن الوجود - ما هو الوجود؟ الوجود هو ما هو. هذا ما يتوجب على الفكر المستقبلي أن يتعلم معايشته وقوله: ال"وجود" "Etre"l� - ليس الإله وليس أساسا للعالم، الوجود هو الأبعد من أي موجود ورغم ذلك الأقرب إلى الإنسان من كل موجود، سواء أكان صخرة أو حيوانا أو عملا فنيا أو آلة، سواء أكان ملاكا أو الإله. الوجود هو الأقرب إلى الإنسان. بيد أن هذا القرب ما فتئ يفلت منه ويتوارى عنه وذلك لأن الإنسان يتعلق دوما، وبدءا، بالموجود فقط. والفكر حين يتمثل الموجود كموجود، يستند من دون شك إلى الوجود. غير أنه في الحقيقة، لا يفكر دوما سوى في الموجود بما هو، وليس أبدا في الوجود بما هو. لذلك يظل "سؤال الوجود" هو السؤال الذي يتعلق بالموجود إنه ليس بعد، وإطلاقا، ما تدعي تلك التسمية الخادعة الإشارة إليه: السؤال الذي يتعلق بالوجود. إن الفلسفة وإن تكن "نقدية" كما عند ديكارت وكانط، تظل تنهج باستمرار خط التمثل الميتافيزيقي. فهي تفكر انطلاقا من الموجود، وفي اتجاه الموجود، مرورا بوساطة نظرة حول الوجود. ذلك أنه في نور الوجود تتحدد قبلا كل مغادرة للموجود وكل عودة إليه.

        إن الميتافيزيقا لا تعرف الفسحة سوى باعتبارها الوجه (أو المشهد) الذي يطالعنا لما هو حاضر في "التجلي" أي كـ"إيديا" (ما من خلاله يعرض الشيء نفسه، يحضر في ثباته ويستقبل من خلال "نوين") أو، من وجهة نظر نقدية، باعتبارها ما تبلغه الذاتية عند نهاية مرماها في إطار التمثل المقولاتي. يعني هذا أن حقيقة الوجود، من حيث هي الفسحة نفسها، تظل متوارية عن الميتافيزيقا. بيد أن هذا التواري والتخفي لا يعود إلى قصور في الميتافيزيقا، بل إنه على العكس من ذلك مصدر ثرائها الخاص الذي وهو يمثُل يفلت منها. والحال أن هذه الفسحة ذاتها هي الوجود. إنها ما يمنح أولا، على امتداد قدر الوجود داخل الميتافيزيقا، فضاء للرؤية في قلبه يصيب ما هو حاضر الإنسان الذي يكون بدوره حاضرا بالنسبة له، بحيث أنه في فعل الإدراك ("نوين") فقط يتمكن الإنسان ذاته من الاقتراب من الوجود (أرسطو، الميتا، ج، 10). وحده هذا الفضاء للرؤية يشد إليه وجهة الإدراك. وهو يستسلم لها، حين يصبح الإدراك تمثلا-منتجا للشيء المدرك والمفكر فيه، كيقين تمثل ذات مفكرة لموضوعاتها.

        كيف يتعلق الوجود إذن بالوجود-المنفتح؟ -إذا ما جاز لنا طرح سؤال كهذا- إن الوجود نفسه هو العلاقة، من حيث أنه يحمل إلى ذاته الوجود-المنفتح في ماهيته الوجودية الأصيلة، أي الانجذابية، ثم يردها إلى ذاتها بوصفها المحل حيث تقيم حقيقة الوجود في قلب الموجود. ولأن الإنسان، كتواجد-منفتح، يصل إلى الإقامة داخل هذه العلاقة التي بها يكون قدر الوجود، بإسنادها انجذابا، أي بتحملها داخل الهمّ، فهو لا يتعرف أولا على الأقرب ويتعلق بما يأتي بعد، بل يعتقد أنه هو الأقرب. غير أن هذا الأقرب مما هو أقرب والذي يكون في ذات الوقت الأبعد بالنسبة للفكر المألوف من أي بعيد لديه، هو الجوار ذاته: حقيقة الوجود.

        "السقوط" هو الاسم الذي يطلقه "الوجود والزمان" على نسيان حقيقة الوجود لأجل اجتياح للموجود غير مفكر فيه في ماهيته. فكلمة "سقوط" لا تحيل إلى خطيئة للإنسان بالمعنى الأخلاقي الفلسفي مجردا من الطابع الديني، بل تحيل إلى ذلك الارتباط الأساسي للإنسان بالوجود داخل علاقة الوجود بماهية الإنسان. بنفس الكيفية لا تنطوي لفظتا "الأصيل" و"المزيف" اللتان تقدمان لهذا الفكر، على أي اختلاف أخلاقي-وجودي أو "أنتروبولوجي". بل تدلان على تلك العلاقة الانجذابية لماهية الإنسان بحقيقة الوجود التي تظل ما يتوجب التفكير فيه قبل أي شيء آخر، ذلك أنها ظلت إلى حدود الآن متوارية عن الفلسفة. غير أن هذه العلاقة لا تكون ما هي عليه على أساس الوجود-المنفتح. بل إن ماهية الوجود-المنفتح هي التي تكون على العكس من ذلك وجودا أصيلا وانجذابا انطلاقا من حقيقة الوجود.

        إن ذلك الذي لوحده يطمح الفكر -الذي يسعى إلى التعبير عن نفسه للمرة الأولى في "الوجود والزمان"- إلى بلوغه، لهو شيء بسيط. ومن حيث هو كذلك، فإن الوجود يظل ملغزا، إنه الجوار العاري الذي يعلن عن نفسه كقوة لا تحمل طابع الإلزام. الجوار الذي يبسط ماهيته بوصفها اللغة نفسها. غير أن اللغة لا تكون لغة فقط بالمعنى الذي نتمثلها من خلاله، أي كوحدة من ثلاثة عناصر: بنية صوتية (أو تعبير خطي)، لحن وإيقاع، دلالة (أو معنى). إننا نرى في البنية الصوتية والتعبير الخطي جسم الكلمة، ونرى في اللحن والإيقاع النفس كما نرى في القيمة الدلالية عقل اللغة. فنحن نفكر عادة في اللغة في توافق مع ماهية الإنسان الذي يتم تمثله كحيوان عاقل، أي كوحدة لجسم ونفس وعقل، غير أنه مثلما يظل الوجود-المنفتح محتجبا في إنسانية الإنسان الحيواني، وتظل تبعا لذلك علاقة حقيقة الوجود بماهية الإنسان محتجبة، كذلك التأويل الميتافيزيقي للغة على النمط الحيواني يحجب ماهيتها التاريخية الأنطولوجية فتبعا لهذه الماهية، تكون اللغة هي مسكن الوجود الذي يتحقق به ويسوى عليه. لهذا، ينبغي التفكير في ماهية اللغة في توافق مع الوجود ومن حيث هي هذا التوافق نفسه، أي من حيث هي مأوى لماهية الإنسان.

        ليس الإنسان مجرد كائن حي يمتلك اللغة، إضافة إلى ملكات أخرى. إن اللغة هي، بالأحرى، مسكن الوجود حيث يقيم الإنسان، فيتواجد بذلك تواجدا منفتحا بانتمائه لحقيقة الوجود التي يرعاها.

        يترتب إذن عن هذا التحديد لإنسانية الإنسان كوجود-منفتح، أن ما هو أسلسي، ليس الإنسان. بل الوجود l�Etre كبعد لانجذاب الوجود-المنفتح. غير أن البعد هنا ليس حيزا مكانيا. ذلك أن كل حيز مكاني وزماني، ينشر ماهيته اخل هذا البعد الأصيل الذي هو الوجود بما هو.

        إن الفكر يصغي لهذه العلاقات البسيطة. وهو يبحث، في قلب اللغة التي ظلت لزمن طويل تقليدية، لغة الميتافيزيقا ونحوها، عن الكلام الذي يعبر عنها (العلاقات). بقي لنا أن نعرف ما إذا كان لا يزال بإمكان هذا الفكر أن يتحدد كنزعة إنسانية، هذا إذا ما افترضنا أن تسميات كهاته يمكن أن يكون لها مضمون ما. لا يمكنه ذلك وبكل تأكيد مادامت النزعة الإنسانية تفكر من منظور ميتافيزيقي، أو تكون وجودية تتبنى قضية سارتر هذه: "نوجد بالضبط في بعد حيث لا يوجد سوى البشر فقط" فنحن إذا ما فكرنا انطلاقا من "الوجود والزمان"، يكون علينا أن نقول، بالأحرى: "نوجد في بعد حيث هناك الوجود بالأساس". لكن من أين البعد؟ وما البعد؟ إن الوجود والبعد ينطبقان، لذلك قيل في "الوجود والزمان" ص(212)، عن قصد وعن تبين: "هناك" الوجود "Il y a l�Etre، "هناك" هذه لا تترجم بدقة "es gibt" لأن "es" أي الذي يعطي (:donne gibt) هو الوجود نفسه. يعطي (donne) تدل بالمقابل على ماهية الوجود، الماهية التي تعطي، التي تمنح حقيقتها. الإنعطاء داخل المنفتح وبهذا المنفتح، ذلك هو الوجود نفسه.

        نستخدم الصيغة "هناك" "es gibt" في ذات الوقت، للتفادي المؤقت ل: الوجود يوجد (l�Etre est)، ذلك أن "يوجد" هذه تقال عادة على شيء كائن، هذا الشيء ندعوه الموجود. الوجود يوجد ولكن الوجود بالضبط ليس هو الموجود. أن نعلن أن الوجود يوجد بدون أي توضيح، معناه أننا نتمثله وبكل يسر كـ"موجود" على نمط الموجود المألوف الذي يحدث بوصفه علة ويكون محدثا بوصفه معلولا. ومع ذلك، لقد سبق لبارميندس أن قال عند فجر الفكر "الوجود يوجد". داخل هذه العبارة يتكتم السر الأصلي لكل فكر. فلربما لا يمكن ل"يوجد" (يكون) أن تقال على الأرجح إلا بالنسبة للوجود، بحيث يكون كل موجود لا يوجد pas "est" n� ولا يمكنه بالضبط أن يوجد. لكن لأن الفكر عليه أولا أن يتوصل إلى قول الوجود في حقيقته عوض تفسيره كموجود وانطلاقا من الموجود، فمن اللازم، أمام الإصغاء اليقظ للفكر، أن يظل السؤال مفتوحا: هل يوجد الوجود؟ وكيف يوجد؟.

        إن عبارة بارميندس "الوجود يوجد" لم يفكر فيها إلى اليوم ويمكننا أن نقيس من هنا مدى التقدم الحاصل في الفلسفة. إن الفلسفة لا تتقدم حين تصغي (تستجيب) لماهيتها. إنها تخطو في عين المكان لتتمكن من التفكير باستمرار في ما هو عينه. التقدم، بمعنى الابتعاد عن هذا المكان، خطأ يلاحق الفكر كالظل الذي يلقي به. ولأن الوجود لم يفكر فيه بعد، قيل عنه أيضا في "الوجود والزمان" "هناك"... غير أننا لا نستطيع أن ننظر في هذه ال"هناك" من دون استعداد وبلا نقطة ارتكاز. إن الـ"هناك" هذه تهيمن بوصفها قدر الوجود الذي يحمل تاريخه إلى اللغة في قول المفكرين الأساسيين. لذلك فالفكر الذي يفكر في اتجاه حقيقة الوجود يكون، من حيث هو فكر، تاريخيا. ولا وجود لفكر نسقي تقترن به استوغرافيا الآراء السابقة على سبيل الإبانة، كما أنه لا وجود، كما اعتقد هيجل، لنسق بإمكانه أن يضع قانون فكره كقانون للتاريخ ويذيب من تم التاريخ في النسق. هناك، إذا ما فكرنا بشكل أكثر أصالة، تاريخ الوجود الذي ينتمي إليه الفكر وهو يستذكر داخل عنصره هذا التاريخ الذي به كان حصوله. الاستذكار-مفكرا-داخل-الوجود يختلف أساسا عن مجرد تذكر للتاريخ مأخوذا بمعنى الماضي الذي انقضى. إن التاريخ لا يحصل أو أولا كحصول والحصول ليس هو الانسياب الزمني. حصول التاريخ يبسط ماهيته بوصفه قدر حقيقة الوجود انطلاقا من الوجود. الوجود يأتي إلى قدره من حيث هو عينه إنه ينعطي وهذا يعني أن الوجود مفكرا فيه طبقا لقدره: ينعطي ويتكتم في آن واحد. لذلك فالتحديد الهيجلي للتاريخ كتطور "للروح" ليس مخطئا، وهو ليس كذلك مخطئا في جانب ومحقا في آخر. إنه صحيح صحة الميتافيزيقا التي حملت للمرة الأولى، مع هيجل، ماهيتها مفكرا فيها على نحو مطلق، إلى اللغة داخل النسق. فالميتافيزيقا المطلقة تنتمي، ومعها أشكال القلب التي ألحقها بها ماركس ونيتشه، إلى تاريخ حقيقة الوجود. وما ينجم عنها لن يكون بالإمكان التصدي له ولا أيضا إقصاؤه بتفنيده. لا يسعنا سوى استقباله من حيث أنه حقيقتها، في ارتباطها الأصلي بالوجود ذاته، تتستر داخله وتفلت من دائرة الرأي الإنساني المحض. فكل تفنيد في مجال الفكر الأساسي يكون دون معنى. وصراع المفكرين "صراع عشق"، عشق ذات الشيء، إنه يسعفهم، الواحد تلو الآخر، لبلوغ الانتماء البسيط لما هو عينه le M�me، وفي هذا الانتماء يتوافقون مع قدرتهم داخل قدر الوجود.

        إذا كان للإنسان مستقبلا أن يصل إلى التفكير في حقيقة الوجود، فسيفكر حينئذ انطلاقا من الوجود-المنفتح. فالإنسان وهو يتواجد تواجدا منفتحا، يقيم في قدر الوجود. ويكون الوجود-المنفتح للإنسان، من حيث أنه وجود-منفتح، تاريخيا غير أنه لا يكون كذلك لمجرد أن كل ضروب الأشياء تنبثق في الزمن مع الإنسان والقضايا الإنسانية. فلأن الأمر يتعلق بالتفكير في الوجود-المنفتح لكينونة ال-هنا، كان اختبار تاريخيته مسألة جد أساسية بالنسبة للفكر في "الوجود والزمان".

        لكن ألم يرد في "الوجود والزمان" (ص212) حيث تأتي الصيغة (هناك) "es gibt" إلى اللغة "لا يكون هناك وجود إلا بقدر ما تكون الكينونة - هنا"؟. لا يحتمل هذا الأمر أدنى شك. ويعني ذلك: أن الوجود لا يحمل نفسه إلى الإنسان إلا بقدر حصول فسحة الوجود. غير أن حصول ال-هنا، الفسحة باعتبارها حقيقة الوجود، هو قرار الوجود نفسه. إن الوجود هو قدر ومصير الفسحة. لا تفيد هذه الجملة مع ذلك، أن الإنسان كدازاين يكون، بالمعنى التقليدي للوجود existentia وبالمعنى الحديث لواقع الأنا أفكر، ذلك الكائن الذي به يكون الوجود. فهي لا تعني أن الوجود نتاج للإنسان. في مقدمة "الوجود والزمان" (ص38) يرد ما يلي -معبرا عنه بشكل بسيط وواضح، بل وبأحرف بارزة-: "الوجود هو المتعالي الخالص والبسيط". فكما أن انفتاح الجوار الفضائي يتجاوز كل شيء قريب أو بعيد حين نعتبره من منظور هذا الشيء، كذلك الوجود يكون أساسا بمعزل عن كل موجود لأنه الفسحة عينها. وبهذا، يكون الوجود قد تم التفكير فيه انطلاقا من الموجود ووفقا لكيفية في الرؤية لا يمكن تفاديها للوهلة الأولى داخل الميتافيزيقا التي لا تزال تهيمن. لذلك، فمن منظور كهذا فقط ينكشف الوجود من خلال المجاوزة ومن حيث هو هذه المجاوزة.

Partager cet article
Repost0
29 novembre 2009 7 29 /11 /novembre /2009 16:50

 

 

 

 

 

 

مدارات فلسفية العدد 5

من تعدد الشخص

 

إلى وحدة الإنسان في شخصانية م.ع. الحبابي

                                                                محمد المصباحي*

         "ذلك أن الكائن البشري لا يعيش في مدينة إلهية للمتصوفة والأبطال والأولياء، لكن في مدينة أشخاص وحسب حيث لا يرفض وجود الأفراد الاستثنائيين، إلا أنهم بالأحرى نادرون" الحبابي، حرية أم تحرر؟

        إن ما يميز فلسفة الحبابي الشخصانية هو نظرتها الواقعية والتجريبية لفعل التشخصن باعتباره نفيا للكائن المحض العاري من أي تحديد، ونبذا للوحدة المانعة لأي اختلاف. ونفي الوجود أو الكائن معناه تعبئته بشخصيات متعددة ومتحولة يشكل مجموعها ما يسميه الحبابي بالشخص. فالشخص عند الحبابي هو في بحث مستمر عن شخصية جديدة يتقمصها، أو على حد تعبيره، عن قناع جديد يلبسه. أي إنه يتحقق كلما ابتعد عن الكينونة الساكنة للارتماء في دوامة التعدد والتطور اللذين لا قرار لهما إلا الموت. فهل معنى هذا أن الأنا في "الشخصانية الواقعية أو الإسلامية" بات فاقدا لوحدته ولهويته الذاتية الصميمية تماما، ليصير مجموعا من أشخاص لا صلة بينها ولا لمحة تربط بين عناصرها المتباينة؟ هل أضحى الفرد عند الحبابي مجرد "مجال" أو فضاء" تتراكم وتتزاحم فيه جملة من الهيئات الإنسانية المتجانبة التي لا ناظم بينها، أم أنه على الرغم من مسعى التعدد هذا ظل يحن لاعتبار الوحدة هي الأساس الذي يحقق هوية الشخص المتميزة؟ بعبارة أخرى، هل كان الحبابي في نهاية الأمر من مناصري نوع من "الأشعرية" التي تقول بالشخص المنقسم في ذاته وعلى ذلك، الذي لا يملك المبدأ الواصل بين شخصياته التي يلبسها في كل آن وحين، أم أنه كان على العكس مما يبدو في الظاهر يدافع عن صنف من "الرشدية" تدافع عن وحدة المختلف وهوية المتضاد في فضاء الذات الواحدة؟

- 1 -

        كما قلنا، يبدو الحبابي لأول وهلة مناوئا لفكرة وحدة الذات البشرية، مما يجعل فلسفته فلسفة تعدد وصيرورة، ويجعل الحبابي أقرب ما يكون إلى ديموقريط وهيراقليط منه إلى بارميند وزينون. فكل شيء في الأنا البشري يتغير ويتعدد، ولا شيء يبقى على حال واحدة، سواء تعلق الأمر بالشخص أو بمحيطه النفسي والثقافي والاجتماعي والتاريخي، أو بالمفاهيم والأفكار، أو بالقيم والمواقف والرموز التي تؤطر أفعاله وسلوكه. ومن ثم كانت دعوة الشخصانية إلى التعدد والتطور هو ما يضفي عليها سمة الواقعية.

وإذا كان الحبابي يقر "للكائن" بدوره الأساس في بنية الشخصية لأنه هو "ما يصير به الشخص شخصا وما يخول الشخص من الاندفاع في الصيرورة" (64 :2)(1)، فإنه مع ذلك يظل مجرد نقطة بداية لا غير، أو قل "الوعاء" الذي ينتظر الإمتلاء بالشخصيات ليتحول إلى شخص. والتشخصن هو الذي يملأ هذا الوعاء الفارغ، وينقله من حالته العامة (الكائن) إلى وضعه الخاص (الشخص)، أو إنه تلك الحركة التي "تفردت الكائن البشري" (142 :2). ولا يمكن أن يقوم التشخصن بدوره هذا لو لم يكن متصفا بالصيرورة والتجاوز والتحرير(2). من أجل ذلك كان التشخصن أداة تفجير الكينونة من أجل تحويلها إلى صيرورة وتاريخ، وهذا ما جعل الحبابي يقول: "إن الشخص موضوع الحرية هو أكثر من الوجود والدازين (الموجود المحدَّد بالمعنى الهيدجيري)" (175 :3).

        ومن هنا نفهم لماذا لم تكن الشخصانية الواقعية تطمع في صياغة تعريف جامع مانع للإنسان، لأن ما كان يشغل بالها هو رصد الخط البياني لدينامية تطور الشخص وتتبع أشكال تجلياته المتعددة، لا وضع اليد على ماهيته الثابتة والخالدة. وهذا ما حدا بالحبابي إلى اعتبار المقولات العرضية -كمقولات المِلْكية والإضافة والفعل والانفعال والزمان والكيف- المجالات الواقعية التي يحقق فيها الكائن تشخصنه، والأدوات الفعالة التي تمكنه من الاقتراب من "حقيقته" والقيام بفتوحاتها الشخصانية. فما هو عرضي صار عند الحبابي هو القادر على تعبئة الكائن بمقتنايته التي تحقق هويته أو هوياته.

        ومن هنا نعتقد أن فعل "التشخصن" فعل مضاد لفعل "التعريف"، لأنه إذا كان هذا الأخير يتجه نحو تقليص المعرَّف وتسويره وإبعاد كل ما ليس مقِّوما وذاتيا من صفاته العرضية للوصول إلى جوهره وماهيته، فإن "التشخصن" هو فعل للانفتاح على كل المؤثرات العرضية التي تُغنِي الأنا في مجرى تكفيه مع واقعه ومحيطه. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن الحبابي رفع، بجهة ما، المقولات العرضية إلى درجة مقولة الجوهر بعدما استغنى عن هذه الأخيرة. ومما يشهد على ذلك أنه متى توقفت إحدى المقولات العرضية عن الفعل، كان ذلك إيذانا بتوقف الشخص عن التشخصن وتحوله إلى مجرد موضوع من الموضوعات، وعودته بالقهقرى إلى كينونته المحضة. إن تحليل الشخص من زاوية المِلْكية والفعل والإضافة وباقي المقولات العرضية الأخرى يؤشر على وجود رغبة قوية لدى الحبابي في تفتيت معنى الشخص وتقويض وحدة أناه.

        ومما يدل على هذا الميل عند الحبابي أنه لم يكن يرقه الكلام بلغة العام والمجرد عن المحطات أو المنازل الكبرى لمسيرة التشخصن، بل بلغة الخاص والملموس. فالحرية عنده حريات: حرية السجين، وحرية الكاتب، وحرية البرجوازي، وحرية العامل، وحرية المستعمِر وحرية المستعمَر الخ.، وليست حرية واحدة عامة لأنا عميق كما كان يقول برغسون. الحرية عنده إمكانية للفعل في محيط مُعطى للوصول إلى هدف محدد(3)، وليست تلك الطفرة الروحية التي تسمو فوق الواقع الجزئي المعاش؛ لقد صارت الحرية في شخصانيته مجرد "مجموع إيجابي وكيفي في طريق التحقق حسب إيقاع تشخصن الأنا" (152 :3)، وليست مفهوما كليا مجردا أو صفة تطبع الذات البشرية في صميمها كما يدعي الوجوديون. ولذلك فضل الحبابي أن يتكلم عن التحرر بدل الحرية، لأنه أنسب للدلالة على الفعل الملموس والمضني للتخلص من حتميات الطبيعة وإكراهات الواقع البشري. ونفس الأمر بالنسبة للأنا، فالأنا أنوات وشخصيات لأنه "لا وجود لأنا مطلق بالنسبة للوعي... بل ليس هناك إلا أنا في وساطة" (76 :2) تقوم بها الثقافة الخاصة بمحيط معين وحضارة محددة. والشخص حصيلة شخصيات لا شخصية واحدة، طالما أن العلاقات الاجتماعية والسيكولوجية والتاريخية والثقافية التي تفصله في تغير مستمر وتتخذ أحوالا لا حصر لها.

        ويقودنا الكلام عن التعدد والتجريبية في شخصانية الحبابي إلى الكلام عن التغير وما يرتبط به من نفي وزمانية وصيرورة ونسبية وتاريخية. فقد أكد الحبابي مرارا على أهمية "النفي" في فعل التشخصن. فـ"اللاّ"، مثلا، هي ما يميز النوع البشري عن غيره من الحيوانات من حيث هو كائن حر وقادر على التغيير، إذ بدون نفي ما هو موجود لا يمكن أن يحصل أي تغيير(4). والتعيير هو الذي يعطي الوجود البشري معناه القوي، إذ بفضله يتمكن الإنسان من ولوج أفق الزمن وكتابة ملحمة التاريخ. والزمن هو المجال الذي يحدث فيه تطور الشخص وتفاعله مع الواقع المتحرك(5). ومن ثم كانت أحوال الوجود البشري لدى الحبابي متناسبة مع أصناف الزمن وأحواله: "فالحالية" هي زمن الشخصية، و"الديمومة" هي زمن الشخص، أما "الغد"، الذي كان يعتبره أهم لحظة في الزمن المشخصن، فهو زمن الإنسان(6). ونفهم من هذه المناسبة بين أحوال الذات وأحوال الزمن، أن "الشخصية" هي وحدها التي تتمتع بالزمن بمعناه الحي، لأن مجال "الحالية" هو الذي يتحدى الأنا في كل لحظة ويطلب منه تشخصنا آنيا باستمرار. أما "الشخص" فيوجد خارج التزمن طالما أنه عبارة عن مجموع شخصيات؛ في حين يمكن اعتبار "الإنسان" غير داخل في إطار الزمن بحكم أن تحقيقه رهين بالمستقبل، أي بالزمن الذي لم يحصل بعد. وهذا ما جعل الحبابي يولي "الحالية" أهمية خاصة ويعتبرها إحدى شروط التحرر(7)، منبها إلى أن أي خروج من "الحالية" من شأنه أن يعرض الشخص إلى نكوص وانكماش(8). ومراعاة مقتضى الزمن والتعلق بأحكامه في اعتبار الأشياء والمواقف والمذاهب والملل من شأنه أن يجعل الشخص متحليا بالنظرة النسبية نافرا من الأحكام القطعية والنهائية. فلكل زمن مشكلاته واستلاباته وصراعاته وحرياته وثقافاته ورؤاه الخاصة، وليس هناك شيء فوق الزمن والتاريخ(9).

        من هنا جاء ربط تشخصن الأنا باندماجه الفعلي في سيرورة التاريخ، لأن التشخصن هو فعل انتقال الكائن من حالة الظهور في ساحة الكينونة إلى حالة الاندماج في حلبة التاريخ، وهذا ما يبرر قوله بأن "الكائن هو الذي له تاريخ" (69 :2). وبما أن التاريخ الذي ينشأ فيه الشخص في تحول مستمر، كان عليه ألا ينقطع عن التشخصن، وأن يعمل على أن يتقمص كل مرة شخصية جديدة حسب مقتضى الحال والمواضعات الاجتماعية والمواقف المذهبية والأوضاع النفسية التي يوجد في مواجهتها. فلا تطلب من الشخص أن يكون له موقف واحد ثابت على الدوام، لأن في ذلك استخفافا بكثافة وجوده وغنى صيرورته، إذ أن الشخص ذو الموقف الواحد هو الذي لم يتشخصن بعد، أو هو الذي وضع حدا لتشخصنه فانتكص إلى الوراء محتميا بحالة وجودية تُعفيه من ضنك التحدي وكد التجديد. إن الأنا عند الحبابي هو تلك القطعة من القماش القابلة دوما للتشكل في أشكال جديدة والاصطباغ بألوان غير منتظرة، رافضة أن تبقى على منوال واحد على امتداد الزمن والتاريخ.

        إن الشخصانية هي فلسفة للتعدد والتطور، للتفاعل والتضاد، للاتصال بالعالم والانفصال عنه، للتأثر به والتأثير فيه، ومن ثم أمكن تعريف التشخصن بأنه "صيرورة لانهائية" و"تجاوز للأنا نحو اللاأنا". وهذا ما يسمح لنا بأن نشبه التشخصن بالنهر الهيراقليطي الذي لا قرار لسيلانه وتبدلاته، لا بالسهم الزينوني الذي يتحرك ولا يتحرك في آن واحد. وبهذا الاعتبار يصبح الشخص أداة اختلاف وتميز، و"مصدر الفروق التي تميز الأفراد" (65-64 :2؛ 77 :2).

        من هنا نلاحظ بأن "وحدة الشخص" صارت في شخصانية الحبابي مهددة على صعيدين: على صعيد التعدد، إذ الأنا لم يعد يملك شخصية أو "هوية" واحدة بل عدة شخصيات و"هويات"؛ وعلى صعيد الصيرورة، لأن الشخص لم يعد له جوهر أو قوام ثابت يقاوم تقلبات الزمن وتغيرات التاريخ، بل أضحى عبارة عن توتر متحول عبر جريان التاريخ، أو عبارة عن مجموع من الأعراض والعلاقات لا كنه لها، أي لا معنى لها. ولا شك أن هذا المشهد المتفكك من الفلسفة الشخصانية يقربها من التفكير الأشعري المتأخر؛ بيد أن إصرار الحبابي على ربط تفاعلات الشخص بجملة من الحتميات من جهة، وبمجموعة من الحريات والمقاومات من جهة ثانية يبعد هذه الفلسفة الشخصانية عن المنظور الأشعري الذي يبدو أكثر انسجاما مع نفسه عندما يستخلص من مذهب العرضية على مستوى الوجود أطروحة اللاحتمية، ومن مذهب الانقسام والانفصال على مستوى الفعل البشري أطروحة الكسب واللاحرية.

- 2 -

        نخلص مما سبق إلى أن الشخصانية الواقعية التي دعا إليها الحبابي في أول مسيرته الفلسفية -والتي استمرت معه في رحلاته التجديدية- تتميز في الظاهر بكونها فلسفة تعددية انفصالية تراكمية، تدعو إلى تشخصن متتال للفرد البشري، تكون حصيلته "شخصا" مكتظا بمجموعة من الشخصيات المتماسة أو المتتالية التي لا اتصال بينها. بيد أن البقاء في مثل هذا المشهد المتفكك من شأنه أن يهدد هذه الفلسفة بالتهافت والعماء، الأمر الذي لا يمكن أن يُرضي الحبابي أبدا، وهو الرجل الإيجابي المؤمن بالتغيير. فما هي التحويلات الدلالية التي أجراها الحبابي على مفاهيمه وأسمائه من أجل تجاوز حدود اللحظة الامبيذوقلية الأولى -لحظة التفكك والصراع- إلى مشارف لحظته الثانية التي يسود فيها مبدأ الوحدة والتآلف؟

        نعم، لقد اعترفت الشخصانية الواقعية بالثنائية والانقسام الأصلي في الذات البشرية إلى كائن وشخص، كما دافعت بحرارة عن أطروحتها القائلة بأن مسلسل التشخصن موجه أساسا ضد الكينونة من أجل نفيها، ومع ذلك فإن هذه الفلسفة لم تكن تذهب إلى حد إقامة تناقض سافر بين الكينونة والشخص. فالحبابي لم يكن يشعر بأي حرج في الاعتراف بالعلاقة التقابلية والتضافرية في آن واحد بين الكائن والشخص. وما ذلك إلا لأنه كان أميل إلى إخضاع تقابل التضاد لعلاقة الإضافة، لأن المجال الإنساني لا يحتمل إقصاء أي عنصر في عملية إنجاز الشخص والإنسان. بل أكثر من ذلك يذهب الحبابي إلى القول في بعض مراتب تحليله بأن "الكائن" مبدأ وحدة واستمرار بالنسبة للشخص، لأنه هو "المعطى الأول الذي لا يتغير أبدا بالنسبة للنوع البشري" (64 :2)، وهو جِذرُه العام المشترك، الذي تكمن فيه كل التطورات اللاحقة التي تطرأ على الأنا فتجعله شخصا من الأشخاص(10). وضمن هذا المنظور جاء رفض الحبابي لأي تعارض بين المِلكية والوجود، أو إن شئت بين الملكية والماهية، إذ "الأنا هو ما هو، وهو ما يملك في آن واحد... ذلك أن حرياتنا تتموضع في مستوى التأليف الأصيل بين الملكية والوجود" (145-144 :3)، والتشخصن هو الذي يوحد بينهما في وحدة صميمية لا يفصلهما إلا الموت أو ما يقوم مقامه (79 :2؛ 144 :3).

        ولم يرفض الحبابي التعارض الذي يقام عادة بين الملكية والوجود وحسب، بل رفض أيضا مجموعة أخرى من الثنائيات التي قالت وتقول بها فلسفات قديمة وحديثة، كالفصل الذي أقامه أفلاطون بين الفكر والمادة، أو بين النفس والجسم، حيث دافع الحبابي في مقابل ذلك عن "أن فلسفة للتحرر ستكون هي تلك الفلسفة التي تبين كيف تتحقق فعليا، وبالعمل، الوحدة الدينامية للفكر مع المادة" (168 :3). وبنفس القوة ندد الحبابي بالانقسام الذي أحدثه برغسون في الذات البشرية بين أناتين: "أنا عميق" يتجلى من خلاله الإنسان كائنا حرا، و"أنا سطحي" يكون تحت رحمة المواضعات الاجتماعية والحتميات الطبيعية. وقد ندد بهذا الفصل أولا لأنه يؤدي إلى السقوط في قلق قاتل من جراء تفتيت الذات البشرية، وثانيا لأن هذا "الأنا العميق" لا يمكن أن يكون إلا مظلما، مما يجعله غير قادر على إضاءة أوضاعنا وحل أزماتنا(11). ولتلافي هذا القلق والغموض قدم الحبابي بديل "الوجود أو الأنا الكلي"، الذي يضم كل مكوناته المادية والروحية، النفسية والمجتمعية، الثقافية والسياسية.فالإنسان يكون أكثر حرية متى فعل "بجُماع شخصه"، لا بجانب دون آخر. ولم يواجه الحبابي بمبدإ "الكلية" هذا أولئك الذين يشطرون الذات البشرية إلى عنصرين متطاحنين وحسب، بل وأيضا كل من ينظر إلى الإنسان باعتباره ذا طبيعة أحادية، مادية كانت أو روحية.

        وبنفس الروح الكلية والجامعة رفض الحبابي أيضا الفصل بين الأنا والنّحن، وبين الأنا والعالم، وبين الحرية والحتمية، والمتصل والمنفصل. فالأنا يفترض النّحن والعالم "لأن تاريخ ذات ما لا يمكن أن يكون منعزلا لا عن تاريخ النّحن والجماعات المنخرطة في التبعية المتبادلة المحايثة لبنيتها، ولا عن ثنائية ذات-موضوع، ولا عن علاقات الأنا-عالم كما تتجلى بالفعل في التجربة" (158 :3). ذلك أن وحدة الذات مع محيطها هو الذي يُشخْصنها ويمنحها أناها ويحقق لها غناها(12). ومن ثم "فالأنا يبدأ في التحرر في اليوم الذي يعي فيه عبوديته ويحاول أن ينفلت منها بمعرفة العالم الخارجي وبمعرفة الأنا-ذاته باعتباره عنصرا مجسدا في النّحن" (162 :3). ويعطي الحبابي لمبدإ تبعية الأنا للنّحن دورا وقائيا على الصعيد النفسي والأنطولوجي معا عندما يذهب إلى القول بأن هذه التبعية هي آخر كلمة في الشخصانية الواقعية، لأن غاية هذه الفلسفة هي "منع الكائن البشري من السقوط في خطيئة نرجس، أو كما يقول لوي لافيل "أن يرى ذاته بدل أن يعيش"" (348 :1). ولذلك لا نستغرب إن وجدنا الحبابي يقوم بما يشبه تحويل الكوجيتو الديكارتي ذب النكهة الأنطولوجية إلى كوجيتو مجتمعي: "نوجد بالطبيعة (الوجود معطى خام)، لكننا نصير "وجودا مفكرا" عندما نتوصل من المجتمع بطرق التفكير وبمادته، التي هي المفاهيم" (145-144 :3)(13).

        وفي نفس الإطار رفض الحبابي التعارض الكلاسيكي الذي أقيم بين الوجود والعقل(14)، وبين العقل والانفعال، أو التقابل الذي نصب بين الفلسفة والدين، وبين الفلسفات المثالية والمادية، أو الصراع الذي افتعل بين التيارات الفلسفية المتباينة كالوجود والماركسية والشخصانية الخ. فالتشخصن في نظره يستطيع أن يتجاوز كل هذه التقابلات والصراعات المذهبية، لأنه حركة توحيدية "ترمي إلى تحقيق الكل الشامل". وقد كان صاحب الفلسفة الشخصانية يؤمن بأن "الوحدة تبقى هي الفرصة الوحيدة للشخص من أجل أن يتشخصن ويؤنسن كل ما يحتك به، لأن كثافة الإنسان متعلقة بها" (347 :1)؛ وهو يؤمن بالوحدة لا على صعيد الذات الفردية فحسب، بل وكذلك على مستوى الجنس البشري عامة. وهذا ما جعل "الشخصانية الواقعية" "موقفا متفتحا دائما على الحياة أمام المستقبل، ومشرئبة إلى تجاوز تعددية الأعراق، الإيديولوجيات... وكل الاختلافات والتعارضات، لغاية الإعانة للوصول إلى الوحدة النوعية للموجودات البشرية" (187 :3).

        ويبلغ تعلق الحبابي بمبدإ الوحدة أوجه عندما يصف المرحلة الأخيرة من تشخصن الأنا، وهي مرحلة "الإنسان". فيطالبنا، من أجل تحقيق هذه المرحلة، أن تتخلى عن مجموع شخصياتنا التي اكتسبناها عبر احتكاكنا بالآخرين، ومن خلال تطوير فعالياتنا السيكولوجية والاجتماعية والثقافية تطويرا نوعيا. والفعل الذي يتجاوز به الأنا مرتبة "الشخص" إلى "الإنسان" يسميه الحبابي بالتعالي، الذي يعرفه تعريفا عاما يمكن أن يندرج تحته مفهوم التشخصن عندما يقول عنه بأنه "توتر باطني يدفع إلى تحقيق الممكنات التي تتحرر وتلح في أن تتحقق في الوجود" (79 :2). إلا أنه إذا كان "التشخصن" فعل تجاوز الكائنية، فإن "التأنسن" أو "التعالي" هو فعل تجاوز التشخصن. ولذلك كان على التعالي أن يحررنا من الزمن الفيزيائي، ومن الفوارق الاجتماعية والسيكولوجية والتاريخية والثقافية، للانتقال إلى المنزلة التي يصير فيها الفرد كل الناس(15). هكذا تنتهي الشخصانية الواقعية إلى عقد تآلف بين الكينونة والتشخصن والتعالي في الإنسان الكلي الذي يمثل الإنسانية في ذاتها بكل ما تحتويه من العناصر المتضاربة محايثة كانت أو متعالية. فكل ما كان متعددا مختلفا يصير في مقام الوصول، مقام الإنسان، شيئا واحدا(16).

- 3 -

        من حق المرء أن يتساءل عن معنى وجود فكرة "التعالي" في فلسفة تدّعي الشخصانية "الواقعية" بحكم التعارض السافر بين التعالي والواقعية. لكن الحبابي كعادته في التأليف بين المتقابلات كان بالمرصاد للمخاطر التي يمكن أن ينزلق إليها فعل "التعالي"، فحاول أن يطوق دلالة هذا الفعل بجملة من التحفظات حوّلته إلى مفهوم مضاد لدلالته الأصلية تقريبا. فقد صرح صاحب الشخصانية الواقعية بأن غايته من وراء دعوته إلى نزع الأقنعة لم تكن هي عودة الشخص بالقهقرى إلى منزلة "الكائن"، أي إلى الحالة الغُفلة والفجّة من الأنا والذي يمثلها بُعْدُه البيولوجي، بل كانت غايته الذهاب بالشخص بعيدا إلى الأمام للوصول به إلى مرتبة الإنسان. لكن في مقابل ذلك، رفض الحبابي أن يكون "تعالي" الشخصانية مرتبطا بالفوق، لأنه لو كان التعالي آتيا من فوق، لما تمكن الشخص من أن يرقى. هذا علاوة على أن الناس لا يرغبون في أن يصيروا آلهة، "لأنه لا فائدة من ذلك" على حد قول سارتر(17)، بل كل ما يطمعون فيه أن يكون كل واحد منهم إنسانا وحسب. ولذلك أراد من "التعالي الواقعي" أن يجري داخل العالم، ويتحقق بالمحايثة(18)، إيمانا منه بأنه "بدون تعال لا وجود للشخص، وبدون عالم لا وجود للتعالي" (165 :1). من جهة ثانية، لم يكن القصد من وراء النداء إلى "نزع الأقنعة" أن يدفع بالأنا للانحباس في نرجسية لا يرى فيها الأنا إلا ذاته وحسب، بل كانت الغاية من الدعوة إلى تجاوز الشخصيات المكتسبة جعل الإنسان فوق المواضعات الاجتماعية، بعيدا عن التحيزات والولاءات العرقية والثقافية، والتشيعات المذهبية القطعية، من أجل الانفتاح على الكل، أي على الإنسانية والعالم والتاريخ.

        ويرجع تنديد الحبابي المزدوج بعزلة الأنا النرجسية، أو ذوبانها في أتون المطلق، إلى خشيته من تشويه حقيقة الإنسان بتصويره قادرا على أن يصبح في يوم من الأيام كاملا مكتفيا بذاته، بدل النظر إليه في حيثيته الواقعية باعتباره كائنا ناقصا لا تنقطع خصاصته إلا بموته. فالحبابي لم يكن بوسعه أن يقبل بفكرة الإنسان المتوحد الكامل المستغني بنفسه عن غيره وعن العالم، كما كان يقول ابن باجة مثلا، لأنه لم يكن يرغب في الوصول إلى أفق نهائي تسكن إليه النفس وتتوقف فيه عن كل أفعال التشخصن والتأنسن. هذا في نفس الوقت الذي لم يكن بمستطاعه أن يتصور "التعالي" نتيجة قدر غاشم، غايته التكفير عن خطيئة أصلية، أو أن يتصوره مجرد ممارسة مجانية لا معنى لها ولا طائل من ورائها(19)، بل إنه كان ينظر إلى "التعالي" باعتباره "فتحا لسبل الاختيار أمام الإنسان"، و"وضعا للعصر الذهبي أمام الإنسان لا وراءه".

        وبوسعنا، في هذه اللحظة من متابعتنا لتفكير محمد عزيز الحبابي، أن نسجل وجود أحد الملامح الرشدية المعروفة، وأقصد بذلك فكرة وحدة الإنسانية. فالحبابي لم يكن يتردد في القول بأنه "عندما يتوفّق التشخصن في تحقيق الإنسان، يكون قد بلغ المرحلة الحاسمة، حيث يصبح الأنا منسجما في ذاته، مما يمكنه من أن يقوم بدوره الحق في الحياة، أي تحقيق نزوع البشرية جمعاء. وبقصير العبارة، في هذا المستوى من التشخصن تطابق النزوعات الخاصة الأهداف العامة النوعية، إذ كل شخص (وقد صار إنسانا) يُجسم الإنسانية" (78 :2). بل إننا نجد لدى الحبابي لغة "كلية" شبيهة بتلك التي استعملها ابن رشد في وصف العقل الهيولاني أو في تحليله للحظة الاتصال بالعقل الفعال، عندما يقول مثلا إن "الشخص لا يكتمل في الإنسان إلا بقدر ما يشعر أنه مجموع الآخرين" (86 :2)، وإنه "لكي "تكون كلا"... يجب أن ترتفع إلى مستوى الإنسان" (174 :1)، وأن "الإنسانية جمعاء تصبو إلى تحقيق هدف أسمى، تحقيق الإنسان المتفتح الكلي" (78 :2).

- 4 -

        لقد تبين لنا بوضوح أن ما يميز فكر الحبابي هو جدليته التكاملية التي تستطيع أن توفق بين روح أشعرية تفكيكية وعرضية، وروح رشدية وحدوية وجوهرية، مما يعطي الانطباع بأن ما كان يخشاه الحبابي هو الاستقرار في موقع بعينه لا يبرحه، والالتزام بموقف واحد لا يحيد عنه. فالحبابي رجل توازن بين مختلف المواقف والتيارات. وهذا ما نجده خاصة في توزيعه الدقيق للأدوار بين الكائن والشخص والإنسان: فإذا كان "الشخص" قد كُلّف بالنهوض بدور تفردن "الكائن" وصيرورته، أي فصله عن الكل المتجانس، فإن كلا من "الكائن" و"الإنسان" قد عهد إليهما بلعب دور التوحيد والاستمرار. فإذا كان الشخص ميدانا للتعدد والصيرورة، فلأنه مطوق بالوحدة من طرفيه، إذ توجد في مستهل ظهوره إلى الوجود وفي أفق انخراطه في التاريخ.

        ولكن هذه الرغبة في ضم كل شيء وتبني أي موقف لابد أن تلقي بظلال قوية من التشويش والغموض على هذا الفكر. فإذا كنا لا نجادل مثلا في اعتبار الكائن هو ما يوحد النوع البشري، لأنه هو البذرة الأولى التي تكمن فيها كل فعاليات الأنا وانفعالاته، ويلتقي في مجالها كل أفراد النوع البشري، فإننا لا نفهم لماذا يحصر الحبابي مجال الكائن أو الوجود في الجانب "البيولوجي" للشخص، أي في أبعاده الجسمية والانفعالية والغريزية دون أبعاده العقلية. من جهة أخرى، يصعب علينا أن نفهم كيف يكون "الإنسان" أداة الوحدة الداخلية للشخص في ذاته، وفي نفس الوقت أداة وحدته الخارجية مع كل أفراد النوع البشري، أي كيف يجوز لنفس الشيء أن يكون أداة الوحدة الفردية والوحدة النوعية في آن واحد وهما أمران شبه متعارضين؟ ثم هل تعتبر لحظة "الإنسان" لحظة لتجاوز الكائن والشخص معا، أي لحظة القطع مع أفعال تشخصن الشخص، أم أنها في حقيقة الأمر لحظة انبثاق أفعال جديدة من الفتح والكشف الصوفي؟ هل كان الحبابي يدعو إلى توقيف لأفعال التشخصن للعودة بالشخص إلى كهف الكائنية الغُفلة وإلى درجة الصفر من الوجود، أي إلى حال ما قبل تاريخ الشخص، أم أنه كان ينادي ذوي الفطرة الفائقة إلى خوض مغامرة إلغاء المدينة والتاريخ والتوتر والصراع من الحسبان، والاكتفاء بحدس وجداني متعال، وترك الجمهور العريض الملتصق بالأرض يعاني اختلافاته وصراعاته في مرتبة "الشخص"؟

        وهنا يحق لنا أن نتساءل: أليست منزلة الإنسان في فلسفة الشخصانية الواقعية منزلة زائدة لا غناء فيها؟ ذلك أننا عندما نطالع تعريف الحبابي للإنسان بأنه "الكل من الكائن والشخص"، ونقارنه بتعريفه للشخص الذي هو "الكل المكون من الكائن والشخصيات"(20)، نجد أن التعريفين يتطابقان في جنسهما وفصلهما معا. فالجنس يحتفظ باسمه في التعريفين، وهو "الكائن"؛ أما الفصل، فبالرغم من تغيره في التعريفين من "الشخص" إلى "الشخصيات"، فإن مضمونهما يظل واحدا، طالما أن الشخص هو مجموع الشخصيات.فإذا ثبت أن لا فرق في الجوهر بين "كلية" الشخص و"كلية" الإنسان، فلماذا نضيف هذه المرتبة الأخيرة، اللهم إلا إن اعتبرنا "الإنسان" مجرد أفق رمزي نسعى إليه دون أمل في الوصول إليه، بينما الشخص هو تلك الحلبة التي يجري فيها الصراع وتنسج فيها وقائع التاريخ.

        ونعود إلى مفهوم الشخص الذي لا يخلو هو الآخر من الغموض، فهو إذا كان بالتعريف أداة فصل وتمييز للفرد عن غيره داخل الكائن، فإننا نجد الحبابي يقدمه لنا أيضا باعتباره أداة وصل وتوحيد على مستوى الشخصيات. ثم إنه إذا كان الشخص عند الحبابي يمثل الجانب العقلي من الأنا، والكائن جانبه الانفعالي، فكيف يجوز ضمهما في وحدة جامعة علما بأن العقل أداة فصل والوجدان أداة وصل. من جهة أخرى، إذا كان الشخص أو التشخصن حركة من أجل استكمال الذات، فما هي علة هذه الحركة، هل هو النقص الذي ينتمي إلى العدم أم هو التضاد الناتج عن التكوين التقابلي للذات البشرية والذي هو أيضا مظهر من مظاهر السلب، أم أنها ذلك الشوق الذي يسكننا نحو تحقيق غايتنا المطلقة، أم أن علة حركة التشخصن هي الكائن ذاته؟ بوسع الحبابي أن يجيبنا بكل هذه الإجابات، فهو لا يدعك تفلت من بين قبضته.

* * *

        بقيت مفارقة أخيرة تتعلق هذه المرة بمآل فكر الحبابي وفلسفته، وهي أنه إذا كان الهاجس الذي سكن هذا الفكر هو الانفتاح على الواقع الذي يعيشه والعصر الذي يحياه، فلماذا لم ينفتح عليه هذا الواقع، ولم يتجاوب مع فلسفته، بالرغم من محاولاته المتعددة لتنويع خطابه وتغيير أجناس كتابته وتعديد منابره. لقد طالما حلم الحبابي بحلم التغيير واشتاق بكل كيانه أن يشارك فيه، لكنه وبالرغم منه ظل غارقا في أوهام التفسير. هل معنى هذا أن الزمن الإيديولوجي الذي كان يحياه العالم العربي هو السبب في عدم التواصل هذا، أم أن الخطاب الفلسفي بطبيعته لا يمكن أن يُوجَّه سوى إلى الخاصة (إشكالية ابن رشد)، أم أن عقلانية الحبابي كانت أغنى من أن يتلقاها المثقف العربي، أم أن السر في إهمال الثقافة العربية للفكر الشخصاني هو عدم إيمان هذه الثقافة بالإنسان الفرد، أم أن ذلك راجع إلى الطابع التكاملي التوافقي لهذا الفكر الذي يفقده نكهته الخاصة به؟

        بوسعنا أن نجيب على هذا التساؤل بالطريقة الحبابية الجامعة. لكننا مع ذلك نريد أن نضيف أن عالمنا العربي ظَلَم كثيرا الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، وفي ظلمه له ولامثاله ظَلَم نفسه وخسر كثيرا، لأنه لو تواصلنا مع مثل هذا الفكر بروح من التواضع وعلى نحو محايث، إن نقدا أو متابعة، لأمكننا أن نكرس تقليدا فلسفيا قويا من شأنه أن يقي ذاتنا العربية من الرجوع إلى كهف الكينونة الخامل.

 

        هوامش وحدة الكائن والشخص:

1) سنعتمد في هذا المقال على عملين أساسين ينتميان إلى مرحلة "الشخصانية الواقعية" هما من الكائن إلى الشخص، وحرية أم تحرر، وسنشير إلى العمل الأول في أصله الفرنسي رقم 1: De l��tre � la personne, essai de personnalisme r�aliste, Paris, PUF, 1954؛ وبرقم 2 إلى الترجمة العربية لجزء منه: من الكائن إلى الشخص، دراسات في الشخصانية الواقعية، القاهرة، دار المعارف 1962؛ ثم برقم 3 إلى العمل الأخير في نصه الفرنسي: Libert� ou lib�ration, Rabat, Okad, 1989، ويتبع هذه الأرقام رقم الصفحة في الكتاب المشار إليه.

2) إن التشخصن لا يقبل بالوقوف عند الفرد الثابت، بل إنه على العكس "يفتح أمام الكائن صيرورة لانهائية ووسائل لتجاوز الذات بالذات تجاوزا نحياه في تجاربنا اليومية. وبالتالي يحررنا التشخصن من كل الأنظمة المغلقة الآلية، كما يحررنا من المعتقدات التي تجعل من الإنسان كائنا لا حول له ولا قوة لتجاوز وضعه" (78 :2).

3) انظر 14 :3؛ 22؛ 45.

4) انظر 61:3؛ والتغير عند الحبابي لا يجري على نحو واحد بل على عدة أنحاء، ومنها النحو الجدلي، فالليبرالية أو حرية التنافس تؤدي في نهاية الأمر إلى الاستبداد، والمالك إذا وصل قدرا كبيرا من الملكية قد يصير مملوكا لممتلكاته، والمكننة التي خلقها الإنسان من أجل التخفيف من عناء الإنسان تصير أداة إفقاره وتعطيله عن العمل، والعمل ذاته الذي كان في الأصل أداة تحرر يصير أداة استعباد واستكراه عندما يساء استعماله. هكذا تكون جدلية السيد والعبد هي التي تتحكم في خط سير كثير من الأفعال والانفعالات والمقامات. إضافة إلى ذلك ليس هناك نوع واحد من التغير بل يوجد على الأقل نوعان: فهناك التغير الكمي الذي بموجبه ينتقل الشخص من شخصية إلى أخرى أو من حالة عرضية إلى أخرى؛ وهناك التغير الكيفي الذي ينتقل الفرد بمقتضاه انتقالين أحدهما من الكائن إلى الشخص، والثاني من الشخص إلى الإنسان.

5) انظر 57 :3.

6) انظر 131:2.

7) انظر187:3 .

8) انظر 163:3.

9) ولعل اعتبار الزمانية بهذا النحو من الحدة هو ما جعل الحبابي يفتح فلسفته على المدينة والحياة، و"يصيغ رأيه انطلاقا من علاقاته مع المدينة" (152 :3)، إيمانا منه أن أية فلسفة تنشد الخلود فلا بد لها من ركوب مركب الزمانية، ومن ثم كان يعتبر أن "كل فلسفة لا تشكل جزء لا يتجزأ من حركة فكر وعمل عصرها تظل على هامش الفعل، وبالتالي لا يمكنها أن تدعي نها تعمل من أجل التحرير البشري" (178 :3)، ولذلك كان يرى أن "على الأبحاث الفلسفية إذن أ يكون لها اتصال مباشر وصميمي مع الحياة، وإن هي نشدت الخلود فمن خلال الزمانية" (174 :3)؛ ولعل تعلق الحبابي بالزمانية أو بالأحرى بالحالية هو الذي طبع فلسفته بطابع الانفتاح، فكان لا يخشى أبدا أن ينهل من هذه الفلسفة والفلسفة المضادة لها، وأن يستعير من أصدقائه وأعدائه، دون أن يخشى من كشف استعاراته وانتماءاته، فقد كانت كل المعارف البشرية تهمه وترشده إلى فهم الشخص (153 :3). إلا أنه في المقابل لم يكن مضطرا دائما إلى أن يتقيد بنتائج التيار الفكري الذي يستعير منه بعض أدوات تحليله.

10) انظر 78 :2.

11) انظر 29:3.

12) انظر 28:3.

13) كما يقول: "فالذي يَقْدِم إلى العالم هو جسم من غير "كوجيطو"، أي جسم عاجز عن وعي هويته، وعن أي شعور بفعالية ما، فالآخرون هم الذين يعطونه "الأنا" ويعاملونه على أساس أنه "ذات"..." (140 :2)؛ وفي مقابل ذلك يذكر بأن "العزلة لا تحرر" الإنسان (187 :3).

14) بالرغم من تنديد الحبابي بالجانب الاستدلالي من العقل بسبب دلالته على الفكر الوسطوي بامتداداته اللاهوتية، (176 :3؛ 102:2)، وبالرغم من محاولته الجادة لجعل مفهوم التشخصن مفهوما جامعا لكل العوامل الفعلية والانفعالية والروحية والعقلية، فإننا نلاحظ لديه وجود نزعة عقلانية قوية. فقد أعطى الحبابي العقل مكان الصدارة في إحداث الوحدة والانسجام بين العناصر المكونة للشخص البشري، ونقل الأنا من الكائن إلى الشخص. بل أكثر من ذلك عهد فيلسوف الشخصانية إلى العقل بأن يقوم بمهمة مناهضة الغرائز ومناوءة الأهواء والرغبات الدفينة، أي محاربة الجسد والقوى التي لها علاقة به. وهذا ما يجعل عقل الحبابي عقلا قامعا مناهضا للطبيعة والوجود. وبهذه الجهة يندرج عقل الحبابي ضمن المفهوم الكلاسيكي والوسطوي للعقل، لا ضمن عقل الحداثة وما بعدها.

15) انظر 234 :1.

 


*  ) كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط

Partager cet article
Repost0
29 novembre 2009 7 29 /11 /novembre /2009 14:41

تحليل نص فلسفي

* الموضوع:

     ” من وجهة نظري يبدو أنه توجد سلسلة من الحالات الواعية متصلة بعضها مع بعض، بمقدرتي في أي لحظة أن أتذكر تجارب واعية حدثت في الماضي (…) إذ هذا هو العنصر الجوهري في الهوية الشخصية.

   السبب الذي يستلزم هذا المعيار بالإضافة إلى الهوية الشخصية هو أنه من السهل لي أن أتصور حالات فيها أجد نفسي في جسد آخر عندما أستيقظ من النوم، ولكن من وجهة نظري سأكون متأكدا أنني الشخص نفسه. أنا أحتفظ بتجارب كجزء من السلسلة، فهي تشتمل على تجارب الذاكرة لحالاتي الماضية الواعية.

  ادعى “لوك” أن هذه هي الصفة الجوهرية في الهوية الشخصية، وسماها الوعي. ولكن التأويل المتعارف عليه الذي كان يقصده هو الذاكرة (…) وأظن أن هذا ما كان يعنيه “لوك” عندما قال إن الوعي يؤدي وظيفة جوهرية في تصورنا للهوية الشخصية. ولكن بغض النظر عما إذا كان “لوك” يقصد هذا المعنى، فإن استمرارية الذاكرة هي على الأقل جزء مهم من تصورنا للهوية الشخصية.”

                                       حلل النص وناقشه

 

 

* الإجابة المقترحة:


 

Partager cet article
Repost0

مجلة وطنية ثقافية شاملة ومحكمة

  • : مجلة دفاتر الاختلاف
  • : مجلة "دفاتر الاختلاف" دو رية مغربية ثقافية محكمة رخصة الصحافة رقم:07\2005 -الايداع القانوني:2005/0165 تصدر عن مركز الدراسات وتحمل الرقم الدولي المعياري/ p-2028-4659 e-2028-4667
  • Contact

بحث

الهيئة العلمية

أعضاء الهيئة العلمية والتحكيم

د.عبد المنعم حرفان، أستاذ التعليم العالي، تخصص اللسانيات، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز فاس المغرب

د.عبد الكامل أوزال، أستاذ التعليم العالي، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.أحمد دكار، أستاذ التعليم العالي مؤهل ، تخصص علم النفس وعلوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

د.محمد أبحير، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وآدابها، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بني ملال/المغرب

د.محمد الأزمي، أستاذ التعليم العالي ، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

د.ادريس عبد النور، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وعلوم التربية والدراسات الجندرية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-مكناس/المغرب

د. عبد الرحمن علمي إدريسي، أستاذ التعليم العالي، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

محمد زيدان، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وآدابها، المركز  الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.محمد العلمي، أستاذ التعليم العالي ، تخصص الدراسات الاسلامية والديدكتيك، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.محمد سوسي، أستاذ مبرز ، دكتور في الفلسفة، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

دة.سميحة بن فارس، أستاذة التعليم العالي مساعد، تخصص الديدكتيك علوم الحياة والارض ، المدرسة العليا للأساتذة فاس / المغرب

د.عزالدين النملي، أستاذمحاضر ، تخصص اللغة العربية والديدكتيك ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين تازة/المغرب

دة.صليحة أرزاز ، أستاذة التعليم العالي مؤهل، تخصص لغة فرنسية، ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.المصطفى العناوي، أستاذة التعليم العالي مؤهل، تخصص الاجتماعيات ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.حسان الحسناوي، أستاذ التعليم العالي مساعد، تخصص اللغة العربية وآدابها ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين تازة/المغرب

د.عمر اكراصي، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

دة.حنان الغوات، أستاذة التعليم العالي مساعد، تخصص علومالتربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.حميد مرواني، أستاذ محاضر مؤهل، المركز الجهوي لمهن التربية

والتكوين فاس- مكناس المغرب

   د.عبد الرحمان المتيوي، أستاذ مبرز في الفلسفة، مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس -مكناس /المغرب

د.المصطفى تودي، استاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة

.فاس-مكناس

دة.الخالفي نادية، أستاذة التعليم العالي مساعد، المركز الجهوي لمهن التربية

.والتكوين الدار البيضاء-سطات/المغرب

د. محمد أكرم  ناصف ، أستاذ مؤهل، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-مكناس المغرب.

هيئة التحرير وشروط النشر

رئيس هيئة التحرير

د.ادريس عبد النور

هيئة التحرير​​

​​​​​د.عمر اكراصي - د.طارق زينون

د.سعيد عمري- ذة. مالكة عسال

ذ.خالد بورقادي إدريسي

الشروط العامة لنشر البحوث:

  • أن يكون البحث ذا قيم علمية أو أدبية، ويقدم قيمة مضافة للحقل المعرفي.
  • أن يتمتع البحث بتسلسل الأفكار والسلامة اللغوية والإملائية.
  • أن لا يكون البحث مستلاً من أطروحة دكتوراه أو رسالة ماستر أو كتاب تمَّ نشره مسبقاً.
  • يلتزم الباحث بإجراء التعديلات التي يقرها المحكمون بخصوص بحثه، حيث يعد النشر مشروطاً بإجراه هذه التعديلات.

المراسلات: Email:cahiers.difference@gmail.com0663314107