Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
29 février 2024 4 29 /02 /février /2024 15:52
الترجمة والجندر : اللغة من الترجمة الآلية إلى الترجمة الثقافية

الترجمة والجندر

 اللغة من الترجمة الآلية إلى الترجمة الثقافية

د. ادريس عبد النور

دراسة محكمة

أستاذ مؤهل بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس – مكناس /المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية وعلوم التربية و الدراسات الجندرية والثقافة الرقمية

Abdennour.driss@gmail.com

ملخص:

تعتبر التجليات الكبرى للوعي النسائي مقرونة بالعمل الابداعي محصورة في انتمائه إلى جنس النساء خاصة بعد أن استحكمت السلطة الأدبية جملة من المعايير خندقت حيوات النساء.

ولما انتقل مفهوم الجنس بتأثير من القوى الجندرية، إلى مجال الثقافة بعد أن أسكنته الثقافة الذكورية مجال الطبيعة ، أصبحت قاعدة المساواة في الحقوق وخاصة اللغوية والأدبية مطلبا هيكل القوى الجندرية في اتجاه قطب الدراسات الاجتماعية والثقافية التي تعنى بأوضاع النساء الاجتماعية والاقتصادية عامة  والرمزية والفكرية والأدبية خاصة بما هو فعل سياسي واقعي، الشيء الذي انعكس على الفكر والخطاب النسوي وبالتالي الكتابة النسائية وخاصة الخصائص الأسلوبية واللغوية التي تعرضت لنقد وتهميش أساسه عدم مواءمتها للمعايير والبنى النقدية والأدب المعتمد (the literary canon)

ومن تجليات المنظور النسوي في الأدب ما ارتفع من أصوات نسائية على مستوى البنية السردية التي عملت على قلب الصور النمطية للأدوار الاجتماعية المرتبطة حميميا بالنساء.

فالترجمة بهذا المعنى هي عملية نقل المعنى من لغة إلى أخرى، وتتضمن هذه العملية فهم النص الأصلي بشكل صحيح، واختيار الكلمات والتعابير المناسبة في اللغة المستهدفة لنقل المعنى بأقرب صورة ممكنة. وتتطلب الترجمة أيضا مهارات لغوية وثقافية ومعرفية بالموضوع الذي يتم ترجمته.

أما بالنسبة للجندر، فيشير هذا المصطلح إلى الصفات والأدوار الاجتماعية المرتبطة بالجنس (الذكر والأنثى)، والتي تعتبر قائمة على الثقافة والتقاليد والمعتقدات المجتمعية. ويشمل الجندر العديد من الجوانب، مثل السلوك والمظهر واللغة والتفاعلات الاجتماعية.

الكلمات المفاتيح: الدراسات الجندرية، الترجمة الألية، الترجمة الثقافية، الترجمة النسوية،الأدوار اللغوية

summary:

The major manifestations of women's awareness, coupled with creative work, are considered limited to belonging to the gender of women, especially after the literary authority took control of a set of standards that entrenched women's lives.

When the concept of sex moved, under the influence of gender forces, to the field of culture after the Masculinity culture placed it in the field of nature, the rule of equality in rights, especially linguistic and literary, became a requirement for the structure of gender forces in the direction of the pole of social and cultural studies that are concerned with the social and economic conditions of women in general and the symbolic, intellectual and literary conditions in particular. It is a realistic political act, something that was reflected in feminist thought and discourse and thus women’s writing, especially the stylistic and linguistic characteristics that were subjected to criticism and marginalization based on their lack of compatibility with the standards, critical structures, and approved literature (the literary canon).

One of the manifestations of the feminist perspective in literature is the rise of female voices at the level of the narrative structure, which worked to overturn the stereotypes of social roles intimately linked to women.

Translation, in this sense, is the process of transferring meaning from one language to another. This process includes understanding the original text correctly, and choosing appropriate words and expressions in the target language to convey the meaning as closely as possible. Translation also requires linguistic, cultural and knowledge skills about the subject being translated.

As for gender, this term refers to the traits and social roles associated with sex (male and female), which are considered based on culture, traditions, and societal beliefs. Gender includes many aspects, such as behaviour, appearance, language and social interactions.

Keywords: gender studies, machine translation, cultural translation, feminist translation, linguistic

roles

مقدمة

قد توفر الترجمة الألية التكلفة المادية مع توفير الوقت حيث كتب لبرنامج ، الوافي، المترجم العربي إلى العربية دواعي الاستمرار على كل ما سبقه من برامج حيث طورته شركة عربية.

كما ظهرت العديد من البرامج للترجمة الألية من العربية وإليها ، بعضها متاح على الشبكة العنكبوتية مثل:

-موقع غوغل للترجمة translate google

-موقع ترجمان لشركة صخر  tarjim

- موقع عجيب ajeeb.

من هذا المنطق تعتبر الترجمة الألية التي مواكبة للتطور العلمي والتكنولوجي حيث تم طرح سؤال مهم يتعلق بمهمة المترجم، وهل وجب عليه التركيز على أسلوب صياغة النص أم على معناه، لتنتقل منصة السؤال إلى صعوبات الترجمة الألية خاصة تلك العلاقة التي شابها التوتر بين الدراسات الأدبية وعلم الاجتماع، وخاصة ما قد يشكل انحرافا عن القواعد المتعارف عليها والتي تحكم لغة ما، ليظهر جليا مناحي قصور الترجمة الألية حيث تغيرت أسئلة دراسات الترجمة إلى قضايا تتجاوز المرحلة الشكلية إلى مرحلة تتعلق بالسياق والاثنوغرافيا والتاريخ والاجتماع ، في اتجاه الدراسات الثقافية وما يوازيها في دراسات الترجمة والتي تجسدت في العلاقة المتوترة بين الدراسات الأدبية وعلوم اللغة ، حتى استقرت، متجاوزة المدخل اللغوي ، داخل المساحة التي تقترحها الدراسات الثقافية حيث إن " التلاقي بين الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة، عندما تحقق أخيرا ، كان مثمرا، فكان العمل في المجالين يطعن في الحدود العلمية القائمةويسير –فيما يبدو- نحو إيجاد ساحة جديدة تمكنهما من التفاعل، لم يكن المقصود إيلاء الأولوية لمدخل واحد فحسب. وقد ثبت من البداية أن المداخل المختلفة منحازة بطبيعتها". [1]

لقد أصبح مفهوم الجندر مفهوما أقرب إلى مجال الدراسات الاجتماعية والثقافية التي تسعى إلى تتبع علاقات القوى الجندرية في سياقاتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وتحليل مظاهره وأسبابه، من هنا تتضمن دراسات الجندر مقارنات، وتفسح المجال أمام دراسات الذكورة والأنوثة وما ترتبط بها من سلوكات وخصائص وتصورات وأشكال للتعبير يتم صياغتها في ظل أوضاع اجتماعية وثقافية معينة تنعكس بالتالي على الاعراف الاجتماعية والحقوق والواجبات الواردة في التشريعات" [2]

وتتعلق الترجمة والجندر ببعضهما البعض فيما يتعلق بالعملية اللغوية للترجمة وكيفية تأثير الجندر على هذه العملية. فعلى سبيل المثال، قد يؤثر الجندر على الكلمات التي يتم اختيارها في الترجمة، وعلى الأدوات اللغوية المستخدمة لنقل المعنى. كما يمكن أن يؤثر الجندر على الطريقة التي يتم فيها تفسير المعنى وفهمه. لذلك، يجب أن يتم اعتبار أهمية الجندر عند القيام بعملية الترجمة لضمان نقل المعنى بدقة ودون تحيز جندري.

وتنقسم الترجمة إلى ثلاثة أقسام:

الترجمة ضمن اللغة الواحدة – intralingual translation وهي تعني إعادة صياغة مفردات رسالة ما في إطار نفس اللغة

الترجمة من لغة إلى لغة أخرى interlingual translation  وتعني ترجمة الإشارات اللفظية لإحدى اللغات عن طريق الإشارات اللفظية للغة أخرى: )الترجمة التحريرية ----< الترجمة الشفهية

الترجمة من علامة إلى أخرى intersemiotic translation  وتعني هذه الترجمة نقل رسالة من نوع معين من النظم الرمزية إلى نوع آخر دون أن تصاحبها إشارات لفظية وبحيث يفهمها الجميع.

وتعد الترجمة فنا مستقلا بذاته ،فهو يعتمد على الإبداع والحس اللغوي والقدرة على تقريب الثقافات ويمكن البشرية من التواصل والتلاقي بين الحضارات

حيث يعرفها catford بأنها " عملية إحلال النص المكتوب بإحدى اللغات )لغة المصدر( إلى نص يعادله مكتوب بلغة أخرى )اللغة المستهدف النقل إليها( وبذلك فهو يركز على نقل الأثر الذي ينتج عن النص المكتوب وليس مجرد نقل المكونات اللغوية على مستوى المفردات أو القواعد"

أما Holliday فيعتقد أن "المعادل النصي فيما بين نصي اللغة المصدر واللغة المنقول إليها لا يتطلب بالضرورة إيجاد المقابل الشكلي بين هذين النصية على مستوى المفردات أو القواعد ، ولكن إيجاد معادل على مستوى النص بأكمله".

ولهذا فالترجمة الآلية تعرف بأنها عملية تحويل نص مكتوب أو منطوق من لغة إلى أخرى باستخدام تقنيات متطورة عن طريق أجهزة إلكترونية وحواسيب دون الاستعانة بالعنصر البشري. مثلا :موقع غوغل للترجمة – موقع ترجمان tarjim – موقع عجيب ajieb

بينما اعتمدت الترجمة التقليدية وشيدت معالمها على قاعدة غياب المترجم (invisibility) وشفافية النص (transparancy) وطلاقة الترجمة (fluency).

أولا: الترجمة وقضايا النوع الاجتماعي

تبدأ العلاقة الأولى للترجمة بقضايا النوع الاجتماعي ومنذ انطلاقتها في ثمانينيات القرن الماضي[3] والتي ما تزال تلح على الإعمال البحثي بدءا بمقالة لوري تشامبرلين "الجندر والمجاز في الترجمة (1988) والتي ركزت على عدد من الصور المجازية المستخدمة في الإشارة على الترجمة وكأن علاقة النص المترجم هي علاقة امرأة برجل. وهي تشير إلى الترجمة باعتبارها غزوا نصيا واختراقا ثقافيا.

كما تعد شيري سايمون من جامعة كوتكورديا من أبرز الباحثات في مجال دراسات الترجمة النسوية وقضايا الجندر في الترجمة ، من كتبها :

1994 - الترجمة والثقافة في الأدب الكيبيكي.

1996 - الجندر في الترجمة.

2006 - في ترجمة مونتريال.

2011 - مدن في الترجمة.

ومن التعاريف التي ماتزال قائمة حجة بالنظرية النسوية المهتمة بالترجمة في علاقتها بالجندر تعريف الباحثة النسوية ماجي همّ Maggie Humm  التي عرفت الجندر" بمجموعة من الخصائص والسلوكات التي تشكلت ثقافيا ويتم اضفاؤها على الإناث والذكور والنظرية النسوية المعاصرة حريصة على التمييز بين الجنس والنوع"[4].

ولما أعلن استيل فريدمان اعتقاده بأن النساء والرجال لديهما بالتلازم القيمة نفسها، وجد خطاب الحركة النسوية طريقه سريعا إلى الأدب حيث سمي هذا الخطاب النسوي بخطاب الجندر أوالجندرة حيث تتجه الكتابة إلى تأييد خطاب الرجل الذي سيطر على القول لعقود دخلت.

ومن ذلك شكل هذا الخطاب تواجده معبرا عن ذاته في الترجمة بما هي إعادة كتابة من صميم الكتابة الأدبية لتصبح مشكلة الترجمة النسوية التي تبنت استراتيجيات جديدة في ممارسة الترجمة خاصة وهي تتجه إلى اللغة ومع دعوتها إلى التخلي عن تقاليد حرستها ممارسة كتابية تسود إلى الآن.

ومع بداية القرن العشرين مارست النساء العربيات بدورهن الترجمة كشكل من أشكال الاعتراف بهن ككتابات وجسرا للعبور قبل ان تتجوهر القراءة والتأويل في ميدان الأدب.

فتمت الترجمة وفق ما تليه "الايديولوجية النسوية في الترجمة" التي أعادت ترجمة أثار أدبية مجددا نظرا لما يشوب ترجمتها من تشويه للخطاب والحاقها قسرا بالايديولوجية الذكورية.

إن هاجس تحرير الترجمة الأدبية من الغطرسة الذكورية اعتبر أنداك استراتيجية في أفق التحرير الشامل للمجتمع برمته. تقول سوزان لوتينير هوارد "ترجمتي فعالية سياسية تروم جعل اللغة تتحدث باسم النساء ، ما يعني أنني عند توقيعي على ترجمة أفيد استعمالي لكل استراتيجية ترجمية متيسرة بغاية جعل ما هو نسوي واضحا لغويا ،لأن ابراز النساء للعيان في اللغة يعني جعلهن يُرَيْنَ ويُسمعن في العالم الفعلي ،وذلك ما تتحدث عنه الحركة النسوية.

وعلى إثر ذلك تم انتقاد الترجمة الانجليزية التي انجزها هوارد بارشلي (1953) لكتاب سيمون دي بوفوار (1949) واعتبرنها مثلا دالا على النزوع الذكوري في الترجمة بما اعتراها من نقائص تم تداركها لاحقا

ومن نقائص هذه الترجمة حسب أولغا كاسترو سكوت المترجم عن :

العلاقات السحاقية .

سكوته عن أول اتفاقية تخص حقوق المرأة عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية.

سقوط نصف فصل عنوانه "المرأة المتزوجة".

ثانيا: استراتيجيات الترجمة النسوية أو الفجوة النوعية

تعد هالة كمال من المترجمات النسويات المصريات التي أعلنت في مقدمة كتابها "النقد الأدبي النسوي" إلى أنه لا يكفي لترجمة النص النسوي  امتلاك المترجمة والمترجم زمام اللغتين المعنيتين فقط ،بل يوجد عدة شروط لضمان صحة ترجمة النصوص النسوية وهي :

إدراك للمفاهيم الفكرية في النص النسوي.

معرفة بتطور النظرية النسوية ومصطلحاتها.

اتخاذ موقف داعم للفكر النسوي وعارف بالنظرية النسوية وتفاصيلها الواردة في الكتاب الخاضع للترجمة.

وجود وعي بعلاقات القوى الكامنة في حقل الترجمة.

إدراك خصوصية الخطاب النسوي.

التعامل مع ترجمة النص النسوي باعتبارها فعلا سياسيا لا تقتصر على نقل المعرفة والثقافة والفكر ،بل يسعى إلى بناء معرفة جديدة نسوية باللغة العربية.

اتباع استراتيجية التعريب[5].

بينما أشارت لويزفان فلوتوبين )مترجمة نسوية كندية( في مقالتها "الترجمة النسوية، السياقات والممارسات والنظريات" إلى عناصر من عدّتها من ضمن استراتيجيات الترجمة النسوية منها :

الاكمال Supplementing

أن تقوم المترجمة والمترجم بإيجاد معادل موضعي ولغوي في اللغة المترجم إليها تعويض الفجوة التي تحدث لاختلاف اللغات عن بعضها البعض وينتج عن هذه الاستراتيجية تعبير واضح في اللغة المستخدمة في النص الاصلي.

التصدير والهوامش

استخدام المترجم والمترجمة مساحة التقدير والهوامش لمشاركة القارئ الاستراتيجيات والقرارات التي اتخذها والصعوبات التي واجهتها في ترجمة النص [6].

الاختطاف (هيكرة النص)

هو التلاعب باللغة لتحويل وتصحيح النص الأصلي غير النسوي لغويا ،إلى نص واع نسويا وجندريا في اللغة المترجم إليها.

وقد ربطت لويزفان فلوتوبين قضايا اللغة والترجمة والثقافة والنسوية في كتابها "عصر النسوية (1997) "ب:

النسوية كعلم : الفجوة والنوعية.

النسوية كوعي : الإدراك الواعي بالظلم المجتمعي والتاريخي.

النسوية كمقاومة : بناء النسوية كمنهج للمقاومة.

وتعتبر الرؤية النسوية عندها حركة أداة لنشر المعرفة ورفع الوعي النسوي باعتبار تاريخيتها:

الحركة النسوية الأولى : نهاية القرن 19 حتى منتصف القرن 20 مواجهة الحواجز القانونية والحق في التصويت.

الموجة النسوية الثانية : بداية ستينيات القرن 20 وسبعينياته ركزت على المساوات الجندرية وتحرر المرأة والجسد.

الحركة النسوية الثالثة : تسعينيات القرن الماضي إلى الآن .

بينما آمنت بنظرية التقاطعية حيث كلمة نساء لا تعتر عن مجموعة واحدة حيث الهويات متعددة ولا يمكن إغفال هرمية القمع ونظام التمايزات حيث وضعت الهوية الجنسية والعرقية والطبقية كمحور في النظام الجندري.

إن ما أقصده بالترجمة والجندر يتعلق بالعلافة المرصودة بين النظرية النسوية ودراسات الترجمة وخاصة ترجمة النص النسائي إلى اللغة العربية وهو تصور منهجي تخلت فيه الدراسات الثقافية حسب باسنيت وليفيفير " عن مرحلتها التبشيرية باعتبارها قوة معارضة للدراسات الأدبية التقليدية وأصبحت تنظر بدقة أكبر في قضايا علاقات الهيمنة الكامنة في إنتاج النصوص، وعلى غرار ذلك تقدمت دراسات الترجمة فانتقلت من المناقشات التي لا تنتهي حول " التعادل" إلى مناقشة العوامل التي تتحكم في انتاج النصوص عبر الحدود اللغوية" [7]مما يستدعي حزمة من الشروط أساسية لضمان دقة الترجمة لغويا مع صحة نقل الأفكار معرفيا وهي تتشكل كالآتي:

لا يكفي لترجمة النص النسائي امتلاك زمام اللغتين وانما يتطلب الأمر ادراك المفاهيم الفكرية الواردة بالنص والمختفية بالنص النسائي.

ضرورة نحت وصياغة مصطلحات جديدة حيث وجود وعي بعلاقات القوى الكامنة في فعل الترجمة فيما هي فعل تأويلي يقوم فيه المترجم والمترجمة بدور الوساطة بين النص الأصلي والنص المترجم.

إدراك خصوصية الخطاب النسائي من حيث كونه خطابا سياسيا يستهدف تمكين النساء معرفيا.

التعامل مع ترجمة نص نسائي بما هو فعل سياسي لا يقتصر على نقل المعرفة والثقافة والفكر ،بل يسعى إلى بناء معرفة جديدة نسائية باللغة العربية.

ثالثا: الممارسة النظرية للترجمة من منظور نسوي

:مع لورنس فينوتي لا بد للباحث من معرفة مفاهيم أساسية منها

الترويض أم التغريب 

أي ترويض النص لإضفاء سمة الطلاقة عليه لغويا وأسلوبيا بحيث يبدو النص بعد ترجمته وكأنه أصلي غير مترجم مكتوب بلغة المترجم ويحمل روح الثقافة إليها

أما التغريب فهو يتعلق بنقل النص من لغة إلى لغة مع الحفاظ على ملامحه اللغوية والأسلوبية والثقافية عند ترجمته دون ترويضه أو تطويعه بما يساير اللغة والثقافة المنقول إليها

وحيث يذهب فينوتي إلى أن التغريب عند الترجمة إلى الانجليزية يمكن أن يكون شكلا من أشكال مقاومة الاستعلاء العرقي والعنصرية والنرجسية الثقافية والامبريالية يبدو مع ذلك أن الترجمة النسوية هي أقرب إلى اتباع استراتيجية التغريب ،لما فيها من عدم محو للسمات اللغوية والأسلوبية  والثقافية للنص المنقول ، وعدم اخضاع النص المترجم إلى منظومة اللغة المُترجم إليها حتى بعيدا عن سياق الهيمنة ، وبذلك فإن الترجمة النسوية باستنادها إلى الفكر النسوي تستدعي منح الطرف المهمش صوتا، ومقاومة كافة أشكال العنف والتمييز والهيمنة على مستوى الفعل ، أي عند ممارسة الترجمة

ويظهر أنه في حالة الترجمة النسوية يصبح التغريب مضاعفا

مفهوما التعاطف والتوافق

يحصل هذا التقارب الفكري بين المترجم والمؤلف وهذه العلاقة لا تقتصر على وجود توافق واستلطاف بينهما بل وجود هوية مشتركة تجمعهما

وتكمن هنا الأزمة الحقيقية في عدم التخصص، فقد تأتي الترجمة موضوعية لكن مغلوطة بسبب العداء للفكر النسوي بقدر عدم المعرفة بأعماقه وأبعاده ، فتكون النتيجة نصا منقولا حرفيا أكثر من كونه مترجما من لغة إلى أخرى

المترجم والمترجمة المرئية

ويتحدث لورنس فينوتي عن مفهوم "المترجم الخفي"-invisible translator- على اعتبار أن الترجمة ليست فعلا موضوعيا وإنما حصيلة تأويل المترجم إذ النتيجة أنه كلما كان المترجم مرئيا في النص كلما ازدادت موضوعية النص الفعلية

أما المترجمة الخفية فتتناقض منهجيا مع الفكر النسوي الذي يركز على الاعتراف به كأساس للموضوعية وبالتالي على جعل المخفي مرئيا والمسكون عنه مسموعا

ومن ذلك فالترجمة النسوية هي ترجمة كاشفة تشف النص من أوهام قد تشوه الواقع على اعتبار أنها تعتبر الكتابة تأويلا ، وإلى الترجمة بوصفها إعادة كتابة -rewriting- وتمثيلا -représentation- لنص لا نقل له

وقد ركز ديفيد روس على سلطة المترجم في الحاكم على المعنى المقصود والاختيار بين المترادفات خلال عملية الترجمة ولهذا تتجاهل الترجمة النسوية ادعاء موضوعية الترجمة ولهذا تسعى إلى تسليط الضوء على الوجود الأنثوي في النص من خلال تأنيث اللغة بما يعكس تواجد المرأة في النص مؤلفة ومترجمة وذاتا وقارئة

ترجمة الخطاب النسوي-!

 توضح سوزان باسنيت في كتابها عن دراسات الترجمة أن الترجمة من منظور النظرية الأدبية تجمع بين علم اللغويات وبين نظرية التلقي وبين نظريات التأويل والتمثيل.

وتتقاطع النظرية الأدبية مع الدراسات الثقافية مع النظرية النسوية ودراسات الترجمة.

كما أن جياتري سبيفاك في مقالتها "سياسات الترجمة 1993" تطرح فكرة استسلام المترجمة للنص وانصياعها للنص الأصلي من منطلق كون "الترجمة هي أكثر افعال القراءة حميمية".

فيم تطرقت باربارا جودار في دراستها "التنظير للخطاب النسوي/الترجمة النسوية" إلى مفهوم الترجمة باعتبارها إعادة كتابة للنص الأصلي -rewriting- على أساس أن الترجمة بمثابة انتاج للنص لا محاكاة وتكرارا ولد في لغة أخرى ، فعلى حد قول شري سايمون على أعتاب السياسات الواعية التي تطبقها البحوث النسوية ما قالته عن حقيقة تلك المواقع التي انكسفت والتي قيل إنها عالمية)الثقافة العظمى، وشرعة الكتب العظمى والتموذج الثقافي (.فاتضح أنها تعبير في جوهره عن قيم ذكور الطبقة المتوسطة البيض [8]

الترجمة النسوية للنص الأدبي السردي-2 -

تنصت الترجمة النسوية إلى الصوت السائد والاصوات الخفية كما تتمثل سمات هوية الرواية والبطلة والمؤلفة ومدى تمتع المرأة بسلطة السرد وتمثيل الذات أي مدى ظهور المرأة في النص وتغييرها عن حياة النساء والموقف الايديولوجي الذي يعكسه النص بشأن علاقات القوى الجندرية.

عندما نترجم نصا نسائيا غالبا ما يتبادر إلى ذهن المترجم أو المترجمة المتفاعلة مع القوى الجندرية  أسئلة من قبيل

من يقوم بدور البطولة؟ كيف يتم تصوير الشخصيات النسائية؟ هل يتم تصوير الجنسين في أدوار نمطية؟ كيف يتم تصوير/تنميط الانوثة والذكورة في النص؟ هل  يحدث تطور للشخصيات النسائية؟ في أي اتجاه؟ ما هي سمات الهوية وسياساتها في النص؟ من صاحب الصوت المهيمن على النص؟ من يقوم برواية النص – راوي أو راوية؟ هل توجد تعددية في الأصوات ووجهات النظر؟ من يتحكم في وجهة النظر السائدة في النص؟ هل تقوم الشخصيات النسائية بالتعبير على تجاربها من منظور نسائي؟ أم أن المنظور السائد يعكس الهيمنة الذكورية وفيم المجتمع الأبوي؟ كيف يتم تصوير الصراع في النص الأدبي؟ هل هو صراع داخل الشخصية النسائية؟ ما أوجه هذا الصراع؟ هل هل صراع بين الشخصية النسائية وشخصيات تمثل أنماط مجتمعية؟ كيف ينتهي الصراع؟ هل تخضع الشخصية النسائية للقيم السائدة أو تنجح في ايجاد بدائل؟ ما أوجه الصراع بين الرجل والمرأة في النص؟ هل توجد ملامح معينة تتسم بها الشخصيات النسائية في النص من حيث تكرار بعض المفردات أو استخدام صور مجازية معينة أو مستوى ما من اللغة ،ما هي أهم السمات الأسلوبية المستخدمة في النص مثل مساحات الصوت والصمت والمسكوت عنه؟ وهل يحمل النص نبرة استضعافية أو استعلائية أو تحريضية وما دلالتها؟ ما علاقة النص بالنوع الأدبي الذي ينتمي إليه؟ ما الرسالة التي يحملها النص فيما يتصل بعلاقة القوى بين الجنسين؟

خاتمة

تعتبر الترجمة من الأساليب الأساسية لفرض المعنى مع إخفاء علاقات السلطة التي تكمن خلف إنتاج ذلك المعنى، فين تخفي الترجمة علاقات السلطة عن المتلقي تضيف قوتها الرمزية إلى علاقات السلط التي تدور في فلكها، كان ذلك ما حاولت الدراسات الجندرية كشفه باستعمال النقل عبر الثقافي والذي تجسد في مدى استيعاب النظام الأدبي الأنجليزي لرباعيات الخيام مثلا والتي ترجمها فيتزجيرالد استيعابا كاملا حتى تجاوزت إطار الترجمة.

ولما نحت  النظرية الأدبية بالنسبة للفكر النسوي قضايا كالتمثيل   representation  والمنظور  perspective والصوت  voice تم التركيز على سلطة التمثيل لما له من دور في ترسيخ التنميط وتشكيل الهويات، وهو جانب أساسي في إعلاء الصوت النسائي في النص الأدبي في تعرية المسكوت عنه والكشف عن مواقع القهر والتمييز.

المراجع

[1] - سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير، بناء الثقافات مقالات في الترجمة الأدبية، ترجمة محمد عناني، نشر مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط1، سنة 2017، ص: 186

[2] -هالة كمال ،النقد الأدبي النسوي ص: 15.

[3] - وتعتبر مدينة كيبك الكندية مهد الترجمة النسوية في الثمانينات.

[4] -(Maggie Humm «gender in the dictionaty of feminist theory » p84)

[5] - هالة كمال ،النقد الأدبي النسوي ص: 9

[6] - كانت هالة كمال سباقة إلى استعمال هذه الاستراتيجية، وكذا زندة أوبكر في تصدير كتابها المترجم "النسوية والدراسات الدينية (2012).

[7] - سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير، بناء الثقافات مقالات في الترجمة الأدبية، نفس المرجع السابق، ص: 196.

[8] - عن سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير، بناء الثقافات مقالات في الترجمة الأدبية، ص: 199.

 

الترجمة والجندر : اللغة من الترجمة الآلية إلى الترجمة الثقافية
Partager cet article
Repost0
27 septembre 2023 3 27 /09 /septembre /2023 22:43
المنهج السيميائي: من سؤال النقد الأدبي إلى السؤال المرجعي للمؤنث

المنهج السيميائي

من سؤال النقد الأدبي إلى السؤال المرجعي للمؤنث

د. ادريس عبد النور

دراسة محكمة

أستاذ محاضر مؤهل بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس – مكناس /المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية وعلوم التربية و الدراسات الجندرية والثقافة الرقمية

Abdennour.driss@gmail.com

 

ملخص

لعل من أبرز مقومات المناهج النقدية الحديثة قوة وقدرة على الوصول إلى أعماق العمل الأدبي، تكمن في إثارة الأسئلة، ومحاورة الذات والآخر بغية الوصول إلى إجابات مقنعة عن أسئلتها، ويشكل النموذج اللغوي ضمن المناهج النقدية نقطة مهمة أثْرَت حقل المنهجية الحديثة، وأنارت طريقها بدءً من النموذج البنيوي، الذي أنتج المجتمع من خلاله قيما جديدة تجلت في الصورة على شكل مفاهيم في بداية الستينيات، مرورا بالنموذج البنيوي التكويني الذي أعاد للذات الكاتبة اعتبارها، مُجَدِّدا ومخالفا بذلك أحكام النقد الشكلاني والبنيوي السابق، بحيث انقلب رأسا على البنيوية التي عملت على تقويم النص، مع الانتقاص من قدر المؤلف، بحيث نزع النقد التكويني القدسية عن النص وأطاح بمكانة مفهوم الأثر الأدبي، فانفتح بذلك انغلاق النص البنيوي عندما حل "ماقبل النص" مكان النص، خاصة مع الاستفزاز النقدي الذي دفع بالناقد جاك بوتي Jacques Petit لكتابة مقالته الشهيرة " لاوجود للنص" (1975م). مرورا بالمنهج السيميائي، الذي وسع من دائرة البنيوية، باعتباره:" أداة لقراءة كل مظاهر السلوك الإنساني بدء من الانفعالات البسيطة ومرورا بالطقوس الاجتماعية، وانتهاء بالأنساق الأيديولوجية الكبرى" ([1])، وأبعدها عن تشبثها باعتقاد امكانيتها في تحديد النصوص دون الاكتراث لمعانيها، على أساس أن المعنى كيان جاهز يمكن الامساك به خارج الرصيد المعنمي المودع في ذاكرة المعجم اللغوي، وبذلك انخرط المنهج السيميائي في عملية الكشف عن المعاني المودعة في الأشياء معتبرا المعنى نتاج نسق "ما"، يشكل أساس التحكم في إنتاجه، ونتاج روابط متحكمة بمصيره، وجزءا لا يتجزأ من سيرورة تكونه، كما أنه لا ينفصل عن الواقعة الثقافية التي تبنيه انطلاقا من المعارف التي يشير إليها النص، فأكدت السيميائيات بذلك أن العالم  دلالات، وأن المعاني ليست كيانات جاهزة

الكلمات المفاتيح: المنهج السيميائي، النقد الأدبي ، شارل ساندرس بورس،السيميائيات، المؤنثالسيميائي

Sommaire :

L'une des composantes les plus importantes des programmes critiques modernes est peut-être la force et la capacité d'atteindre les profondeurs de l'œuvre littéraire, qui consistent à soulever des questions et à dialoguer avec soi-même et l'autre afin de parvenir à des réponses convaincantes à leurs questions. Le structuralisme, à travers lequel la société a produit de nouvelles valeurs qui se sont manifestées dans l'image sous forme de concepts au début des années soixante, en passant par le modèle structurel formatif qui a restauré l'auto-considération de l'écrivain, renouvelant et violant les dispositions du formel précédent et la critique structurale, pour qu'elle bouleverse le structuralisme qui travaillait à l'évaluation du texte, avec La dévalorisation de l'auteur, pour que la critique formative dépouille le texte de sa sacralité et renverse le statut du concept de trace littéraire, ouvrant ainsi la fermeture du texte structurel quand « l'avant-texte » a remplacé le texte, surtout avec la provocation critique qui a poussé le critique Jacques Petit à écrire son célèbre article « Il n'y a pas de texte. » (1975 ap. J.-C.). A travers l'approche sémiotique, qui élargit le cercle du structuralisme, comme : un outil de lecture de tous les aspects du comportement humain, en commençant par les émotions simples et en passant par les rituels sociaux, et en terminant par les grands systèmes idéologiques, et loin de s'accrocher à la croyance qu'ils peut définir des textes sans prêter attention à leurs significations, sur la base que la signification est une entité prête qui peut être tenue en dehors de l'équilibre sémantique déposé dans la mémoire du lexique linguistique, et ainsi la méthode sémiotique a été impliquée dans le processus de révélation de la sens déposés dans les choses, considérant le sens comme le produit d'un système « quelque », qui constitue la base pour contrôler sa production, et le produit de liens contrôlant son destin, et une partie intégrante du processus de sa formation, car il est inséparable de la réalité culturelle qui le construit sur la base des savoirs auxquels le texte se réfère, la sémiotique a donc confirmé que le monde est sémantique, et que les significations ne sont pas des entités toutes prêtes.

Mots-clés : méthode sémiotique, critique littéraire, Charles Sanders Burrs, sémiotique, Féminin Sémiotique.

ترشيف الدخول

اتجه النقد الحديث إلى تسجيل لحظات أساسية في تلقي النص الأدبي، من ميلاد القارئ المُساهم في معنى النص، إلى الكتابة عن النص والاحتفال به وتأويله بما يخرج عن الرأي الشائع، حيث أصبح النقد مُغَلِّبا خاصية المغالاة على الإحاطة بحدود النص، يقول رولان بارت في هذا الشأن: " ينبغي أن يكون ٍ[النقد] مغاليا بطبيعة الحال. فالنقد الذي يبقى حبيس الرأي الشائع لن تكون له خصلة مميزة أو طعم خاص" ([2])

وقد استمر المشروع البنيوي على النهج الذي بدأه الشكلانيون عقب تشتت وتيه الوسائط التقليدية بين القراءة والنص الأدبي، وأمام الرعب من فوضى التفسير لجأت البنيوية إلى مفهوم العلمية التي وفرها النموذج اللغوي، واكبتها في ذلك دعوتها إلى علمية النقد على يد رولان بارت التي وصفها ب: " علم شروط المحتوى"، للخروج بالنقد الأدبي من دوائر القراءات والتفسيرات الانطباعية.

ثم بدأ الإحتفال المعرفي بالنص يتجه نحو التأويل، الذي انطلق مع السميائيات، يقول ميشيل جاريتيMichel Jarrety في ذلك إن:" هدف البنيوية هو تبيان العلاقات القائمة بين عناصر النص لاستخلاص البنيات المجردة التي هي الموضوع الحقيقي للبحث. وعلى حين أن النقد التأويلي يربط شكل العمل الأدبي بمحتواه"([3])

وهنا لابأس من التطرق إلى بعض المكونات النظرية لأشهر المناهج النقدية السالفة الذكر لمعرفة منطلقاتها وبعض أسسها وآليات اشتغالها وخلفياتها المرجعية، التي قامت عليها تحليلاتها التطبيقية، والامساك بعدد من المفاهيم الإجرائية التي اعتمدت عليها في تحليل الخطاب الأدبي، فأصبحت من بين الأدوات التحليلية لكل ناقد عربي، حيث أصبحت هذه المناهج الثقافية ومن أهمها: البنيوية التكوينية والسيميائيات والتفكيكية نبراسا لكل ناقد يلج مجال الاشتغال على النص الأدبي، وشكلت معالم نقدية واضحة، تم بواسطتها تجلية أسرار النص وفك عوالمه المعنمية، خاصة وهي تتعاطى بالتحليل للسرد النسائي: القصصي والروائي

سنعمل في قراءتنا هاته على كشف الأطر المنهجية التي ينتظم فيها الفعل النقدي الأدبي، مع العلم أن الكشف عن المدارس النقدية وحضورها في الكتابة النقدية والإبداعية له أهمية منهجية في فهم الواقع النقدي، ليس فقط من أجل احتوائه بل أيضا من أجل تجاوزه

المنهج السيميائي

النموذج التأويلي

بعد أن تحرر النص الأدبي من صرامة القيد المنهجي المعتمد على اللغة، وبعد أن اعتُبر الخطاب حول النص نصا مستقلا بذاته يَتَجَدَّد بتعدد القراءات التي تحيل على أنه لم يكتمل بعد، على أساس أن تعدد قراءاته يبقيه في حيّز النص غير المُنجَز، يبدأ النموذج التأويلي تطلعاته النقدية السيميائية ذات المنزع اللساني مع فرديناند دوسوسير([4]) ،الذي فتح الباب أمامنا للتعرف على النص الأدبي، فأخذ النقد الأدبي يكتشف عجز البنيوية على استكناه كل الأسئلة المطروحة على النص، وصار النص وحدة تتجه إلى أهدافه المعلنة وغير المعلنة معتمدة على حقيقة ما يتحقق مع اللغة كما يراها جاك ديريدا Dérida Jacques( 1930-2005م)، الذي أعلن أن لا حقيقة خارج النص الذي يشكل بدوره رافدا من روافد الواقع الاجتماعي

وقد شكلت اللغة النموذج الأول للنموذج الثقافي الذي بدأ في التشكل مع السميائيات التأويلية، واكتمل مع التفكيكية والهرمنوطيقا، لكن تم الإتفاق بين هذه النماذج حول ما يشكله التمركز الغربي من حضور حول الذات والعقل، وما تستوجب أنماط تجلّيه من خلخلة وتفكيك، فتمكن شتراوس من خلخلة تمركز الغرب حول ذاته عندما رد الاعتبار للشعوب اللاكتابية وجعلها لا تقل منطقية عن منطقية الإنسان الأوروبي([5])

كما تم الإتفاق أيضا على أن مكونات هذه المناهج تكمن فاعليتها خارج النسق اللغوي، وبذلك اتصفت نظرية شارل ساندرز بورس Charles Senders PEIRCE (1839-1914م) السيميوطيقية([6]) بالسيميائية ذات المنزع المنطقي، كما اشتهرت بالتحديد الشامل والأكثر عمومية الذي أعطته لعلم العلامة، من حيث أن بورس جعل من العلامة ونسقها أساسا للعالم، يقول عن ذلك إيميل بنفنيست: "إن بورس ينطلق من مفهوم العلامة لتعريف جميع عناصر العالم سواء كانت هذه العناصر مفردة أو عناصر متشابكة، حتى الإنسان – في نظر بورس – علامة، وكذلك مشاعره وأفكاره، ومن اللافت للنظر أن كل هذه العلامات، في نهاية الأمر، لا تحيل إلى شيء سوى علامات أخرى"([7])، فهي [أي العلامة ] تقدم نفسها متجاوزة للمعطى المباشر باعتبار انتمائها إلى صفة الإنساني، وهي تتسرب إلى الذهن كفكرة عن الشيء، وليس الشيء ذاته، محيلة العالم إلى تمفصلات ممكنة للمعنى، وهي بالإضافة إلى ذلك تقدم نفسها إلى المتلقي كوحدة موضوعية ممتلئة بالتساؤلات حول المعنى الذي يحيل إلى  التساؤل عن معنى النشاط الإنساني وعن معنى التاريخ، داخل نسق من التوالد اللامتناهي للتدليل، والذي استوجب من إميل بنفنست إقرارا بوجود اختلاف بين العلامة والمدلول حتى لا تندثر العلامة، خاصة وأن أمر اكتفائها بذاتها أمر مستحيل ما دام "الأول" يحيل على " الثاني" عبر " "ثالث" هو نفسه قابل لأن يتحول إلى " أول " يحيل على " ثان" عبر " ثالث" جديد.([8])

إن تكوين العلامة  الثلاثي (ماثول- موضوع- مؤول) هو بالتحديد استعادة للتقسيم الثلاثي الذي يحكم عملية إدراك الكون، وضبط قوانينه كما يقول د. سعيد بنكراد ولهذا :" فإن استيعاب كنه العلامة وطرق اشتغالها ونمط الاحالات داخلها مشروط بفهم إواليات الإدراك الذي يستند ، عند بورس" إلى النوعية والاحاسيس (أول) ، وإلى الموجودات الفعلية  (ثان)، وإلى رابط الضرورة والفكر والقانون (ثالث). ومن السهل جدا وضع هذا الترابط  ضمن منطق الإحالات الخاصة بالعلامة: والأول يحيل على الثاني عبر أداة التوسط التي يمثلها الثالث. وبعبارة أخرى، فإن الأحاسيس والنوعيات هي معطيات عامة (أول) تُصب في الموجودات الفعلية (ثان) وذلك عبر قانون يضمن دوام الإحالة وتحديد وجودها استقبالا (ثالث)" ([9])، وسنمثل هذا التصور في الخطاطة التالية:

* السيرورة التأويلة عند بورس:

لقد ساهم شارل ساندرز بورس في بناء رؤيتنا للوقائع والعالم، من خلال تركيزه على ما تحمله الواقعة من طاقة لإنتاج الدلالة من جهة، ومن خلال اعتبار حضور العلامة الذي يغطي في الآن معا إنتاجها للمعنى وتلقيها له، حيث اهتم بالكيفية التي تنتج بها علامة ما علامات أخرى، كما أبرز وظيفة الدلالة المفتوحة "سيميوزيس" sémiosis ، أي السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالة وتداولها والتي تتناسل فيها أنساق العلامات ودلالاتها دونما نهاية محتملة لتخومها، وخاصة ما يتعلق بمظاهر السلوك الثقافي، مع تأكيده على الطابع الثلاثي للعلامة الذي يتكون من ماثول «représentamen »( كمستوى تركيبي) وموضوع » « objet(كمستوى دلالي له علاقة بالعلامة) ومؤول  «interprétant » (كمستوى تداولي في علاقته بالعلامة) والذي يعتبر حجر الزاوية في تعريف ووجود هذه العلامة، وفي أشكال تجلياتها، وهو يستقي عناصر تأويله من مصادر متنوعة منها الثقافي والأيديولوجي والخرافي والأسطوري والديني، فبورس يرى أن كل مفهوم معرفي إذا ما فُهم على أنه علامة أو رمز فله ثلاث وظائف أساسية هي الوظيفة: الأيقونية والإشارية والرمزية، من تم، فالسيميائيات في نظر بورس، وكما يعرفها السيميائي المغربي د. سعيد بنكراد: "ليست صنافة جامدة تدرج أنواع العلامات في خانة قارة بشكل نهائي، إنها، على العكس من ذلك، ترد كل الأنساق إلى حركية الفعل الإنساني، إنها تجعل من الانسان علامة وتجعل منه صانعا للعلامة وتقدمه كضحية لها في نفس الآن" ([10])

وينتقل هذا الحضور داخل الفعل الإنساني بين الماضي والمستقبل دون قطيعة بالنسبة للإحالات التي تولدها العلامة في الحاضر من حيث أن استيعابها في شكلها الكلي لا يقول بموتها، بل يوحي بانتقالها إلى نسق دلالي جديد ينبعث من قابلتيها للامتداد في فعل العلامة واستمرارها في الذات المؤولة، بمعنى أن العلامات الثقافية لها دلالتها المحلية المرحلية التي تحيل عليها العلامات مباشرة، أي دلالة المعنى الحقيقي المباشر DENOTATION وهي دلالة عينية، لكن هذه العلامات تتحول إلى دوال ذات دلالة أخرى في مرحلة أخرى مشبعة بالإيحاء، أو ما يسمى بظلال الدلالة CONNOTATION وهي دلالة مجازية، كما سنبينها هنا

واقترح رولان بارت في كتابه"الأساطير" ما يشكل حقل الدوال حقل العبارة، وما يشكل حقل المدلولات، حقل المحتوى كما رسمناه هنا في  الترسيمة التالية: التدليل الرئيسي عند بارت  

يرى بارت، حسب الشكل الذي اقترحناه أعلاه، أن باقة الورد مجرد دال إذا كانت العاطفة دلالتها، وهكذا يكون لدينا مصطلح جديد: هو العلامة- التي هي نفسها باقة الورد- نتج عن اتحاد الدال والمدلول معا في "باقة الورد" ، ولهذا فباقة الورد هي علامة نتجت عن اتحاد الدال والمدلول، وهي بوصفها كذلك تختلف عن باقة الورد بوصفها دالا أي بوصفها وحدة زراعية نباتية، فباقة الورد كدال شأنها في ذلك شأن الدال اللغوي، مفرغة من الدلالة، لكنها كعلامة تكون مشحونة بالدلالة لا بسبب وجودها كنبات، ولكن نتيجة المزج الحاصل بين القصد البشري وطبيعة المجتمع وصيغ أعرافه وتقاليده وأدوات اتصاله.

إن التطور الحاصل في مجال السيميائيات، انتقل بفعل تأثير جماعة موسكو تارتو (école tatu) إلى سميائيات ثقافية تنظر إلى الثقافة على أنها من المولدات القوية للمعنى، على اعتبار أنها نظاما دالا كبيرا Macro Système حسب يوري لوتمان Youri Loutmanالتي بلور فيها فياتشلاف. ف. إيفانوف v.v.Ivanov مفهوم"النموذج" فوصفت الأنظمة السيميائية بكونها أنظمة مندمجة يؤسس فيها العالم أساس التصور المحمول في اللغة، على اعتبار: "أن اللغة الطبيعية تحمل في طياتها "نسقا للعالم"، أي أن البشر يودعون في اللغة نظرتهم للعالم "([11]).

 سميائيات الثقافة

لقد أصبح الإنسان مدركا للأشياء من خلال بعدها الرمزي، غير منفصلة عن نسق ما من العلامات التي تحدد تكامله وانسجاميته كل المعاني المودعة خلسة في النصوص المشتملة على تلك الأشياء، والتي يتم تأويلها وفق غايات نفعية مرتبطة بما يوفره المحيط والقارئ والسياقات الخارج – نصية من إمكانية لإنتاج المعاني الناتجة عن العناصر التأويلية التي تمنحه انفتاحه وتنوعه، وتعود إلى الأيديولوجيا والأسطورة والدين.

  المؤنث وذكورية المنهج السيميائي

تقارب الكتابة النسائية موضوعا مُغلَّفا بالعديد من الطابوهات التي تتوالد في اللغة من جهة، وفي المناهج النقدية من جهة أخرى من حيث أن : الجندر"- على عكس النقد الجنثوي المعني بالكتابة الأنثوية- وعلى عكس مفهوم  "الأنثوية " في فكر ما بعد البنيوية هي استكشاف لكل ما ينجم عن نظام الجنس التكويني والجنوسة من حفر أيديولوجي وتأثيرات أدبية"([12]).

 إن سيطرة الرجل على السياقات اللغوية المتنوعة بما فيها الخطاب الرمزي بكل أشكال الدعم الديني ،الفلسفي، القانوني والأدبي والفني، جعلته يعزز مركزيته القضيبية Phallogocentrisme، بما هي منظومة تجعل الكتابة موضوع تهميش ومحو، وتُعلي سلطة القضيب والقيم التي تجعل الرجل سيد المرأة، وتجعل التفكير تأكيدا للهوية وإنكارا للاختلاف، من ذلك اعتبر الرجل مجال اللغة بشكل خاص مجالا حيويا مَوْضَع فيه رؤيته للعالم، واختصره إلى مصطلحات تنتمي لهذه المركزية، كما أخضع لسلطته الأشياء والأشخاص بما فيها المرأة التي لم تعد كما في السابق: "كائنا شفاهيا لا تملك سوى الخطاب الشفوي البسيط الذي ظلت المرأة محبوسة فيه على مدى قرون من التاريخ والثقافة. ولم تعد كائنا ليليا لا تحكي إلا في الليل ولا تتمثل لها اللغة إلا تحت جنح الظلام، وإذا حل الصباح سكتت عن الكلام المباح" ([13]).

فعندما تُقارَب وضعية المرأة من طرف المنهج البنيوي تصطدم صورة المرأة بلغة تنتشي بعمق ذكوريتها، ونفس الصورة تنتجها بعض المناهج الثقافية مابعد البنيوية، كالبنيوية التكوينية والسيميائيات التي تتعاظم فيها نظرة الإقصاء ودونية المرأة لسببين:

أولا: بسبب البناء الذكوري للمفاهيم.

ثانيا: بسبب البعد السياقي، الذي يضيف الحضور والتألق للمناهج الثقافية، ويُذكي الاغتراب الثقافي للنساء، الشيء الذي دفع بالمرأة وفئة الكاتبات خصوصا إلى الكتابة بالجسد للتعبيرعن الحضور الذاتي لمواجهة الخطاب الذكوري المركزي.

إن الجسد الأنثوي يمنحنا كمتلقين بؤرة التفاعل مع ثقافة مجتمع ما، ومن هنا نستخلص أن النموذج المثالي للجسد هو الذي يعزل باستمرار كل الاختلافات حول طبيعته المادية إلى حدود التحييد الشامل للإختلاف الجنسي، ليصبح جسدا صافيا خاليا من كل الأبعاد الدلالية التي أُلصقت به. فالجسد الأنثوي يجعل النص السردي مكشوفَ كل الأبعاد الإنسانية، ويتمثل في مادية النص وقد أكد د. سعيد بنكراد على أن غياب الجسد الأنثوي داخل النص الروائي بمثابة غياب للنص ككل (جاء ذلك في سياق تطرقه بالتحليل لرواية الضوء الهارب لمحمد برادة،([14])، وقد طرح سببين لتعليل ذلك حيث قال: " يكمن الأول في أنه إذا كان بالإمكان التخلص من بعض الشخصيات الرجالية دون الإخلال ببناء النص، فإنه يستحيل فعل ذلك مع شخصية نسائية واحدة دون أن تنهار الرواية. ويعود الثاني إلى أن الخطاب في كليته مؤسس على "دورة كلامية" تقود من "أنا" مذكرة تؤسس عالمها انطلاقا من "أنتِ" مؤنثة. إن أي إخلال بهذا "النظام التلفُّظي" هو إخلال بنظام القيم المبثوثة في النص."([15]).

إن الجسد الأنثوي ينتمي بقوة القيم الاجتماعية إلى الحقل السيميائي وخاصة الحقل التواصلي، فالجسد الأنثوي في النص الأدبي يتحرك باعتباره أفقا سرديا مشمولا بضرورة الحضور الفيزيائي،  وخاصة حضور النسق الابستمولوجي للثنائيات الذي يجعل السيميائيات منهجا ثقافيا، ولهذا فأنتَ لوحده في السرد عقم تُؤدي في النهاية إلى سرد نرجسي يتمركز حول ذاته، من هذا المعنى، فالذكر بالسرد لا يتمكن من الحضور المطلق، الفاعل، المقدس إلا بوجود أنتِ المؤنثة، من حيث أن الرجل لايستطيع أن يتحدد بوصفه رجلا إلا من خلال مقابل له، أي المرأة، والتي يضعها على أنها آخر أو "لا رجل"، فهو هنا لايخص نفسه بقيمة إيجابية إن لم يخصها هي بقيمة سلبية مقابلة، ولذا لا تكون المرأة مجرد آخر مطلق بل هي "آخر" متعلق بالرجل صميميا بوصفها الصورة لما ليس هو، وهكذا يحتاج الرجل إلى هذا الآخر كي يكون ماهو عليه في النسق الثقافي، حتى وهو يقصيه ويهمشه، ولهذا فالحضور المطلوب هنا هو حضور شكلي يمنح المرأة الدور الثانوي الحريمي، بما هي غائبة عن الفضاء العام ومكان القرار، وحاضرة في فضاءات ذات الطابع الحريمي والأنثوي، ويأتي حضورها الشكلي فقط ليعيد التوازنات لمكونين ذكوريين أساسين هما :

1 النظام التلفظي.

 فحيث أن هناك علاقة وطيدة تربط بين الكلمة/ اللغة والسلطة لدرجة أن رغبة أحدهما تتحقق في الاستيلاء على الآخر، يصبح خطاب اللغة بالسرد سلطويا يحافظ على صورة الذكر بصورة آلية، لأن أي تغيير في هذا الخطاب يفترض اقتسام هذه الامتيازات مع المؤنث، ويعني ذلك نفوذا أقل للمذكر، ولهذا فحضور المرأة يمنح الذكر كلية الحضور، ويمنحه سلطة المراقبة والفعل، ولهذا فالنظام اللغوي التلفظي يعمق الاختلافات بين الجنسين.

الإخلال بنظام القيم المبثوثة في النص.2

إن العمل الأدبي يقرؤنا بقدر ما نقرؤه، والقيم المبثوثة في النص هي قيم مجتمع تأسست على إقصاء الأنثى كجوهر، والإبقاء عليها في الهامش لتحيل فقط على الجسد العام وتميزه، وهذا الوضع يحتاج نقدا شموليا مغايرا تماما لما سبقه، لتفكيك الترابط الغامض الذي يترسخ عبر وساطة القراءة واللغة، فالرسالة الغامضة تجعل المُرسَل إليه غامضا بتعبير رومان ياكوبسون، وهذا الغموض يعتبر من أهم أدوات السلطة، ولهذا لا يبرز تفوق الذكر الحامل لرؤية وقيم مجتمع ذكوري إلا مع وجود الأنثى، حيث وجودها الضروري بالسرد يعزز العلاقة السلطوية بين المرسل العارف (كامل العقل) والمرسل إليه الجاهل (نصف عقل)، وأعتقد أن الجسد العام المعني هنا يُغَلِّبُ الجسد المذكر على المؤنث.

إن الجمع التشاركي بين الذكورة والأنوثة يجعل من الأنوثة دالا وتصبح الذكورة هي المدلول، أما العلاقة بين هذه الثنائية فهي تنتج الحد الثالث أي تصبح هنا الأنوثة علامة، وهي بوصفها كذلك مختلفة كليا عن الأنوثة بوصفها دالا، وبهذا المعنى وحسب السيرورة التأويلية لبورس يكون المذكر معطىً عاما يحيل على المؤنث عبر قانون النسق الثقافي.(أنظر الجدول التالي)

المؤنث في البناء السردي السيميائي

إن الأنوثة هنا باعتبارها دالا فهي فارغة، أما كعلامة فهي مليئة بنفس قيم المجتمع المألوفة، فأنتِ المؤنثة بالسرد عندما تغيب يغيب المدلول المحدد وهو التميُّز الذكوري، ولهذا أصبحت الأنثى علامة، ومن ذلك ينهار السرد بدون أنثى في المنهج السيميائي، إذ حضورها الشكلي بالسرد، يجعل المذكر قويا ومتميِّزا في مرتبة اللغة والمجتمع.

خاتمة

جاء المنهج التفكيكي بعد ذلك معتمدا على منهجية الحفر والتنقيب فيما هو مغيب في الخطاب الفلسفي والأدبي، متخذا من الانفتاح على النص وعلى إمكانياته التأويلية مَعْبَرا واستراتيجية لفتح التأويل على مصراعيه، كما احتفل بذلك جاك ديريدا في نصوصه النقدية التي تُقْرِن عملية قراءة النص بعملية فض "بكارة" أنثى أسطورية، بمجرد "اختراق" غشاء بكارة النص، يلتئم الغشاء من جديد ليعود النص بكرا ينتشي بحالة عذريته واستعصائه على قارئه، وهو يحقق في القراءات المتتالية للنص نفسه عملية إرجاء مستمرة للمعنى، ولم يتم تجاهل نتائج الدراسات النفسية والاجتماعية والجمالية ومناهج النقد الأدبي المعاصر، وخاصة جمالية التلقي والتفكيك والنقد الثقافي كما تم تجاهلها مع البنيويين والشكلانيين الذين ركزوا فقط على التحليل الألسني للنص

المراجع

  1. - د. بنكراد سعيد، " السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها" منشورات الزمن، شرفات، الكتاب رقم: 11، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، سنة: 2003، ص: 16.
  2. - بارت رولان،" النقد والحقيقة" ترجمة إبراهيم الخطيب، مراجعة: محمد برادة، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، الطبعة الأولى، سنة: 1985، الصفحة: 120.
  3. - جاريتي ميشيل،" النقد الأدبي الفرنسي في القرن العشرين"، ترجمة د. محمد أحمد طجو، النشر العلمي والمطابع، جامعة الملك سعود، الرياض، الطبعة الأولى، سنة 2004، ص: 73.
  4. - الغانمي سعيد، "معرفة الآخر مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة" تأليف جماعي، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، الطبعة الأولى، حزيران 1990، ص: 58.
  5. - بنفنيست إيميل، "سميولوجيا اللغة في أنظمة العلامات" تعريب حنون مبارك، مجلة دراسات أدبية ولسانية، المغرب، عدد: 2 ، سنة: 1986، ص: 172-173.
  6. -Benveniste (Emile) : Problèmes de linguistique générale Π , éd Gallimard,
  7. - د. بنكراد سعيد، "المؤول والعلامة والتأويل –بصدد بورس- " مجلة علامات ، العدد: 9 سنة 1998، ص: 93..
  8. - د.بنكراد سعيد، " السيميائيات والتأويل، مدخل لسيميائيات ش.س.بورس" المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، سنة: 2005، ص: 28.
  9. - عواد علي وآخرون: معرفة الآخر.." نفس المرجع السابق، ص 107.
  10. - د. الرويلي ميجان ود. البازعي سعد " دليل الناقد الأدبي.." نفس المرجع السابق، ص: 152
  11. - الغذامي محمد عبد الله: المرأة واللغة – 2 – ثقافة الوهم مقاربة حول المرأة والجسد واللغة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،الطبعة الأولى، سنة: 1998، ص: 128.
  12. - د. بنكراد سعيد ، الجسد بين السرد ومقتضيات المشهد الجنسي، مجلة علامات، العدد: 6، سنة 1996،ص: 28. التشديد منّي
 
 
المنهج السيميائي: من سؤال النقد الأدبي إلى السؤال المرجعي للمؤنث
Partager cet article
Repost0
7 septembre 2023 4 07 /09 /septembre /2023 12:55
	اللغة والتفكير: مقاربة معرفية

اللغة والتفكير: مقاربة معرفية

دة/ حنان الغوات

دراسة محكمة

أستاذة التعليم العالي مساعدة

بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/ مكناس

elghhanan@gmail.com

ملخص البحث

يندرج موضوع هذا البحث ضمن مجال العلوم المعرفية. ويتخذ من العلاقة بين اللغة والتفكير مدار اهتمامه، وذلك عبر المناحي الثلاثة الآتية:

منحى معرفي: عبر إبراز نظريا سيرورة فهم اللغة، وعلاقتها بالتفكير.

منحى لغوي: من خلال رصد مظاهر التفاعل بين عمليات فهم اللغة في أبعاده المختلفة: معجمي، تركيبي، دلالي؛

منحى بيداغوجي: عبر الانفتاح على أهمية التفكير في بناء اللغة ومحاولة أخذها في الاعتبار أثناء تعليم/تعلم اللغة.

ويمكن لهذه المقاربة المتبعة في هذا البحث، أن تشكل مدخلا شاملا لفهم صعوبات فهم اللغة، وخاصة فيما يتعلق بالربط بين الكلمات والعبارات ومعانيها داخل نمط تفكير لغة معينة، كما من شأنها تعرف أهم النماذج المفسرة للسيرورات المعقدة التي تهم فهم اللغة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المعالجة المعرفية للغة هي عبارة عن تركيب ذهني تنصهر فيه عدة تمثلات، وكثير من العمليات/ السيرورات، وتتدخل فيهما عدة عوامل قد لا تنتمي إليهما جوهريا، وذلك بحكم طبيعة المعالجة والفهم المعقدين. وهي عوامل تتعلق عموما بالذات، ثم السياق.

Abstract

The topic of this research falls within the field of cognitive science. He takes the relationship between language and thinking as the focus of his attention, through the following three aspects:

Cognitive approach: by highlighting theoretically the process of understanding language, and its relationship to thinking.

Linguistic approach: by observing the interactions between the processes of understanding language in its various dimensions: lexical, syntactic, semantic;

3- Pedagogical approach: through openness to the importance of thinking in building language and trying to take it into account during language teaching/learning.

 This approach used in this research can constitute a comprehensive approach to   understanding the difficulties of understanding the language, especially with regard to the link between words and phrases and their meanings within the thinking pattern of a particular language.

It should be noted here that the cognitive processing of language is a mental structure in which several representations and many processes are fused, and several factors that may not belong to them are involved, due to the complex nature of processing and understanding. They are generally related to the subject, and then to the context.

مقدمة

يقول ألدوز هاكسلي (Aldous Huxley):" إن الثقافة البشرية، والسلوك الاجتماعي، والتفكير لا توجد في غياب اللغة» (جمعة سيد يوسف، 1990). وعلى هذا الأساس، فاللغة أهم ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، ومن المتفق عليه الآن، أن الإنسان وحده، هو الذي يستخدم الأصوات المنطوقة في نظام محدد، لتحقيق الاتصال والتواصل، وهو ما يؤكده فيرديناند ديسوسير عندما أكد أن الإنسان وحده القادر على ترجمة أفكاره ومشاعره إلى ألفاظ وعبارات. ذلك أنه حاول استجلاء طبيعة الدال والمدلول داخل العلامة اللسانية، ليجد أن اللغة  ليست كما يبدو، عبارة عن  قائمة من الأسماء والعبارات تقابل قائمة أخرى من المسميات، بل إن الأمر يتعلق بمفهومين اثنين هما الدال والمدلول، حيث يتجاوز الأول كونه كلمة أو لفظا إلى اعتباره صورة سمعية، يشكل الفونيم  شكلها الخارجي المادي، الشيء الذي يتيح للإنسان مثلا باستظهار مقطع معين دون استخدام جهازه النطقي،  أما المدلول فيعتبره في هذا السياق  تصور ذهني أو لنقل  فكرة عن الشئ أو عن المعنى المجرد، فلا تتحقق الدلالة اللغوية إلا عندما تقترن الصورة السمعية بالتصور الذهني لها (فردناند دي سوسير، 1984، ص90)، وهكذا تصبح العلاقة بين الأشياء وتصوراتها الذهنية هي علاقة طبيعية تكاد تكون  كونية، أما طبيعة العلاقة في شكلها المعكوس فهي علاقة اعتباطية يحكمها ما هو جمعي ((فردناند دي سوسير، 1984، ص91) .

وقد يثير هذا القول تساؤلات عن وجود لغة لدى الحيوانات، حيث من المعروف أن الحيوانات الأخرى تتصل ببعضها البعض عن طريق الرموز والأصوات، والإشارات...إلا أنها لا ترقى إلى مستوى التواصل اللغوي الإنساني. وهي نتيجة أكدتها تجارب لمجموعة من الباحثين (غرادنير وطوماسيلو، وفوكلير)، حين أرادوا تعليم قردة الشامبانزي أنواعا من اللغات، فتم التوصل إلى مجموعة من النتائج من بينها : وجود اختلاف كبير بين المهارات الرمزية للشامبانزي، والمهارات الرمزية للكائنات البشرية، حيث لا تتوفر الأولى على عنصري الإنتاجية والإبداعية المميزين للغة الإنسانية، مما يبين أن الإنسان وحده بإمكانه استعمال أنظمة لغوية شديدة التعقيد.(2008 ,Tomasello ). 

وقد تعددت العلوم والحقول المعرفية التي تناولت دراسة اللغة، كل من زاويته، أهمها وأحدثها الدراسات التي  تناولت اللغة كعلم قائم بذاته من الزاوية المعرفية " الدراسة المعرفية  للغة" والتي تجمع بين علم اللغة وعلم النفس اللغوي:  

علم اللغة

علم النفس اللغوي

- الدراسة الوصفية للغة كنظام من الرموز والقواعد التي يجب تحديد وظائفها بدقة.

- دراسة اللغة كتحرير أصوات.

- دراسة نطق اللغة.

دراسة كيف يتم إنتاج اللغة ذهنيا:

تمثل المعارف اللغوية.

اكتساب المعارف اللغوية.

فهمها.

استعمالها.

وكيف ترتبط هذه  المعارف اللغوية بالتصورات والتمثلات العقلية الأخرى.

جدول (1): يبين الفرق بين علم اللغة وعلم النفس اللغوي

وقد جاءت هذه الدراسة العلمية للغة انطلاقا من:

1 - نتائج الأبحاث اللسانية، فمعرفة طريقة اشتغال الجهاز اللغوي، ينبئنا بطريقة عمل نظام التحليل الإنساني للمعلومات.

2 - نتائج الأبحاث اللسانية وخاصة ما يتعلق منها بطريقة تشكل اللغات وطريقة تداولها يوحي عادة ببعض أشكال الإدراك المعرفي.

3 - اعتبار بنية اللغة ما هي إلا تعبير عن بنية العقل.

من هذا التقديم يمكن طرح الإشكال الآتي:

- ما اللغة؟ وأين تتجلى وظائفها وخصائصها؟ وما هي مستوياتها بدءا بالأصوات ووصولا للخطاب؟

- كيف يتم فهم اللغة؟ وما هي طرق دراسة هذه العملية؟

- كيف يتم إدراك الكلام؟ وكيف نتعرف الكلمات؟

- كيف يتم تعلم اللغة ثم إنتاجها؟

- اللغة والتفكير أية علاقة؟

أولا: تعريف اللغة، خصائصها ووظائفها

1-تعريف اللغة

تتعدد تعريفات اللغة بتعدد مجالات البحث، وتعدد العلوم التي اهتمت بها، وتطور هذه البحوث والعلوم.

تعريف ابن جني: "باب القول على اللغة وما هي: أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" (محمود فهمي حجازي، 1973، صص 10-9) .

تعريف دوسوسير: "نظام من العلامات (SIGNS) التي تعبر عن أفكار "- البنيوية              (p 298. ,Rechardkearney)    كما عرفها أيضا "أنها نظام، فهي ظاهرة اجتماعية لتحقيق التفاهم بين الناس.

تعريف سكينر ((396 p . ,Rechardkearney) : اللغة مجموعة من العادات السلوكية، التي قد تكتسب عن طريق إشراطات، وهذا ما يحيل إلى النظرية السلوكية التي تعتبر اللغة سلوكا لفظيا يكتسب عن طريق التثبيت، وخاضع لإشراطات.

تعريف تشومسكي-التوليدية -  (396 p . ,Rechardkearney): اللغة في رأيه هنا فئة، أو مجموعة من الجمل المحدودة، أو غير المحدودة، ويمكن بناؤها من مجموعة محددة من العناصر.

تعريف جون ديوي: (عدنان يوسف العتوم، 2017، ص 290)  ”إنها اتصال، وتعبير، تحتوي على عدد من الكلمات بينها علاقات تركيبية، تساعد على نقل الثقافة والحضارة عبر الأجيال“.

تعريف تراجر ( ;p3961989،Crystal, D)  :  اللغة هنا نظام من الرموز المتعارف عليها، وهي رموز صوتية، يتفاعل بواسطتها أفراد مجتمع ما في ضوء الأشكال الثقافية الكلية عندهم.

التفاعل هنا هو الهدف، والتفاعل درجة أعلى من الاتصال. فإذا كان الاتصال مجرد نقل فكرة من طرف إلى آخر، فإن التفاعل يعني المشاركة الوجدانية.

تعريف ميكائيل هاليداي. (Halliday, Mak2003): اللغة نظام من المعاني أو الدلالات. ذات وظيفة تواصلية اجتماعية.

تعريف قاموس وبستر Webster ( ;p3961989،Crystal, D)   : اللغة هي عملية الاتصال، ونقل الأفكار والمشاعر عن طريق إشارات وأصوات وملامح وعلامات يفهم معناها.  

يتضح من خلال هذه التعريفات المتعددة أن اللغويين في تعريفهم للغة، أكدوا على قواعد النحو والصرف، والتركيب اللغوي، مع اهتمامهم بالرموز المنطوقة فقط، في حين نجد علماء الاجتماع أكدوا في تعريفهم، على الوظيفة التفاعلية، في الوقت الذي لم  يهملوا الرموز غير اللفظية، أما علماء نفس اللغة، فقد أكدوا على عمليات الاكتساب والارتقاء والإنتاج اللغوي، بالإضافة إلى المعاني والدلالات والعمليات النفسية المرتبطة بها.

هذا التعدد في التعاريف هو بالأساس ناتج على تعدد خصائص اللغة من جهة، ووظائفها من جهة أخرى.

2-خصائص اللغة:

تتميز اللغة الإنسانية بخاصيتين هامتين، تقود الأولى إلى القدرة التنظيمية، وتقود الثانية إلى القدرة الإبداعية (باتريك لومان، 2011، صص 359/360) .

نسقية اللغة: حيث إن اللغة تخضع لقواعد هي التي تحدد طريقة تجميع الحروف والأصوات...وفق نظام وترتيب محددين.

إبداعية اللغة: كونها تتوفر على إمكانية تنظيم وترتيب وتوظيف كلمات بكيفيات مختلفة، ومواقع متعددة،ومن تم إنتاج عبارات مختلفة، وجديدة.

و قد أضاف تشومسكي، خصائص أخرى كلية للغة منها (2000، Noam Chomsky ،) :

الكونية: استعمال جميع الكائنات البشرية السليمة على المستوى الاجتماعي والفيزيولوجي للغة.

التعقيد: توفر اللغة على قواعد وتوفرها على قدرة تعبيرية كبيرة.

الاعتباطية: عدم توفر كلمات لغة معينة على روابط مع العناصر التي تشير إليها، (مثلا كلمة كرسي، لا توحي لما تشير إليه الكلمة فعليا بالنسبة لغير الناطقين بالعربية).

طابع الحذر: احتفاظ الكلمات بكيانها رغم النطق المختلف لها، واستعمالاتها المختلفة في مواقع مختلفة.

الإنتاجية: أي انطلاقا من عدد محدود من الأصوات (غالبا لا يتجاوز 50 صوتا أساسيا في كل اللغات) يمكن إنتاج عدد لا متناهي من الكلمات.

وجود عناصر مشتركة: اشتراك جميع اللغات في بعض العناصر (مثل الاسم، الفعل،الصوامت، الحروف الصوتية...).

هذه الخصائص يمكن أن تشكل إجابة عن سؤال نطرحه باستمرار، هل للحيوانات لغة؟ ليتبين أن الحيوان لا يستطيع اكتساب أو إنتاج لغة، في مقابل الطفل الذي سيكتسب دوماً القدرة على فهم وإنتاج اللغة، وقد سمى تشومسكي هذه القدرة الإنسانية التي يفتقدها الحيوان "جهاز اكتساب اللغة" ((2000، Noam Chomsky،) .

3- وظائف اللغة

مواقف استعمال اللغة للاتصال كثيرة، يجملها هاليداي Halliday في ثمان وظائف أساسية هي: (الرافع النصير زغلول، عماد عبد الرحيم الزغلول، 2014، صص 227/228) .

الوظيفة النفعية: Instrumental fonction: أي استخدام اللغة للحصول على الأشياء المادية مثل: الطعام، والشراب: "أنا أريد".

الوظيفة التنظيمية: regulatoty function أي استخدام اللغة من أجل إصدار أوامر للآخرين، وتوجيه سلوكهم. "افعل كما أطلب منك".

الوظيفة التفاعلية: Interactional function: أي استخدام اللغة من أجل تبادل المشاعر، والأفكار بين الفرد والآخرين. "أنا وأنت".

الوظيفة الشخصية: Personal function: أي استخدام اللغة من أجل أن يعبر الفرد عن مشاعره، وأفكاره. "إنني قادم".

الوظيفة الاستكشافية: Heuristic function:  أي استخدام اللغة من أجل الاستفسار عن أسباب الظواهر، والرغبة في التعلم منها:  "أخبرني عن السبب".

الوظيفة التخيلية: Imaginative function : أي استخدام اللغة من أجل التعبير عن تخيلات، وتصورات من إبداع الفرد، وإن لم تتطابق مع الواقع :"دعنا نتظاهر أو ندعي".

الوظيفة البيانية: Representational function : أي استخدام اللغة من أجل تمثل الأفكار والمعلومات، وتوصيلها للآخرين:  "لدي شيء أريد إبلاغك به" .

وظيفة التلاعب باللغة: Play function : أي  اللعب باللغة، وبناء كلمات منها حتى ولو كانت بلا معنى، ومحاولة استغلال كل إمكانات النظام اللغوي.

هذا التنوع في وظائف اللغة، يحيل إلى البعد الفكري، والعقلي/ المعرفي لها، على اعتبار أنها سيروات ومستويات معرفية تختلف حسب الأشخاص، وقدراتهم الذهنية.

4- مستويات تحليل اللغة

تحلل اللغة من خلال مستويات عديدة، تتعدد بتعدد الوحدة اللغوية القاعدية التي يتم الانطلاق منها، فنجد أربع مستويات أساسية لتحليل اللغة هي: (باتريك لومان، 2011، ص 362).  

المستوى الصوتي: أي التحليل من خلال دراسة الأصوات (الخصائص المادية للأصوات-الفونيتيقا-)، أو دراسة الوحدات الصغرى، المقاطع، (الفونيمات في الملفوظ، - الفونولوجيا-)،

مستوى الكلمات: أي تحليل الكلمات و دراسة كيفية تكونها انطلاقا من عناصر أولية (المورفيمات أو المقاطع،-المورفولوجيا-)،يدرس البنية الداخلية للكلمة .

المستوى التركيبي: التحليل من خلال الجملة، من حيث ترتيب الكلمات. (النحو )، أو من حيث دلالة الكلمات، (السيمونتيقا).

تحليل النسق: من حيث الوحدات الأكبر، مثل الفقرة، أو النص، أو الأحاديث. أو السياق،(البراجماتية).

و كل نوع من هذه المستويات يحدد فرعا من فروع اللغة كما يبين الشكل:

اللغة

تحليل الأصوات

-الفونيطيقا                              تحليل الكلمات                          تحليل الجمل       تحليل الخطاب

-الفونولوجيا                 -المرفولوجيا الإعرابية                           -النحو                  -البرجماتية

                             -المرفولوجية الاشتقاقية                 -السيمانطيقا

الشكل (1) يبين مستويات تحليل اللغة وعلاقتها بفروع اللغة

ثانيا: بنية اللغة

بما أن الإبداعية أحد أهم خواص اللغة، بالإضافة إلى النسقية، فهذا يعني أن العبارات تحتكم إلى قواعد، فتشكل هذه القواعد قيودا للعبارة المراد تكوينها، هذه القيود لها علاقة بكل مستوى من مستويات تحليل اللغة، وذلك على النحو الآتي: (باتريك لومان، 2011، صص 361/370).

قيود معجمية:

وهي نوعان:

ما لها علاقة بالتغيرات المنتظمة للعناصر المكونة لكلمة معينة، حيث يمكن تفكيك الكلمة إلى مقاطع مكونة للأصوات(فونيمات).

و تتم دراسة هذه الأصوات في علم اللغة في إطار الفونيطيقا،أو الفونولوجيا، فتهتم الأولى بنطق وإدراك الأصوات وخصائصها كشكل الموجات،(مثل كلمة واحدة تنطق بكيفيات مختلفة حسب الجهات)، أما الفونولوجيا فتحلل سمات فونيمات[1] اللغة.

ماله علاقة بالتغيرات المنتظمة للخصائص المميزة للكلمات (تواترها،أو طولها)، وأشكال الكلمة الواحدة، أي يتم تحليل شكل الكلمة في إطار المرفولوجيا، إما إعرابية[2] أو اشتقاقية[3].

القيود التركيبية

هي عبارة عن القواعد التي تحكم نظام ترتيب الكلمات لبناء جملة صحيحة، (النحو)، ومن أهم هذه المقاربات في علم اللغة نذكر:نعوم تشومسكي : ونظريته المسماة "النحو التوليدي"، والتي تركز على فكرتين أساسيتين هما:

التمييز بين الكفاية والإنجاز اللغويين، حيث تشير الكفاية اللغوية إلى ما يمكن للفرد أن يفعله باللغة، أما الإنجاز اللغوي، فهو ما يفعله فعلا باللغة، وهذا التمييز، يميز أيضا قدرات الفهم، وقدرات الإنتاج اللغوي.

التمييز بين البنية السطحية والبنية العميقة للعبارة، فالأولى تتعلق بالصياغة، أما البنية العميقة فتتعلق بالمحتوى، (مثلا جملتي: "أكل الطفل الحلوى"،"الحلوى أكلها الطفل ") لهما نفس البنية العميقة لكنهما يختلفان في البنية السطحية.

و انطلاقا من التحليل التركيبي للجمل، (من بنية سطحية إلى عميقة، والعكس)، تم وضع مجموعة من القواعد الأساسية لتنظيم الجمل حسب تشومسكي (باتريك لومير ،2011 ،صص 367-369)

القاعدة الأولى: تحليل بنية الجملة من خلال تنظيمها: ويتم ذلك من خلال تقسيم الجملة إلى وحدات صغرى هي التركيب التعبيري، فهو عبارة عن تحليل الجملة في شكل شجرة مقلوبة، لاستخراج البنية التركيبية للجملة وفيه الانتقال من بنيتها السطحية إلى العميقة والعكس.

الجملة

مركب اسمي                                                                                     مركب فعلي

  قبل                                       ال    فتاة   الجميلة

الشكل (2) يبين بنية أنواع الجمل

القاعدة الثانية: تحليل قواعد بناء الجملة: وفي هذا التحليل ندخل إلى البنية العميقة للجملة، ليسهل إدراك الانتقال من مستوى لآخر، وفقا لقواعد البناء وإعادة الكتابة، وذلك عبر إدراك صفة كل كلمة ومدلولها، لإمكانية تغيير مكانها، والحصول على عدد أكبر من المحاولات والإمكانات في الجمل.

القيود البرجماتية: (باتريك لومير ،2011، صص369-370)

هنا نتحدث في مستوى ثالث من القيود التي تتدخل أثناء الحديث، وهو مستوى اللغة، كما تتداول في الحياة اليومية، وفي الوضعيات المختلفة، فعندما نتحدث فإننا نرسل أفعالا لغوية هي كالآتي:

الأفعال اللغوية: وقد اقترحت نظرية الأفعال اللغوية من لدن جون أوشين، جون سيرل، حيث تصف لنا هذه الأفعال اللغوية الملفوظ وهي نوعان:

من حيث هو فعل مباشر عندما نستعمل اللغة بكيفية اتفاقية وبصراحة مثل (أنجز تمارينك).

فعل غير مباشر كأن أخبر بعكس ما تشير إليه العبارة مثل قول (الجو بارد في هذه الغرفة).

مبادئ المحادثة: حدد الفيلسوف جريس، القيود المرتبطة بالتواصل، وسماها مبادئ الحديث وهي أربعة:

مبدأ النوعية (الصحة في الكلام).

مبدأ الكمية (ألا تتجاوز الحد المطلوب وألا نتحدث عن أمور لا يفهمها المخاطب).

مبدأ الملاءمة (أن تكون لكل عبارة علاقة بموضوع الحديث).

مبدأ الوضوح (أي وضوح العبارات).

باستثمار ما تقدم من داخل العلوم اللغوية، وفي العلاقة مع النظرية المعرفية، يتبين ضرورة معرفة الكيفية التي ينسق من خلالها النظام المعرفي الإنساني بين مجموع هذه المستويات اللغوية، أثناء استعمال اللغة، ومنه ضرورة تعرف الميكانزمات الذهنية المتدخلة في معالجة اللغة.

ثالثا: فهم اللغة

إن فهم عبارة معينة يتطلب توظيف العديد من السيرورات المعرفية، الموزعة إلى مجموعة من الأنشطة، حيث ينبغي أولا تعرف الكلمات المدركة منفردة، أي ترميزها، (مستوى الإدراك)، ثم تمييزها عن الكلمات المتشابهة لها فونولوجيا، وفهم دلالاتها، ثم تحليل نظام ترتيب الكلمات داخل الجملة (مستوى الفهم).

مناهج دراسة فهم اللغة

يعتمد علماء النفس حاليا فئتين من المناهج لدراسة الكيفية التي يتعرف بها النظام المعرفي ويفهم المادة اللغوية، والكيفية التي ستخرج بها المعلومات من هذه المادة اللغوية، وهما (باتريك لومير ،2011، ص 372)

نموذج التعرف البصري

نموذج الحركات البصرية

ويتم انطلاقا من عرض بصري لنص معين، إما عرض ذاتي متقطع، أو عرض بصري متسلسل، فيطلب من الأفراد ثلاث مطالب:

-التعرف على كلمة ما ونطقها بصوت مرتفع.

-القرار التركيبي بأن يلاحظ مثيرا على الشاشة، إما كلمة أو لا كلمة.

-التصنيف، أي تحديد الفئة التي ينتمي إليها المثير .

هو عبارة عن فحص لحركات العين لتعرف موقع العين بالنسبة للكلمة، والمدة التي يتم استغراقها في التركيز على المثير، وعدد المرات التي يتم فيها قراءة المثير، فاتضح أن العين تقوم بقفزات، ثم تتوقف حوالي 250 جزء من الألف للثانية، إضافة أنه أثناء القراءة يمكن أن نتوقف حتى نفهم ثم نسترسل في القراءة.

الجدول (2) يبين الفرق بين النموذج التعرف البصري ونموذج الحركات البصرية

فهم الكلام

كيف يستطيع النظام المعرفي ترميز الأصوات المكونة للكلمات؟

إن المعالجة المعرفية للكلام تتم داخل تمثل معين، ضمن تفاعل بين بنيات الفرد المعرفية مع بنيات الكلام، هذا التفاعل قد ينتج تمثلا دلاليا لمضمون منطوق الكلام المسموع، والذي سيحتفظ به في الذاكرة، من اجل استعماله في فهم لاحق...وهكذا.. مما يمنح أهمية للذاكرة في نجاح السيرورات المعرفية المتعلقة بفهم الكلمات والجمل، في مستوياتها من الادنى إلى الأعلى (LE NY, j.-F. (1997) ; pp 35-53).

وكما هو الشأن بالنسبة للإدراك، فعملية الترميز توظف نوعين من العمليات: عمليات صاعدة وأخرى هابطة.

إدراك الكلام:

إن تعرف الأصوات يتم من خلال مفعول الترميز الفونيمي من جهة، ثم مفعول السياق من جهة ثانية    (Fowler, Californie (1995).).

ذلك أن إدراك الكلام هو العملية التي يتم من خلالها سماع أصوات اللغة وتفسيرها وفهمها. لذلك نجد أن هناك ارتباط بين إدراك الكلام مجالات علم الأصوات والصوتيات في علم اللغة وعلم النفس المعرفي. بحيث تبدأ عملية إدراك الكلام على مستوى الإشارة الصوتية وعملية السمع. (للحصول على وصف كامل لعملية السمع) بعد المعالجة الأولية للإشارة السمعية، تتم معالجة أصوات الكلام بعد ذلك لاستخراج الإشارات الصوتية والمعلومات الصوتية. ويمكن بعد ذلك استخدام هذه المعلومات الصوتية لعمليات اللغة ذات المستوى الأعلى، مثل التعرف على الكلمات.

نموج إدراك الكلام (نموذج ديفيد بيسوني) (باتريك لومير، 2011، ص 376)

تتم معالجة الكلام عبر المراحل التالية:

المثير        المعالجة السمعية            المعالجة الفونيطيقية               المعالجة الفونولوجية استجابة

التمثل العصبي للعلامة الصوتية تحول العلامة الصوتية إلى تمثل عصبي يحتفظ بسمات العلامة المادية، مثل وثيرة الصوت وشدته والبنية الهرمونية للصوت، يؤدي هذا التحول إلى تكون الشفرة الخامة.

تنشيط نطق الأصوات

حيث يعين النظام المعرفي علامات فونيطيقية بالعلامات الصوتية التي تم إدراكها، تتوافق هذه العلامات مع مقاصد المتكلم، وينبغي في هذه المرحلة تجاوز تقطيع العلامة، (مثال اللغة الإنجليزية ونطقها من طرف أشخاص لم نتعود على نطقهم لها) ففي هذه المرحلة يتعرف نظامنا المعرفي على الحدود الفونيطيقية للعلامة.

المطابقة بين المقاطع الفونيطيقية التي تم التعرف عليها وقواعد الفونولوجية المجردة التي تسمح باستخلاص الجوهر الحقيقي للمقطع الفونيطيقي،(أي معلومات حول الفونيم)،ففي بداية هذه المرحلة يتم ترميز المقاطع و تحليلها إلى مكونات فونيمية،و أخرى فونولوجية .

الشكل (3) يبين سيرورة معالجة الكلام حسب نموذج بيسوني

تعرف الكلمات، (تجربة Lively et pissoni)

لتعرف كلمة معينة نوظف العديد من المعلومات المتعلقة بهذه الكلمة، (مثل طول الكلمة، وثيرة ظهورها...) ويمكن تكوين فكرة عن مفاعيل الخصائص المعجمية على عمل النظام المعرفي من خلال ثلاث مفاعيل: (باتريك لومير،2011، صص  379/380).

مفعول البدء

Meyer et schvaueveldt

مفعول التواثر

Wholey

مفعول المجاورة الإملائية

Jonathan grainge

هو أكثر المفاعيل تعرفا على الكلمات بسرعة، من خلال القدرة على أخذ القرار بسرعة،أمام كلمة ما تكون مسبوقة بكلمة مرتبطة بها سيمانطيقيا، فتشير الأولى إلى البدئ أما الثانية فهي الهدف.

وهو توافر الاستعمال الاتفاقي لكلمة ما في لغة معينة، (أي المعدل النسبي للاستعمال)، ومدى أهميته في التعرف على الكلمات.

أي الكلمات التي تختلف فقط في حرف واحد (همل كلمتان متجاورتان)،تستغرق وقتا أطول في التعرف عليها مقارنة مع الغير متجاورة، إلا أنه يعادل مفعول التحمس على مستوى الذاكرة طويلة المدى.

الجدول (3) يبين مراحل تعرف الكلمات حسب ليفلي وبيسوني

مفعول الكلمات والمكونات (السيمانطيقا)

لا يتطلب فهم جملة معينة استرجاع الأصوات من الذاكرة فحسب، أو استعادة شكل أو صوت، أو حتى مجموعة من الكلمات فقط، بل يتطلب أيضا تعرف وتحديد مكوناتها، وإضفاء الدور التركيبي المناسب على الكلمات، ورفع الغموض الناتج عن بنية الجمل. فكيف يستخرج الأفراد مكونات الجمل وبنيتها؟

مكونات الكلمات

يمكن إجمال مكونات الكلمات، في طول الكلمة، تواثرها، وضعها الإعرابي والدلالي.

استخراج البنية التركيبية (باتريك لومير، 2011، صص 390/391)

لقد اختلف علماء النفس حول لمن الأسبقية، هل للمقيدات التركيبية (بنية الجملة)، أم للمقيدات السيمانطيقية والبراجماتية (المعنى والسياق).

لكن وعلى العموم تم التوصل إلى نتائج تساهم في الفهم السليم للجمل من قبيل:

أن الثوابت المعرفية هي التي تعدل المعلومات اللغوية التي تؤخذ في الاعتبار أثناء فهم رسالة ما،إضافة إلى الهدف الذي يرسمه الأفراد لأنفسهم خلال قراءة النصوص، ثم تنظيم الذاكرة طويلة المدى، فعالية معالجة المعلومات، قاعدة المعلومات...

استعمال علامات المساعدة مثل علامات الترقيم، لأنها توجه الفهم...

 فهم النصوص

إن سيرورة فهم النص تتضمن عملية الفهم، وتعرف الكلمات والتحليل والتركيب، ونضيف لها عمليات جديدة أكثر تعقيدا، تتدخل في أنشطة أخرى مثل التعلم، ويعد برنامج والتر كينش الأكثر تطورا في مجال فهم النصوص، ويسمى هذا النموذج "البناء-الإدماج"، فتتم عملية فهم النصوص عبر العمليات التالية (باتريك لومير، المرجع السابق، ص 395).

ترميز وبناء تمثل قضوي[4]: حيث ترمز الكلمات مع التنشيط الأولي لمختلف دلالات الكلمات، ثم يبدأ الفرد في بناء تمثل قضوي عن الجمل المتضمنة للكلمات المرمزة.

إعداد شبكة قضوية: حيث يتم تحويل القضايا إلى الذاكرة العملية في صيغة شبكة من القضايا المترابطة فيما بينها، مع حذف الزوائد، إضافة إلى تنشيط العناصر المرتبطة بالقضايا المتضمنة في الشبكة في الذاكرة طويلة المدى(التنشيط المنتشر).

تحويل المعلومات إلى الذاكرة العملية: حيث يتم انتقاء القضايا المختارة والمعلومات المنشطة لتكوين تمثل متناسق، ويتم هذا الانتقاء وفق التناسق بين القضايا.(حيث تدعم العناصر المتوافقة وتقصى العناصر المتناقضة)هذا التمثل الناتج (تمثل نصي أو بنية كبرى)يتم تخزينه في الذاكرة النصية المرحلية.

يتبين إذن أن إرساء هذه العمليات يؤدي إلى تمثلات متعددة للنص من قبيل:

تمثل ظاهرة (النص ذاته) و تنسى بسرعة، ويمكن أن تختلف  حسب الأشخاص .

تمثل قضوي (عناصر النص و دور هذه العناصر) أيضا قد تختلف حسب الأشخاص.

تمثل لنموذج ذهني (متضمن للوضعية الموصوفة في النص) وهو ما يتم الاحتفاظ به في الذاكرة طويلا.

رابعا: إنتاج اللغة

إنتاج اللغة الشفهية:

نموذجي كل من بوك ويليفيلت، ونموذج دل (باتريك لومير، 2011، صص 397/399)

نموذج بوك ويليفيلت

نموذج دل

-إنشاء محتوى الرسالة المراد تبليغها.

-المعالجة الوظيفية: انتقاء المفردات وتحديد دورها النحوي في الجملة (ليس الاقتصار فقط على اختيار كل كلمة على حدة بل حتى موقعها الإعرابي في الجملة)

-المعالجة الموقعية: يرتب الكلمات المنتقاة لتكوين جملة، وتحويل تلك المفردات (مثل تصرف الأفعال، التأنيث، الجمع...).

-المعالجة الفونولوجية: انتقاء الأصوات المكونة لكلمات الجمل التي أنشأهاثم انتقاء الثوابت الأخرى المرتبطة بالإنتاج الشفهي، مثل العروض أو الإيقاع.

-المعالجة السيمانطيقية: إنشاء معنى الرسالة المراد تبليغها.

-المعالجة التركيبية: تخطيط البنية النحوية لما يسعى إلى تبليغه، فيرتب الكلمات لإنشاء جمل.

-المعالجة المرفولوجية: تخطيط المورفيمات، انتقاء العناصر التي تتيح التعرف إذا كانت الجملة تشير إلى فعل أو عدة أفعال، أو أن الفعل تزامن مع زمن الحديث.

-المعالجة الفونولوجية: انتقاء أصوات الكلمات وإيقاعها ونبرتها.

مراحل المعالجة تتم متزامنة وليس متتالية.

الجدول (5) يبين الفرق بين نموذجي كل من بوك ويليفيلت، ونموذج دل

بصفة عامة فالإنتاج الشفهي يبدأ بإعداد المحتوى، وينتهي بإعداد العبارة الملفوظة.

الإنتاج الكتابي:

نموذج هايس و فلاور (باتريك لومير، 2011،صص  402/403)

التخطيط

إنتاج أفكار، تنظيم الأفكار وتحديد الأهداف

إنشاء النص

إنتاج النص، تشكيل الجمل، ترتيب الكلمات

                                                                   

المراجعة

إعادة القراءة وتصحيح الأفكار، تعديل ترتيب الكلمات

الشكل(4) يبين نموذج هايس وفلاور للإنتاج الكتابي

يتضح أن هذا النموذج بمثابة إطار تصوري لإنتاج اللغة المكتوبة.

خامسا:  علاقة اللغة بالتفكير

من وجهة نظر معرفياتية، فالتفكير عبارة عن نشاط معرفي يتضمن سلسلة من العمليات العقلية المعقدة التي تتضمن معالجة المعلومات من حيث استقبالها، وترميزها وتفسيرها، واستخلاص المناسب منها، وتقوم أيضا، على استخدام الرموز والتصورات والمفاهيم المادية، والمجردة بهدف الوصول إلى نواتج معينة (الرافع النصير زغلول، عماد عبد الرحيم الزغلول، 2014، ص 258) .

تطرح إشكالية علاقة اللغة بالفكر مجموعة من الأسئلة بالنسبة لعلماء النفس المهتمين بدراسة اللغة، ومن أمثلة هذه الأسئلة:

- هل نحن في حاجة إلى لغة لكي نستطيع التفكيٍر، أم نحن في حاجة إلى تفكير لنستطيع الكلام؟

- هل مهارات التفكير واللغة تنمو ككيانات منفصلة؟ أم أنها ترتبط ببعضها البعض منذ البداية؟

- أيهما يعتمد على الآخر؟ اللغة أم التفكير؟ وأيهما يسبق الآخر؟

- هل نستطيع أن نتكلم دون تفكير؟ وهل هناك تفكير بلا كلام؟

وإذا حاولنا أن نصوغ في كلمات موجزة نتائج الدراسات السابقة لهذه المشكلة فسنجد أنها تتأرجح دائما بين ثلاثة أقطاب مختلفة:

الاتجاه الأول: التطابق والامتزاج التام.

 تعد المدرسة السلوكية أفضل ممثل لهذا الاتجاه. فقد انتهى واطسون مؤسس السلوكية القديمة، إلى أن التفكير هو اللغة. وبناء على ذلك فان التفكير عبارة عن تناول الكلمات في الذهن، أو أن التفكير عبارة عن عادات حركية في الحنجرة، أو هو حديث داخلي يظهر في الحركات قبل الصوتية لأعضاء الكلام، أي أن التفكير كلام ضمني. وربما يكون ذلك هو الذي قاد المدرسة السلوكية الأمريكية في مراحلها المبكرة إلى رفض التسليم بوجود أي متغيرات وسيطية بين المنبهات والاستجابات (جمعة سيد يوسف 1990، ص 144) .

الاتجاه الثاني: التباعد والانفصال.

وهو اتجاه تم تأييده من طرف مجموعة من النظريات على النحو الآتي:

وليام شترن WELLIAM STERN والذي ميز في التصور العقلي لنمو اللغة بين ثلاثة أصول للكلام: الميل التعبيري، والميل الاجتماعي، والميل القصدي، ويرى أن الثالث هو الذي يميز الإنسان على وجه الخصوص. فالإنسان في مرحلة معينة من مراحل نموه النفسي يكتسب القدرة على أن يعني شيئا من الأشياء عند تلفظه بأصوات معينة، وعلى أن يشير إلى شيء موضوعي من الأشياء. وفي الحقيقة تمثل هذه الأفعال القصدية أفعالا للتفكير، وبالتالي فإن ظهورها يشير إلى تعقيل وتوضيح للكلام. ولذا يؤكد" شتون " على أهمية عامل المنطق في نمو اللغة، ويقرر انه في المنطق الطفلي تتضح القصدية ويصطبغ الكلام بالخاصية الإنسانية المميزة (ليف فيكوتسكي،2012، ص 73).

جون بياجي الذي رأى بأن الارتقاء المعرفي يحدث أولا ثم يتبعه الارتقاء اللغوي.  فالكلام المتمركز حول الذات يظهر لدى الطفل الذي يسلك، ويتحدث كما لو كان كل ما يراه ملكه هو، ويبدو غير قادر على فهم وجهة نظر الآخرين، وان يدرك الأشياء من الوضع المختلف. إن الحوار المتمركز حول الذات يمضي حسب موقف الطفل الحالي، كما أنه يقوم بوظيفة تنظيم وتوجيه الذات. وفي الثالثة من العمر يكون نصف منطوقات الطفل متمركزا حول الذات. وينخفض هذا بسرعة إلى الربع في حوالي السابعة. والكلام المتمركز حول الذات لا يشار إليه بالضرورة باستخدام الضمير «أنا». ويركز بياجي على وصف وبنية النمو المعرفي «أو ما يحدث في تكوين المفهوم» . وبنمو القدرة على استخدام الصور الذهنية، والرموز عند الطفل، فإنه يدخل (في رأي بياجيه) إلى مرحلة ما قبل العمليات، وهي المرحلة التالية للمرحلة الحسية الحركية وتبدأ من سن الثانية حتى السابعة تقريبا. ذلك انه مع بداية التمثيل الرمزي للبيئة، ونمو القدرة على التصور الذهني للأشياء والأحداث فإنه يتكون لدى الأطفال مفاهيم غير ناضجة يسميها بياجي ما قبل المفاهيم- مثلا قد يكون لدى الأطفال في هذه المرحلة فكرة عامة وهي أن الطيور لها أجنحة وتطير وغالبا ما توجد على الشجر، أو أن السيارات لها عجلات وأبواب وتوجد في الشوارع- إلا أنهم لا يستطيعون أن يميزوا بين الأنواع المختلفة من الطيور أو السيارات، وبمجرد وصول الطفل إلى هذه المرحلة تأخذ القدرة على استخدام الرموز والصور الذهنية في الازدياد بشكل واضح، وبسرعة كبيرة، فتزداد قدرته اللغوية، ويصبح في إمكانه أن يتصور أساليب جديدة للعب الإبداعي (جمعة سيد يوسف، 1990، ص 146).

أما ليف فيجوتسكي فقد ركز على المنظور الارتقائي، حيث يتصور أن الكلام- لدى الطفل- يكون اجتماعيا في البداية ثم يليه الكلام المتمركز حول الذات وبعده الكلام الداخلي (أو التفكير) وهو بالطبع يناقض التصور السلوكي والتتابع الارتقائي لدى بياجيه (جمعة سيد يوسف، 1990، ص 145).

ويقرر فيجوسكي صراحة «أن تدفق التفكير لا يصاحبه ظهور متزامن للكلام. فالعمليتان ليستا متماثلتين، ولا يوجد تطابق كبيربين وحدات التفكير ووحدات الكلام. ويتضح ذلك عندما يساء تنفيذ عملية التفكير. وينظر فيجوتسكي للكلام المتمركز حول الذات على أنه مرحلة انتقالية من الكلام الاجتماعي إلى الكلام الداخلي. وتخيل الكلام (أي تحويله إلى كلام داخلي) يعني أن عمليات التفكير تحدث وتوجه بدون الحاجة للكلام الصريح، ويمكن أن نتصور، من الناحية التخطيطية، التفكير والكلام كدائرتين متداخلتين، في أجزائهما المتداخلة يتحد الكلام والتفكير لينتجا ما يسمى التفكير الكلامي، لا يتضمن كل أشكال التفكير أو كل أشكال الكلام (جمعة سيد يوسف، 1990، ص 148).

دون أن ننسى السياق التحويلي في هذا الاتجاه حيث يعد كل من تشومسكي، وفودر من بين أهم مؤيديه، ذلك أنهم أكدوا على أن اللغة والفكر شيئان مستقلان عن بعضهما البعض، وأنهما ينبعان من أصول مختلفة، حيث يعتبر اللغة بمثابة وحدة تعمل على نحو منفصل ومستقل عن الفكر، وينطلق هؤلاء في تفسيرهم لهذه العلاقة وفقا لظاهرتين هما:

-التفكير ما قبل اللغوي

- الكلام السابق على التفكير.

فبالرغم من أنهم رأوا بأن التفكير واللغة يسيران على نحو مستقل عن بعضهما بعضا، ليندمجا معا في مرحلة ما قبل العمليات، إلا أنهما يؤكدان أن هذا لا يعني بالضرورة أن اللغة والفكر منطبقان، بل مستقلان، فغالبا ما يكون الاندماج في الجوانب الداخلية للمفردات، أي في معناها، إذ أن المعنى هو وظيفة التفكير، وهذا المعنى لا يتجزأ عن الكلمة لأنها لا تعد كلمة بدون معنى ((جمعة سيد يوسف، 1990، ص 262).

الاتجاه الثالث القائل بأن اللغة والتفكير مترابطان ارتباطا وثيقا:

يرى أصحاب هذا الاتجاه أن اللغة والتفكير مترابطان ارتباطا وثيقا، باعتبار أن اللغة هي الوعاء أو المظهر الخارجي الذي يتم تقديم الفكر من خلاله.

 وما نقصده هنا بالتفكير هو:

الأفكار سواء كانت صورا ذهنية أو أفكارا مجردة

الاتجاهات العامة للتفكير، وطرائق التفكير وأساليبه.

وهذان المحوران هما اللذان يتبدى من خلالهما بشكل واضح العلاقة بين التفكير واللغة. فألفاظ اللغة تعبر عن الأفكار المناظرة لها في عقل الإنسان. وقد عبر عن هذا المعنى «دي سوسير» عندما عرف اللغة بأنها «مجموعة من العلامات تعبر عن الأفكار» غير أن التفكير لا يكون تفكيرا إلا إذا مارس العقل وظيفته الأساسية، وهي «الربط»، أي إذا تم الربط بين عدة أفكار. واللغة ترتبط بالتفكير من هاتين الزاويتين، زاوية الأفكار، وزاوية الاتجاهات الفكرية. فالأفكار يتم التعبير عنها بالألفاظ وبالسياقات التي ترد فيها تلك الألفاظ. كما يتم التعبير عن الاتجاهات الفكرية بالتعبيرات اللغوية المختلفة (جمعة سيد يوسف، 1990، ص 151)..

 وينبثق من هذا الاتجاه- بصفة عامة –ثلاث اتجاهات فرعية:

الاتجاه الفرعي الأول:

 يرى أصحابه تغليب جانب التفكير في تأثيره على اللغة. فبرونو يرى أن التفكير سابق على اللغة التي ينحصر دورها في التعبير عن الذات، حيث يناسب كل حدث فكري حدثا لغويا ((جمعة سيد يوسف، 1990، ص 152).

 ويقرر كورزيبسكي أن طريقة التفكير لدى مجتمعات معينة هي التي تحدد أسلوب تراكيبهم اللغوية. فعلى سبيل المثال: لأن التفكير عند العرب والفرنسيين يغلب عليه الطابع الاستدلالي فان الصفة في لغتيهما تتبع الموصوف بينما التفكير عند الإنجليز تفكير استقرائي، فتأتي الصفة قبل الموصوف ((جمعة سيد يوسف، 1990، ص 153).

الاتجاه الفرعي الثاني:

حيث اللغة أكثر تأثيرا في التفكير خصوصا لدى الجماعات. فاللغة لا توجد في فراغ. إنها تخدم أنساقا أخرى في العقل البشري (وتتأثر بها)، ولأنها تستخدم لنقل الأفكار فينبغي أن يعكس بناؤها ووظيفتها هذه الأفكار. ولأنها تستخدم في التواصل داخل أنساق اجتماعية وثقافية معقدة فان وظيفتها وبناءها يتأثران بهذه القوى أيضا. وبالتالي بمجرد أن نتعلم كيفية استخدام اللغة فإنها تصبح قوة في حد ذاتها فتساعدهم على التفكير ((جمعة سيد يوسف، 1990، ص 153).. فاللغة هي التي تجعل مجتمعا ما يتصرف ويفكر بالطريقة التي يتصرف ويفكر بها.

الاتجاه الفرعي الثالث:

 هو اتجاه توفيقي، وهو الأكثر شيوعا لدى المعاصرين، يقدم حلا وسطا لقضية علاقة اللغة بالتفكيرٍ، ويتحاشى الانتقادات التي توجه إلى الاتجاهات الأخرى. ويرى مؤيدوه أن العلاقة بين اللغة والتفكير علاقة دينامية متبادلة من حيث التأثير والتأثر، فكل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به. فنحن لا نستطيع أن نتكلم بما لا نقدر أن نفكر فيه، ولا نستطيع أن نفكر بعيدا عن قدرتنا اللغوية ((جمعة سيد يوسف، 1990، ص 155).  

ومن هذا المنطق ينبغي أن تتعدل الأسئلة التي تشغل بال العلماء المهتمين بقضية اللغة والتفكير، بحيث ينشغلون بتوفير الأساليب الموضوعية الدقيقة التي تقيس العلاقة بين اللغة والتفكيرٍ، وكيفية التعرف على أشكال الترابط بين الوظيفتين، وهو ما يتجسد داخل الكلمة.

خاتمة  

عموما، وانطلاقا مما تضمنه هذا البحث، يمكن القول بأن وحدة اللغة والتفكير أو ارتباطهما يتجلى بشكل خاص في الجانب الداخلي للكلمة، أي في معناها.

ومعنى الكلمة واكتشافه يعتبر عملا للتفكير. وبجانب ذلك يعتبر المعنى جزءا لا يتجزأ من الكلمة. فالكلمة من دون معنى ليست كلمة، وإنما هي صوت فارغ. والكلمة بافتقارها إلى المعنى لا تنتمي لعالم الكلام. وعليه فإن المعنى يمكن اعتباره- بدرجة متكافئة- ظاهرة كلامية وظاهرة منتمية إلى مجال التفكير وهو يمثل وحدة التفكير اللغوي.

إن هدف هذا البحث ليس فقط الكشف عن العلاقة بين اللغة (الكلام) والتفكير، عبر إعادة طرح الإشكالات التي سبق لفلاسفة وعلماء اللغة وعلماء النفس طرحها، ولا تحديد طبيعة السيرورات الذهنية التي من شأنها تحقيق فهم اللغة فحسب، وإنما هدفه الضمني هو بسطه كأرضية نظرية للتفكير بيداغوجيا في مداخل لتفسير اضطرابات اكتساب اللغة، سواء اللغة الأم، أو اللغة الأجنبية.

ذلك أن كل مشتغل في الحقل التربوي، واع بالضرورة بطبيعة وتنوع الصعوبات التي تواجه المتعلمين أثناء بنائهم لتعلماتهم المتعلقة باللغة، فيتبين أنه لا بد من ربط اللغة المكتسبة، أثناء التدريس، بنمط الاشتغال الفكري والثقافي لها، حتى يتمكن المتعلم من اكتاب اللغة ثم إعادة إنتاجها من داخل اللغة نفسها.

قائمة المراجع

المراجع العربية

باتريك لوميك "علم النفس المعرفي،المرجعية السيكولوجية للكفايات و بيداغوجيا الإدماج" ترجمة عبد الكريم غريب،منشورات عالم التربية،ط 1 سنة 2011

جمعة سيد يوسف"السيكولوجية و المرض النفسي"عالم المعرفة، عدد 145، سنة 1990

الرافع النصير زغلول وعماد عبد الرحيم زغلول"علم النفس المعرفي"دار الشروق، الأردن 2014

فردناند دي سوسير: محاضرات في الألسنية العامة، ترجمة: يوسف غازي، مجيد النصر، دار نعمان للثقافة، لبنان 1984،

ليف فيكوتسكي:"الفكر و اللغة، النظرية الثقافية التاريخية" ترجمة عبد القادر قنيي،إفريقيا النشر،2012

محمود فهمي حجازي: علم اللغة العربية، الكويت، وكالة المطبوعات، 1973

عدنان يوسف العتوم "علم النفس التربوي، نظريات و تطبيق"دار النشر المسرة، 2017

المراجع الأجنبية

Crystal, D. : The CambridgeEncyclopedia of Language, Cambridge, Cambridge University Press, 1989-

Finocchiaro, M. : English asa Second Language from Theory to Practice, New York, Regents Publishing Company, SNC, 1974

Fowler, Californie (1995). "Production de discours". Dans JL Miller; PD Eimas (éd.). Manuel de perception et de cognition : parole, langage et communication . San Diego : Presse académique

LE NY, j.-F. (1997), Sciences cognitives et psychopédagogie, cahier Binet-Simon, 650. 35-53.

Halliday, Mak2003” On ;on the architecture of human language;on language and luinguistiques: the collected works ;London and newyork;quinox.

Noam Chomsky ; L’ère Chomskyen; Extrait de L’architecture du langage, 2000 ; article publié sur :

L’ère Chomskyenne, par Noam Chomsky (Extrait de The Architecture of Language) (archive.org)

Rechardkearney : the continental philosophy reader.

Thornbury;scott (2006) –AN A-Z of ELTOxford ;Macmillan;p 24 IS BN 1405070633.

Tomasello, M., Origins of Human Communication. cambridge, MiT press, 2008

 

[1]الفونيم هو أصغر وحدة في سلسلة الملفوظات، وهناك الفونيمات الصوتية VOCALIQUES  ،و الصامتة CONSONNE ،و تتميز هذه الفونيمات بمجموعة من المميزات هي:

-أنفية أو فمية:Orales ou nasales منها ما هو متصل بمؤخرة الفم مثل (m)،أو حرف فمي مثل (p)

-رنانة أو غير رنانة sonores ou sourdes  متوافقة مع اهتزازات الحنجرة (d) أو غير رنانة مثل (t).

-مقفلة أو منقبضة:occlusives ou constrictives أي أن انغلاق القناة الفمية متبوع بانفتاح مباغت مثل (b)،أو أن الانقباض يضيق مثل (f).

-في الأمام أو في الخلف:منه الصامت الشفهي مثل (p)،و الصامت الأسناني مثل (d)،أما فيما يخص الخلفي  فنذكر الصامت اللهوي مثل (k).

[2]الإعرابية :تدرس تغيرات الكلمة التي لا تشكل أي  تأثير كبير على معناها (مثل  التحول من المفرد إلى الجمع، أو التصريف..)

[3]الاشتقاقية:تبحث في تغيرات الكلمة و التي تحدث تعديلا في معناها العام،(مثل الإلحاق suffixation norme/normale : ،أو التصدير préfixation  possible/impossible : أو الزوائديةpara synthétisation croire/incroyable : ).

[4]التمثيل القضوي هو تمثيل يتضمن دلالة الجملة بفضل ترميز العناصر والأدوار التي تؤديها

Partager cet article
Repost0
9 juillet 2023 7 09 /07 /juillet /2023 19:27
الخطاب الثقافي العربي: من النسق الثقافي إلى الرسم السردي للجسد المؤنث

 

من النسق الثقافي إلى الرسم السردي للجسد المؤنث

The Arab cultural discourse

from the cultural model to the narrative drawing of the female body

د. ادريس عبد النور: أستاذ مادة اللغة العربية والدراسات الجندرية، أستاذ مؤهل بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس – مكناس /المغرب

Email : Abdennour.driss@gmail.com

ملخص:

ركزت المرأة داخل منطقة صراعها مع ذاتها ومع المجتمع على سلاح الجسد، جعلت منه سؤال خصوصية يُقحم الذات طرفا أساسيا في مشروع الكتابة، باعتبارها غاية ومشروعية في المطالبة بحقوقها وواجباتها، فعكست بذلك أساسا، توجها أنثويا جديدا يتفرد في الرؤيا والتجربة، واقترنت العلاقة بين الجسد والكتابة باقتران الوعي الفعلي بالجسد والوعي الممكن للكتابة، واستدعى هذا الوعي إلغاء الانقسام الحاصل بالذات النسائية، كما استدعى ذلك تبني موقف جديد من الذات، أدى بدوره إلى انبثاق رؤية جديدة للعالم، فكان من المحتمل أن يأتي نص المرحلة الأولى في كتابة النساء داعيا إلى تفجير المسكوت عنه بإعادة صياغة مضامينه اللاواعية في أقوال أدبية جمالية خلاقة، واستطاعت الكتابة بذلك أن تُنَفِّس عن الكبت التاريخي للمرأة، فامتلكت بذلك الموروث الثقافي عبر استدعائه واستحضاره وذلك بإطلاق سراح رغبات الجسد، فكان حضور الجسد الأنثوي قويا ضمن هذا الانفتاح على لغة اللاوعي التي تساهم في بروز ثلثي جبل الجليد، وتعمل على تشريح الداخل وعرضه، كما تحضر علاقة الجسد بالكتابة في المكون السردي أساسا باعتباره تقنية مثلى تنجلي فيها ذات الكاتبة وتطفو معها مكبوتات الوعي العقلية والجسدية.

الكلمات المفتاحية: ثقافة، الأدب العربي ، الجسد الأنثوي ،النقد الأدبي، كتابة الجسد.

المقدمة:

تلعب الثقافة في البناء الاجتماعي ركنا أساسيا في حياة المجتمع، فهي بما تحتوي عليه من أشكال، تتدخل في بلورة ملامح شخصيته، وبالتالي في شخصية الفرد والتأثير على سلوكه ونمط عيشه أحيانا بالسلب وأحيانا أخرى بالإيجاب.

ولقد كان للثقافة أن تمر عبر المنعطف الأنثروبولوجي لتحديد الإطار النظري العام الذي يشمل تعدد التعاريف التي تعطى لمفهوم الثقافة خلال المئة سنة الأخيرة. 

فكلمة ثقافة، ونظرا للانتشار والنجاح الذي حظيت به، أصبحت ضحية تنوع السياقات التي استعملت فيها الشيء الذي جعل إدغار موران Edgar Moran يصفها بالكلمة الفخ يقول: "الثقافة بداهة خاطئة، كلمة تبدو وكأنها كلمة، ثابتة، حازمة، والحال أنها كلمة فخ، خاوية، منومة، ملغمة، خائنة"([1]).

إن صيغة "الثقافة" قد ابتدعها ألفريد فيبر الذي عرف الحضارة على أنها جملة من المعارف النظرية والتطبيقية غير الشخصية، معترفا بإنسانيتها وصلاحيتها، بينما عرف "الثقافة" على أنها جملة من العناصر الروحية والمشاعر والمثل المشتركة التي ترتبط في خصوصيتها بمجموعة وزمن معينين.

لقد انتقلت لفظة الثقافة في تعريف ألفريد فيبر من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع حيث دخل مصطلح "ثقافة" في صيرورة التنشئة الاجتماعية"socialisation" على اعتبار أن ما هو ثقافي لا يورث بيولوجيا، وإنما يُنقل عن طريق التعلم، فالثقافة إرث اجتماعي وهي ما يتعلمه الفرد للعيش في مجتمع خاص، على اعتبار أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخلق ثقافة، وهو التعريف الذي اعتمده هرسكوفيتش عندما قال: "الثقافة هي ما يصنعه الإنسان في البيئة"([2]). غير أن إدغار موران دعا إلى الربط المنهجي لكل الثنائيات التي يمكن أن تخلق الالتباس في دراسة الإنسان من جملتها الثنائية الضدية إنسان/حيوان، ثقافة/طبيعة، حيث قال: "من المفروغ منه أن الإنسان لا يخترقه أي سور صيني يفصل بين جزئه البشري وجزئه الحيواني، من المفروغ منه أن كل إنسان هو كلية بيولوجية بسيكولوجية سوسيولوجية"([3]).

لقد ساهمت أسئلة النقد الأدبي بشكل متميز في تحليل أشكال العلاقة بين الإنتاج الفكري والثقافي ومعطيات البنية الاجتماعية، فقد ساهم لوسيان غولدمان في بلورة العلاقة المباشرة بين مضمون النص الأدبي والواقع المعطى، حيث اعتبر أن العلاقة الأساسية بين الحياة الاجتماعية والخلق الفني لا تهم مضمون هذين القطاعين في الواقع البشري، وإنما تهم فقط البُنى العقلية، أو ما يمكن أن نسميه المقولات التي تنظم في الوقت نفسه الوعي التجريبي لمجموعة اجتماعية معينة والعالم الخيالي الذي يخلقه الكاتب"([4]).

  إن المبدعين للقصة والقصيدة والمسرحية والرواية..."ينتمون إلى فئات بين المثقفين يؤدون أدوارا قد يعونها وقد لا يعونها لصالح أصناف أو طبقات معينة"([5])، فلا يمكن تفسير حدث فكري بدون التطرق للوظيفة الاجتماعية والسياسية لهذا الانتاج لأنها تشخص بعدا من أبعاد الواقع.

ويعتبر الجمال الأنثوي المبثوث داخل هذا المنتوج الأدبي محط اهتمام الثقافة كنسق ومن ضمنها الثقافة العربية التي تشكل فيها الجسد الأنثوي في اتجاه اعتباره كأحد رموزها القوية في الإنتاج والتلقي.

  1. الجمال الأنثوي والنسق الثقافي

لقد تم الاعتراف بالجمال الأنثوي في المجتمعات المعاصرة، باعتباره قيمة ثقافية واجتماعية في ذاتها، فبالموازاة مع عشق الانسان للحياة ورموزها، يعتبر الجسد في حد ذاته أهم رموزها الثقافية، حيث أصبح يشكل قيمة رمزية بذاته ولذاته، ثم تلا ذلك مرحلة أصبح فيها الجزء معبرا رسميا عن الكل، وأصبحت بعض سمات الوجه أكثر دلالة من سائر الجسد باعتبارها جزءً أكثر فردية وأكثر خصوصية، ومرتبطة عضويا بتحديد الأنثوي، وبذلك احتلت أعضاء الجسد : الوجه والعجيزة، قطب اهتمام النسق من حيث شيوع تداولهما في الخطاب الجمالي المتعلق بجسد المرأة، ولمّا تلخَّص جمال الأنثى في تركيز النسق على جمال الوجه، استغرق هذا الاهتمام حقب تاريخية مهمة ووقتا طويلا في التشكل، وبذلك كان جمال الوجه مصدر كل حقول التمثلات الثقافية العامة المتجذرة في المجتمع العربي: في أقوالنا وأفعالنا وخطاباتنا ولا وعينا، وكذا في الأشكال المتخيلة التي يستبطنها الفرد عن نفسه، كما حدث في العصور الأدبية التي مرت معنا، ونأخذ هنا على سبيل المثال ما جاء في بهجة المجالس من تأكيد على جمال الوجه باعتباره من محددات الجمال الأنثوي، فغالبية أوصاف النسق الثقافي، حددت جمال الوجه وركزت عليه، هذا مع العلم أن العجيزة استُهلكت بنفس قوة التعاطي مع جمال الوجه :" قال بعض حكماء أهل الأدب: كمال حسن المرأة أن تكون أربع أشياء منها شديدة البياض، وأربعة شديدة السواد، وأربعة أشياء شديدة الحمرة، وأربعة أشياء مدورة واسعة، وأربعة ضيقة وأربعة رقيقة، وأربعة طيبة الريح، فأما الأربعة الشديدة البياض فبياض اللون وبياض العين وبياض الأسنان وبياض الظفر، وأما الأربعة الشديدة السواد فسواد الرأس والحاجبين والحدقة والأهداب، وأما الشديدة الحمرة فاللسان والشفتان والوجنتان واللثة. وأما المدورة فالرأس والعين والساعد والعرقوبان. وأما الواسعة فالجبهة والعين والصدر والوركان. وأما الضيقة فالمنخران والأذنان والصرة والفرج. وأما الصغار فالأذنان والفم والرجلان. وأما الرقاق فالحاجب والأنف والشفتان والخصر. وأما الطيبة فالأنف والإبط والفرج. وأما العظيمة: الهامة، المنكبان والأضلاع والعجز." ([6]). كما أخذ الوجه حيزا مهما من الوصف والتركيز على تقاطيعه في "تحفة العروس" ، حيث استقطب أوصافا جسدية تشهد للمرأة بالجمال والكمال الجسدي، فقد قال صاحب التحفة واصفا المرأة بأوصاف تتعلق ب:" الصباحة في الوجه، والوضاءة في البشرة، والجمال في الأنف، والحلاوة في العينين، والملاحة في الفم، والظرف في اللسان، والرشاقة في القد واللباقة في الشمائل وكمال الحسن في الشعر"([7]).

وقد عبَّرت امرأة كل العصور بجمال الوجه عن انخراطها الاجتماعي والثقافي، هذا الجمال الأنثوي الذي قورن بعمل الشيطان في العصور السوداء([8]). كما سمح للمرأة أيضا بأن تنتقل من وضعية الشيء إلى وضعية الموضوع، دون أن يتجاوز بها الجمال الوضعية الشهوية نظرا لطابعه الأنثوي، وهو نفس الشيء الذي تأكد في جسم الثقافة العربية من خلال: طوق الحمامة، حيث نحث ابن حزم مكانة متميزة للوجه في مفهوم الجمال الأنثوي، مفهوم الجمال تأثر كثيرا بعلاقة المرأة بالطبيعة والحضارة. فبياض البشرة دلالة على أن المرأة تُخْدَم ولا تَخْدُم. ومن ثم كانت المرأة "المدينية" في أعين العرب أكثر جمالا من المرأة الريفية التي تتعرض لعوامل الطبيعة.

 ولهذا كانت الأهمية التي تعطى للمرأة على المستوى الثقافي ممثلة في المضمون الأنثوي المقرون بالجمال، حيث يكون الوجه عنوانا لهذا الجمال، هذا ما رسخته الثقافة الفحولية حسب شروطها التاريخية عند توصيفها لصورة المرأة وهي تسوق الجسد الإمتاعي باعتباره شرطا وجوديا ووظيفيا، فيصبح الوجه علامة وأيقونة تختزل كل جسد الأنثى، بما فيه نتوءاته وفجواته الشبقية، إن هذا الاختزال يجعل المرأة صفحة بيضاء قابلة للانكتاب بقلم مذكر بحسب املاءاته الاستيهامية، حيث يتم تفحيل المضمون، بالرغم من أن دمغة الشكل يحتلها التأنيث بامتياز.

  1. التفحيل الثقافي للجسد في الخطاب الأدبي العربي

لقد صاغ الخطاب الثقافي العربي متخيله حول الجسد الأنثوي بداية، من خلال الصورة الشعرية التي اتسمت بفاعليتها في رسم صورة المرأة الجميلة، ليس فقط من حيث تأكيدها شعريا، كما مثل ذلك الشاعر الدارمي في بيته الشعري المشهور([9])، بل أيضا من حيث الصورة السردية، وذلك عبر تسريد الجسد من خلال الأنثى ذاتها، وهو يمرّ عبر ممكنات الوصف التي تحتفي بالتفاصيل ، فقد جاء في وصف الأنثى التي تُغْرِي للرجل ما قالته عجوز يقال لها عصام، أرسلها الحارث ابن عمرو بن حجر جد امرئ القيس ملك كندة لتخبره عن أوصاف ابنة عوف بن محلم الشيباني، وقد أُخبر بكمالها وجمالها وقوة عقلها، ولما عادت استنطقها بالقول المأثور:" ما ورائك يا عصام "، قالت :" رأيت وجها كالمرآة المصقولة يزينها شعر حالك كأذناب الخيل المضهورة إن أرسلته خلتها سلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاها الوابل، ومعه حاجبان كأنهما خطا بقلم أو سودا بفحم قد تقوسا على مثل عين العبهرة [ البقرة الوحشية] التي لم يرعها قانص... وبينهما أنف كحد السيف الصنيع، حفت به وجنتان كالأرجوان في بياض كالجمان شفافية فم كالخاتم، لذيذ المبسم، فيه ثنايا ثغر، ذات استر، تقلب فيه لسان بفصاحة وبيان، بعقل وافر وجواب حاضر، تلتقي فيه شفتان حمراوان تجلبان ريقا كالشهد إذ ذلك، وفي رقبة بيضاء كالفضة ركبت في صدر كتمثال دمية ، وعضوان مدمجان، يتصل بهما ذراعان ليس فيهما عظم يمس ولا عرق يحبس.. نتأ في ذلك الصدر ثديان كالرمانتين يخترقان عليها ثيابها، تحت ذلك بطن طوى على القاطي المدمجة، كسر عكنا كالقراطيس المدرجة، تحيط بتلك العكن سترة كالمدهن المجلو ..."([10])، وتختم وصفها متجاوزة وصف الباقي بحجة أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو شعر.

تعتبر هذه الصورة التي نسجتها عجوز ملك كندة عن الجسد الأنثوي نموذجا مسكوكا في الذهنية العربية، فالوصف هنا لا يفرق بين الوصف البلاغي الآتي من المتخيل وما بين المستوى الإبلاغي التواصلي أمام الملك، فالواصفة هنا: " تتكلم في زمن غير زمن الرؤية المباشرة للجسد الأنثوي تصفه لجسدها وذاكرتها، أي بقدرتها الأنثوية على تعرية جسد الآخر باللغة في حضرة المتلقي" ([11])، فهي بذلك قد وافقت الصورة التي ينتجها النسق الثقافي عن الجسد الأنثوي وأكدت حمولته المتمثلة على شكل صورة ذهنية لغوية، باعتبار تلاحمها مع المتخيل حيث تُبنى بلاغيا.

لقد أتت الصورة الأدبية للمرأة في ذاكرة الشعر العربي مماثلة لصورة المرأة في العصر الجاهلي نظرا للتشابه في المحاسن المعتمدة على مغازلة المخيال الذكوري من خلال مرجعية اللغة: "ومن هنا نستطيع أن نزعم أن اليعْرُبِي امتزج مع بعيره امتزاجا فذَّاً بل إنه تماهى فيه حتَّى يمكن أن يقال إن هناك عملة واحدة لها وجهان: وجه إنساني هو اليعربي وآخر حيواني هو البعير"([12])، حتى أن عجوز ملك كندة لم يخل وصفها للمرأة من وصف الخيل وشعر أذنابها والبقرة وعينيها، ولهذا كان سحر المرأة الجاهلية والصورة التي رسمها الشعراء لها، تمثل الذوق العربي أصدق تمثيل، تُجسد تلك الوحدة المشتركة للوجدان العربي والتي تأكدت في الثوابت الفنية والتخيُّلية التي تنتظم ببنية القصيدة العربية، بنية حية للخلق الفني تُشكلها الوحدة النفسية والشعورية التي جعلت من مقومات الجمال خاصية مشتركة في شعر الغزل ف:" كل حبيبة، صورة مثالية للمرأة العربية التي لفتت الأنظار وسلبت الألباب ودخلت القلوب دون استئذان "([13]). وقد تحدث خليل رفيق عطوي عن هذا السحر الذي "يكمن في تكامل أوصافها، فالعيون نرجس تفعل في المرء فعل الخمر والسهام، والحواجب قسيّ على الجبين الصبوح، والشعر ليل يتدلى على المثنين فيحيط وجها كأنه الشمس أو القمر نورا يشعشع في الخدود الوردية والثغر أقحوان واللَّمى خمر، والريق شهد والأسنان لؤلؤ"([14])، كل هذا يدفع بالبحث إلى تأكيد الصورة المثال للمرأة العربية وجسدها، فهوس العربي بثقل العجز وامتلاء الساق يؤكد الرؤية الشبقية للمجتمع العربي الذي رسخت فيه اللحظة الجنسية ولو على صعيد المتخيل، ذلك الترابط القوي ما بين الشهوة والمتعة والنموذج الجمالي، وقد شهدت العصور اللاحقة حتى حدود العصر العباسي تحولا في وضعية الليبيدو الذي تحول من النموذج الجسدي المكتنز إلى النموذج الجسدي المجدول والممشوق حيث تم تشبيه المرأة بالغصن البان، لهذا "فإن اليعاريب قد ابتدعوا ما يمكن أن نسميه (تناسخ الأجساد ) وخلاصته أن تغدو الامرأة على هيئة الناقة في بعض الأجزاء وعلى صورة الفَرْسَة أو الحجر أو الفُريسة في سائر الأعضاء" ([15]) .

إن حضور النموذج السائد والمألوف والتعامل معه على مستوى المثال استطاعت الذات العربية استحضاره في جل الموضوعات الممثلة له، بما أن الذات هي الضامنة لوحدة هذه الموضوعات، "فإذا كان الشاعر العربي قد بلغ الذروة في التخييل القصصي من خلال وصف الناقة وتصورها بقرة أو ثورا أو نعامة أو قطاة، فإنه قد ظل ملتزما بهذا الاتجاه العام، مما يدل على أن وصف الناقة كان محكوما بتقليد تخيلي ترسخ منذ الزمن " ([16]) .

إن أنْوَقَة صورة المرأة الجاهلية لدى الأعرابي حقيقة وعتها المرأة الأعرابية : "فجهدت جهدها لتشكيل بدنها على مثال بدن الناقة في بعض وعلى رسم بدن الفرسة في بعض الآخر"([17])، فأصبحت تقبل بأربع وتدبر بثمان، عجزاء مدبرة وهيفاء مقبلة كما جاء على لسان كعب بن زهير. فالعربي لا ينظر إلى امرأته إلا من خلال ملامح الناقة والفرسة اللتان يملآن عليه حياته وتشكيلات حواسه، وقد كان من الطبيعي أن يصبح المقياس" الناقوي" هو المقياس الذي يقيس به الأعرابي المرأة. وكانت صورة المرأة في الأدب كما في الواقع مقرونة بالبدانة التي تؤهلها للقيام بوظيفة الأمومة والخصوبة الجنسية. إن الأعمال الفنية اللافتة للنظر في تماثيل ما قبل التاريخ كانت تماثيل المرأة المصنوعة من الحجر الجيري، تمثل امرأة بدينة في كل أعضائها تلميحا لوظيفة الأمومة. واستمرت المرأة صدىً لتهويمات الأديب، حين غلغل النظر في جسدها وتمادى في التعبير عن ميله إلى هذا الجسد، بما فيه من إغراء وفتنة ألهبت أنينه فكشفت ظنونه، فالمرأة عنده سمينة، ضخمة العجيزة، ثقيلة الأرداف، ولهذا فلو كانت نساء الأعراب رسحاوات لما احتاج الإسطير إلى هذا الكم الهائل من المنع والتضييق على المرأة في لباسها وزينتها، ولما انتمى الجسد الأنثوي لدائرة المقدس.

إن العين الليبيدية للأدب العربي كانت منخرطة في تشكيل التقطيعات الجسدية لنحث صورة المرأة المثال التي اكتملت فيها أوصاف الجمال، فرسم النسق خطوطها العامة والخاصة، فبلغت حد الكمال بين الوصف الواقعي والمتخيل، حيث عبّر الشعر القديم عن قمة ما أنتجته حضارة العين، باعتبارها أداة الاستقبال التي يجري التركيز عليها كمركزية ثقافية تُزكي الاشتغال على حاسة البصر وتهمش الباقي، حيث أصبح الجسد يستقبل العالم عبر حس واحد، البصر، ويرسخ نفس الصورة عن الجسد الأنثوي على المستوى البلاغي، ف:" تخييلية الجسد الأنثوي تقف وراء متعة مزدوجة بصرية وخطابية تسامت بالجسد الواقعي وخلقت منه جسدا ثقافيا خاضعا لتطور السنن الجمالية وتحولاتها " ([18]).

ويظهر مع ذلك أن صورة المرأة تلك قد عُرضت مثالا منزوع الحركة أو أداة رمزية قابلة للتوظيف خارج حضورها المُنتج، فهي في كثير من التمثلات سلبية وعاجزة عن الحركة:" فكل ما نتلقاه من آداب وتراث عن المرأة هو نتاج هذه الصورة الخرساء لذلك الجسد النائي" ([19]). فتساوت المرأة العادية بالمرأة المؤلهة في الثقافة العربية، إن النسق الثقافي لم يردهن للكلام في الواقع المحسوس، بل اصطفاهن ليحلِّقن صامتات ساكنات في سماء الخيال، في حين حافظ الجسد بين هذا وذاك على خصوبته وحضوره الجنسي الشبقي والأيروسي في الواقع كما في التمثلات.

  1. الجسد الأنثوي وأسبقية الثقافي على الوظيفي

يملك الجسد الأنثوي من الإمكانيات ما يجعله موحيا بمجموع النسق الثقافي وهو في حالة جمود ومستغن عن الوحدات الإيمائية، وقد يوحي بالمكونات الثقافية وهو على طبيعته يمشي أو يشرب أو يأكل، ويخبر بالجسد ومكانته الاجتماعية في رسائل قد ترتبط غالبا بالملابس والحلي وحالاته الطبيعية أو التجميلية، وقد فرضت الطبيعة على المرأة كما يقول مؤلفا "الإشارات الجسمية": " أن تفوق الرجل في استنطاق الجسم لتوجيه الرسائل والرموز المختلفة للآخرين، فهي تصفف الشعر وتلون الشفتين والخدين، وما حول العينين بألوان الصباغة والرسم، وهي قد تفلح السن بين الشفتين، وقد تضع نقطة الخال تحتهما، وتزين العنق واليدين والرجلين بالمحالي، وتختار من أنماط الزي واللباس التي تخفي أو تكشف عن أجزاء معينة من الجسم تتفق وعرف المجتمع الذي تنتمي إليه. كما تلجأ أيضا إلى وشم مثل الرجل وتختار من الأشكال والخطوط ما يناسب أنوثتها، وهي تعمل بذلك لتوجيه أول وأهم رسائلها التي تتمثل في لفت نظر الرجل"([20]).

فالسياق الثقافي يعتبر من المكونات الأساسية للنسق الثقافي الذكوري وغالبا ما تحصره رؤية الرجل للعالم في طبيعته الثقافية ويتم الاستغناء عن الفعل الوظيفي مما يخلق للجسد الأنثوي وانفراجاته سيمياء مهووسة بالتأويل. فالحركات الثقافية أنتجتها هذه الرؤية وفق قوانينها الخاصة مدعمة لما يمثله الجسد، ويختفي في لاوعي هذه الرؤية التركيز على جسد الرجل، بما هي أسس ثابتة من شأنها أن ترسخ هذه الرؤية للعالم باعتبار الجسد الأنثوي متلقِ فقط لا صانع التمثلات، بالرغم من أن مجمل مدركات الجسد لا تعكس حسب هذا المنظور الذكوري سوى اكتمال المشروع الثقافي الذي سهر الرجل على تأسيسه، وترسيخه في الأسطورة والميتافيزيقيا، والفلسفة والدين والقانون والفن، وجمده في اللغة فأصبح جسدا من مقوماته الإبستيمولوجية الإيحاء في الصمت والحركة.

إن وجود الجسد الأنثوي مرتبط بفضاء التوقعات التي يُحمل عليها كقراءة للنسق الثقافي المسبق، وإذ هو يخضع للسكون، ينتظر المعنى من العين التي ترى، المعنى الذي يأتيه من النسق، المعنى الذي يحمله ويبعده عن الجسد المحسوس، وتستعمل المرأة كل أنواع الحُجُب لإخفاء المعطى الوظيفي المحسوس من الجسد لتلائم تصورات الثقافة الذكورية: " فليس في طبع الثقافة الذكورية أن تتحمل أو تقبل "واقعية" الجسد المؤنث، ومن الضروري لهذه الثقافة أن يكون التأنيث قصيا ووهميا لكي تظل الأنوثة "مجازا" ومادة للخيال. وفي هذه الحالة فقط تكون الأنوثة جذابة ومطلوبة في المخيال الثقافي، وتنتهي جاذبيتها بمجرد تحولها إلى واقع محسوس"([21]). وهذا ما تعيه المرأة جيدا وتحاول أن تغلف به واقعية جسدها، حتى يمكنها أن تتاجر بمفاتنها التي سما بها النسق الثقافي نحو المثال، تقول لوسي إيريغاري في ذلك:"على الرغم من جمال جسدها[المرأة]، وعلى الرغم من أنها تتزين بالذهب من أجله[الرجل]، فهي تبقى متحفظة ومتواضعة ومحتشمة فيما يخص عضوها. فهي شريكة في إخفائه. ففي هذه اللعبة المزدوجة، تعري المرأة جسدها، وتتبرج، وذلك لكي تحفظ فرجها بصورة أفضل، ولئن كان لـ"لجسد" المرأة من "فائدة" أو "قيمة" تذكر، فإن ذلك يتم شريطة أن تستر عضوها، هذا "اللاشيء" المعد للاستهلاك والمتخيل Fantasmé. فكيف يمكن المتاجرة بهذا الشيء الهزيل والأجوف؟ ينبغي على المرأة كي تلقى رواجا، أن تحجب هذا الشيء المهين والبخس mé-prix الخاص بها"([22]). إن واقعية الجسد إذن تضعه موضعا متدنيا في سُلم الاهتمام، ومن ثم تصبح الرغبة من المعطيات الأساسية التي تشغل فراغ الجسد وتشعره بالحياة، حيث يتنكر الجسد لتصرفاته الآلية ويموقعها ضمن الأنساق الرمزية. يقول روجي دادون: "بالرغبة يتملص الجسد من تصرفاته الآلية ويجعلنا نتذكر بقوة، بالرغبة يتحين الجسد، يهتز، ويدرك نفسه باعتباره نبضا حيا، بها يجعل نفسه حاضرا ثقيلا رشيقا متوسلا أو آمرا"([23]).

  1. تسريد الجسد في النص الأدبي العربي

تسرد المرأة الأديبة الجسد الأنثوي وهو مُتخم بفضاءات رمزية متعددة، معتمدة على ألق اللغة وشاعريتها وإنسانيتها، إنها تضع رغبتها في اللغة قبل أن تودعها جسدها، إن الجسد يلخص في نفس الآن تطلعات النساء، إحباطاتهن ومظاهر استعبادهن، فكما عرفنا مع سرد عجوز ملك كندة الكيفية التي بنت بها الجسد الأنثوي ماديا، نعرف مع الروائية غادة السمان بناءها للجسد الأنثوي ثقافيا، تقول في قصتها "الخاطبة" واصفة التراث الأنثوي، وهو يشتمل على أمنيات لاواعية للعريس، وعلى أوصاف العروس المثالية في المجتمع العربي الحديث، تقول: " عروس نادرة يا ابني. لها فم تأكل وليس لها فم يحكي. ما قبّل فمها غير أمها. لاتغادر البيت دونما استئذانك إلا إلى قبرها. لا تلد إلا الصبيان. خادمة في النهار وجارية في الليل. خاتم في أصبعك تديره كما تشاء وتخلعه حين تشاء. وإذا فركته قال لك شبيك لبيك عبدتك بين يديك" ([26]). وتتابع الخاطبة عرض "سلعتها" التي تستحي من أكل الموزة أمام الناس تقول:" عروس نادرة بيضاء شق اللفت، تقول للقمر قم لأجلس مكانك. لا تفك الحرف كي لا تفسد القراءة أخلاقها ولا ترى التلفزيون إلاّ بأمرك. لا ترتدي الأحمر إلا في البيت أمامك. لا تنشر الغسيل على السطح إلا محجبة خوفا من كلام الناس وعيون الجيران والشيطان . الكلمة في البيت لك والسكوت والسمع والطاعة لها. أيا كان ما تقول تجيب: أمرك سيدي يا تاج رأسي. لا تستمع في الراديو إلا إلى البرامج الدينية وبرامج الأطفال مع أولادها. لا تقول كلمات مثل "موزة أو خيارة أو بيضة" إلاّ وتضيف عبارة " بلا معنى" بعدها لكي تتبرأ من الإيحاء بمعنى جنسي. بنت 14 سنة تصلح لزيجة الدهر." ([27]).

  وقد سردت المرأة المغربية كأختها العربية الجسد معبرة عن الفرح والحزن جاعلة جسدها متورطا في هذا الاحتفال منتشيا أو متشكيا، وهي تنخرط في موجة الجسد الأنثوي المتخيل التي تجتاح حاليا المجتمعات الحديثة، باعتباره أنموذجا للجسد الجميل، الممتلئ، المعافى والقوي.

 لقد كتبت المرأة بالأدوات السائدة والمتمثلة في القول الذكوري الوحيد والمهيمن، وهذا القول الخاص جعل منها موضوعا، لأنها عندما تكتب تقول قولا يمتلك الرجل ناصيته وبداياته التاريخية على الأقل، ففيما راكم الرجل القول اللغوي عبر العصور، شكّل ملامح العالم وصاغ إثر ذلك أدواته اللغوية والمعرفية، ولما تريد المرأة الكاتبة، أن يُنظر لها باعتبارها ذاتا وليس موضوعا لزمها، البحث عن الأدوات التي يتم بها تشكيلها للعالم على صورتها، وإذ تستعمل المرأة الجسد بصفته أداة للتواصل مع العالم، يعتبر من أكثر الأدوات إظهارا لاختلافها، كما يجعلها منسجمة مع ذاتها الحقيقية، ويعطي لقولها طابع الحضور باعتباره امتدادا للجسد، وبذلك توزعت صورة المرأة من خلال الوضعية التسلطية للمجتمع إلى صورتين:

1) صورة المرأة المثال وهي تسكن المجرد وتبيح في علاقتها الاستيهامية مع الرجل كل شيء.

 2) صورة المرأة في وضعية اجتماعية واقعية تحكمها قوة القهر وسلطة الملكية .

إذن:

  • أين المرأة من جسدها وأنوثتها ؟
  • ماهي علاقة جسد المرأة بالكتابة؟
  • هل كتابة المرأة انفتاح للغة اللاوعي أو خضوع للسلطة؟.
الخاتمة:

لقد نادت النساء في بداية الحركة النسوية بقلب الأدوار ونقل السلطة من تسلط الرجل على المرأة إلى تسلط المرأة على الرجل، واستقر الرأي أخيرا على إعادة العلاقة المتكافئة والمتحررة بينهما، وهذا النضال يجد منطقه في المستوى الثقافي، غير أن المرأة بدأت تركز داخل منطقة الصراع على سلاح الجسد، جعلت منه سؤال خصوصية يُقحم الذات طرفا أساسيا في مشروع الكتابة، باعتبارها غاية ومشروعية في المطالبة بحقوقها وواجباتها، فعكست بذلك أساسا، توجها أنثويا جديدا يتفرد في الرؤيا والتجربة، ذلك أن تمايز كتابات المرأة، واختلافها عن كتابات الرجل يرجع بالأساس إلى الاختلاف الكائن في تفاصيل رؤيتها للعالم، واقترنت العلاقة بين الجسد والكتابة باقتران الوعي الفعلي بالجسد والوعي الممكن للكتابة، واستدعى هذا الوعي إلغاء الانقسام الحاصل بالذات النسائية، كما استدعى ذلك تبني موقف جديد من الذات، أدى بدوره إلى انبثاق رؤية جديدة للعالم، فكان من المحتمل أن يأتي نص المرحلة الأولى في كتابة النساء داعيا إلى تفجير المسكوت عنه بإعادة صياغة مضامينه اللاواعية في أقوال أدبية جمالية خلاقة، واستطاعت الكتابة بذلك أن تُنَفِّس عن الكبت التاريخي للمرأة، فامتلكت بذلك الموروث الثقافي عبر استدعائه واستحضاره وذلك بإطلاق سراح رغبات الجسد. 

قائمة المصادر والمراجع:
  • العربية
  • بهجة المجالس، تحقيق محمد مرسي الخولي، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القسم الثاني ص13. نقلا عن: دة. نادية العشيري، ملامح في صورة المرأة من خلال بعض مصادر الأدب الأندلسي ، المرأة والكتابة، سلسلة ندوات 8 ، سنة 1996.
  • التيجاني، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي القاسم، تُحفة العروس ونزهة النفوس، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، سنة 1987.
  • حميد لحمداني، الواقعي والخيالي في الشعر العربي القديم (العصر الجاهلي)، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط1، 1997 .
  • حسام الدين، كريم زكي، الإشارات الجسمية، دراسة لغوية لظاهرة استعمال الجسم في التواصل، المكتبة الأنجلو مصرية، ط1، سنة 1991.
  • خليل عبد الكريم ، العرب والمرأة، حفرية في الاسطير المخيم ، الانتشار العربي سينا للنشر ، سنة 1997.
  • رفيق خليل عطوي، صورة المرأة في شعر الغزل الأموي ، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، ط1، اكتوبر 1986.
  • السمان غادة، المجموعة القصصية "القمر المربع"، قصة الخاطبة، منشورات غادة السمان، بيروت، سنة 1994.
  • الطاهر لبيب: سوسيولوجيا الثقافة، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ط2، سنة 1986.
  • الغذامي محمد عبد الله، "المرأة واللغة – 2 – ثقافة الوهم مقاربة حول المرأة والجسد واللغة"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، سنة 1998.
  • فريد الزاهي ، الجسد الأنثوي في الثقافة العربية من البلاغي إلى المتخيل، ندوة المرأة والكتابة، سلسلة ندوات 8، كلية الآداب بمكناس ، مطبعة فضالة ، المحمدية، المغرب، سنة 1996.
  • كمال علي، الجنس والنفس في الحياة الإنسانية، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سلسلة أبواب العقل الموصدة، ط3، سنة 1994 .
  • مسكين الدارمي، ديوان، جمع وتحقيق عبد الله الجبوري وخليل ابراهيم عطية، مطبعة  دار البصري ، بغداد ، ط1 ، سنة 1970.
  • ندوة المرأة والكتابة، سلسلة ندوات 8 جامعة المولى إسماعيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، سنة 1995.
  • المترجمة
  • إيريغاري لوسي "سيكولوجية الأنوثة مرآة المرأة الأخرى"، ترجمة د.علي أسعد ، دار الحوار سوريا، ط1،سنة 2007.
  • جوليان هيلتون: نظرية العرض المسرحي، ترجمة: نهاد صليحة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، سنة 1994.
  • روجي دادون: "الرغبة والجسد"، ترجمة: د. محمد أسليم، مجلة علامات، عدد 4، سنة: 1995.
  • الأجنبية
  • Edgar Moran “de la culture analyse à la politique culturelle, communication, N° 14, Paris, 1969.
  • Edgar Moran “le paradigme perdu : la nature humaine, Seuil, Paris, 1973.
  • -Goldman (Lucien) “pour une sociologie du roman », Gallimard, col, “Idées » Paris, 1964.
  • M.J. Herskovits ” les bases de l’anthropologie culturelle », Payot, Paris, 1967.

 

الخطاب الثقافي العربي: من النسق الثقافي إلى الرسم السردي للجسد المؤنث
Partager cet article
Repost0
20 avril 2023 4 20 /04 /avril /2023 23:24
Reevaluating Language Teaching Methods: Is the Traditional Approach Obsolete?

Reevaluating Language Teaching Methods: Is the Traditional Approach Obsolete?

Mohammed Akram Nacif [1]

دراسة محكمة

ملخص 

تعد منهجية تدريس اللغة مسـألة ذات أهمية بالغة لاتزال موضوع نقاش واسع في أوساط أهل التخصص من أساتذة وباحثين. وقد برز مؤخرا توجه يقول ب’ موت المنهج ’بمعنى أننا اليوم نعيش ولادة منهج مستجد أساسه ‘اللامنهج’ في منهجية تدريس اللغة. نقطة البحث في هذا المقال تتمحور حول مناقشة مدى صحة هذا الزعم وهل فعلا نحن اليوم نشهد ‘موت’ المنهج في تدريس اللغة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون اعتقادا لا صحة له باعتبار أن اعتماد واستعمال الكتاب المدرسي نفسه يعد ترسيخا فعليا وتكريسا بطريقة غير مباشرة لكل المناهج المتعارف عليها علميا. والحقيقة أنه لا يخلو كتاب مدرسي عند كتابة محتواه من اعتماد منهج ما يكون له مرجعا وإطارا نظريا يعطيه مصداقية وسندا علميا وجودة، ومن تم فكل مدرس، سواء علم بذلك أم لم يعلم، وسواء كان راغبا أم كارها، فهو يتبع منهجية ما، متمثلة في نظرية اللغة التي اعتمدها مؤلفو الكتاب المدرسي وفي الطريقة التي يعطي بها الكتاب الأولوية لأنواع معينة من الأنشطة على غيرها من باقي الأنواع.

الكلمات المفتاحية: اللغة؛ التدريس؛ المنهجية؛ المقاربة؛ الطريقة البعدية.

Résumé

La question de la pertinence de la méthodologie d'enseignement des langues a été largement débattue récemment. Assistons-nous à la ‘mort de la méthode’ ou le manuel a-t-il simplement été une réincarnation de la méthode de manière discrète ? Les enseignants qui croient ne pas adopter ou suivre une méthode spécifique, mais qui utilisent un manuel dans leur enseignement quotidien, sont autant liés par une méthode que les praticiens de la Méthode Directe, ou les défenseurs de la méthode Audio-orale à leur apogée respective. Evidemment, ces enseignants insisteront sur le fait qu'ils utilisent les manuels de manière sélective, conformément à leurs propres principes ainsi qu'aux besoins des apprenants. Mais quelle que soit la sélectivité de ces enseignants, ils sont toujours, volontairement ou non, liés à une théorie du langage, illustrée par la manière dont le matériel du manuel sélectionne et dépeint la langue, et à une théorie de l'apprentissage, incarnée dans la manière dont le manuel donne la priorité à certains types d'activités par rapport à d'autres.

Keywords : Language; teaching ;methodology; approach; post-method.

 

A language teaching method is “the level at which theory is put into practice and at which choices are made about the particular skills to be taught, the content to be taught and the order in which the content will be presented.” (Richards and Rodgers, 1986, p. 19) 

If you briefly survey teachers as to what method they buy into, you will most likely get answers like : ‘I don’t follow a method at all’, or ‘I prefer to be rather 'eclectic'’, and ‘I pick and choose from techniques and procedures associated with a variety of different methods’. Some might even say that, basically, their teaching follows the principles dictated by the communicative approach, itself an amalgam, embracing anything from drills to communicative tasks, and everything that exists in between. But the concept of a monolithic, prescriptive 'method' - as in the Direct Method, or the Oral/Auditory Method – seems now to be dead and done with.

That more and more teachers are less inclined to follow any particular method fits well with the modern prevalent view that we are now living in what has recently been termed a 'post-method' age in education. In his Fundamental Concepts of Language Teaching, Stern revealed that 'several developments indicate a shift in language pedagogy away from the single method concept as the main approach to language teaching' (1983, p. 477). One such development was the failure, on the part of researchers, to find any significant advantage in one method over another. As Richards (1990) stated, 'studies of the effectiveness of specific methods have had a hard time demonstrating that the method itself, rather than other factors, such as the teacher’s enthusiasm, or the novelty of the new method, was the crucial variable' (p. 36). Additionally, acknowledgment of the broad range of changing factors that influence second language learning fuelled a wide ranging discontent with the notion of a 'quick fix', or what, in the social sciences, is sometimes called the 'technical-rational approach', i.e. the belief that social change and improvement can be attained or accomplished through the strict application of scientific method. This had greatly been the spirit that urged the spread of audiolingualism, initially based upon research into animal behaviour. However, the social sciences started witnessing a challenge to 'scientism', especially in the last two decades of the 20th century, a challenge mainly associated with the emergence of postmodernism, and its abandonment of the idea of universalist, objective knowledge. Correspondingly, Pennycook (1989) argued that methods are never 'disinterested', but serve the dominant power structures in society, leading to 'a de-skilling of the role of teachers, and greater institutional control over classroom practice'(p. 610).

Towards the end of the last century, Kumaravadivelu (1994) similarly talked about what he called the 'postmethod condition', a result of 'the widespread dissatisfaction with the conventional concept of method' (p. 43). The idea is rather than readily accepting a single set of procedures, postmethod teachers adapt their approach in congruence with local, contextual factors, while at the same time being guided by a number of 'macrostrategies', more specifically two macrostrategies : 'Maximise learning opportunities' and 'Promote learner autonomy'. Four years before Kumaravadivelu’s work, Prabhu (1990) in a famous article asserted that there is no one method, but that teachers adopt an approach that corresponds uniquely with their 'sense of plausibility.' Thus, rather than blindly following a wholesale adoption of a teaching method, teachers utilize a discreet adaptation of its underlying principles, keeping only what they believe is plausible to put into practice and leaving out what they deem to be less useful.

All that said, and despite what advocates of the postmethod trend have said, it seems preposterous to claim that the notion of method has now completely faded away. In fact, it is still prevalent ;  you can find it anywhere, even if attempts have been made to replace the term itself with synonyms. Check out some internet advertising for language courses, for instance, you will come up against statements like these:

‘Duolingo is a language learning software that is now also available through ... The Duolingo method uses zero english to teach you a foreign language. ... is built around a concept called dynamic immersion, an unique learning method that uses a computer to mimic the ways in which you learnt your first language.’

‘Earworms is a unique language method that relies on audio lessons mixed into music. The theory is that you will find the music catchy and thus remember your lessons easily … it may be suitable for travelers or others who have given up on other methods.’

‘The Busuu method is broadly communicative, and based on how language is taught successfully in classrooms. The focus of each exercise within a course is to give the student something new - usually a word or a phrase - that they can use immediately in writing or conversation.’

It appears safe to claim that – in the mind of the general public, at least – the method concept is not dead. As Block (2001) notes, 'while method has been discredited at an etic level, it certainly retains a great deal of vitality at the grass-roots, emic level (that is, it is still part of the nomenclature of lay people and teachers)' (p. 72). This is an opinion rightly shared by Bell (2007) who interviewed a number of teachers on the issue, and came to the concusion that:

'Methods, however the term is defined, are not dead. Teachers seem to be aware of both the usefulness of methods and the need to go beyond them.' (p. 143).

However, in an interesting paper, Akbari (2008), using Iran as an instance, argues that, in EFL contexts, it is textbooks that have largely replaced methods in their conventional meaning:

'The concept of method has not been replaced by the concept of postmethod but rather by an era of textbook-defined practice. What the majority of teachers teach and how they teach... are now determined by textbooks' (p. 647).

As a matter of fact, the intentional amalgam of method with textbook is an idea deeply rooted in history, especially in the literature related to language teaching in Spanish, where method and textbook share a single name: método.

I shall similarly argue that the concept of method is not only vigorously alive and well, but has also been reskinned taking the form of coursebooks, in such a manner that it would be reasonably acceptable to say that textbook series like Headway and Cutting Edge – more than any other factor – are now directly shaping and dictating current teaching practice. In other words, rather than the método epitomizing a single specific method, the método is itslef the method in a much broader sense.

Now, a legitimate question rises here. What is a method? What is it, ultimately, that defines a method? Richards and Schmidt (2002) make the rational claim that 'different methods of language teaching... result from different views of:

a. the nature of language

b. the nature of second language learning

c. goals and objectives in teaching

d. the type of syllabus to use

e. the role of teachers, learners, instructional materials

f. the activities, techniques and procedures to use'

(p. 330)

 

Even a brief look at their content or at the manner they are marketed establishes the fact that the writers and publishers of textbooks take particular positions, either explicitly or implicitly, with regard to each of these areas. The theory of language that textbooks instantiate, for example, is clear from their contents pages, where language is typically understood and depicted as what Rutherford names a system of 'accumulated entities', an accumulation of linguistic items in which the role of teacher is to clarify them to the learners (Rutherford, 1987). As Basturkmen (1999) conjectured, after inspecting the back-cover blurbs of a number of present-day textbooks, 'the emphasis is on the underlying generative base or language rules rather than on surface level aspects of use' (p. 34).

Second/foreign language learning, as shown from textbooks, by and large follows a cognitive model, where factual knowledge is organized and taught through successive practice activities. For example, the back cover of Inside Out (Kay and Jones, 2001) makes the claim that 'easy-to-use exercises put rules into practice – and are then recycled as speaking activities'. As for 'the goals and objectives of language learning', these tend to go very much in accordance with those of the communicative approach. Inside Out, for instance, 'has been designed to develop real-life communicative skills and powers of self-expression' (Kay and Jones, op. cit), while Cutting Edge (Cunningham and Moor, 1998) aims at 'improved confidence and fluency' as well as 'a clearer understanding of how language is used'. (There is, obviously, no recognition that the discrete-item focus of the syllabus might be at odds with these more holistic objectives.) As far as the syllabus is concerned, the grammar ‘doctrine’ still holds way, but the influence of the lexical approach (Lewis, 1993) and of corpus linguistics (or ‘real life’ language) is now ostensibly clearer. Innovations (Dellar and Hocking, 2000) 'has a strongly lexical syllabus, presenting and practising hundreds of natural expressions which students will find immediately useful', and Natural English (Gairns and Redman, 2002) offers 'a new syllabus area called natural English – accessible, high-frequency phrases which intermediate students can pick up and use'.

Within the postmethod trend, the role of teachers, learners and instructional materials is most clearly demonstrated in the Teacher’s Book component, where the teacher’s role is both didactic and facilitative, and serves mainly to convey the textbook materials by, for example, explaining, demonstrating and modelling language items, and by setting up and monitoring student interactions. Gairns and Redman (2002) say:

'Once learners have thought about exercise 1, go over the language in the natural English box. You could model the phrases and replies yourself and ask learners to repeat them, then practise the two-line dialogues across the class' (p. 24).

The guidelines typically make the teacher as the center of attention, the locus of control in the classroom and even at times imply that the learners are potentially disruptive:

'Don’t let the false beginners dominate the real beginners or pull you along too quickly… Encourage [the false beginners] to concentrate on areas where they can improve (e.g. pronunciation) and don’t let them think they know it all!' [Oxenden and Seligson, 1996, p. 15]

Still, sporadic reference is made to the need to encourage learner agency and autonomy. For example, 'Choices within tasks encourage learners to take charge of interactions' (Kay and Jones, op. cit). Not unexpectedly, though, the textbook forms the core component of instruction: it is both the means and the message.

Lastly, the types of activities, techniques and procedures to use are derived from a range of methodological approaches. These activities rarely involve translation, or encourage the use of, or any reference to, the learners’ L1. The influence of the communicative approach appears to be strong, with most lessons including information-gap tasks, and texts that strive toward authenticity. There is a heavy focus on skills, and the distribution of the material gives more weight to skills-oriented activities than language-oriented ones. The dominant version/accent for representing English is a native-speaker one, and both the topics and the design of the materials reflect an 'aspirational culture' of travel, consumerism and popular culture (Gray, 2002).

Conclusions

These are, therefore, the characteristcs of a method, typically enmeshed in a método, inextricably linked to it. Clearly, teachers who believe not to be adopting or following a specific method, but who are using a textbook, are as much bound by a method than practitioners of the Direct Method, or advocates of the Audiolingual method during their respective heydays. Obviously, these teachers will insist that they use textbooks selectively, in accordance with their own principles as well as the needs of the learners. But however selective these teachers are, they are still, willingly or unwillingly, tied to a theory of language, exemplified in the way that the textbook material selects and depicts language, and to a theory of learning, as embodied in the way the textbook gives priority to certain types of activity over others.

 References

 

Akbari, R. (2008) Postmethod discourse and practice. TESOL Quarterly, 42/4.

Basturkman, H. (1999) A content analysis of ELT textbook blurbs: reflections on theory-in-use. RELC Journal, 30/1.

Bell, D. (2007) Do teachers think that methods are dead?  ELT Journal, 61.

Block, D. (2001) An exploration of the art and science debate in language education. In Bax, M, and Zwart, J.-W (eds.) Reflections on language and language learning: In honour of Arthur van Essen. Amsterdam: John Benjamins.

Cunningham, S. and Moor, P. (1998) Cutting Edge: Intermediate. Student’s Book. Harlow: Longman.

Dellar, H. and Hocking, D. (2000) Innovations. Hove: LTP.

Gairns, R. and Redman, S. (2002) natural English: Intermediate. Student’s Book. Oxford: Oxford University Press.

Gray, J. (2002) The global coursebook in English Language Teaching. In Block, D., and Cameron, D. (Eds). Globalization and language teaching. London: Routledge.

Kay, S., and Jones, V. (2001) Inside Out Upper Intermediate. Student’s Book. Oxford: Macmillan.

Kumaravadivelu, B. (1994) The Postmethod condition: (E)merging strategies for second/foreign language teaching. TESOL Quarterly, 28.

Lewis, M. (1993) The Lexical Approach. Hove: LTP.

Oxenden, C. and Seligson, P. (1996) English File 1: Teacher’s Book. Oxford: Oxford University Press.

Pennycook, A. (1989)  The concept of method, interested knowledge, and the politics of language teaching. TESOL Quarterly, 23.

Prabhu, N.S. (1990) There is no best method – why? TESOL Quarterly, 24.

Richards, J. (1990) The Language Teaching Matrix. Cambridge: Cambridge University Press.

Richards, J. and Schmidt, R. (2002) Longman Dictionary of Language Teaching and Applied Linguistics (3rd edn.) London: Longman.

Richards, Jack C. and Theodore S. Rodgers (1986). Approaches and methods in language teaching: A description and analysis. Cambridge: Cambridge University Press

Rutherford, W. (1987) Second language grammar: Learning and Teaching. London: Longman.

Stern, H.H. (1983) Fundamental Concepts of Language Teaching. Oxford: Oxford University Press.

 

[1] Associate Professor, CRMEF - Fes

Reevaluating Language Teaching Methods: Is the Traditional Approach Obsolete?
Partager cet article
Repost0
10 mars 2023 5 10 /03 /mars /2023 19:38

المساحات الكاليغرافية للحكي في المجموعة القصصية ورثة الانتظار

بقلم  د. عزالدين نملي


سنقاربة واحد من الإبداعات السامقة للمبدع عبد النور ادريس من خلال ثلاث ورقات , تحاول الورقة الأولى الوقوف على عنوان المجموعة القصصية "ورثة الانتظار" والورقة الثانية تعالج مسألة استحضار الشخصيات التاريخية في مجموعته السردية كتقنية من التقنيات الفنية , أما الورقة الثالثة فتحاول الوقوف على الصور البلاغية التي تنتشر بكثافة على طول المساحة الكلغرافية للحكي.
تطمح هاته الورقات إلى القبض على بعض ملامح التقنيات التعبيرية والأسلوبية والفنية , التي يحفل بها البناء السردي في " ورثة الانتظار" , من خلال البحث في مظاهرها وأشكال حضورها بهدف الإمساك بالدلالة الثاوية فيها ,و اﻈهار ما يكتنفها من توتر وقلق , ويترسب في أعماقها من مكونات سردية تنفتح على الذات والموضوعي, والخاص والعام , وما تختزنه من حمولات جمالية , وطاقات فنية وتعبيرية , على اعتبار أن الكتابة عند القاص عبد النور , حضورا وجوديا تبني نفسها على آليات ومكانيزمات فعالة, تساهم في تحريك اشتغالها وتفجير طاقاتها, حيث تتواشج كل التقنيات والمقاصد لصالح الفكرة المركزية و الدلالة المحورية , التي تعانق في هذا الجنس السردي موضوعة الانتظار في شتى تمظهراتها وتجلياتها , إنها كما يتبين لقارئ النصوص تمارس حضورا قويا في المحكي وفي نفس السارد وشخوصه و في تركيباتهم النفسية وعمقهم الوجداني, وسلوكا تهم الفردية و الجماعية, كما يظهر ذلك من خلال غلاف المجموعة القصصية ..الكل ينتظر بما في ذلك الراوي نفسه.. الكل ينتظر في قاعة متآكلة نسجت في فضائها العنكبوت بيتها, وتراكمت فيها جماجم آدمية, دلالة على مصائر البشر المعومة , والانتظار القاتل , اللانهائي واللامحدود..انتظار واغتراب وتيه وعبث..وتبرز قدرة السارد في نجاحه في تمرير معاني الانتظار في شرايين الملفوظات السردية, ومالها من تداعيات على امتداد طول مساحة السرد.

الورقة الأولى ..عنوان المجموعة القصصية "ورثة الانتظار" .

يمثل العنوان ورثة الانتظار، هذا المركب الاسمي خبر مقدم + مضاف إليه ، العتبة الأولى لدخول عالم النص السردي .. حيث يلعب أدوارا حية في الكشف عن دلالة النص، واستجلاء فكرته العامة، فهو علامة دالة تحرك في المتلقي عموما شهوة القراءة .. إن العنوان لم يوضع اعتباطا، إنما وضع من أجل تأدية وظائف متنوعة تخدم النص السردي وتوجهه وتمنحه إطارا متماسكا، وتطوقه بدلالات تكشف مقصديته، فالعنوان بمثابة نواة تتناسل من النص،إنه يتموضع كمعلومة بعتبة الواجهة، وينهض بوظيفة دمج المتلقي بالنص، وهو ما تنبه إليه كنغور حينما قال : " العنوان يؤسس غواية النص" .. لأن الاشتغال على السرد يبتديء انطلاقا من العنوان، حيث يستقر عند بوابته، ويعطينا إشارة المرور للدخول إلى عالمه. والعنوان هنا يكتسب قيمة دلالية وبلاغية لأن إسناد الانتظار إلى الورثة، ينم عن منافرة دلالية، تنزح في هذا التركيب عن اللغة المألوفة : " ورثة المال " " ورثة الفن " ورثة العلم "... ، فالسارد حطم الحواجز القائمة بينما هو أدمي ورثة وما هو مجرد الانتظار .. للدلالة على القتامة التي تسكن الأنساق السردية، والوعي الحاد الذي يسكن لا وعي الكاتب من هول تراكم الهزائم والإخفاقات والانكسارات ..والاحتراق في صف الانتظار، مما اكسب القوالب السردية قوة درامية ناجمة عن مشهد المسلسل الوجودي والتاريخي للشخصيات الاجتماعية ،المتآكلة، المتهاوية، والمحترقة بلهب الانتظار، كما في صحراء التتار لدينوبوزاتي ، حيث يغرق المنتظرون في بحر لجي من الظلام والظلمات، وموت الرغبات،ونزيف التوسلات...

الورقة الثانية :استحضار الشخصيات في المجموعة السردية

لقد شكل التاريخ طاقة مرجعية ومصدرا معرفيا، استقى منه السارد مواد بناءه خاصة ما تعلق منه باستدعاء الشخوص الماضية ذات الأبعاد الرمزية، وقد أضفى على هذه الاستدعاءات والتوظيفات لمسات فنية وأبعادا دلالية ، دلت على براعته وقدرته الفنية في توظيف ما يلاءم كل سياق، حيث أكسبها أبعادا إنسانية ترتبط بمشكلات الوجود والحياة وقيم العصر، كما نلمس ذلك في الزمن المكسور ص 13/ 14 ، حين استدعى كل من " هوميروس"و " عبد الرحمان المجذوب"، وجعل قبريهما يتصافحان ومضامين إبداعهما.. تركب صهوة الزمن للامحدود، متجولة في أمكنة وفضاءات الشوارع راصدة حركات الأفراد داخل المجتمع في زمن الترهل والاختناق والإخفاق.. حيث لم يجد عبد الرحمان المجذوب أمام هذه الصورة القاتمة إلا ان يطلق ساقيه للريح هاربا من هذا الزمن الرابض المكسور " ص 14 و15" ..، حيث جعل السارد من هذه الشخصيات منسجمة مع الفضاء السردي والدلالي الذي يروم تبليغه وإبلاغه من خلال رؤياه المسكونة بهاجس الزمن الرديء

الورقة الثالثة: الصور البلاغية في المجموعة السردية

تتجه الورقة الثالثة بسهم التحليل، إلى الصورة الشعرية التي يحفل بها النص السردي والتي تشكل خاصية أسلوبية في السرد عند الأستاذ إدريس عبد النور، لكونها تحتل مسافات مهمة في الملفوظات السردية، مما أضفى على تجربته السردية طابعا من الفرادة والبهاء، علما أن هذه الصور البلاغية تلم تلابيب المضمون وتجمع شتاته، كما تنهض بوظيفة إلحامية متميزة .. إن توزعها اللافت في جل أرضية النص، أكسبه غنى وثراء دلاليا، وساهم إلى حد كبير في تمتين بنية النص المتداخلة والمتعالقة.

هكذا، ومن خلال بعض الصور الاستعارية والمجازية التي ارتقت إلى مدارج الصور الانزياحية، بشكل يتطلب مجهودا من القارئ لمعرفة مخبوئها ومستورها الأسلوبي والدلالي، الذي يتسع لأكثر من معنى كما نلاحظ من خلال النماذج التالية:

" القبور تحتفي" ، الألوان الهاربة " ، الفصول الراقدة " ، الطرقات صائمة" الزمن رابض مكسور... حيث يتبين أن هذه الصور تتكئ على المنافرة، لكون المستعار والمستعار منه ينتميان إلى حقول تختلف اختلافا جذريا عن بعضها البعض، حيث يتم إسناد الإنسان على غير الإنسان، الشيء الذي يكسر أفق انتظار المتلقي أمام هذه الانحرافات والمنافرات التي تخدم الدلالة الدرامية والنغمة الحزينة ، والرؤيا الساخرة " الأحزان الضاحكة " .. ما يفسر دلالة اللاجدوى والعبث والاحتراق من انتظار تحول غير ممكن لزمن التخاذل والقتامة والهزائم .

وبهذا المعني فإن الصور البلاغية التي تحفل بها هذه المجموعة السردية ترقى إلى مصاف الصور الإبداعية الخالصة، وتعبر في نفس الوقت عن تجارب نفسية وإنسانية ووجودية في غاية التعقيد .

وختاما فإن هذه المجموعة السردية تحتاج إلى أكثر من قراءة وتأويل، لكونها تزخر بطاقات تعبيرية وتقنية لغوية وفنية جديرة ببحث مستفيض، يرقى إلى مستواها الإبداعي،وعليه فإن هذه القراءة تبقى مفتوحة إلى حين لقاء آخر نجتمع فيه مع هذه الكوكبة من المثقفين والمحبين للإبداع والفن..

Partager cet article
Repost0
22 février 2023 3 22 /02 /février /2023 17:29

    ملصق إشهاري (2)

الاشهار وآليات اشتغاله:

 

وما يزال الحصان..يصهل النساء..

 

 

بقلم د.ادريس عبد النور

 

 

مقدمة الدراسة

 

1- فرضية القراءة .

2- النسق الدلالي المركب.

-أ- إجراء التجدير.

-ب- إجراء الربط.

3- صهيل الحصان بين الطبيعي والثقافي..

4-الصهيل يفيض على بؤرة المعنى..

-أ- التقطيع الزمني.

-ب- التقطيع المعرفي.

- ج- التقطيع الجسدي.

- د- التقطيع اللغوي.

5- الورد الأبيض يمتطي راحة اليد...

6-وما يزال الحصان يصهل النساء....

 

 

 

تصدير:

إن هذه المقالة أعتبرها بمثابة الجزء الثاني لسلسلة المعنى الذي فتحه الدكتور سعيد بنـﮕراد حول لوغو البنك الشعبي،" ولا يكف الحصان عن الصهيل" المقال المنشور بمجلة علامات العدد السابع.

وهو بذلك قد فتح ذاكرة عميقة في جسد الأشياء ، فأصبح الإشهار عنده يتنفس في كينونة الشعري والسردي والجمالي ..وهل يحتاج الجمال إلى مؤوِّل ؟ إن بؤرة المعنى متشظّية وليس من حق المؤلف أن يؤوّل إلا بحسب امكانية وصوله إلى المعاني النسبية من الكل المتعدد والغير القابل للإيحاء بالنُّسخة والشبيه حيث أنه " لا قانون بنيوي يُجبرك على إقفال الجملة" على حد تعبير ر.بارت...

 

مقدمة:

الإنسان كائن رامز محمول بافتتان الحياة، حامل للمعنى الضواع بانتشاء الجسد الساخن، الجسد الذي يجسد اختلافاته في فضاء يستعمل المعنى في مرافعته ضد قضية المعنى

 

فكيف يكون المعنى كاذبا بالرغم من صدق مكونات القضية؟ أو كيف يكون المعنى صادقا مع عدم مصداقية القضية؟

 

إن الصورة الاشهارية التي ندرسها معدة لأن تفهم بسرعة ولأن يفهمها أكبر عدد من المتلقين انطلاقا من الدليل الأيقوني التي تتمتع به الشفرة اللسانية:

 

Votre banquier vous fait des avances

 

1- فرضية القراءة:

 

قبل مباشرة القراءة والتأويل والقيام بعملية توليد المعاني وملء الفراغات التي تقترحها علينا الصورة باعتبارها خطابا بصريا، لابد من طرح فرضية ما ولنقل مع دي سوسور " وجهة النظر تخلق الموضوع".

 

وقد نقول مع أمبيرطو إيكو" التأويل ليس فعلا مطلقا، بل هو رسم لخارطة تتحكم فيها الفرضيات الخاصة بالقراءة، هي فرضيات تسقط، انطلاقا من معطيات النص، مسيرات تأويلية تطمئن إليها الذات المتلقية"([1]

 

قد تتنوع قراءة هذه الصورة بتنوُّع المستقبل لها حسب الرهانات التي تخلقها شروطها الثقافية، وهكذا يمكن أن تكون هناك قراءة بعيون أنثوية ليختلط عالم المال بالعالم المناوش للقران الحاضر الغائب بعالم البنك.

 

وقد تكون هناك قراءة بعيون قروية فتكون الصورة جاحدة وهي تحمل وردة بيضاء عوض السنبلة لتطرح السؤال على مدى إمكانية العالم القروي للخروج من العقم الذي فرضه الجفاف على الخصوبة.

 

ويمكن صياغة فرضيات القراءة هاته باعتبار الوحدة المعنوية للدليل الأيقوني المشتمل على شفرات متعددة : * شفرة الألوان * شفرة الأشياء * والشفرة اللسانية.

 

فهل يمكن للصورة أن تكون موضوعا للدراسة في ذاته؟

 

2- النسق الدلالي المركب:

 

إن الفضاء الذي سنتأمل فيه معاني هذا الإشهار هو فضاء العلاقات الإنسانية، العلاقات الواعدة بالخصوبة واستمرار النوع البشري، وبما أن هذا النص الذي بين أيدينا لا يتوفر على قارئ أسمى فإنه لا يشتمل على معنى حقيقي إلا إذا استطاع المؤول أن أن ينتج شرطه كعلامة بحسب قول شارل موريس: " كل شيء يمكن أن يصبح علامة شريطة أن يؤول باعتباره كذلك من لذن مؤول".

 

فأن نقرأ هذا النص معناه أن نسائل فيه المستوى التشكيلي والأيقوني. مع افتراض أن هذه الصورة تحمل ثنائي ضدَّي عميق في ضد يته على المستوى المجالي بادية/ مدينة، خصوبة / لا خصوبة، والتي تحول النظرة الاستثمارية لمجموعة البنك الشعبي في التوجه إلى القطب المديني في طلب الزواج به وتحويل الطاقة الإنجابية الى مجال يهتم بقيمة الحياة في واحديتها وبالكيف على مستوى العيش.

 

فالعلاقة بين النسق اللغوي والنسق الأيقوني يتحدد من خلال:

 

أ- إجراء التجذير:

 

النموذج الذي نحلله هنا هو صورة إشهارية تقدم إشهارا لمؤسسة بنكية، تتمفصل الصورة فيه إلى نسقين متراكبين:أيقون بصري ولغوي.

 

ويمكن الوقوف عند مكونات الصورة في بعديها لتحليل الآليات التي توظفها بهدف إقناع المتلقي بالإرسالية التي تعتزم إبلاغها من خلال البعد الادراكي المعرفي الذي تنخرط الصورة ضمنه.

 

فبالنسبة للصورة موضوع التحليل، نلاحظ أن الإطار العام الذي يؤطرها يتكون من فضاء بوني شاسع يوجد ضمنه أيقون، وهو عبارة عن يد ذ كورية تحمل وردة بيضاء، ويوجد أعلى الصورة تنضيد أقوال لغوية تحقق المستوى اللساني في الصورة مع تبئير اسم : اليسر".YOUSR "

 

وفي أسفل الصورة يسارا يعن لوغو المؤسسة المالية الذي سنقرأ الصورة من خلال تحليله وإعادة بناء اشتغاله مشمولا بقيم النبل والأصالة يتحرك في إطار الهاجس المقاولاتي لصالح الجميع وبالجميع:

 

Entreprendre Pour le Bien Commun

 

ب- إجراء الربط:

 

إن الصورة التي أمامنا تزاوج بين نمطين من التلقي في عالم الاستهلاك:

 

* نمط يرتكز على اعتبار الشفرة اللغوية " تسبيق"

 

« Avance »

 

هو ما تقدمه البنك لحل الأزمة المالية للزبون عند آخر الشهر.

 

* ونمط يعتبر البعد السوسيو- ثقافي، المسبقات الغزلية وسيلة لتعويم المعنى:

 

« Avance »

 

التي عبرت عنه الصورة أصدق تعبير وهي نموذج للمرجعية الثقافية اللاواعية التي تختزن في بعدها الثقافي شحنات انفعالية لا تجد استساغتها إلا بالسنن الثقافي الفرنسي، فالصورة هنا تنتج مستهلكا ثقافيا عبر مرجعية اللغة من جهة، ومن تنميطها من جهة أخرى للاشعور الجمعي لتعكس الرغبة الدفينة للزبونة التي حققت ذاتها على المستوى "الفالوسي"

 

PHALLIQUE

 

بينما كان ذلك على حساب تجلياتها الأنثوية، كحبيبة و مخطوبة ، زوجة وأم.

 

إن الصورة لا توجد إلا لتكرار العالم بشكل أقل اتفاقا مما هو عليه في الأصل ويسمح لها بالانزياح قليلا عن الأصل ما دامت لا تستطيع تقليده بإتقان.

 

فمهما كانت الزاوية التي ننظر منها إلى الأمور فإننا لن نخرج من ثنائية، الشكل/ الشيء، أو ننطلق من الشيء لنصل إلى الشكل.

 

وعند مقاربتنا لهذه الصورة سننطلق من مباشرة دراسة الصورة في ذاتها، انطلاقا من: *المستوى الأيقوني والذي يعتمد على القراءة الاستتيقية ومجمل إيحاءاتها.

 

*المستوى الاجتماعي وفق الحقنة الأيديولوجية المبثوثة في الصورة.

 

* المستوى البلاغي حيث يمارس النص اللغوي سلطة على الصورة ذلك أنه هنا يتحكم في قراءة الصورة الاشهارية ويكبح جماحها الدلالي.

 

3- الدال الأيقوني: صهيل الحصان بين الطبيعي والثقافي..

 

يرُدّأوبيرطوإ يكو عملية بناء الدال الايقوني إلى ثلاث مستويات من التسنين:

 

*- الأيقون: يتحول فيه الدال اللفظي ( تسبيق) إلى دال بصري (مسبقات غزلية).

 

*- الأيقونوغرافيا: دلالة الوردة البيضاء على التقدم لطلب يد الفتاة من نفسها.

 

*- التسنين البلاغي: لقد أعطت هذه الصورة ومن خلال سنن من طبيعة لسانية

 

مقابلا بصريا تجلت في اليد الذكورة الناعمة التي تحمل وردة بيضاء بدون أشواك.Avance

 

في جل الصور الاشهارية للبنك يرتسم اللوغو في يسار وأسفل الصورة مفتوحا على المستقبل " إن الفرس يسير إلى الأمام، أي من اليمين إلى اليسار، إنه يسير بخطى مزهوة نحو المستقبل" ([2]) .

 

فالصيغة الجديدة " مجموعة البنوك الشعبية" قد تجاوزت اللوغو السابق فبعد أن كان في سباق مع باقي خيول المال في اتجاه الدائرة /البويضة التي ترمز إلى العالم القروي المشمول بآليات الإخصاب، وحيث أنه هو من اخترق فأخصب لم يترك ذيله خارجا كما يفعل الحُوين المنوي، ومع انسداد الدائرة يوحي الفرس بأنه مستعد أو قاب قوسين أو أدنى من الوقوف داخل الدائرة فشكله يدعونا إلى افتراض أن هذا الفرس كان فوقه فارسا يأخد بلجامه وقد انتُزع منه ليتعرى الفرس أمام الفضاء القروي لتبيان فحولته ضمن عالم يؤمن بالرأسمال الوارد عن فحلية طبيعية.

 

إن الفرس وعند اختراقه للجدار السميك للبويضة يتوجه في خطابه قيما ثقافية تستهلك العزة والشهامة وطابع البداوة والفضاء الشعبي : " مثمنة في جميع الحالات وجميع السياقات: إنها الاصالة والصدق والجذور والنقاء الثقافي والبراءة والعفوية والتراب والأرض والطبيعة.إنها الوجود الطبيعي الذي لم تلوثه بعد موبقات العصر الثقافية" ([3])

 

فما دام البنك يلف أيديولوجيته بالشعبية فهو مقرون بالتوالد وارتفاع الخصوبة التي تعتبر الوسيلة المثلى لتكثير المادة الفلاحية من النوع الحيواني، فالتعدد البيولوجي الذي يغنيه اللوغو انعكس على تشكيلته الإدارية التي انتقلت به الى مجموعة بنوك.

 

إن هذا اللوغو في صيغته الأولى والأخيرة يشتغل وفق مبدأ التناظر والمرجعية الثقافية لطبقة شعبية تتمركز بالبادية، أما الصورة التي بين أيدينا فإنها يشتغل وفق مبدأ اللذة من حيث أن الإشهار يعتبر من مكونات الهواء على حد قول روبير لودوك (1975) عندما قال:" إن الهواء الذي نستنشقه مكون من الأكسجين والنيتروجين والإشهار"، يتحول فيه الزبون من منخرط بدافع الحاجة لقرض " اليسر" إلى منخرط بدافع الرغبة عبر عالم الجسد المخملي ، فالجانب الجمالي في الدال الأيقوني الحامل للإرسالية الاشهارية التي بين أيدينا يتحدد في قدرته التعبير عن حالة ثقافية وبسيكولوجية خاصة بالشريحة – الهدف ، على الوصول إلى الدفع بهذه الشريحة المستهدفة إلى التعامل إيجابيا مع المنتوج .

 

4- الكون الدلالي و تقطيعا ته: الصهيل يفيض على بؤرة المعنى..

 

كل شيء في الصورة يتكلم وحيث يقول رولان بارت " لا وجود للأيقون الأخرس أبدا" فالقراءة التي تبحث في تعددية النص يجب أن تكون ذاتها متعددة، أي لا تحتاج إلى إذن بالدخول، وما مدخلات الصورة سوى ما يساعد المعاني على الانتشار فوق المساحة المرئية للنص، لكن لنتساءل من جديد مع رولان بارت " كيف يأتي المعنى إلى الصورة ؟ ".

 

هل المعنى في العبارة كما يقول كار ناب، أم في القضية كما يقول كُوَين؟ .

 

هل اللغة هي التي تخلق المعنى ؟.

 

" من البديهي أن لا تفهم الكلمة إلا في لغة ما، فاللغة هي التي تُعطي الخطاب مفهوما يُدرك من خلال مكوناته" ([4]).

 

أن تقرأ هو بالفعل عمل تقوم به اللغة ، أن تقرأ معناه العثور على معاني والعثور عليها معناه أن تسميها، لكن الثقافي هو الوصي على التفسير اللغوي داخل الصورة التي تلعب دورا مهما في تعميق المعنى بتفسيرها للكتل اللغوية ، وبذلك يصبح للكلمة " معنى واحد، معناها الأفضل "([5]) كما يقول رولان بارت.

 

إن صورتنا الإشهارية تحلم العالم على نموذج الجسد الفاعل الذ ي يتأكد حضوره في انسجامه مع الثقافة السائدة التي تنسب للجسد الذكري كل ما هو فوقي وفاعل كرمز للقوامة والسلطة اتجاه الجسد الأنثوي المقهور والدوني كدلالة على ما هو تحتي وسلبي.

 

إن الصورة الاشهارية التي نعالج ليست مجرد وصف لمنتوج، وإنما هي تحديد لعلاقات ولأنماط للسلوك تستثمر صراحة أزمة مجتمعية تتجلى في عزوف الشباب عن طلب أيدي الإناث للزواج ، والعلامة الأيقونة تعتبر البنكي هو المؤهل للقيام بهذا الدور الاجتماعي لفتح هذه الظاهرة على المخيال العام والدفع بحلم العازبات إلى ولوج عالم الاثارة ، لمّا تلجن فضاء " البنك الشعبي" الذي اشتغل في اللوغو السابق على الاثارةLa

 

séduction

 

المملوءة بالفحلية والإخصاب معتمدا على رأسمالية إنتاجية تعيد بدورها نسخ العالم في أيقون مرجعي مباشر.

 

فالإثارة بالكلمات يمكن أن تأخذ بديل إثارة الكلمات ذاتها ، فالمرأة هنا تثار حسب مستوى الأنوثة الذي تصل إليه أو تتمناه.فالإثارة تثير وهم النظرة الأولى التي لايمكن أن تقول ماهي ولا يمكن أن تقول بتحققها، إذن فهي ضائعة، لا متحددة ، إن الاثارة تلعب لعبة البداية اللغوية ، الانخراط الفجائي والاإرادي داخل اللغة، إذ الإثارة تحيي في الكائن وضعيته الفاعلة داخل الكلام وهو هنا الكلام الفرنسي بامتياز.

 

إن الصورة التي بين أيدينا تعوض العالم الواقعي للزبونة و الزبون بمكونات خيالية تستهدف فيه رأسمالية الاستهلاك وقد تحول موضوع القرض إلى رسالة اجتماعية على اعتبار أن الانخراط في جماعة مستهلكات المنتوج البنكي " لقرض اليسر" يتحول إلى معْنم من بين المعا نم المميزة داخل المنظومة الاجتماعية.

 

إن نموذج فارس الأحلام يوجد في الصورة الاشهارية كما يوجد في عين الفتيات التي ترى وتتوهّم ، إنها عبر النموذج الذي يتحوّل الى مثير ، تستحضر عبره الذات الرائية الوضعيات كما تستحضر أوهاما ورغبات ، نموذج المرأة التي تتعامل مع البنك ، الموظفة الشابة المقبلة على الحياة بعد أن حققت ذاتها في عالم الشغل والتي أصبحت محور اهتمام البنكي الذي يعد خطيبته بوضع مفاتيح خزنته بين يديها .

 

إن الصورة تقدم نفسها على أنها تمثيل لوضعية إنسانية عادية يحق لكل امرأة أن تتماهى معها لتحدد عمقها الاجتماعي، ويصبح من الطبيعي تناول واستعمال المنتوج البنكي " الشعبي" داخل هذه الوضعية جد عادي.ويصبح الجسم العاري الذي تجسده اليد تركز عدة مدلولات من أشد المضامين أيديولوجية تستعمل الرغبة في التزيّي بخاتم الخطوبة من أنبل المضامين الاجتماعية للوصول الى ضفاف الاكتفاء الحالم.

 

لهذا فتنويعات الإثارة النسوية بصورتنا الاشهارية ليست لغوية فحسب بل هي اهتزازات نفسية للأنثى والأشياء المحيطة بها ، هي تلك اللحظة التي تصرخ فيها الأنثى عن المبتعد عنها والمشيح بوجهه أوالمحاول للإبتعاد عنها، أن تقدّم ولا تضع في" حسابك" همّ الحياة..."اليسر" هنا...

 

إن ثنائية خاطب/مخطوبة في مظهرها المباشر وعبر معطياتها المادية والإيحائية تحدد تقطيعا ت عدة على أعتاب القراءة:

 

أ‌- التقطيع الزمني:

 

ب‌- للوجود الإنساني عبر خلق ثنائية تتناظر فيه تجربة البنك في إنشاء البيت القروي بشباب فتاة في مقتبل العمر " موظفة" تنفتح الفضاءات أمامها على هذا الاعتبار.

 

ب- التقطيع المعرفي:

 

فمعرفة البنك بمدى حضور أوراقها النقدية لدى المستهلكة الشابة عند اهتمامها بشبابها والعناية بطراوته قصد اجتذاب زوج... داخل وضعية تنافسية متأزمة مشمولة بالعزوف.

 

إن الخطاب الاشهاري يعلم زبوناته كيفية الاستزادة من نوعية هذه الاستهلاكات كطريق طبيعي لنصائحه، على اعتبار أن قناعة البنكي بجمال الزبونة الموظفة جديرة باحتدائها من طرف المجتمع ،هي شهادة تقدير للجمال الأنثوي والضامن للتسريع به إلى أحضان بيت الزوجية ..إلى أحضا " التكشيطة" والجلباب بما هو "شعبي" نازح من مجال ثقافي مملوء بروائح الأصالة والعراقة والغبار...فهو بذلك يرسم حدود حياة جديدة عبر قيم قديمة.

 

ج- التقطيع الجسدي :

 

إن اليد تتماهى مع جسد الصورة الاشهارية ، الجسد الملون بلون الجلد حيث يأتي عنه صدور اليد بشكل طبيعي كامتداد غير مفارق يحتضن السلطة عبر ثنائية اقتراحيه للفضاء الاجتماعي الخطبة / صمت، إذ الجسد الأنثوي المتلقي للطلب ما عليه إلا الصمت حتّى تتحقق إيجابية الرسالة ، الصمت الذي يحقق للجسد المتلقي أنوثته، دلاله وغنجه وبذلك يكون الشعبي قد حقق الحنين إلى تقاليد الحياة البدوية التي تناقض المظاهر السلوكية للخطبة الحديثة.

 

د- التقطيع اللغوي:

 

تركز الدلالة اللغوية على " اليسر" والتسبيق " لتحقق الكلمتين الزواج الشرعي للتصور المقترح للبنك في منح حلول لظاهرة انحباس الزواجية .

 

فالفضاء الذي تتأمله الصورة يعد بالنعيم واللذة والاستقرار بالرغم من أن الحياة اليومية

 

تعصر المنشغل بها عصرا لتتحول لغة الاشهارإلى لغة تقريرية تقدم التسبيق لفك ضائقة الزبونة.

 

5- كينزياء الكون الدلالي:الورد الأبيض يمتطي راحة اليد...

 

إن حركة اليد التي تقدم الوردة البيضاء والخالية من الشوك تعبر بكل وضوح عن نسقية إيمائية للجسد ، لايترك للصورة ذلك السطح العميق بل يحرك الصورة نحو خروجها والتقرب من المتلقية في بعد بوني يقترب من ذات المخطوبة حتّى يمكن أن تتجاوز تلك اليد- التي تنعمت بدخولها الفضاء المديني بدل اليد الخشنة التي أنهكها المعول والمنجل والمحراث - الحواجز إلى أن تبلغ المسافة التي يمكن أن يسلم فيها الفارس الوردة وهو مطمئن من ذلك القرب الذي يؤجج العواطف ويضع للوجه فرصة حميمية للإنغراس في عيني الآخرو،مع العلم أن التمثلات الثقافية للأنثى في ثقافتنا لا تسمح لها فقط إلا بالثبات في مكانها كي تصل إليها يد المعجب والخاطب محملة بالذوقي : السكر، الرامز إلى جلسات الشاي والعبث في ملف الناس والاشياء، والشمّي : الورد الرامز إلى التوحد والمودة لتنبعث المشاعرالرقيقة الجياشة بالوله والهيام..

 

فحضور فرنسا كبؤرة ثقافية يكاد يصرخ داخل الصورة الاشهارية من خلال رموزها اللغوية والثقافية وهي قادرة على التواصل مع الطبقات التي تعاملت وتتعامل مع القيم الثقافية لفرنسا العميقة على أساس أن الثنائي السلوكي للثقافة المحلية عادات / أعراف ، يستهلك من الحواس رمزية الذوق عند إعلان الخطوبة " قالب السكر" لتنتقل الحلاوة من الشيء إلى أبعاده القصوى وأشكاله اللانهائية، عوض حاسة الشم والبصر واللمس الذي اعتمد داخل هذا المنتوج الاشهاري بالوردة البيضاء التي تعبق أريجا مملوءا باللذة والمتعة والخصب .

 

6- ثنائية الكون الدلالي: ذكورة/أنوثة، وما يزال الحصان يصهل النساء..

 

إن الصورة الاشهارية تعكس نظاما أبيسيا قويا تحتل فيه ثلاثية المال- المعرفة ـ السلطة أوجا سيكولوجيا للعنف الرمزي الذي يفرضه " البنك الشعبي" على زبنائه ، فسلطة المال تتحكم في المعرفة وبالتالي فهي تستعيد السلطة لتحولها إلى أداة باتريركية تكتسح جغرافية ما هو مديني بعدما تم المسح المجالي للبادية .

 

فالصورة تعكس نفس الهيمنةالذكورية على ثبوثية القيم حيث الرجل فاعل ومتفتح على الآخر والمرأة تجتاحها مفاهيم الحشمة والانكماش النفسي على الذات.

 

وبذلك يكون السنن اللغوي يلغي حضور الأنثى ويمارس نفس سلطة المجتمع على أنساقه ، فالفضاء العام للصورة داخل وسطنا الأبيسي لا يترك المجال " للبنكية " أن تكون هي المرسلة وبذلك تغطي مواصفات الذكورة كل مساحات اللوحة الاشهارية ، والمختفي ينتشي بنعومة الأنوثة ، هذه الثنائية تعتمد على تنميط الأدوار بنفس توزيعها في الماضي ، فالصورة تستقبل الموظفة ليذكرها بمجالها الطبيعي " البيت" ، " الإنجاب " ويخاطبها كممتلكة للجسد والعاطفة ، فلا وعي الصورة الجمعي يعكس خام التمثلات الثقافية العامة للمجتمع المغربي ، ومن ثم فالصورة الإشهارية تعمم المعنى على القيم وهي بذلك تقوم بدور المؤسسات الاجتماعية التي ما تفتأ تسكك لثبوثية الزواجية كمؤسسة المؤسسات.

 

إن هوية المرأة تجد داخل هذا الاشهار التنميط الصارم لتحركها ...فهي المخطوبة... وفي اللحظة التي تضع فيها الخاتم على أصبع الرجل تنطبق السلاسل والقيود على تحركاتها...تنقلاتها روحها وعقلها ...كما يزيف وجودها وكينونتها لما يقترح عليها الانقياد الى تصوراته عن الحياة للتّنَعُّم بمواصفات " الكائن المتميز" وتأتي المفارقة العجيبة لعالم المال هذا لمّا يضع في أولوياته مبدأ اللذة كمقياس للحياة العصرية ،

 

ليُغطّي خطابا مُضمرا يصهل في وجه الحريم وحنجرته مملوءة ذهبا..

 

Le bien être commence par le plaisir

 

فالبنك هنا يبيع صورته مغلَّفة بقدرات ذكورية كما جاء في التعبير الفرنسي السابق

 

الذي يدل على أن التوجه الجديد للبنك قد أخذ نفس اتجاه الهجرة القروية ، وفي خطابه إلى الزبونة فهو يخاطب أكبر طبقة من الموظفات اللواتي يتحمّلن مسؤوليات عائلاتهن ويزهدن كارهات في ممارسة حياتهن الطبيعية و الحلم بفارس الأحلام الذي يهيمن هنا على كل الصورة وفي كلية وجوده في المجتمع .

 

إن الإرسالية الاشهارية توجه إلى أناس مجنسين ولا تني إرساليتنا هاته من مخاطبة فئة من النساء يتمتعن بمواصفات حددتها وأكدت عليها .

 

إن المرأة بخروجها لعالم الشغل تمتعت بسلطة قضيبية " فالوسية " جعلت منها محور عائلتها ومحيطها متناسية ذاتها واهتماماتها الشخصية ولا تجد من يذكرها بفراغها النفسي و" الهَوَوي" سوى فضاء البنك ...العالم المفارق ...عالم جفاف العواطف الإنسانية ...الذي يمنح الزبونة لحظات تتلذذ بها كامرأة في النظام البنكي الأبيسي ، وهي تتلذذ موقعها كموضوع لنظرة الرجل.

 

بقلم :د. عبد النور إدريس

 

Abdennour.driss@gmail.com

 

المراجعوالهوامش:

 


[1] - امبرطو إيكو" التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة و تقديم د. سعيد بنكراد ،المركز الثقافي العربي الدارالبيضاء الطبعة الاولىسنة 2000 الصفحة: 11.

- د.سعيد بنكراد "ولا يكف الحصان عن الصهيل" مجلة علامات العدد :7 ص: 37.[2]

- نفس المرجع السابق، ص: 28.[3]

- سامي أدهم ، إبستمولوجية المعنى والوجود، مركز الانماء القومي ، بيروت لبنان ،ص: 6.[4]

[5] - رولان بارت" النقد والحقيقة " ترجمة وتقديم ابراهيم الخطيب مراجعة محمد برادة ، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ، الطبعة الاولى سنة 1985 الصفحة 22.

 

-------------2-.jpg     

Partager cet article
Repost0
28 novembre 2022 1 28 /11 /novembre /2022 12:28
المرأة والرواية: نتوءات الوعي النسائي بين الاستهلاك والانتاج

المرأة والرواية: نتوءات الوعي النسائي بين الاستهلاك والانتاج

د. ادريس عبد النور

دراسة محكمة

أستاذ التعليم العالي مساعد  بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس – مكناس /المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية وعلوم التربية والنقد النسائي والثقافة الرقمية

Abdennour.driss@gmail.com

ملخص:

الكلمات المفاتيح: الرواية النسائية، متخيل المرأة ، الجسد الأنثوي، زينب فواز العاملية، عفيفة كرم.

                كانت المرأة دوما مصدر إلهام لجل الأعمال التي أبدعها الرجل منذ القدم شعرا ونثرا، وقد عايشت صورة المرأة مخيال الشعوب قديما وحديثا فكانت أصدق شخصية ساعدت الروائي في نقل عمق تصوراته عن الحياة، وقد احتلت بذلك الصدارة في إقناع القارئ بصدق الحياة المتخيلة القصصية منها والروائية والتي تصور المرأة كذات فردية تعيش ضمن الشرط اللغوي للمؤلف تارة كشخصية محورية تبتدئ في وعي الكتابة متجلية ابتداء من العنوان وتارة كشخصية تحكمها الدونية كما في واقعها اليومي الذي تحياه، " فصورة المرأة في الرواية كانت تتعدى وجودها الفردي لتعبر عن حقائق أبعد من هذا الوجود" ([1]).

Sommaire:

Mots clés : Le roman féminin, L'imaginaire de la femme, Le corps féminin, Zainab Fawaz Al-Amiliah.

La femme a été toujour une source d'inspiration pour la plupart des œuvres que les hommes ont créées depuis l'Antiquité, poésie et prose. L'image de la femme a vécu l'imaginaire des peuples, anciens et modernes. Elle était la personnalité la plus vraie qui a aidé le romancier à transmettre la profondeur de son perceptions de la vie, et a donc pris l'initiative de convaincre le lecteur de la véracité de la vie fictive, y compris des histoires et des romans, qui dépeignent des femmes. En tant qu'individu vivant dans la condition linguistique de l'auteur, parfois en tant que personnage central qui commence dans la conscience de l'écriture, manifestée à partir du titre, et parfois comme un personnage gouverné par l'infériorité, comme dans sa réalité quotidienne qu'elle vit.

 

1- المرأة والرواية: من الاستهلاك إلى الإنتاج.

1-1-التوظيف الروائي لصورة المرأة.

                لقد ارتبط ظهور الرواية بتحرر الشعوب من الاضطهاد فأصبحت الرواية متصلة عن قرب بنهضة الوطن وتحرر المرأة وقد ذهب د.طه وادي إلى اعتبار أن" الرواية تدين لهذين العاملين قبل غيرهما من أسباب وجودها وازدهارها في مصر" ([2]) على أساس أن ازدهار الرواية العربية الحقيقي في ثلاثينات هذا القرن يرتبط بشكل واضح بتعلم المرأة وتحررها، الشيء الذي يبين عن امكاناتها الواسعة في احتواء ومعالجة الظواهر المختلفة، ولعل الرواية العربية تتميز عن نظيرتها الأوروبية في العناية بهذه الثيمات وبأدواتها التقنية التي تنتشلها توا من الزمن الشعري لتأسيس بدايات لها أسئلة وجودية خاصة بها تحتفل بنهاية الشعري وانتفاء معنى السعادة معه.

                إن الرواية هي فن الشخصية بامتياز وهي  "الفن الذي يقدم تجربة إنسانية من خلال تصويره لمجموعة من الشخصيات في واقع محدد زمنيا ..ومكانيا" ([3])

                - فكيف عبرت الرواية عن طريق تقديمها لصورة المرأة بالعمل الفني عن واقع ما تعيشه المرأة بالمجتمع؟.

                لقد اشتغلت الرواية بمصر وغيرها من البلدان العربية على صورة المرأة باعتبار شخصيتها الرهيفة ولحساسيتها العالية  في التعبير عن الواقع المعيش أكثر من صورة الرجل ذلك أن المرأة تملك شخصيية قصصية من إحدى أدوارها الكبرى، كما عرفنا مع شهرزاد ألف ليلة وليلة ، إقناع القارئ بصدق الحياة السردية التي تصورها تلك الحياة المتخيلة إذ هي تتحرك داخل الفضاء السردي ( القصصي والروائي) كرمز للنوع الأنثوي " من هنا نرى أن قاسم أمين كان على وعي حين أكد أن تحرير المرأة ليس مطلبا إنسانيا فحسب بل إنه ضرورة للتقدم القومي " ([4]).

                فالمرأة بهذا تمثل بحساسيتها واتزانها العاطفي قيم المجتمع فهي أكثر تمثيلا للنوعية في حين أن الرجل يعتبر أكثر تمثيلا للفردية، وصارت المرأة متمركزة في دائرة الرواية بمصر في مرحلة عاش فيها العالم العربي تحت نير الاستعمار.

                وقد احتلت المرأة في الرواية العربية بمصر البطولة لعدة روايات الفترة الأولى بدءا من صفحة العنوان للعديد من العناوين على مدى سبعة وثلاثين سنة (1906-1943) والجدول التالي ([5]) يبين ذلك:

الجدول رقم:1

عنوان الرواية

المؤلف

السنة

عذراء دانجوان

محمود طاهر حقي

1906

زينب

محمد حسين هيكل

1914

إحسان هانم

عيسى عبيد

1921

ثريا

عيسى عبيد

1922

ابنة الملوك

محمد فريد أبوحديد

1926

حواء بلا آدم

محمود طاهر لاشين

1934

سارة

عباس محمود العقاد

1938

زنوبية

محمد فريد أبو حديد

1941

سلوى في مهب الريح

محمود تيمور

1943

 

                فما نلاحظه في هذا الجدول هو احتواء كل العناوين على أسم مؤنث يأخذ دور البطولة بالرواية في واقع عربي مليء برفض الآخر كأنثى متصدرة لعالم الحكي، فعالم البطولة العربية عالم عرف مروره في الزمن عبر الرجل، وهذا ما خلق التحول في أبوية النظام الاجتماعي  لصورة المرأة التي يخترقها السلب منذ عصور خلت.

                كما أن كل الروائيين المذكورين قد كانوا "واعين بارتباط حركة المرأة بالمجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى بدلالة المرأة كرمز ثري موح للتعبير عن الوطن" ([6]).

 وتجد النساء في الانتحار الأدبي ملاذا للخلاص" فحين يفشلن في إفهام الزوج أو المجتمع يشعرن بأن الطريقة الوحيدة المتاحة لهن هي أن يضعن حدا لحياتهن " ([7]) وقد وجدت الناقدة بثينة شعبان في ظاهرة الانتحار ظاهرة اجتماعية أدبية تستحق الدراسة تقول " لإلقاء الضوء على حقيقة أن النساء يخترن أسوأ بديل ممكن لأنفسهن(..) الخلاص الفردي، إذا كان يمكن للموت أن يسمّى خياراّ ([8]).

لقد كان على المرأة أن تدخل صراعا مزدوجا لتأكيد ذاتها وحربين مركبتين لتحقيق وجودها المادي والمعنوي تختزلهما د. بثينة شعبان في مكونين  اثنين:

" حربا ضد الاستعمار إلى جانب الرجل وحربا ضد عوامل الكبت والقمع التي يفرضها المجتمع على امرأة وفي طليعتها السفور والحجاب، ثم اختيار المرأة لشريكها وأنماط حياتها بأن تتعلم وتشتغل" ([9]).

                لم تكن قضية المرأة فيما أنتجه الروائيون سوى قضية المؤلف، لا تعبر سوى عن زاوية خاصة للنظر لا ترقى إلى كونها قضية مجتمع بكامله، وقد وُظِِّفت المرأة لتعكس أزمة ذلك المجتمع التواق للحرية بما تمتاز به من حساسية مرهفة على تكثيف الإيحاء بحجم الظلم المجتمعي.

ولم تكن لقضية الحب من معنى في هذه المرحلة التي عاشتها الرواية العربية بمصر سوى التعبير الرمزي عن أزمة الحرية وفساد الأوضاع الاجتماعية عبر أزمة طبقية متعفنة وقد خلص د.طه وادي إلى أنه" كانت صورة المرأة في الرواية (فردية) تعبر عن أزمة الفرد في علاقاته بمجتمعه" ([10]).

1-2- ملامح التوظيف الفني للمرأة بالرواية العربية.

                -  من أين استمد الروائيون ملامح الصورة التي قدموها في الرواية؟

                - أين تكمن حدود العلاقة الفنية لصورة المرأة بالمجتمع؟.

لقد استغل الروائي المرأة وقضيتها ووظفها توظيفا فنيا شخصت فيه أزمة الأديب ذاته وجسدت له مشكلة العصر، فيبدأ الروائي عمله الفني بالتطرق للحب ومشكلاته ثم ينتقل إلى مستوى ثان يتطور:" إلى نوع من الاحتجاج الفردي السلبي على بعض أزمات التفاوت الطبقي ومشكلات العصر السياسية والأيديولوجية "([11]).

                شكلت سنة1945 ومع نهاية الحرب العالمية الثانية نهاية فترة المد الرومانسي والبداية القوية للمدرسة الواقعية في الأدب والتي دشنها الروائي نجيب محفوظ برواية " القاهرة الجديدة".

ويعتبر إحسان عبد القدوس عند الناقد طه وادي بمثابة "الحلقة الأخيرة في إفلاس الرومانسية في مجال الرواية" ([12]) نظرا للشكل والمضمون الباهتين برواياته ونظرا لسطحية بعده الفني فيما يتعلق بواقعية الشخصيات والأحداث باستثناء البطولة النسائية التي تستقطب كل تفتقاته الإبداعية في إبراز مظاهرها وإلتباساتها.

لقد وظف إحسان عبد القدوس الجنس في روايته " أنا حرة" وجعله محورا لأزمة الفتاة " أمينة" التي كان كفرها بما يحيط بكينونتها شاملا ما عدا الرجل الذي تأله في نظرتها له كمعبود للجسد،" وضاع منها رأسها كما تعود أن يضيع كلما التقت بشفتيه" ([13]).

لقد اختزل إحسان عبد القدوس عالم المرأة في تابع ومريد لإرادة الرجل المانح للسعادة القصوى في معبد الجنس المقدس " أحست بهذه النار تسري في جسدها كأنها نغمات الحياة، ثم أحست بوجهه فوق وجهها، وعبير عبق من أنفاسه يلفها كأنها رقدت عارية فوق المذبح المقدس، وأعمدة من أبخرة المسك والعنبر تحيط بها، بينما أصابع الساحر المقدس تباركها" ([14]).

                لقد انبثق التعامل مع الجسد الأنثوي للتعبير عن انهيار قيم عجزت عن خلق صيغة لها بالأخلاق والمثل الاجتماعية العربية فقدمت المرأة العربية وحدها في البحث عن حريتها، الحرية التي لم تصبح هدفا في ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق المطالب الملحة للجسد كتعبير عن أزمة الحرية التي تحياها الفتاة العربية على المستوى الطبقي.

                إن قضية التحرر الاجتماعي قد فاضت بالرواية العربية، فالبطلة مؤمنة بضرورة استقلال المرأة الاقتصادي لممارسة متكافئة مع الرجل في ممارسة استقلالها العاطفي فأمينة بطلة المتن الروائي " أنا حرة" تقول " لازم يبقى معايا شهادة علشان ما اضطرش اقعد في بيت مش عايزة اقعد فيه. وأبقى حرة وجوزي يفهم أني زيي زيه أقدر أستغني عنه زي ما يقدر يستغني عني" ([15]).

لقد شغلت حرية المرأة عددا كبيرا من المفكرين في العصر الحديث ، فقد وجد هؤلاء وعلى رأسهم قاسم أمين أن العلل التي يشكو منها المجتمع العربي تعود في قسم كبير منها إلى جهل المرأة ومن ذلك جاءت البطولة الشكلية للمرأة بالرواية لتعميق أزمة مجتمعية مطمئنة على كيانها المتعفن الآسن ضمن واقع أصبح يتحرك بسرعة ومن ذلك اعتبر جورج لوكاتش أن" سلبية بطل الرواية ليست ضرورة شكلية، بل إنها تميز علاقة هذا البطل بروحه وبالعالم المحيط به" ([16]).

وقد ضمنت الرواية التي أعطت البطولة للمرأة البدايات الأولى للمغامرة المفترضة للأنثى على المستوى الإبداعي فأصبح محتوى الشكل الفني للرواية يؤرخ لروح ناهضة تسير نحو المعرفة لتدرك نفسها  كما قال لوكاتش " إن الرواية هي شكل المغامرة (..) ومحتوى هذا الشكل هو تاريخ هذه الروح التي تذهب إلى العالم لتتعلم كيف تعرف" ([17]).

وقد كان الشرط الوجودي للمرأة ينزع إلى تحقيق هذا الشرط في ممارستها الكتابة عن ذاتها والذي شكل تحول الارتسامات إلى سلوك أدخل المرأة  المبدعة في صراع مع العالم الخارجي ، وقد أصبحت المرأة من هذا الموقع، موقع الكتابة، منخرطة في ذلك الصراع " ذلك أن روحا قادرة على إخراج جميع مضامين عمقها الخاص، بوسعها أن تكون ممتلئة ومكتملة، حتى وإن عرض لها أن لا تدخل أبدا في علاقة اتصال مع الواقع الخارجي الغريب" ([18]).

1-3 – لَعْـنَـة الجسد الأنثوي.

 

 لتكملة الموضوع  ، المرجو الدخول إلى موقعنا بالحوار المتمدن: هناااااا

Partager cet article
Repost0
30 octobre 2022 7 30 /10 /octobre /2022 15:24
التشغيل والجندر  -مدونة الشغل والأجيرة المغربية من خلال عقد الشغل

التشغيل والجندر

-مدونة الشغل والأجيرة المغربية من خلال عقد الشغل -

دراسة محكمة

 د. ادريس عبد النور

Employment and Gender Approach

-The Moroccan Labor Code and the Moroccan Wage through the Employment Contract -

Dr : driss abdennour

أستاذ التعليم العالي مساعد  بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس – مكناس /المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية وعلوم التربية والنقد النسائي والثقافة الرقمية

Abdennour.driss@gmail.com

ملخص:

الكلمات المفاتيح: مدونة الشغل، المرأة الأجيرة، بطاقة الشغل، عقد الشغل، مقاربة النوع الاجتماعي.

هذه مساهمة بحثية  قاربت فيها صورة المرأة العاملة المغربية ضمن مستجدات مدونة الشغل الجديدة عبر دراسة نقدية استجليت فيها قدر الامكان تعالي النظرة الذكورية للمرأة من خلال التشريع للمجتمع وقد لامست بعض المقاومات لحقوق الانسان من طرف ما يعتبر لدينا كثقافة محلية خاصة بالمواد التالية المشرعنة للخرق القانوني ،173،175،176.

فالمدونة السابقة التي لم تعط لبطاقة الشغل أهميتها الاجبارية والتي نظرا لاحساس العاملة بالانتماء للمقاولة عبر هذه البطاقة من الناحية السيكولوجية ، وجب التفعيل الحقيقي للمادة 15 التي تخول للاجيرة الاحتفاظ بأحد نظيري عقد الشغل.

كما قاربت فيها وضعية الأجيرة وإشكالية العقد وما يترتب عندلك من حقوق واشكالات وما يمكن أن يحققه الانتماء النقابي النوعي من تثبيت مكانة المرأة داخل القطاع العمالي لجدير بان ننوه به داخل مدونة الشغل على الرغم من عدم استجابة المغرب  لتوقيع الاتفاقية الدولية رقم 87 حول الحرية النقابية وحماية الحق النقابي، وعلى الاتفاقية 135 حول حماية ممثلي العمال .

ورغم الإصلاحات التي تضمنتها المدونة في صيغتها الحالية بخصوص المرأة العاملة من أجل صيانة مكتسباتها وضمان حقوقها, فإن هذه الإصلاحات  تعتبر غير كافية من حيث أنها تتضمن مرونة فعلية تساعد على خرق مقتضياتها الحساسة اتجاه الأجيرات، كما أنها  قد أغفلت فئة خادمات البيوت آلائي يتعرضن لاستغلال بشع من طرف مشغليهن  .

ما هي أسباب إنكار وضعية هذه الفئة من الشغالات اللواتي أغفلتهن مدونة الشغل  رغم ذيوع الوضعية المزرية التي يتعرضن لها ؟.

 

Sommaire:

Mots-clés: code du travail, femme salariée, carte de travail, contrat de travail ,genre.

Il s'agit d'une contribution à la recherche dans laquelle j'ai abordé l'image de la femme travailleuse marocaine au sein des évolutions du nouveau code du travail à travers une étude critique dans laquelle il a été révélé autant que possible la transcendance de la vision patriarcale de la femme à travers la législation de la société. ،173،175،176.

Le code précédent, qui ne donnait pas à la carte de travail son importance obligatoire, et qu'en raison du sentiment d'appartenance du travailleur à l'entreprise à travers cette carte d'un point de vue psychologique, l'activation réelle de l'article 15, qui autorise la salariée à conserver un des exemplaires du contrat de travail.

Il a également abordé la situation de la salariée, la problématique du contrat, les droits et les problèmes qui en découlent pour vous, et ce que peut apporter une affiliation syndicale qualitative dans la stabilisation de la position des femmes au sein du syndicat, et la Convention 135 sur la protection des représentants des travailleurs.

Malgré les réformes inscrites dans le Code dans sa forme actuelle concernant les femmes qui travaillent afin de préserver leurs revenus et de garantir leurs droits, ces réformes sont jugées insuffisantes en ce qu'elles incluent une réelle flexibilité qui aide à enfreindre ses exigences sensibles envers les salariées, et elles ont également négligé la catégorie des bonnes qui sont soumises à une horrible exploitation de la part de leurs opérateurs.

Quelles sont les raisons de nier la situation de cette catégorie de travailleuses délaissées par le Code du travail malgré les malheurs généralisés auxquels elles sont exposées ?.

المقدمة

         تشكل مدونة الشغل قفزة نوعية بتاريخ التشريع المغربي  جاءت في وقت كثر فيه الحديث عن عولمة الرساميل وانتقالها عبر القارات  وانخراط المغرب في  هذا  المسار الاقتصادي  الواعد قد عجل بالنظرة الموضوعية  لكل قضايا الشغل المطروحة منذ مدة على الساحة النقابية إن لم يكن ميكانيزم تجنيد العار قد  ساهم في تحريكها ، وقد جاء في تصدير المدونة تلك الرغبة في الانتقال بالمغرب إلى حلبة التنافسية العالمية  والانخراط الجدي في تطوير الاقتصاد الوطني تقول" تأتي مدونة الشغل في وقت يسعى فيه المغرب  إلى   فتح  أوراش  التأهيل  الاقتصادي والاجتماعي ، للاستجابة لرهانات التنمية ورفع تحديات العولمة والتنافسية ، ولفتح المجال أمام الاستثمار الوطني والأجنبي في القطاع الخاص ، لأهمية الدور المنوط به لبناء اقتصاد عصري."([1])

وقد انخرطت المرأة المغربية في ميدان الشغل بعد التطورات التي طرأت على بنية المغرب الاقتصادية والاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية حيث عملت فرنسا على إعادة بناء اقتصادها المنهار انطلاقا من تأسيسها لمؤسسات ضخمة بالمغرب ، وقد خص ظهير 13/07/1926  المرأة العاملة بمقتضيات تنظيمية لتشغيل النساء  حيث نص هذا الظهير على: (منع قيام النساء بأي عمل يتجاوز 10 ساعات في النهار ومنع العمل الليلي ما بين 9 ليلا والخامسة صباحا ،كما نص هذا الظهير على حق العاملة في إجازة الوضع لثمانية أسابيع بدون اعتبار ذلك بمثابة فسخ للعقد ،كما مكنها من التمتع لمدة 6 أشهر التي تلي الوضع بالتوقف عن العمل لمدة نصف ساعة صباحا وأخرى بالمساء قصد الإرضاع ، كما منع هذا الظهير تشغيل الأجيرات في الاشغال الباطنة تحت الأرض في المناجم والمقالع ، كما نص هذا الظهير على إلزامية سهر رؤساء المحلات الصناعية والتجارية على المحافظة على حسن الآداب والأخلاق ومراعاة أمور الحشمة واللياقة العامة.

نلاحظ أن المبدأ التشريعي لهذا الظهير قد استمر في التواجد بجل التشريعات التي طُبقت بالمغرب مع بعض التعديلات التي سنستعرضها خلال هذا العرض.

- إذن ما هي الوضعية القانونية للأجيرة بمدونة الشغل الحالية ؟

-  ما هي مستجدات المدونة فيما يتعلق بالعاملة الأجيرة من خلال عقد الشغل ، إبرامه وسيرورته وإنهاؤه؟

-  هل نستطيع الحكم على المدونة في غياب القوانين التنظيمية ،و أن نصف تعاطيها لمشاكل العاملة الأجيرة بالايجابية أو بالسلبية؟

- هل نجد في مراحل عقد الشغل الإمكانية التي نقرا من خلالها الوضعية الدونية للمرأة؟

لقد طرحنا السؤال النقدي التحليلي على مدونة الشغل(99.65) لتعميق التساؤل حول الوضعية القانونية للعاملة الأجيرة بالاعتماد على أهم مراجع الفقه القانوني وخاصة المرجع الثلاثي التأليف الذي تطرق بالتحليل والنقد لمشروع 1998([2])

وقد انقسم هذا العرض إلى ثلاث محاور رئيسية تطرقت من خلالها لمستجدات مدونة الشغل التي لامست فيها البداية الفعلية لانخراط العاملة الأجيرة بالمقاولة بدء بإبرامها للعقد مرورا بمعرفة آثار صيرورة عقدها وتنفيذه بالموازاة مع ظروف الشغل في إطار التبعية القانونية للمشغل ، حتى مرحلة إنهاء هذا العقد.

كما ذيّلنا هذا العرض ببعض المقاربات النقدية كنتائج نأمل أن يؤدي تفعيل النصوص التنظيمية  إلى تطبيق مواد المدونة في جو تجد فيه العاملة الأجيرة نفسها متساوية مع الأجير داخل نفس المقاولة.

- فإلى أي حد استطاع عقد الشغل تحقيق التوازن في وضعية المرأة الأجيرة  وتبرير تبعيتها لمشغلها وحق هذا الأخير في إصدار التعليمات على اعتبار أن خضوع الأجيرة وتبعيتها لمشغلها انطلاقا من توقيعها لعقد الشغل هي المبرر الواقعي لتطبيق أحكام المدونة الحالية.

لهذا جاءت إشكالية البحث تستهدف إبراز مستجدات المدونة من خلال الروابط القانونية التي تحكم الروابط العقدية الخاصة بالعاملة الأجيرة من حيث مختلف العطل التي تتمتع بها والتغيبات المؤدى وغير المُؤدى عنها وحفظ الصحة والسلامة والأخلاق الحميدة داخل المقاولة ونظام الأجور ومسألة التعويض عن حوادث الشغل والأمراض المهنية .

المطلب الأول: المرأة الأجيرة من خلال إبرامها عقد الشغل.

الفقرة الأولى : إنشاء العقد وفق مبدأ عدم التمييز.

تشير المدونة لأول مرة في تاريخ تشريع الشغل المغربي صراحة عن فك ذلك التمييز الذي كانت تعاني منه النساء العاملات فيما قبل ، وجاء القسم الثالث من المادة 9 بصيغة منع التمييز فيما يخص إبرام عقد الشغل " يمنع كل تمييز بين الأجراء" وبذلك أصبح حق المرأة في إبرام عقد الشغل من أساسيات تواجدها بالمقاولة ، وقد نصت المادة 15 التي تستوجب حصول رضى أطراف العقد على "تتوقف صحة عقد الشغل على الشروط المتعلقة بتراضي الطرفين".

وقد ركزت المدونة على مبدأ عدم التمييز لتحقيق أساس تكافؤ الفرص في مواد أخري جاءت تحت اسم ، الوساطة في الاستخدام وتشغيل الأجراء وخاصة المادة478 ، لتكرر أحكام المادة9 لاعتبار الدور الريادي الذي تقون به وكالات التشغيل في هذا الباب تقول :" يمنع على وكالات التشغيل الخصوصية كل تمييز يقوم على أساس العرق ، أو اللون، أو الجنس، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو الأصل الوطني، أو الأصل الاجتماعي ، من شانه المس بمبدأ تكافؤ الفرص والمعاملة في ميدان التشغيل."

الفقرة الثانية :السياسة الأجرية انعكاس لدونية المرأة داخل العقد.

قبل ظهير18/06/1936،كانت الأجور في ميدان الشغل المغربي تخضع لقانون العقود والالتزامات على أساس مبدأ العرض والطلب حيث أشارت القرارات التي عدّلته (قراري 1937و1938) ،إلى الفرق بين الأجر الممنوح لكل من الرجل والمرأة.

وقد ظلت تصورات الحماية الفرنسية حاضرة في بقاء «مناطق الأجور " إلى غاية 15/01/1972، تاريخ صدور المرسوم الذي وحًّد الحد الأدنى للأجور دون التطرق للميز المُؤسس على الجنس والسن([3])

ورغم سعي المغرب لاحترام الاتفاقية رقم 100 حول المساواة في الأجور والتعويضات، التي صادق عليها المغرب بظهير 17/12/1980 فإن تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية لسنة 1995 قد سجل وجود تمييز بالنسبة لأجور العاملات حيث نسبة أجورهن أقل من 50 °/° فقط من أجور الرجال في نفس وضعيتهن المهنية.

ومن مظاهر استفاقة التشريع المغربي لعناصر التمييز الأجرية بين الجنسين انسجامه الأخير بالمدونة مع روح المواثيق الدولية ومقتضيات الاتفاقيات الدولية التي وقعها بالعلاقة مع مبادئ الدستور رغم توقيعه على الاتفاقية رقم  111 بشأن تحريم التمييز في التشغيل والعمل التي ألغت على المستوى القانوني كل مظاهر التمييز الأجرية القائمة على الجنس بين الرجل والمرأة ، مع العلم أنه قد  صادق سنة 1979 على الاتفاقية رقم100 حول المساواة الأجرية بين الجنسين.

وقد تطرقت المدونة  بالمادة 346 صراحة بالمنع لكل تمييز في الأجر بين الرجل والمرأة، تقول  "يمنع كل تمييز في الأجر بين الجنسين ، إذا تساوت قيمة الشغل الذي يؤديانه . " وقد عززتها بمقتضيات زجرية جاءت بالمادة 361 في إطار الزجر بالغرامة وقد  تُضاعف  الغرامة في حالة خرق مقتضيات المادة  السابقة الذكر إمعانا للأولوية التي تعطيها المدونة لصورة المرأة والتعامل معها ايجابيا داخل سوق الشغل، جاء في هذه المادة"...يعاقب عن عدم التقيد بأحكام المادة 346 بغرامة من 25000 إلى 30000 درهم.

وفي حالة العود تضاعف الغرامة المذكورة أعلاه." ([4])

الفقرة الثالثة: شمولية الوضعية التعاقدية للأجيرة: الشغل الليلي والأعمال الخطيرة والشاقة.

منذ تأسيسها أصدرت منظمة العمل الدولية الاتفاقية رقم 4  سنة (1919) حول التشغيل الليلي للنساء حيث عملت على تحريمه كما صادق المغرب بالإضافة إلى اتفاقية رقم4 ،على اتفاقية رقم 41المعدلة لها، هذه الاتفاقية المتضمنة لاستثناءات خاصة .

لقد تخلت و تراجعت المدونة الحالية عن صيغة منع تشغيل النساء في أي شغل ليلي  التي جاء بها المشروع نحو إقرار قاعدة الإمكان حيث تقول المادة172 ،" يمكن تشغيل النساء ، مع الأخذ بعين الاعتبار وضعهن الصحي والاجتماعي ،في أي شغل ليلي " .

إذ اكتفت أحكام المدونة باحترام تدابير شروط الصحة والسلامة بالنسبة لتشغيل النساء ليلا . كما حددت نفس المادة الشغل الليلي في :

-  النشاطات غير الفلاحية "كل شغل يؤدى فيما بين الساعة التاسعة ليلا والسادسة صباحا".

-  النشاطات الفلاحية "كل شغل يؤدى فيما بين الساعة الثامنة ليلا والخامسة صباحا".

إن النص التنظيمي المشار إليه في المادة   172، قد أصبح لاغيا استجابة لنشاط المقاولة  المتواصل أو الموسمي ، فالمادة 173 ، التي تقول:" لا تسري أحكام الفقرتين الأولى والثالثة من المادة 172 على المؤسسات التي تحتم الضرورة أن يكون النشاط  فيها متواصلا أو موسميا ، أو أن يكون الشغل فيها منصبا على استعمال مواد أولية ، أو مواد في طور الإعداد ، أو على استخدام محاصيل فلاحية سريعة التلف." تعلن صراحة بعدم سريان أحكام الفقرتين من المادة السابقة على هذه المؤسسات مما يجعل المدونة تعطي بيد من فضة وتأخذ بيد من حديد، خاصة إعطاء صلاحيات  الخرق القانوني فيما يتعلق بتشغيل الأجيرات دون سن السادسة عشر وخاصة استغلال تلك الفئة العمرية في تكسير الإضراب المغلف داخل المدونة بصيغ تمويهية كما جاء في المادة 175" يمكن للمشغل ،  في حالة بطالة ناتجة عن قوة قاهرة أو توقف عارض، لايكتسي طابعا دوريا..." وكما جاء كذلك في المادة 176 "يمكن للمشغل أن يخالف مؤقتا.....عندما يقتضي الأمر اتقاء حوادث وشيكة الوقوع، ..." إن تقنين الخرق فيما يخص تشغيل الأحداث دون 16 سنة يعتبر آلة من آليات تكسير الإضراب تضعه المدونة بيد المشغل وبالتالي تكون قد أجهزت على المكتسبات التي تحققت في إطار المشروعية النقابية.

أما بالنسبة للأحكام الخاصة بتشغيل النساء فقد نصت المادة 179 على التأكيد على استمرارية النظرة لهاته الأشغال منذ ظهير 13 يوليوز 1926،حيث انه بمقتضاها "يمنع تشغيل الأحداث دون الثامنة عشر ، والنساء ، والأجراء المعاقين ، في المقالع ، وفي الأشغال الجوفية التي تؤدى في أغوار المناجم."

إلا أن هزالة الغرامة المنصوص عليها في المادة 183 (من 300 إلى 500درهم ) مدعاة للخرق ما لم يأتي النص التنظيمي للمادة 181 بجديد يعزز إمكانية التضييق على هذا الخرق .

المطلب الثاني: سريان عقد الشغل

الفقرة الاولى: حماية الحق في الشغل للأجيرة في حالة الوضع.

إن مبدأ توفير الحماية للأمومة قد تطرقت له الاتفاقية المراجعة لمنظمة العمل الدولية رقم103والتوصية رقم 95 ، والتي تنص على مجموعة من التدابير لحماية المرأة العاملة قبل وبعد الولادة وخاصة حماية حقها في الشغل، كما  التزمت كل الاتفاقيات الدولية بتقييد وحظر تشغيل النساء خاصة في فترات الحمل والوضع والرضاغة ،وقد نصت مدونة الشغل الحالية على اعتبار وضع المرأة الصحي والاجتماعي بالمادة 152، على مدة إجازة الوضع المحددة في أربعة عشر أسبوعا مع ترك الباب مفتوحا للاستثناءات الأفيد في هذا الباب تقول " تتمتع الأجيرة ، التي ثبت حملها بشهادة طبية ، بإجازة ولادة مدتها أربعة عشر أسبوعا ، ما لم تكن هناك مقتضيات أفيد في عقد الشغل ، أو اتفاقية الشغل الجماعية ، أو النظام الداخلي .

وقد حلل ذ.محمد القري اليوسفي  هذه المادة 154  فوجدها لاتؤدي إلا إلى معنى يحقق  إمكانية تشغيل المرأة  – إن رغبت في ذلك- خلال ستة أسابيع السابقة على الوضع، تنص هذه المادة " حق للمرأة الأجيرة ، إن توقف سريان عقد الشغل فترة تبتدئ قبل تاريخ توقع الوضع بسبعة أسابيع وتنتهي بعد تاريخ الوضع بسبعة أسابيع. "

ثم تساءل لتحقيق الإحالة على إجبارية التوقف قبيل الوضع يقول: " فهل يسمح ذلك بالقول بأن صحة المرأة قبل الوضع أكثر قدرة على تحمل العمل وبالتالي بإمكانها الاشتغال إلى آخر ساعة تضع فيها حملها ؟." ([5])

إن حق الأجيرة ورغبتها في  مواصلة عملها قبل الوضع دون وعيها للمخاطر المحدقة بصحتها وبصحة جنينها،  وسعيا منها " للحصول  على ما قد  يوفر لها موارد  إضافية لمواجهة التكاليف الطبية والاجتماعية للولادة في غياب التغطية الكاملة "([6]) يستدعي ضرورة  المراجعة النصية على فترة توقف إجبارية قُبيل الوضع حماية لصحة المرأة وسلامة وصحة المولود  المرتقب، وهذا ما لم تستجيب له المدونة الجديدة  بشكل قطعي إجباري ، غير أن المدونة وضعت المادة 154 لتحقيق هذا التوقف الاختياري في حدود النص " حق المرأة الأجيرة ، أن توقف سريان عقد الشغل فترة تبتدئ قبل تاريخ توقع الوضع بسبعة أسابيع ، وتنتهي بعد تاريخ الوضع بسبعة أسابيع".

إن الحالة الاستثنائية التي تدعو المشغل للسهر على تخفيف الأشغال التي تُكلف بها الأجيرة أثناء الفترة الأخيرة للحمل حسب المادة 153، تتناقض مع طبيعة عمل المرأة الذي من المفترض إن تكون متخصصة فيه  الشيء  الذي يتعارض كليا مع مسألة التخصص التي استوجبت تشغيلها مسبقا انطلاقا من الكفاءة والخبرة والمهنية، وبالتالي لايلتقي مع أحكام المادة 9 التي تمنع التمييز بين الأجراء أو عدم المعاملة بالمثل في مجال التشغيل أو تعاطي المهنة.

فحماية المرأة الأجيرة في هذا الباب تقتضي إجبارية التوقف عن العمل انطلاقا من شهادة الطبيب، الشيء الذي لم يصرح به نص المدونة الحالي.

الفقرة الثانية : تأثير العناية بالرضيع على سريان عقد الشغل.

نص المشرع  في المادة 156 على إمكانية "الأم الأجيرة باتفاق مع المشغل الاستفادة من عطلة غير مدفوعة الأجر لمدة سنة لتربية مولودها " فإن المدونة قد أوجبت بمقتضى المادة 162 المشغل "تجهيز غرفة خاصة للرضاعة داخل كل مقاولة ، أو على مقربة منها مباشرة ، إذا كان يشتغل فيها ما لايقل عن خمسين أجيرة" .

إن انفتاح هذا النص القانوني على عدد الأجيرات المرضعات (50) ، وإذا أضفنا أن الثقة  في عمل المرأة مهزوز لدى العديد من المشغلين أمكن لنا استخلاص عدم الوصول الواقعي والمتعمد لهذا العدد بالمقاولة المغربية، أما إن كانت إمكانية بلوغ هذا العدد فيمكن لعدد(49) أجيرة أن لا يجعل المرضعات يستفدن من إمكانية مباشرة الإرضاع والاطمئنان على فلذات أكبادهن داخل المقاولة، وإذا اعتبرنا إن اهتزاز الثقة يتلوه غالبا التعامل بسوء النية ، يمكن أن نقوم بعملية حسابية  لعدد الساعات التي يوفرها تجاهل العدد(50) و التي تُذيبها عملية الإرضاع في اليوم بما  أن المادة161 تنص على حق الأجيرة المشروع  في استراحة الرضاعة يوميا ولمدة إثنى عشر شهرا تقول "يحق للأم الأجيرة ، إن تتمتع يوميا ، على مدى اثني عشر شهرا ، من تاريخ استئنافها الشغل إثر الوضع  باستراحة خاصة ، يؤدى عنها الأجر باعتبارها وقتا من أوقات الشغل ، مدتها نصف ساعة صباحا ، ونصف ساعة ظهرا ، لكي ترضع مولودها خلال أوقات الشغل . وتكون هذه الساعة مستقلة عن فترات الراحة المعمول بها في المقاولة ."

إن الفقرة التي تلي الفقرة السابقة توحي بنوع من غموض ظاهر الصياغة تجعل الاستفادة من الرضاعة تهم ساعة يوم واحد في الأسبوع حيث تقول الفقرة الثانية من المادة162" يمكن للأم الأجيرة ، إن تتفق مع المشغل على الاستفادة من هذه الساعة المخصصة للرضاعة في أي وقت من أيام الشغل." وقد كان بالنسبة للصياغة القانونية أن تنهج الوضوح لاعتبار صراحة الفقرة الأولى كأن تقول(في أي وقت من صباح و من مساء يوم الشغل.

أما بالنسبة للمادة 163 والتي تهدف تجميع المرضعات بالمنطقة الصناعية حيث تقول "يمكن إنشاء دار للحضانة بمساهمة عدة مقاولات متجاورة بمنطقة معينة مع تجهيزها وفق الظروف الملائمة" فان هذه المادة تمارس نفس الغموض التعبيري  الذي يترك فراغا كبيرا بالنص من حيث إمكانية استعمال الأجيرة لهذه الدار (الحضانة) قصد الإرضاع ، وإذا كان الأمر كذلك ما هي السبل القانونية لحماية الأجيرة خارج المقاولة وما إذا يعتبرها النص في زمن الشغل فيما إذا تعرضت لحادثة الطريق ، وهل من الممكن تصنيف تلك الحادثة من بين حوادث الشغل ؟ على اعتبار أن المشغل قد رخص لأجيرته  بالاستفادة من نصف ساعة للرضاعة فقط و التي تُستهلك  في الطريق إلى دار الحضانة،" فمكان الشغل هو المكان الذي يباشر فيه الأجير عمله المنوط به،ويأخذ حكمه أيضا كل مكان يتواجد فيه هذا الأجير بناء على أمر   من المشغل أو من ينيبه في ذلك ، أو كان  وجوده فيه  تقتضيه مصلحة العمل ، وبصفة عامة،إن مكان الشغل يمتد إلى جميع الأماكن التي يكون فيها الأجير تحت مراقبة وتوجيه وإشراف المشغل"([7])

ومادامت الأجيرة هنا في إطار التبعية القانونية لمشغلها و مادامت لم تسترد حريتها، فان الحادثة التي تقع لها تعتبر إصابة شغل "فإذا وقعت هذه الأخيرة في وقت كان فيه الأجير تحت هذه المراقبة والإشراف والتوجيه للمشغل ، كانت إصابة شغل ، وذلك بصرف النظر عن الزمان والمكان الذي تقع فيه ، سواء كان ذلك داخل المؤسسة المشغلة، أو ملحقاتها ، أو حتى خارج هذه الأمكنة "([8])

إن هذه التدابير القانونية الحمائية المتعلقة بحماية الأمومة كان على المادة 163 إلا تسكت عنها صراحة تلافيا لأي غموض يمكن إن  يتجاوز هذه الوضعية بعدم خلقها (أي حصر عدد الأجيرات في 49 أجيرة كحد أقصى بالمقاولة

الفقرة الثالثة : التغطية الصحية .

لقد وضع المشرع المغربي استمرار الحالة المرضية الناتجة عن الولادة  في اعتباره حيث أجاز تمديد فترة التوقف ثمانية أسابيع قبل تاريخ توقع الوضع ، وأربعة عشر أسبوعا بعد تاريخ الوضع(المادة 154) ، الشيء الذي يشكل تنافيا مع مقتضيات ظهير 9نونبر 1992 المعدل للفصل 37 من ظهير 27 يوليوز 1972 المتعلق بنظام الضمان الاجتماعي الذي يحدد مدة الإجازة المغطاة بتعويضاته في اثنى عشر أسبوعا ستة منها على الأقل بعد الوضع.

وبالتالي" فإن تمديدا لهذه الإجازة من طرف العاملة سيكون خارج هذه التغطية ويبقى الأمر بالتالي رهينا برغبة المشغل في منح الأجر أو التعويض وهذا شأن لن يقوم إلا إذا ضمن عقد الشغل أو الاتفاقية ([9]) ولما قررت المدونة تمديد رخصة الحمل إلى  14 الأسبوع أخدا بالاتفاقية رقم 95 التي تتمم الاتفاقية رقم 103/1952 ،يبقى أسبوعان بدون تغطية تستوجب التعديل ورغم أن منظمة العمل الدولية عبر اتفاقية رقم 3/1919،تطلب حماية الأمومة في حدود 12 الأسبوع فإن" CNSS(تتحمل هذه المرحلة (أي الحمل) لمدة 10 أسابيع في حدود 50 في المائة من الراتب الشهري .. ."([10])

والتمديد المقترح من طرف المدونة يستلزم من الأجيرة تمديد رخصة الحمل عبر التوقف المؤقت عن العمل غير المؤدى عنه.la mise en disponibilité هذا مع العلم ان فترات الحمل تُقتطع من راتب التقاعد لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

المطلب الثالث: إنهاء عقد الشغل

الفقرة الأولى : الدفع بالحمل لإنهاء عقد الشغل.

إن الأجيرة الحامل معرضة لفساد عقد عملها بسبب الحمل ولهذا فقد حمى المشرع  هذا العقد كما حماها من الطرد التعسفي بسبب حملها عبر نصوص قانونية منها المادة 159 التي تنص " لا يمكن للمشغل إنهاء عقد شغل الأجيرة ، التي ثبت حملها بشهادة طبية ، سواء أثناء الحمل ، أو بعد الوضع بأربعة عشر أسبوعا. كما لا يمكن إنهاء عقد شغل الأجيرة ،أثناء فترة توقفها عن الشغل بسبب نشوء حالة مرضية عن الحمل أو النفاس ،مثبتة بشهادة طبية.".

لقد تحدث المشرع عن المغادرة الطوعية للأجيرة الحامل وتبرئة ذمتها من أدائها التعويض عن إنهاء عقد الشغل عبر ثلات مواد متتالية ، المادة 156 يقول "يحق للام الأجيرة ، إلا تستأنف شغلها بعد مضي سبعة أسابيع على الوضع " والمادة 157 التي جاء فيها "يمكن للام الأجيرة ، العدول عن استئناف شغلها،" وبالمادة 158كذلك " يمكن للأجيرة الحامل ، إذا أثبتت حملها بشهادة طبية ، أن تترك شغلها دون إخطار.." .

إن هذه المواد لا تشعر بحرج دفع الأجيرة إلى إنهاء عقد الشغل بسبب الحمل وكأن الحمل  والأمومة  والشغل لا  يتعايشون  داخل  المقاولة ، وتظهر التدابير التي اتخذت بهذه المواد كتدابير تمييزية تتعامل بشكل مختلف مع الرجل ، ولهذا وجب حماية العاملة من المادة 66 التي تعطي إمكانيات واسعة للمشغل الذي "يعتزم فيها فصل الأجراء كلا أو بعضا لأسباب تكنولوجية أو هيكلية أو اقتصادية".

كما أن المادة 158 رخصت للعاملة إذا أثبتت حملها بشهادة طبية أن تترك شغلها دون إشعار مشغلها بذلك ولا يترتب على تصرفها أي التزام بأداء التعويض. .والملاحظ أن المادة 154 نصت على أن للأجيرة الحق في إيقاف فترة سريان عقد الشغل لمدة سبعة أسابيع تبتدئ قبل تاريخ توقع الوضع, وهذا لا يؤدي إلا للاستمرار في عملها دون وعي منها بالمخاطر التي تهدد صحتها و صحة جنينها ,سعيا منها (للحصول على ما قد يوفر لها موارد إضافية لمواجهة التكاليف الطبية والاجتماعية في غياب التغطية الكاملة ([11]) . لذا كان على المشرع في هذه المادة أن يؤكد على إجبارية التوقف قبل الوضع مثلما فعل في المادة153 التي نص فيها على أنه(لا يمكن تشغيل الأجيرات النفيسات أثناء فترة الأسابيع السبعة المتصلة التي تلي الوضع.

إن حالة الإجهاض المفاجئ تتطلب باعتبارها حالة مرضية نفس فترة التوقف عن العمل في حالة الحمل العادي ولهذا جاءت المادة 159 قصد تصحيح هذه الوضعية حيث تنص على انه " لا يمكن للمشغل إنهاء عقد شغل الأجيرة أثناء فترة توقفها عن الشغل بسبب نشوء حالة مرضية  عن الحمل أو النفاس ، مثبتة بشهادة طبية".

وقد تخلت المدونة عن العقوبات الحبسية والاستعاضة عنها بغرامة تتراوح بين 3000و 5000 درهم بسبب تسريح العاملة الحامل ، وقد رأى الفقه القانوني " أن تعزز هذه الحماية بمراجعة هذه العقوبات بالرفع من قيمة الغرامة ومضاعفة تعويض المرأة الحامل متى تبث طردها تعسفيا" ([12])

الفقرة الثانية : التحرش الجنسي والفصل التعسفي .

إذا كان عمل المرأة يحررها بفعل استقلالها المادي وبفعل تفتح شخصيتها على العالم الخارجي لتحس بكيانها المستقل  إن على المستوى السوسيو اقتصادي  أوعلى المستوى النفسي، فان التحرش الجنسي يفقدها طعم هذه الحرية ويفقدها كرامتها الشخصية وبالتالي إرجاعها إلى البيت تحت ضغط الزوج أو الأهل انسياقا للمعايير الأخلاقية والقيمية للمجتمع التقليدي المغربي.

وعندما اعتبرت المادة 40 من مدونة الشغل إن التحرش الجنسي، من الأخطاء الجسيمة ، ضد الأجير(والأجير الأنثى من أكثر المعًّرضين للتحرش الجنسي) من طرف المشغل أو رئيس المقاولة أو المؤسسة ، وضعت إمكانية التقاضي بيد المتضرر من هذا الأجراء في حالة إثبات الخطأ ، والمطالبة بالتعويض عن الضرر لاعتبار ذلك الخطأ (التحرش الجنسي ) بمثابة فصل تعسفي  على اعتبار أن المشغل بمقتضى المادة 24 يعتبر مسؤولا وساهرا على حسن السلوك والأخلاق الحميدة وعلى استتباب الآداب العامة داخل المقاولة، وتنص المادة41 من المدونة  انه "في حالة ثبوت فصل الأجير تعسفيا ، إما بإرجاع الأجير إلى شغله أو حصوله على تعويض عن الضرر "  الذي رفعته المدونة إلى سقف 36 شهرا عوض 24 شهرا بالمشروع.

الفقرة الثالثة :قاعدة "حركية الأجير" بين سريان العقد وإنهائه.

                إن من بين الإشكاليات التي تدفع العاملة المتزوجة إلى فقدان عملها في إطار ما نسميه بقاعدة "حركية الأجير" والتي أغفلت المدونة التنصيص عليه هو انتقال نشاط المقاولة المشغلة في إطار المادة 19 ،"على الأخص بسبب الإرث ، أو البيع أو الإدماج ،أو الخوصصة " ،  إلى التمركز بمدينة أخرى  غير تلك التي قام بها عقد الشغل  الشيء الذي  يجعل العمل بعيدا عن بيت الزوجية كمشكل قائم الذات فيما يخص تشغيل النساء( المتزوجات) ، فهل تعتبر وضعية المقاولة الجديدة بالنسبة للأجيرة المتزوجة فصلا من الشغل استوجبت بذلك التعويض عنه.؟

فعقد الشغل في إطار حركية الأجير يبقى ساري المفعول حيث " لايؤثر على العلاقة بين الأجير والمقاولة انتقاله من موقع إلى آخر أو من مدينة إلى أخرى في إطار نفس المقاولة " ([13])

إلا انه بالنسبة للأجيرة الزوجة والأم يشكل تشرذما لوضعيتها الموزّعة بين  دخولها حالة اجتماعية  في حالة استمرارها في الشغل ، أو دخولها حالة فسخ عقد الشغل في حالة ارتباطها ببيت الزوجية .

إن مراعاة سكنى الأجيرة هنا غير واردة رغم إن المدونة لم تغفله بالمادة 37 في إطار العقوبات التأديبية في حق الأجير في "التوبيخ الثالث أو النقل إلى مصلحة أو مؤسسة أخرى يُراعى مكان سكنى الأجير".

ثم إن عدم التحاقها بالمؤسسة المنتقلة يُصبح حسب المادة 42 بمثابة "إنهاء عقد الشغل بصفة تعسفية" وتصبح بذلك الأجيرة مهددة ومطالبة بالتعويض عن الضرر بمقتضى المادة 41 التي تنص على أنه "يحق للطرف المتضرر ، في حالة إنهاء الطرف الآخر للعقد تعسفيا ، مطالبته بالتعويض عن الضرر"

بينما يكتفي المُشغل بمقتضى المادة 136 بالتصريح فقط للعون المكلف بالشغل "إذا انتقلت المقاولة إلى مكان آخر وهي تشغل أجراء .

وعندما تضطر العاملة للبحث عن عمل آخر داخل مدينتها تُحمل المدونة للمشغل الجديد "المسؤولية عن الضرر اللاحق بالمشغل السابق "(المادة 42)" إذا استمر في تشغيل أجير بعد أن علم أنه ما زال مرتبطا بمشغل آخر بموجب عقد شغل".

خاتمة:

عند الصياغة النهائية للمدونة تم رفع التقييد لتشغيل النساء ليلا  نحو طرح إمكانية تشغيلهن  في " أي شغل ليلي "  دون تخصيص ، لايمكن إلا أن نستخلص ما رسمته المدونة من دوائر القلق حول المفهوم الذكوري لتواجد المرأة ببيتها ليلا يقول ذ.عبد الرزاق مولاي رشيد "يجب إعادة النظر في أسطورة الفحولة ، صورة التواجد الضروري للمرأة بالبيت ليلا.([14]) وقد نختم هذه المقاربة بالفرضية التي  وضعها عند تطرقه لوضعية المرأة بالمغرب  حيث قال :" التفكير في موضوع  مماثل يرجع للتساؤل  حول المجتمع كله"([15])

لهذا  فالدراسة حول  المرأة كيفما كان اختصاصها تثير إشكالية العلاقة  التصارعية بين الحضور القوي للموروث المجتمعي ومتطلبات الأزمنة الحديثة ، ما بين الخصوصية والعمومية .

المراجع والهوامش:

[1] - مدونة الشغل(تصدير) الجريدة الرسمية عدد 4158، 08/12/2003،ص:3971

[2] - ذ .محمد القري اليوسفي، ذ.محمد الشرقاني، ذ.عبد العزيز العتيقي: دراسة تحليلية ونقدية لمدونة الشغل المرتقبة,مشروع 1998.

[3] - للمزيد من الاطلاع ، انظر المرجع السابق ص:192وما يليها

[4] - المادة 361

[5] - ذ. محمد القري اليوسفي ذ.محمد الشرقاني، ذ.عبد العزيز العتيقي، نفس المرجع السابق ص:124.

[6] - نفس المرجع السابق ص:124.   

[7] - د.عبد اللطيف خالفي ، حوادث الشغل والأمراض المهنية ، دراسة نظرية وتطبيقية في ضوء تعديلات ظهير 23يوليوز 2002،المطبعة والوراقة الوطنية الداوديات ، مراكش، الطبعة الأولى ،2003،ص:59.

[8] - نفس المرجع السابق ص:103.

[9] - ذ.محمد القري اليوسفي، ذ.محمد الشرقاني، ذ.عبد العزيز العتيقي، دراسة تحليلية نقدية لمدونة الشغل المرتقبة، مشروع 1998، ص:126.

[10] - marocaine et sécurite sociale, fettouma benabdnbi-jerrari, editions le fennec, page : 102.

[11] - ذ . محمد القري اليوسفي و آخرون : دراسة تحليلية ونقدية لمدونة الشغل المرتقبة,مشروع 98 ,ص124

[12] - نفس المرجع السابق ،ص: 128

[13] - ذ.محمد الشرقاني، محاضرات في مدونة الشغل المرتقبة( مشروع 2000) لطلبة السنة الثالثة لشعبتي القانون الخاص والعام ،الجزء الأول ،السنة الجامعية 2000-2001.

[14] - Abderrazak Moulay rchid « la condition de la femme au Maroc, édition de la faculté des sciences Economiques et sociales de rabat, introduction générale p : 477 -

[15] - abderrazak Moulay rchid « la condition de la femme au Maroc , p :3

Partager cet article
Repost0
20 octobre 2022 4 20 /10 /octobre /2022 21:11
الخطاب الإسلامي والتحديات المعاصرة في مجال حقوق الإنسان

الخطاب الإسلامي والتحديات المعاصرة في مجال حقوق الإنسان

المصطفى تودي

دراسة محكمة

 أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس

الكلمات المفاتيح: العالم الاسلامي، حقوق الانسان، الخطاب الاسلامي، المجتمع الاسلامي

ملخص

لا يخفى ما يعيشه العالم وبخاصة العالم الإسلامي من تسلط الغرب واستبداده وفرض هيمنته الفكرية والإعلامية مما أدى إلى تغييب المفهوم الإسلامي لقضية حقوق الإنسان، وقد كان للإسلام المنهج المتكامل للحياة لإقامة مجتمع إسلامي حقيقي يتمتع الناس فيه بالحقوق وأداء الواجبات وهذا ما أعطى لحقوق الإنسان في الإسلام صبغة عالمية لم تصل إليها أية محاولة خارج التصور الإسلامي كيفما كانت

  والمتتبع لواقع العالم الإسلامي اليوم يتبين له ما تعيشه المجتمعات الإسلامية من انتهاك لحقوق الإنسان وامتهان لكرامته، نتيجة الاستبداد والضعف والهوان الذي أصاب جسم الأمة المسلمة ، ويرجع هذا الانكماش في مجال تطبيق حقوق الإنسان وتقلص الحريات في واقع المجتمع الإسلامي إلى عدة أسباب مرتبطة بالبعد عن مقتضيات العقيدة الإسلامية السمحة، والبعد عن منهج النبوة وكيد الأعداء، وغيرها من الأسباب والعوامل التي جعلت حقوق الإنسان تغيب عن المجتمعات الإسلامية ثقافة وسلوكا وتطبيقا، رغم غنى القيم الحضارية الإسلامية وتميزها وقدرتها على العطاء.

وسنحاول من خلال  هذا العرض تناول الأوضاع التي تعيشها المجتمعات الإسلامية من تواكل وتخاذل وفقر وانتهاك لحقوق الإنسان بفعل المغلوبية الحضارية للدول الإسلامية،

كما سنعمل على دراسة أثر المنابر الإعلامية والمناهج التعليمية في الدول الإسلامية التي تتحدث عن حقوق الإنسان وتروج لها من المنظور الغربي فقط، وتغفل المنظور الإسلامي عن قصد أو بسبب الجهل بمضمون الحقوق في الإسلام، وانبهار أبناء المسلمين بالثقافة الغربية مما فتح الباب لأبناء المسلمين للانبهار بما وصلت إليه الثقافة الغربية في تنظيرها لمبادئ حقوق الإنسان وتطبيقها في مجتمعاتهم.

كما أن الفراغ الذي تعيشه الأمة الإسلامية على مستوى الممارسة الفعلية لتطبيق حقوق الإنسان جعلها في قفص الاتهام بعد الهزائم الحضارية التي توالت على الأمة الإسلامية،

 كما سنتناول في هذا العرض التحديات التي تواجه الخطاب الإسلامي المعاصر في مجال تفعيل حقوق الإنسان، والمهام المطروحة على الخطاب الإسلامي في مجال حقوق الإنسان والتي تفرض الافتخار والاعتزاز بالتعاليم الإسلامية والتمجيد وإظهار السبق والتفوق للإسلام في مجال حقوق الإنسان .

Mots-clés : monde islamique, droits de l'homme, discours islamique, société islamique

Sommaire

Ce n'est un secret pour personne que le monde, en particulier le monde islamique, subit la domination et la tyrannie de l'Occident et l'imposition de son hégémonie intellectuelle et médiatique, ce qui a conduit à l'absence de la conception islamique de la question des droits de l'homme. n'a été atteint par aucune tentative en dehors de la perception islamique, quelle qu'elle soit

   Quiconque suit la réalité du monde islamique d'aujourd'hui se rendra compte de ce que vivent les sociétés islamiques en termes de violation des droits de l'homme et d'humiliation de leur dignité, en raison de la tyrannie, de la faiblesse et de l'humiliation qui ont affligé le corps de la nation musulmane. , l'éloignement de la méthode de la prophétie et des complots des ennemis, et d'autres raisons et facteurs qui ont rendu les droits de l'homme absents des sociétés islamiques en termes de culture, de comportement et d'application, malgré la richesse, la distinction et la capacité des valeurs civilisationnelles islamiques.

À travers cette présentation, nous essaierons d'aborder les conditions dans lesquelles vivent les sociétés islamiques en termes de dépendance, de négligence, de pauvreté et de violation des droits de l'homme en raison de la domination civilisationnelle des pays islamiques.

Nous étudierons également l'impact des plateformes médiatiques et des programmes d'enseignement dans les pays islamiques qui parlent des droits de l'homme et les promeuvent d'un point de vue occidental uniquement, et ignorent la perspective islamique intentionnellement ou par ignorance du contenu des droits dans l'Islam, et la fascination d'enfants musulmans avec la culture occidentale, ce qui a ouvert la porte aux enfants musulmans pour qu'ils soient éblouis par ce qu'ils ont accompli La culture occidentale dans sa théorie des principes des droits de l'homme et leur application dans leurs sociétés.

De même, le vide que connaît la Oummah islamique au niveau de la pratique effective de l'application des droits de l'homme l'a mise au banc des accusés après les défaites civilisationnelles qui ont balayé la Oummah islamique.

  Dans cette présentation, nous aborderons également les défis auxquels est confronté le discours islamique contemporain dans le domaine de l'activation des droits de l'homme, et les tâches auxquelles est confronté le discours islamique dans le domaine des droits de l'homme, qui imposent la fierté et la fierté des enseignements islamiques, la glorification et la démonstration la préséance et la supériorité de l'islam dans le domaine des droits de l'homme.

 

لقد أخذ موضوع حقوق الإنسان يكتسب أهمية وأولوية على المستوى العالمي والمحلي في وقتنا الحاضر، وهي قضية كبرى جديرة بالبحث والدراسة من وجهة النظر الشرعية لفهم نظرة الإسلام للإنسان وحفظه لحقوقه، وتنظيم شئون حياته، على نحو يكفل له الحياة الكريمة، ولا يخفى ما يعيشه العالم وبخاصة العالم الإسلامي من تسلط الغرب واستبداده وفرض هيمنته الفكرية والإعلامية مما أدى إلى تغييب المفهوم الإسلامي لهذه القضية، وما يزيد من حدة تأثير ذلك ما يمارس داخل البلاد الإسلامية من ممارسات شتى منافية للقيم والمبادئ الإسلامية، وهو الأمر الذي يمثل تحديا ضاريا يفرض تكاثف جهود الباحثين والمختصين للتعريف بحقيقة الإسلام ونظرته إلى حقوق الإنسان وتعميق الوعي بها وبخطورة الادعاءات التي تثار حولها .   

1 - حقوق الإنسان في الإسلام بين كمال النظرية وسوء التنزيل

لقد كان الإسلام المنهج المتكامل للحياة، والمدخل الصحيح لإقامة مجتمع إسلامي حقيقي يتمتع الناس فيه بالحقوق وأداء الواجبات، والتزام العدالة في تطبيقها والسهر على حمايتها في إطار نوع من التوازن والمساواة الحقيقية، التي لا امتياز فيها بين فرد وفرد على أساس لغة أو عنصر أو دين أو لون، فالناس كلهم سواء في القيمة والكرامة الإنسانية،  ذلك أن الإسلام هو دين الفطرة الخالدة الذي يحمي الإنسان ويقيم حياته ويحافظ على حقوقه ويرفع من شأنه ويكرم إنسانيته، وهذا ما أعطى لحقوق الإنسان في الإسلام صبغة عالمية لم تصل إليها أية  محاولة خارج التصور الإسلامي كيفما كانت.

من هنا يظهر تفوق المبادئ الإسلامية وغنى القيم الشرعية الضابطة والموجهة لمسيرة الحياة،  كما يبرز ثراء التجربة التاريخية التي تجسد أحسن تطبيق لحقوق الإنسان في واقع الحياة، وذلك بتعدد النماذج والأمثلة الصالحة للإقتداء بها في الواقع المعاصر.

2 : أسباب التباين بين التنظير والتطبيق

  إن المتتبع لواقع العالم الإسلامي اليوم يتبين له ما تعيشه المجتمعات الإسلامية من انتهاك لحقوق الإنسان وامتهان لكرامته، نتيجة الاستبداد والضعف والهوان الذي أصاب جسم الأمة المسلمة، والتجاوزات المجحفة والأعمال المخالفة للعدل والمساواة، وغلبة الأعداء، مع كل ما يعانيه العالم الإسلامي من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأزمات فكرية وروحية، مما تسبب عنه حجب الإسلام وإخفاء حقيقته

ويمكن إرجاع هذا الانكماش في مجال تطبيق حقوق الإنسان وتقلص الحريات في واقع المجتمع الإسلامي إلى الأسباب التالية:

أ : البعد عن تحكيم الشرع الرباني العادل.

إن البعد عن مقتضيات العقيدة الإسلامية السمحة وتغييب التوجيهات والمبادئ التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله في الحقوق والواجبات، هو السبب الحقيقي في تراجع أمة الإسلام عن الشهود الحضاري في قيم المساواة والعدل والحرية.

ولن يخلص البشرية من أزمتها إلا المنهج الرباني الذي أنزله الله في كتابه الكريم وبينه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، قال تعالى : ﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [1].

ب : البعد عن منهج النبوة

إن المنهج النبوي في معالجة حقوق الإنسان لم يكن منهجا عاطفيا يعتمد على الشعارات والخطابات، وإنما اعتبرها من الثوابت الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، وحرصا على حسن تطبيقها اعتمد صلى الله عليه وسلم على إصلاح الفرد المسلم وتقويم سلوكه وتربيته على احترام حقوقه، حتى تصبح جزءا من مكوناته النفسية والعقلية ويحافظ عليها، فاكتسب بذلك المنهج النبوي عمقا وامتدادا في الزمان والمكان جامعا بين النظرية والتطبيق التي يرتقي بها الإنسان إلى المساواة الكاملة والعدل المطلق.

ج: كيد الأعداء

استغل المجتمع الغربي شعار ثقافة حقوق الانسان كأداة ضاغطة يستخدمها للابتزاز السياسي والضغط على الشعوب والأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي الخارجة عن النظام العالمي الجديد، وكوسيلة لإيذاء المسلمين وخلق الفتن فيما بينهم، لممارسة الهيمنة وفرض السيطرة وبسط النفوذ الثقافي والاقتصادي على الدول الإسلامية، ووضع مجتمعاتها في أخطر ألوان التبعية المطلقة للغرب، مما جعلها تعيش على الهامش لا تتوفر لها مقومات الإلتحاق بركب الحضارة العصرية.

 

هـ: آثار غياب تطبيق حقوق الإنسان على الواقع الإسلامي

تعددت الأسباب والعوامل التي جعلت حقوق الإنسان تغيب عن المجتمعات الإسلامية ثقافة وسلوكا وتطبيقا، رغم غنى القيم الحضارية الإسلامية وتميزها وقدرتها على العطاء، وكثرة النماذج التاريخية التي تبين بجلاء أن هذه القيم قابلة للتطبيق والتنزيل، ودافعا للنهوض، الشيء الذي ترتب عنه النتائج التالية :

-  تردي الواقع الإسلامي في مجال حقوق الإنسان

 تفاقم الأوضاع التي تعيشها المجتمعات الإسلامية من تواكل وتخاذل وفقر وانتهاك لحقوق الإنسان بفعل المغلوبية الحضارية للدول الإسلامية، ووضع العراقيل أمام الواجب الذي تمليه العقيدة الإسلامية على الدول في قيام مجتمع مثالي تحترم فيه حقوق الانسان وواجباته، وإخضاعها لاعتبارات ذاتية دون النظر إلى الاعتبارات الموضوعية المتعلقة بإقرار الحقوق والواجبات، كل هذا أدى إلى هجوم بعض الكتابات الغربية على الإسلام واتهامه بأنه هو التحدي الحقيقي لحقوق الانسان بمفهومها العالمي، الأمر الذي جعل الحاقدين على الإسلام يعلقون على مشجبه كل التسلط والانتهاك والهضم لكافة الحقوق.

-  انتشار التعصب وغيا ب ثقافة الحوار والتسامح

 إن غياب تطبيق حقوق الإنسان في الدول الإسلامية أدى إلى غياب ثقافة التسامح والحوار التي تعتبر من أهم مقاصد حقوق الإنسان في الإسلام، وحلت محلها ثقافة الانغلاق على الذات والرفض للآخر، التي تعتبر مدخلا لعدم قبول حضارته والإعتراف بحقوقه وتسويغ انتهاكها تحت أي مبرر كيفما كان.

هذا الوضع أدى إلى انتشار ظاهرة التعصب والحزبية وغمط الآخرين حقوقهم وفضائلهم، والحق أن الإسلام مبني على الإنفتاح والمعاملة الحسنة، دون فرض أخلاقه وحضارته بالعنف والإرهاب، والاستفاذة من القيم المثلى الموجودة في الثقافات الأخرى.

          -  إغفال الإعلام ومناهج التعليم للمنظور الإسلامي لحقوق الإنسان

أغلب المنابر الإعلامية والمناهج التعليمية في الدول الإسلامية تتحدث عن حقوق الإنسان وتروج لها من المنظور الغربي فقط، وتغفل المنظور الإسلامي عن قصد أو بسبب  الجهل بمضمون الحقوق في الإسلام، الأمر الذي جعل المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان تترسخ في المجتمعات الإسلامية، بسبب "غياب المفاهيم الإسلامية المنضمة للحقوق الشرعية للأفراد والجماعات، مما أدى إلى بناء تصور للحقوق الإنسانية مستمدة من التجربة الغربية لمعالجة الواقع ومحاولة الارتقاء بحقوق الأفراد والجماعات، فصارت المفاهيم والمبادئ الغربية المرجع الأساسي لبناء قواعد اجتماعية لتنظيم  الحقوق الفردية في العالم أجمع، ونجم عن ذلك سلب الحضارة الإسلامية مقومات وجودها كواقع ممارس في العديد من المجتمعات الإسلامية، وصارت "تراثا"عاجزا عن تنظيم الواقع، ومرجعا " أخلاقيا" محدود الأثر في الواقع التشريعي المعاصر المنظم لحقوق الإنسان"[2]،

-   انبهار أبناء المسلمين بالثقافة الغربية

إن الفراغ الذي تعيشه الأمة الإسلامية على مستوى الممارسة الفعلية لتطبيق حقوق الإنسان فتح الباب لأبناء المسلمين للانبهار بما وصلت إليه الثقافة الغربية في تنظيرها لمبادئ حقوق الإنسان وتطبيقها في مجتمعاتهم.

فوضع الإسلام في قفص الاتهام بعد الهزائم الحضارية التي توالت على الأمة الإسلامية، واعتبر العامل الأول عن تخلف المسلمين، فتعالت دعوات فئات من أبناء المسلمين، منبهرة بالحضارة الغربية وما وصلت إليه من تقدم في مجال تطبيق حقوق الإنسان، منادية بإبعاد الإسلام عن جميع مناحي الحياة، لأنه يمثل من منظورها عائقا أمام التطور المنشود.

 4 : التحديات التي تواجه الخطاب الإسلامي المعاصر في مجال تفعيل حقوق الإنسان.

 أولا: كيفية  توفيق الخطاب الإسلامي بين ما تمتاز به القيم الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، من التميز والقدرة على الاستجابة لواقع الحياة الشديد التغير والتطور، وبين الواقع المتردي للمسلمين.

 ثانيا : أن الخطاب الإسلامي المعاصر مدعو إلى تجاوز الموقع الدفاعي عن حقوق الإنسان في الإسلام، بإظهار تفوقها وتكريمها للإنسان وحماية حقوقه، إلى التفكير في إيجاد الوسائل والآليات العملية التي تجعل من هذه القيم مبادئ ميسرة التطبيق في حياتنا، وأحكام سهلة التنزيل على واقعنا، اقتداء بمنهج النبوة والخلافة الراشدة التي تعتبر تجسيدا فعليا للقيم الإسلامية في الواقع.

 ثالثا : إن المسلمين اليوم ملزمين بأن يستقوا منهج حياتهم ومجتمعهم من منطلق القرآن الكريم والسنة النبوية، اللذان هما جماع القيم الإنسانية العليا، التي تمكن المجتمع الإسلامي من التكافل والتضامن، والخروج من التبعية والعودة إلى منابع الإسلام.

 رابعا : إن من واجب كل مسلم أن يتمثل القيم والمبادئ الإسلامية في سلوكه وينزلها في واقعه،  حتى يكون قدوة لغيره، ويحقق بذلك الشهود الحضاري للأمة،

خامسا : إن المطلوب اليوم من المسلمين ليس هو إحياء التراث، وإنما إحلال الشريعة الإسلامية الخالدة في القرآن والسنة في مكانها الصحيح والأصيل قبل أن تحجبها القوانين الغربية.

وإن في إمكان المتخصصين من المسلمين أن يقدموا منهجا مرنا يحقق ثوابت الإسلام ومتغيرات العصر...لنكون قادرين على تقبل معطيات العصر حتى لا نجمد ولا نتوقف أو نتخلف.

5: مهام الخطاب الإسلامي في مجال حقوق الإنسان

وجب على الخطاب الإسلامي اليوم بعد الأحداث الأخيرة التي يعيشها المجتمع الإسلامي إيلاء الأهمية للتصور الإسلامي في موضوع حقوق الإنسان. وهذا لن يتأتى إلا بإبراز الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى: سبق الدين الإسلامي كل الأنظمة الوضعية بتشريعه العالمي لحماية حقوق الإنسان واحترامها وربطها بالحكمة الإلهية وبمقاصد الشريعة وسمو هدفها وغايتها لأنها رسالة موجهة للعالم كله.

الحقيقة الثانية: تفوق التجربة الحضارية الإسلامية التي جعلت من هذه المبادئ والتعاليم أحكاما ملزمة وضرورات مطبقة وتشريعات لا يجوز تعديلها أو انتهاكها، لأن انتهاكها اعتداء على القيم والمثل .

الحقيقة الرابعة : تهافت الكتابات والأبحاث التي تدعي أو تلمح بقصد أو بغير قصد أن حقوق الإنسان لم تتبلور إلا في إطار المنظومة الفكرية الغربية، وأنها نتاج للأبحاث الفلسفية .

 الحقيقة الخامسة : الافتخار والاعتزاز بالتعاليم الإسلامية والتمجيد وإظهار السبق والتفوق للإسلام في مجال حقوق الإنسان لا يجب أن ينفي بأي حال من الأحوال أو يحجب قيمة الحقوق في القوانين الوضعية، أو يمنع من الاستفادة منها، لأن هذه القوانين وإن كانت إنتاجا بشريا إلا أن ذلك لا يحجب عنا النظر إلى قيمتها والتمعن في هذا الإرث الإنساني المشترك، والعمل على إنمائه وتطويره ومقارنته وموازنته بالحقوق في الإسلام.

الحقيقة السادسة: أن المقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام والمواثيق الدولية سوف لا يجدي نفعا ما لم نقم بمقارنة بين تطبيق حقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي وتطبيقها في المجتمع الغربي ، وتحديد مواطن الضعف والأسباب التي حالت دون الإرتقاء بها إلى المستوى الذي شرعه الإسلام.

 

المصادر والمراجع

 

القرآن الكريم برواية ورش عن نافع

صحيح البخاري، تحقيق مصطفى الذهبي، دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى 1420هـ - 2000م،.

محمد أحمد مفتي وسامي صالح الوكيل النظرية السياسية في حقوق الإنسان الشرعية دراسة مقارنة. كتاب الأمة العدد 25  السنة 1994 م.

 

 

 -  سورة الحديد الآية 25.[1]

[2]  -  النظرية السياسية في حقوق الإنسان الشرعية دراسة مقارنة،  محمد أحمد مفتي وسامي صالح الوكيلص23. كتاب الأمة العدد 25.  شوال 1410.

Partager cet article
Repost0
17 septembre 2022 6 17 /09 /septembre /2022 18:56
المرأة في الإسلام من السياق إلى التأويل -القرآن الكريم والسنة النبوية

المرأة في الإسلام من السياق إلى التأويل

  •  -القرآن الكريم والسنة النبوية-

 

د. ادريس عبد النور

 

دراسة محكمة

 

أستاذ التعليم العالي مساعد  بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس مكناس/المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية وعلوم التربية والنقد النسائي والثقافة الرقمية

Abdennour.driss@gmail.com

 

الكلمات المفاتيح: القرآن الكريم، السنة النبوية، التشريع الاسلامي، المرأة المسلمة، مقاربة النوع الاجتماعي.

ملخص:

     يُتَّهم الإسلام بأنه ينتقص من عقل المرأة وقدراتها الفكرية، وأنه يحط من إمكانياتها في استعمال العقل بالمقارنة مع الرجل بمعنى أن الإسلام يخالف العلم واستعمال العقل و أساس هذه الاتهامات هو ما اجتزئ من آيات قرآنية وأحاديث صحيحة وظفت في غير سياقاتها .ومن هذه النصوص التي ولدت جدلا وأشكل على البعض تأويلها وأضرت بصورة المرأة المسلمة في التشريع الإسلامي.

 

Sommaire:

Mots-clés : le Noble Coran, la Sunna du Prophète, la législation islamique, les femmes musulmanes, l'approche genre,

L'islam est accusé de nuire à l'esprit de la femme et à ses capacités intellectuelles, et qu'il dégrade ses capacités à utiliser la raison par rapport aux hommes, ce qui signifie que l'islam contredit la science et l'utilisation de la raison. Certains l'ont interprété et cela a nui à l'image de la femme musulmane. dans la législation islamique.

 

1-  المرأة في القرآن من السياق إلى التأويل

    1. التفريق بين الذكر الأنثى على أساس التفاضل.

     جاء في هذا الموضوع قوله تعالى: ﴿ وليس الذكر كالأنثى﴾ (سورة آل عمران الآية 36.) وقد خضعت هذه الآية إلى عدة تفاسير بحيث فسرها القرطبي في جزئه الرابع الصفحة 68، بأن امرأة عمران إنما قصدت بكلامها أن الأنثى التي ولدتها لا تصلح لما نذرت به ربها ،أي خدمة المسجد، وهو العمل المخصص للذكور بحيث جاء في قصة امرأة عمران (حنة بنت فاقود)* ﴿ إذ قالت امرأة عمران رب إني أنذرتك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم* فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى﴾ ( آل عمران الآية 35-36) . وإن كان بعض المفسرين المحدثين " يأخذ هذه العبارة منفصلة عن سياقها ليؤكد تفوق الذكور، فإن وضعها داخل إطارها الحقيقي يطلعنا على خطأ التصورات التي تؤسس العلاقة بين الجنسين على التفاضل" ([1]).

فالرجل مفضل انطلاقا من إنتاج المعاني التي تنتجها قصة الخلق ومعاني الآيات الآتية :﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة﴾ (سورة البقرة الآية 227) . ﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾ (سورة النساء الآية 34.)

هذا ويقول ابن جوزي : " كان ذلك من تمام اعتذار امرأة عمران ومعناه : لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر من خدمته المسجد والإقامة فيه لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس" ([2]) .

وقال الشوكاني في " زبدة التفسير" ص: 68 ، " أي ليس الذكر الذي أردت أن يكون..خادما ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك" .

وفي تفسير ابن كثير الجزء الأول ص: 359، يقول كاتبه مفسرا هذه الآية بأن المقصود هو " ليس الذكر كالأنثى في القوة والجلد والعبادة وخدمة المسجد الأقصى".

لقد أجمعت كل هذه التفاسير لهذه الآية عن قراءتها وفق السياق العام الذي نزلت فيه مع اعتبار كل القراءات التأويلية لم تكن محايدة فيما يتعلق بإنتاجهم لنفس الصورة التي تنتهجا الصياغة التوراتية حول المرأة بالنسبة لمفهوم " الطهارة"  وبذلك فإخراج هذه الآية من سياقها يضر بصورة المسلمة كما يضر بصورة الإسلام من حيث قيام الأفضلية بين الذكر والأنثى على المستوى الإلهي ، وهو موقف يظلم المرأة كما يظلم الإسلام وهو الذي نادى في العديد من الآيات بمبدأ المساواة الذي يشمل الرجل كما المرأة على السواء قال تعالى : ﴿ وأمرت لأعدل بينكم﴾( الشورى الآية: 15). كما قال :﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم

أجرهم بأحسن ما كانوا يعلمون﴾ (النحل الآية 97)،وقال أيضا: ﴿إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم﴾ (الحديد الآية 18).

      فالمساواة بين الرجل والمرأة  متحققة في الإسلام بطريقة قل نظيرها في باقي الديانات السماوية الأخرى وإن كان هناك أحيانا تباين في الاختصاصات والمسؤوليات،" فإننا لا نجد تفريقا بين الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية وفي الجزاء من ثواب أو عقاب" ([3])

    1. في إلحاق الكيد بجنس النساء.

كثيرا ما تضررت صورة النساء من خروج  الآية التالية عن سياقها ، فأصبح تفسيرها يستدعي فهمها على ضوء سياقها الذي يتعلق بامرأة عزيز مصرمع يوسف عليه السلام يقول تعالى :﴿ فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة الآتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم﴾ ( سورة يوسف الآية 50.)، وقد أرجع المفسرين الكيد بعدد من الخصال متعلقة بالسياق حيث وصف القرطبي الكيد بالمكر والحيلة و "عظيم" لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن.

    1. في وجه عداوة الأزواج والأولاد.

قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون﴾ () ، إن حيلولة الزوجة أو الأولاد عن طاعة الله واستجابة المؤمن لنداء الله يتحمل مسؤوليتها الزوج وحده ، ويأتي تفسير الآية : ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم﴾ (سورة التغابن الآية 14) مركزا على أن "عدوا لكم" بمعنى " احذروهم" ، أما ما يتعلق بإلحاق فحوى الآية بالمرأة فقط ف" من أزواجكم" يدخل فيها كل من الذكر والأنثى باعتبار أن الجمع المذكر الذي يدخل في جميع الآيات كان يشمل كلا منهما، فيصبح بذلك الرجل " عدوا" أي يجب الحذر منه كذلك عندما يقف حائلا بين العدو وبين الطاعة كما جاء على لسان القرطبي  في تفسيره الجزء 18 ص: 141،حيث قال " أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه .وعموم قوله " من أزواجكم " يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما كل آية" .

    1. في التلبيس بمكان الوطء

في قوله تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم﴾ ( البقرة الآية 223) يقع تفسير الآية أحيانا على أساس إلتباس يجعل معنى "الحرث" - وهو يحيل هنا على معنى رقيق للوطء – يتعلق بالمكان مادام معنى الزمان – وهو وقت المحيض- قد شجبته الآية : 222 من سورة البقرة ﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتّى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله﴾ " ولما كانت المرأة موضع النسل إذ كان في رحمها نطفة زوجها جاء تشبيهها بالأرض التي هي موضع النبات والإنبات [...] والمراد أن بإمكان الرجل إتيان امرأته من أي جهة شاء، ما دام ذلك في موضع الحرث ، أي القُبُل" ([4]) .

  1. المرأة في السُّنة من السياق إلى التأويل

     الإسلام هو الإسلام والتأويل متعدد فبعد أن اختلف المسلمون في تفسير القرآن الكريم ، وبعد أن جعل المفسرين النص القرآني يقول بدونية المرأة ، كما نادى بذلك أبو الأعلى المودودي الذي جعل الإسلام يوصد الباب في وجه النساء للاندماج في الحياة الاجتماعية والسياسية لمجتمعاتهن ، هذا القول قد يجعل البعض يعتقد بمصداقيته باعتباره فعلا موقف الإسلام من المرأة  .

لقد سخّر التأويل العقيدة لخدمة وجهة النظر المحكومة بالهاجس الفردي أو الأيديولوجي.. عن الانزلاق في التأويل أو تدعيما لسلطة دنيوية ما على الأرض.

إن نفس الذهنية التجزيئية قد أصابت مقتلا في النص القرآني كما في النص الحديثي أبانت عن تغلغل المنطق الأبوي المتحجر اتجاه كل ما يتعلق بالمرأة، بدءا من :

    1. أحاديث الابتلاء بالبنات:

 فقد روى الترمذي عن عائشة قالت : قال (ص) : " من ابتلي بشيء من البنات فصبر عليهن كن له حجابا من النار".

فالبلاء هنا ليس بالمعنى العامي ولكنه الامتحان والاختبار، فالصبر قيمة مضافة للواجب الذي يجب أن يستمر حتى تتزوج البنات، وهذا التأويل يضع هذه الأحاديث ف باب (فضل الإحسان على البنات).

    1. أحاديث تجعل المرأة عورة:

 فقد روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود بسند صحيح أن النبي (ص) قال " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان".

فكون المرأة عورة يعني الحذر من إغرائها وفتنتها والاحتياط من جاذبيتها وقوة إيحاء جسدها .

    1. أحاديث تجعل المرأة فتنة:

 رُوي عن البخاري ومسلم وأحمد والنسائي عن أسامة قوله (ص):" ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" .

لقد علق د.إبراهيم مروان القيسي على هذا الحديث بقوله" ليس في الحديث ما يعيب المرأة ،وإنما فيه أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، والفتنة هنا تعني الاختبار" ([5])

    1. حديث في تشبيه المرأة بالحيوان:

روى مسلم وأبو داود وابن خزيمة أن رسول الله (ص) قال : " يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل: المرأة والحمار والكلب الأسود " .

وإذ يُطرح التساؤل عن مدى دلالة الجمع بين المرأة والحمار والكلب نجد أن البعض قد فهمه على ظاهره بما يسيء للمرأة ومكانتها في المجتمع ولهذا " فالجمع بين هؤلاء الثلاثة ليس من باب التسوية بينهم بشكل عام ، وإنما التسوية بينهم فقط في حكم معين هو قطع الصلاة" ([6])

وقد سبق للرسول (ص) أن جمع بين المرأة والطيب والصلاة في حديث آخر أخرجه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي بسند صحيح يقول فيه (ص) " حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة".

    1. إلحاق الحكم بالخيانة على بنات حواء:

لقد جاء فيما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): «...لولا حواء لم تخن أنثى زوجها"  وبذلك يذهب أصحاب التأويل المغرض إلى ما تلحقه الصياغة التوراتية من خطيئة المرأة ومسؤوليتها في خروج آدم من الجنة لما زينت لآدم الأكل من شجرة التفاح، ولو رجع المؤول إلى تفسير النص الحديثي بالنص القرآني لوجد أن القرآن يخص آدم بالعتاب وهذا العتاب سيكون منطقيا لو علمنا أن آدم هو من علمه الله الأسماء كلها والقرآن في قوله تعالى يخصص آدم بمسؤولية الخرق والإشارة له ب" إليه" واضحة،﴿ فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى﴾ (سورة طه الآية 120-121.)، بينما نجد في التوراة، سفر التكوين ، بالإصحاح الثالث ،أن آدم ينفي عنه مسؤولية الاقتراب من الشجرة بما أنه متمثل للأوامر التي وجهها له الله في هذا الشأن إذ يقول " فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت".

ويتبين من هذا كله أن حواء في قصة الخلق الإسلامية (ومن بعد ذلك المرأة بشكل عام) ما زالت تستحكمها قصة الخلق اليهودية على مستوى التأويل([7]) بينما لم نجد لها تخصيصا بالعتاب والإشارة بالتثنية التي جاءت بسورة البقرة الآية 36، والتي جاءت تالية بعد أن استحكم الإله إرادته في أن يجعل في الأرض خليفة يقول: ﴿ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه﴾.

    1. عن نقصان العقل والدين.

  روى أبو داود عن عبد الله بن عمر، أخرجه مسلم، قال، قال رسول الله (ص) :" .. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُبّ منكن، قالت امرأة: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين" ([8]) .

فالمراد من نقصان العقل والدين فالحديث يشرحها بكل وضوح ([9])، وما جعل هذا الحديث يلتبِس على الفهم خروجه عن سياقه الأصلي ليبني به الفقهاء أحكاما شرعية ومواقف ثابتة جعلت المرأة كائنا من الدرجة الثانية له معطيات طبيعية مغايرة وكأن الأمر لأجل ذلك من المسلمات والبديهيات غير خاضعة للنقاش، بالرغم من كون المرأة جاءت في سورة التوبة وصية كالرجل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى بالآية 71: ﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾.

  - فهل من نقص عقله – رجلا أو امرأة- يكلف بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ .

  إن المساواة الحقيقية أمام الله وقمة الثقة الإلهية في مشروعية استعمال العقل من طرف المرأة هي وضع مسؤولية السهر على شريعة السماء بين يديها لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

  -  فكيف لمن نقص عقله أن يُكلف  بتقويم اعوجاج  الحياة الدينية لعموم المسلمين؟

  - بل كيف لناقصات عقل ودين أن يذهبن بلب الرجل الحازم الوافر العقل ؟ كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في كتاب الحيض عن أبي سعيد الخدري : " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن."

  وقد كان علي ابن أبي طالب هو أول من أوّل و وجّه هذا الحديث وجهته الخاطئة بل تحامل على ما جاء في الآية 71 من سورة التوبة بدعوته عدم إطاعة النساء في دعوتهن للمعروف وبذلك جعل النساء بعيدات عن النهي عن المنكر، حيث قال في خطبته المشهورة: " معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان  نواقص الحظوظ نواقص العقول.فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن.أما نقصان حظوظهن، فمواريثهن على الأنصاف عن مواريث الرجال.وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد. فاتقوا شرار النساء. وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر" ([10]). بمعنى منع طاعتهن في المعروف كي لا يطمعن في مسألة النهي عن المنكر.

  كما أنتج عمر ابن الخطاب تأويلا لا يختلف كثيرا عن تأويل علي ابن أبي طالب بل أضاف له من القدسية و" البركة" ما يجعله مترسخا في البنية العقلية للمسلم حيث قال " خالفوا النساء فإن خلافهن بركة".

   فالإسلام ساوى بين المرأة والرجل في التكاليف الشرعية في درجة إتقان العبادة  وفي العقوبة على خلاف ذلك، فلو كانت المرأة ناقصة عقل، فكيف تكون عقوبة غير المؤهل عقليا  بنفس مستوى كامل العقل والأهلية، إن هذه الواقعة تتنافى مع  روح الخطاب الإيماني العام فيما جاء به من العدل والمساواة ونحن نعرف رفع الحرج الذي رفعه الإسلام عن القاصر والمجنون ( أي فاقد العقل) على حد تعبير ابن تيمية : "فلا يسمى عاقلاً من عرف الشر فطلبه والخير فتركه".

خاتمة:

إن مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة من بين المبادئ السامية التي واجه بها الإسلام عرب الجاهلية ، فلكل من الذكر والأنثى جزاءه الخاص في الآخرة كما في الدنيا: ﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض﴾ (سورة آل عمران الآية 195(

وقد تضاربت الآراء في مسألة المساواة، فهناك من يرى أن الإسلام لم يقر بمبدأ المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة مستدلين في ذلك ،اعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد في قوله تعالى:﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضِلَّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى﴾(سورة البقرة الآية 282.(

وقد كان الداعي إلى ذلك ما يقره الإسلام من الانغلاق الاجتماعي الذي كانت عليه المرأة وعم مخالطتها للرجال في ميدان المعاملات التجارية والمالية التي تحتاج المكاتبة كالبيع والقرض والإجارة والرهن والوديعة والاقرار والغصب والوقف،﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين مسمى فاكتبوه﴾ (سورة البقرة الآية 282.)، هذا زيادة على عدم تفتحها على الأسواق وقد تستحكم للأعراف في هذا المجال، وتكون نتيجة هذه الوضعية أن تكون خبرتها في هذا الميدان لا توازي نضج خبرة الرجل.

أما ما لا يجوز للرجال الاطلاع عليه من أسرار النساء الداخلية فقد أجاز النبي شهادة امرأة واحدة وقد تكون القابلة مثل ذلك مثل شهادة الرضاعة ورؤية الهلال التي تقبل فيها شهادة امرأة واحدة عدل.

هوامش

  1. زينب معادي" المرأة بين الثقافي والقدسي.." سلسلة بإشراف فاطمة الزهراء أزرويل، نشر الفنك الدار البيضاء سنة 1990 ص: 67. 
  2. ابن جوزي ، " زاد المسير" الجزء الأول ص: 377. 
  3. د.مروان إبراهيم القيسي" المرأة المسلمة بين اجتهادات الفقهاء وممارسة المسلمين" نشر إيسيسكو الرباط الطبعة الأولى سنة 1991 ص: 20. 
  4. د.مروان إبراهيم القيسي" المرأة المسلمة بين اجتهادات الفقهاء وممارسة المسلمين" نفس المرجع ص: 143. 
  5. نفس المرجع السابق ص: 146. 
  6. المرجع السابق نفسه ص: 147. 
  7. أنظر(ي) ما جاء في كتابنا عن قصة آدم وحواء ب" الكتابة النسائية حفرية في الأنساق الدالة ..." المرجع السابق ص: 109-110. 
  8. شرح مسلم للنووي الجزء الثاني الصفحة : 65-66. 
  9. لمزيد من المعلومات في هذا الشأن خاصة فيما يتعلق بالتكوين البيولوجي للمرأة  المصحوب بالعذر الإلهي، بالإضافة إلى غلبة العاطفة عليها وقلة خبرتها وعدم اكتراثها بشؤون المعاملات أنظر، د. وهبة الزحلي " الأسرة المسلمة في العالم المعاصر "، دار الفكر المعاصر ،بيروت الطبعة الأولى سنة 2000، الصفحة 109.
  10. علي ابن أبي طالب " نهج البلاغة"  ،الجزء الأول ص: 129. 

 

Partager cet article
Repost0
3 juillet 2022 7 03 /07 /juillet /2022 17:06
الكتابة على الجسد الأنثوي و بصمة عشتار

الكتابة على الجسد الأنثوي و بصمة عشتار

-قصة "اليد البيضاء" للقاصة زهرة الرميج أنموذجا-

د. عبد النور ادريس

دراسة محكمة

أستاذ التعليم العالي مساعد  بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس 

أستاذ مادة اللغة العربية وعلوم التربية والنقد النسائي والثقافة الرقمية

Abdennour.driss@gmail.com

ملخص:

إن العالم القصصي والفني لمجموعة "أنين الماء" للقاصة زهرة الرميج في شكله وفي كتابته، يشيع في مفهوم جنس القصة، الإستغراق في التفاصيل التي لا تستطيع إلا الكاتبة أن تلتقطها، وهي تعتبر من مجموع الآليات التي تساعد عالم النساء على التبلور. فبالرغم من خطية المكونات المرجعية التي تحيط بعملية الحكي والتفسير، تفتح نصوص المجموعة آفاقها لعملية التأويل والتفسير، دون استدعائها لقارئ نموذجي يستطيع وحده فك استراتيجية ولذة النص الأنثوي، فتصبح وظيفة اللغة مع الزهرة رميج وظيفة تواصلية يمكن معها تصور واستحضار الفعل السردي.

وبذلك نجد أن تصورات الكاتبة تتلاقى، أحيانا، مع تصورات المتلقي بسبب الأساس الرمزي الذي يتجاوز وظيفة اللغة التواصلية. أما فيما يتعلق بالمرجع النصي، فهو نص تتضح معالمه داخل فضاء القصة، بما يحتوي عليه من فضاء وزمن وأمكنة وشخوص دون التطرق إلى فضاءات مرجعية تهتم بالقاص(ة).

الكلمات المفتاحية: النقد الجندري، كتابة الجسد الأنثوي، الزهرة رميج،  اليد البيضاء قصة قصيرة.

Sommaire

L'univers fictif et artistique de la collection "anine al mae" de la conteuse Zahra Al-Ramij, dans sa forme et dans son écriture, est commun dans le concept du genre de l'histoire, l'immersion dans les détails que seul l'écrivain peut capturer, et il est considéré comme l'un des mécanismes totaux qui aident le monde des femmes à se cristalliser. Malgré la linéarité des composantes de référence qui entourent le processus de narration et d'interprétation, les textes du groupe ouvrent leurs horizons au processus d'interprétation et d'interprétation, sans les appeler à un lecteur typique qui seul peut décrypter la stratégie et le plaisir du texte féminin, de sorte que la fonction du langage chez Vénus devient une fonction communicative avec laquelle il est possible de visualiser et d'évoquer l'acte narratif.

Ainsi, nous constatons que les perceptions de l'écrivain convergent parfois avec les perceptions du destinataire en raison de la base symbolique qui va au-delà de la fonction communicative du langage. Quant à la référence textuelle, c'est un texte dont les traits s'éclairent dans l'espace du récit, avec ses contenus d'espace, de temps, de lieux et de personnes sans aborder les espaces de référence concernés par le ou les récits,

Mots clés : critique de genre, écriture du corps féminin, Zahra Al-Ramij, la main blanche, une nouvelle.

اتصفت الكتابة القصصية للقاصة المغربية الزهرة رميج ونصوصها، بصفات النص الكلاسيكي الذي يتبع سمات نظرية النقد الأدبي وأعرافها النابعة من نظرية المحاكاة  في الإنتاج الأدبي، والتي تعتبر النص مرآة عاكسة للعالم الذي يقوم النص بتصويره ([1]). فلا عجب أن يلتقي عنوان وثيمة قصة " اليد البيضاء" بنفس ثيمة قصة "الأسوار البيضاء" للكاتبة نعم الباز، وقصة " ليلة بيضاء" لليلى بعلبكي التي تطرقت فيها للمرأة وللكيفية التي تُهدر بها آدميتها نظرا لكون المجتمع ينظر إليها كأداة لإشباع نزوات الرجل الجنسية ووعاء طيب لأطفاله.

  1. المرجعية التقليدية ونمط اشتغالها.

لقد جعلت القاصة الزهرة رميج من المتلقي انطلاقا من رؤية السارد(ة) وأشكال العلاقات التي تربط بين الفضاء المكاني للحكي والمتلقي بؤرة لاشتغالها وبذلك حددت لجل قصصها بمجموعة "أنين الماء" انتمائها الواعي بالأدب النسائي، إذن ما الذي يجعلنا نقول عن قصص الزهرة رميج بأنها قصص نسائية؟

إن التحول الذي وقع في وعي كتابة القصة، والذي شكل الوظيفة الأساسية للكتابة القصصية، جعل القصة القصيرة المغربية تنتقل بين أجيال سردية بالمغرب، وتربط أواصر العلاقة مابين القاص والمرجعية الفكرية التي تغذي انتظارات المتلقي يقول محمد برادة: "إن نوعية العلاقة التي يقيمها القاص مع مرجعياته تتحكم أيضا في استراتيجية التشكيل وفي الكتابة، وكذلك في نوعية علاقة المتلقي بالمرجعية وأفق التلقي"([2]).

 ومن المرجعيات القصصية ما اقترن خطابها الإجتماعي بالسياسي قبل الإستقلال، ومنها الكتابة الأدبية الملتزمة، والتي جعلت من الأدب محركا ومغيرا للواقع، كما انتقلت الكتابة القصصية إلى الإهتمام بالشكل وإبراز الذات، الشيء الذي جعل محمد برادة يستخلص عنصر "الفانطاستيك" كعنصر مشترك بين معظم النصوص القصصية في السبعينيات، والتي كان من بين أبرز أسبابها: "النزوع إلى تكسير نوع من الرتابة سيطر على الكتابة القصصية خلال الفترة الواقعية، ولأن أيضا ما يسمى بالواقع أصبح أحيانا متجاوزا التصورات التخييلية القصصية"([3]).

وأنت تقرأ قصة اليد البيضاء ([4]) تقع أسير متعة الحكي التي تعادل متعة القاصّة وهي تنقلنا من حُرقة الوعي الشعري إلى الحكي بأنفاس المتخيل الشعري، مطرِّزة بذلك مقدمة القصة لتعطي القارئ فرصة الولع بالكلمة الحالمة تقول: " شعرت أنا أتخبط في محيط عجين لا لون له ولا حدود. من يسلني ويقذف بي في الفضاء الشاسع حيث أتلاشى في ذرات النور والهواء؟" (أنين الماء، ص: 51).

والساردة إذ تقرأ العالم بعينيها وجسدها تحاول أن تحوز على إعجاب الزوج وتدخل من ضمن اهتماماته الشبقية اللاواعية، ولذلك أشرعت الساردة أبواب الذكريات فرسمت مداراتها لتختبر قوة الكتابة بالجسد المغلق، الجسد الذي جعل البطلة رهينة استيهامات زوجها، وبالتالي ملحقة باللذة الذكورية ومجرد شيء يُفتح ويُغلق حسب  متطلبات تلك اللذة، الشيء الذي يعكس تشبعها بتلك التربية الأسرية التي تستحكم قبضتها على جسد الأنثى، وتجعل "البكارة " من بين آليات الجسد الأنثوي الذي يعشقه النسق الثقافي الموسوم بالعفة والطهارة، نظرا لتركيزه على مسألة الشرف المتمثل في العفاف الجنسي للمرأة والمرتبط سطحيا بغشاء البكارة الذي قد تولد به الأنثى أولا تولد، حيث تشكل العفة إحدى القيم المجتمعية التي تقمع جسد المرأة، كما تشكل العذرية قطب اهتمام المجتمع من حيث أنه يصب الاهتمام على غشاء البكارة باعتباره محور قيم ذكورية خاصة ومصفاة تعبر منها الأنثى نحو المجتمع الفاضل أكثر من كونها حالة من الطهر الداخلي، ويقتصر نقل الصورة المجتمعية في هذه الحالة إلى إحاطة الفتاة المغربية بهوس الصورة المرتبطة بالعذرية التي تؤكد أنوثتها وتمارس بها وجودها، وتعرف بها وبواسطتها الشعور بالسعادة والاطمئنان على مستقبلها في بيت الزوجية، وتتجلى هذه الصورة بالأساس في صيانة العذرية وخاصة تلك القطعة الجلدية التي ينتظر الجميع أن تسيل دما لحظة الافتضاض بليلة "الدخلة".

والبطلة في هذه القصة تعيش "الحياة" على هامش الحياة، وتتحول اعترافاتها في النص لتنتمي إلى دائرة المنفلت الاجتماعي، إنها تمحو بذلك الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر، فبعد أن تم الزواج بين البطلة وابن الجيران بشكل تقليدي تقدمت فيه أم الزوج لخطبتها من بيت العائلة، ولم يكن لهذا العالم الذي نسجته التقاليد والعادات إلا أن ينفتح على ليلة الدخلة التي تشترط وفقا لعادات وتقاليد المجتمع المغربي، "العذرية" الأنثوية التي تدخل من بين خصوصيات التملك الاجتماعي للجسد الأنثوي، وتؤكد رسم معالمها الصفة التشريحية كشرط لازم للزواج، يعكسه هاجس بقاء الفتاة عذراء إلى يوم الدخلة، بينما يشترط اللاعذرية في الزوج والتي إن ثبت عكسها في الذكر يعتبره المجتمع ناقص الرجولة. تقول سمية نعمان جسوس في ذلك :" فالفحولة تظل صفة يقر بلزومها اجتماعيا، ولذلك يكون الزوج البكر عرضة للعار وللسخرية، والعار للزوجة التي لا تستطيع أن تعرض على الأنظار قماشا مبقعا بدم غشاء البكارة المُفترع !" ([5]) وهذا التراتب الاجتماعي للمرأة ظل قابعا في تلافيف العقلية الشعبية المغربية نتج عنها أن دور الرجل يتمثل في فعلية الحضور والاختراق بينما ظلت المرأة محاطة بأسوار هيكل المنزل وجدران الهيكل العظمي، تقول الساردة :" كانت ليلة الدخلة ليلة لا تنسى. غمرته فرحة لا مثيل لها عندما افتض بكارتي. أغرقني بالحب والحنان وبالهدايا المتنوعة. اعترف لي فيما بعد أنه عرف نساء أوربيات كثيرات، لكنه لم يشعر مع أية واحدة منهن بالنشوة التي شعر بها معي وهو يفتض بكارتي. هذا الاعتراف جعلني أشعر بالسعادة والاطمئنان إلى مستقبلي معه." (أنين الماء، ص: 54-55.)

ولذلك ليس غريبا أن تعرف المرأة معنى كرامتها وعقلها بدءا بليلة الدخلة المتمحورة حول العذرية التي تكتب مكانة المرأة وقيمتها وحدود وكيفية تصرفها في جسدها، كما أنها تمنح الفتاة صفة امرأة بمرأى من الجميع، حيث تعتبر العذرية مسألة جماعية تهم المجتمع بكامله، مجتمع يجعل مكانة الأخلاق الاجتماعية متفوقة بكثير على المسألة الدينية. وقد عبرت القصة عن مدى ما تحوزه مسألة البكارة في ليلة الدخلة من قيمة في المجتمع المغربي، والمرتبط أساسا في الثقافة المحلية المغربية بميثاق الدم، حدث يعبر عن طقوس الحرب أكثر من تحوله المعاصر إلى التعبير كرمز للشرف والعفة، وقد تطرق لحسن أيت لفقيه في دراسته الموسومة ب "المرأة المقيدة" إلى العلاقة التي تربط ما بين طقس العرس و ليلة الدخلة، تربط ما بين الافتضاض وطقس الحرب يقول :" إذا نجح العريس في تحقيق الاتصال الجنسي الذي يُوثَّق بمادة الدم، في منديل أبيض يسلم لرفيقات العروس، " تيمسنايين Timsnayine"، فإنه منتصر اجتماعيا، محارب، شجاع، راشد، لان الدم الأحمر مغزاه في الوسط القبلي، يعني أن الرجل ينحدر من أسرة محاربة، ويعني أيضا أن العروس تنحدر من أسرة محاربة إقطاعية ذات قيم محافظة آهلة لتساعد زوجها وتشجعه، وتدافع عنه. إنها من جانب آخر امرأة محصنة، منذ ليلة الزفاف، عفيفة، عالمة بواجباتها اتجاه الأسرة والمجتمع." ([6]).

  1. بصمة عشتار: العذرية والكتابة على الجسد.

لقد عرفت الحضارة الحديثة نفس نقطة التمركز التي عرفتها الحضارات القديمة، فوصفت العذراء بالنبع المختوم بشمع العذرية الأحمر، وشبهت الأنثى بالإناء الفخاري المغلق وهذا هو مدلول الأم الكبرى على المستوى الطبيعي، فهذه إنانا السومرية في أكثر من نص تُخاطَب بالعذراء، أو تتحدث عن نفسها بالعذراء ([7]) كما كانت عشتار عذراء قبل الولادة الشيء الذي يرمز لأسبقية المبدأ الأنثوي على المبدأ الذكوري يقول فراس السواح :" وأختام عشتار لم تفض لزرع بذرة الإله الإبن، ولم تفض لخروجه، ولن تفض بعد ذلك بالممارسة الجنسية. لأن أختامها رمز اكتمالها وغناها واغتنائها، ورمز لسيطرتها على جسدها الذي لا ينقص منه الجماع، ولا يترك فيه ذكر علامة. لذا فقد حملت إلهات الطبيعة لقب العذراء" ([8]).

ولعل القاصة الزهرة رميج في هذه القصة قد احتمت بهدوء البوح لتصرخ أمام تعنت العادات والتقاليد التي تجعل من غشاء البكارة هوية أساسية للمرأة المغربية، وقد أطلعتنا القاصة في قالب قصصي متميز على المجانية الأخلاقية لهذا التصور فأسقطت خرافة العذرية في ابتذاليتها، فجعلت القارئ يستسلم لعبثية ولاجدوى الاهتمام بهذا التقليد مادام الطب الحديث يستطيع تحويل الثيب إلى بكر، تقول سمية نعمان جسوس :"وتوجد على أيامنا طريقة عصرية لاستعادة العذرية الضائعة وتتمثل في رأب غشاء البكارة بعملية جراحية تُخاط فيها اللحيمات، وهي بقايا الغشاء، التي تظل قائمة، لا تذهب بها الاتصالات الجنسية المتواترة. إذا اتصلت الفتاة المستعيدة بكارتها على هذا النحو، اتصالها الجنسي الأول سال من فرجها الدم" ([9])، وتقول الساردة وهي التي رأت هوس زوجها وإخلاصه الفحولي للحظة الأولى التي افتض فيها بكارتها: " كان الصيف الماضي خاتمة عشر سنوات من الزواج. فكرت في تقديم مفاجأة سارة لزوجي لاسترجاع حيويته. كنت أعلم طبيبا أجنبيا متخصصا في أمراض النساء يستطيع تحقيق المعجزات، يحول الرجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل كما يحول الثيب إلى بكر. اتصلت به ليعيد الي البكارة. أجريت العملية مباشرة قبل الاحتفال بالذكرى العاشرة لزواجنا" (أنين الماء، ص: 55-56)

ان قصة "اليد البيضاء" هنا لا تنتج إلا معنى الأنوثة الشهرزادية حيث تنتصب العذرية كبطل خرافي تداخلت في بروزه مستويات عدة تعمل القصة بوساطتها استحضار قيم الانعتاق والتحرر من موروث نفسي وقاموس جنساني رَهَنَ حيوات النساء، وجعل المرأة في محاولتها للتحرر تعمل على مجاراة المنطق الذكوري وتسهم في ترسيخ الصورة التي ينتجها الرجل عنها، تقول الساردة:" كان هذا ما أطمح إليه. ولعل دافعي إلى التفوق الدراسي كان هو إثارة اهتمامه، وأن أليق بمستواه. وافقت على الاقتران به، بل وعلى التنازل عن حلمي في متابعة تعليمي العالي. لقد أقنعني بضرورة التزام البيت والتفرغ لأبنائنا المقبلين مادام قادرا على تحمل المسؤولية" (أنين الماء، الصفحة: 54)، وقد أثبتت القصة أن حصول البطلة على عذرية جديدة إنما قد كشفت به عن هذا الميثاق المغشوش والقابل للغش والتدليس الذي يربط بين العريس وعروسه والمتمثل في غشاء البكارة، واعتبرت أن هذه الطريقة العصرية التي تستعيد بها الأنثى العذرية الضائعة بمثابة تصحيح لقيم زائفة وتأسيس لقيم أخلاقية تعاقدية تعمل على إزاحة الأساس الفحولي، وتحرره من الموروث التقليدي، والعودة إلى التفسير الأسطوري الأول لمفهوم العذرية وخاصة العلاقة العذرية بين الإله بعل وعناة الأوغارتية في الحضارة المينوية يقول فراس السواح :" إن آلاف المرات من المضاجعة بين بعل وعناة لا تذهب ببكارة الإلهة المتجددة. لأن بكارتها رمز للدافع الجنسي الكوني الذي يدفع الكائنات الحية بعضها إلى بعض ويساهم في استمرارها وبقائها. ومن أسماء الأم الكريتية الكبرى " بريتوماريتس" اي العذراء  العذبة و هي التي تبدو في معظم رسومها وعلى حضنها أو ذراعها ابنها الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الرجولة والاستقلال عن الأم طلية فترة الحضارة المينوية" ([10])

هكذا نجد أن للعذرية عاملا قويا في تحريك القيم المجتمعية التي تحدد الوجود الفعلي للمرأة حتى أن أسطرت مفهوم العذرية لذى العقلية الذكورية، ولّد عدة أنماط للتعامل مع المرأة، وهكذا ما تزال عذرية عشتار حاضرة في المخيال الذكوري متعددة المستويات :" فهي عذراء على المستوى البدئي لأنها الأوروبورس المغلق الذي انحل إلى عالم المادة المتنوع وهي عذراء على المستوى الطبيعي يفيض خصبها على العالم دون مؤثر خارجي، وهي العذراء التي أنجبت لأول مرة دون إخصاب من ذكر وهي عذراء السيدة التي تبقى بكارتها رمزا لسلطانها على نفسها وجسدها ولا يقوم إلى جانبها زوج يساويها أو يعلو عليها، أو ينقص من اكتمالها." ([11])

إننا في قصة " اليد البيضاء" نقف على القناعة الدائمة والشائعة بأن الرجل يَمَلُّ سريعا من الجسد الذي يقدم إليه بيسر وسهولة، ولهذا تبقى العذرية شيء محمود في الفتاة قبل الزواج، ويرتبط تواجدها بحقيقة الاحترام الذي ستجده ببيت الزوجية تقول سمية نعمان جسوس في ذلك:" فللرجل أن يعاني ويكابد في سبيل امتلاك زوجته، وينبغي له أن يكد ويشقى لجمع المال اللازم للصداق وينبغي له أن ينتظر [ويظل ينتظر] قبل أن يضم زوجته بين دراعيه. فالأسرة ترمي إلى الرفع من قيمة الاتصال الجنسي الأول إلى الإعلاء من قيمة الفتاة التي تريد تزويجها، فهي كشيء كلما طال توق المرء إليه، كلما اشتدت رغبته فيه... هذا التصور للأمور يجعل من الطبيعي تماما في نظر الفتيات (وفي نظر أسرهم خاصة) أن يكون للخطيب اتصالات جنسية بنساء أخريات في انتظار الزفاف، فقد صرحت لنا امرأة في الثامنة والعشرين من العمر بقولها :" كان إذا رغب في جسد نسوي، يذهب للبحث عنه عند الأخريات. وأما أنا فأحرص على أن يحترمني. كانت أمي لا تني تردد على مسامعي أنه إذا أراد النساء، فما عليه إلا أن يطلبهن في الشارع ، حتى لا يمس بكرامتي" ([12]).

  1. القيم الذكورية الشهرزادية وقصة اليد البيضاء.

يبقى أن الخطاب الأدبي للزهرة رميج غير متبن لشعارات سياسية، لكنها مباشرة استطاعت عبره اختراق سطوة الخطابات السائدة وتفكيك منطقها حيث وصلت القاصة إلى كُنْه آليات إنتاجها واعتمادها على أوعاء زائفة، فرسمت بريشتها الأدبية خريطة المجتمع الثقافية التي حوّلت الثقافة والقيم إلى سلعة، فاكتشفنا مع قصة " اليد البيضاء" إنزياح هذه القيم عن مرجعيتها التي أنشأتها، ففقدت " البكارة" دلالتها الرمزية وتوقفت عن القول متخلّْية عن وظيفتها الاجتماعية، كما طالعتنا القصة بخطاب  مجتمعي يعمل على تبليد الوعي، فأبانت بذلك عن إفلاس مفهوم البكارة فعرت بذلك علاقات الأخذ والرد للسلطة القائمة في المجتمع، فحققت لفعل المسألة النقدية والمواجهة وضعا مفجرا يشير في النص إلى الصور المضطربة والمتفتتة الملامح، فعبَّرت بوضوح عن الازدواجية والانفصام الذي تعانيه المرأة لتحقيق ذاتها الأنثوية وهويتها، فعملت القاصة على تحرير صورة الذات انطلاقا من نسج صورة جديدة مشروط تحررها من سلطة المنظور التقليدي الذي يسمح في بنيته المنظمة للخطاب بانقسام الذات الأنثوية وازدواجيتها، نهض كذلك على استبعاد المرأة من كل إيجابية على اعتبار أنها حابلة بالطبيعة بكل الخصائص السلبية التي لم تساعد الساردة في انفكاكها من الصورة النمطية والمتحكمة في نظام القيم السائدة :" آه ياعزيزتي، لقد مرَّغ سمعتي في الوحل، فانفض من حولي الأهل والأصدقاء وها أنذا منبوذة وحيدة أجتر صدمتي وخيبة أملي" (أنين الماء، الصفحة : 57).

يتبين هنا أن القاصة تحاول أن تحرر وعي المجتمع، والرجل بشكل خاص، من مفاهيم الأبوية المتغلغلة في القيم العامة وذلك من خلال طرح عدة تساؤلات عميقة على معنى العفة المرتبطة بالبكارة، كما بإثارة جملة تشكيكات في طبيعة المفاهيم التي قامت على رؤية الرجل وحده للعالم، ففجرت المسكوت عنه واستخرجت من الظل المكبوت في الوعي المجتمعي العام المتجلى في رد الفعل الذي قوبلت به الساردة من طرف زوجها، وخاصة عندما بصمت اصطناعيا على جسدها بصمة الإلهة عشتار : "تتجرئين أيتها المومس على أسيادك؟ ولكن الحق ليس عليك وإنما على المغفل الذي سقط فريسة سهلة لأحابيلك ! غذا تغادرين الفيلا، وستصلك ورقتك قريبا. أما الأولاد فلن أسمح لمومس حقيرة مثلك أن تقترب منهم" (أنين الماء، الصفحة :57). ويعتبر رد فعل الزوج طبيعيا في الثقافة المجتمعية المغربية، وذلك ما أكدته الباحثة السوسيولوجية زينب معادي في كتابها الجسد الأنثوي وحلم التنمية تقول:" 95% من النساء المستجوبات تعتبرن أن البكارة ضرورية لكي يستمر الزواج. وأن الزوج من حقه أن يطرد العروسة ويرجعها إلى والديها إذا ما اكتشف ليلة الزفاف أنها ليست بكرا" ([13]).

إن الوعي النسائي الذي صاغته القاصة عبر فعل الكتابة تمثل في أن معرفة خبايا الخطاب الأبوي تمر بالجسد وبما يحياه التجسد على المستوى الجنسي والرمزي، من هنا دلت كلمة " بكارة" -والتي أسميتها ببصمة عشتار- على أنها تنتمي إلى الجنس المذكر والمؤله، فصار الجسد كلمة وأصبحت الكتابة النسائية لغة هامسة تدفع بالمؤنث إلى أن يستمر على شكله الأنثوي.

ولم يأت رد فعل الرجل إلا كفيض من دائرة تبين ذلك في البعد المستشري في المجتمع، وكأن القاصة تبعث من جديد شهرزاد الجديدة التي كتبت الباطن كي تقتل الظاهر، في حين أن المنطق الذكوري يعمل جاهدا وباستمرار على قتل امرأة الباطن كي تنتعش فيه اليقظة العليا للسلطة ، فكانت كتابتها كما جاء على لسان جوليا كريستيفا جوهرا يعمل على إحراق ذاته من أجل إعادة التشكل والإنبعاث كما طائر الفنيكس من رماده تقول ساردة اليد البيضاء:" سأخرج من منفاي الاختياري لأحاول اللحاق بالزمن الضائع علني أعثر على تلك التي كنتها من جديد." (أنين الماء، الصفحة :57)

وتعمل القاصة من خلال قصة "اليد البيضاء" على الدفع بشهرزاد الجديدة نحو تجربة تثقيف شهريار الجديد وبعثه من ظلمات الجهل ومحاولة تحويله وفق معجم جنساني مغاير بدءً من ممارستها الحفر في الجسد المثالي، بينما الساردة تبوح بسرها متلفعة بأسرار الحكي الشفاهي وواضعة المستمعة إليها أمام الأمر الواقع الذي لا ينفر حقها في المعرفة والتأمل، وقد اعتمدت الزهرة رميج على إمكانية التقليد الشفهي فمارست الوعد تلميحا لا تصريحا، وكأننا بشهرزاد الجديدة تعيد الألق لحكي النساء تقول :" من أين أبدأ حكايتي؟ من البداية أم النهاية؟ وأي قالب أختار؟ بل أي قالب يناسبها؟ هل التوفيق بين الأصالة والحداثة أم حكي النساء الضارب في أعماق التاريخ؟ كلاهما مناسب لها لكني أفضل حكي النساء، حكي الجدات على الخصوص" (أنين الماء، الصفحة :57).

وبذلك حاولت الزهرة رميج تحرير صورة المرأة من كونها جسدا مغلقا بلُحَيْمة ضمان الصلاحية (غشاء المهبل) يفتحه الرجل جنسيا، بل يتعدى ذلك إلى التشكيل الرمزي لذلك الفتح، كما حاولت تثقيف الرجال وإثارة انتباههم إلى الأبعاد الفزيولوجية التي تتفاعل معها النساء نفسيا باعتبارهم من وجهة نظرها – أي القاصة- في حاجة إلى تثقيف بطبيعة النساء، فخرجت من مستوى التيمة الأساسية المطروحة في قصة  "اليد البيضاء"، ومن تصوير الجسد كلعنة وموضع شك إلى إنتاج صورة جديدة ينتقل إطار ثوابتها الفحولية إلى متغيرات فقط، وبهذا المعنى أصبح بالإمكان الحديث عن علاقة مرآوية بين الجسد باعتباره فضاءا لاشتغال المنطق الذكوري الذي يحتاج إلى خطة تأويلية تبني فاعليتها من الفعل التأويلي المرجعي للمتلقي، وبين الجسد كنظام رمزي يسكن كوامن اللغة، فيه تتحول الأنساق القيمية إلى نُظُم تعبيرية وتمثيلية، لذا " فإن التلقي الرمزي والاجتماعي للجمال وللعاهة الجسدية يستمد مقوماته من الإرث الرمزي والمتخيل الذي يتم نسجه حول الدلالة التداولية للجسد".([14])، وقد اعتبرت القاصة "البكارة " في ظل هذا الموروث الذي يضُجُّ بالتقليد بكل خطوطه وملامحه من معايير الجسد الأنثوي على المستوى الواقعي والمتخيل، حيث تركزت في الوعي واللاوعي الفردي والجماعي للمجتمع المغربي على أساس أن خلو الجسد الأنثوي من البكارة قبل ليلة الدخلة يُعد نقصانا جسديا تركز منذ القدم بسبب تطعيمه للمادة الأساسية التي ينسج منها المتخيل والقدسي تجلياتهما المتعددة، بحيث حافظ المجتمع على البعد السلبي للحس الأنثوي الخالي من البكارة، وتم تصريف هذا التسليم بدونية الجسد الأنثوي وبشكل كبير في الثقافة الشعبية والمتخيل والذاكرة الجماعية، فالنقص الذي تشعر به الساردة في القصة والذي أدى إلى انهيارها والذي جعلها تقول :" واعلمي أني مدينة لك بإنقاذي من هلاك محقق. منذ الليلة، سأرمي بكل الحبوب المنومة " (أنين الماء، ص :57).

فما تشعر به الساردة إذن هو رفض زوجها لها كذات، لارفض وضعها الجسدي المشكوك في توفره على بكارة طبيعية زمن ارتباطه بها. ويأتي تصرفها هذا على أساس أنها اعتبرت مسألة العذرية مسألة شخصية، في حين أن رد فعل الرجل الذي يدعمه المجتمع والدين والقانون ينحو نحو ما يثبت أن العذرية قضية اجتماعية بالأساس، ومن ثم ظلت جنسانية المرأة معرفة ومحددة بواسطة الرجل وعلى اتصال وثيق به، وبحدود معرفته بالجسد، فترميم العذرية للعازب يعني إعادة بناء شيء تهدم يلتحق بسمعة المرأة، أما في حالة الساردة هنا، فترميم العذرية داخل مؤسسة الزواج، واستعادتها صناعيا وطبيا يعني تعريض الزواج للخطر.

                  خاتمة:

ان الخط السردي في قصة " اليد البيضاء" أكد لنا أن الجسد الأنثوي بتمظهراته حسب الخطاطة النفسية للعالم النفسي فرويد Freud هو لعبة متخفية للاوعي. هذا اللاوعي الذي لايمكن الوصول اليه الا من خلال لغة الحياة الواعية الكلامية، فلغة  اللاوعي صعبة الادراك، لاتصبح موضوع دراسة علمية إلا إذا وجدت من يكتبها باللغة الواعية، كما أن الجسد ليس مجرد أعضاء فيزيولوجية وإنما هو تعبير ذو طبيعة لغوية يحمل ذاكرة وتاريخا أيضا، وقد توفقت القاصة في جعل الجسد الأنثوي من خلال " غشاء البكارة" محملا بعناصر تخييلية باعتبارها كتابة أدبية تأخذ من الجسد مساحة أكبر لفهم إيقاع الأحداث فدبَّجَت بذلك كتابة أدبية تعبُر من الأصالة نحو الحداثة ليتحول النص هنا إلى نص مفتوح تتلامس فيه وتتداخل أصالة الحكي الشفهي وحداثة الحكي المعاصر تجسدت في البكارة كخزان ميثولوجي يتفتّق فيه الخفي والمكبوت والمستحيل، يظهر ذلك من خلال طقس " الثقاف" الذي يؤشر على الاغلاق الرمزي الذي يمارس على جسد الفتاة قبل أن تحيض، وجعله منغلقا أمام أي محاولة من طرف الرجال لفضه- أي فض بكارتها- فالثقاف كتابة اجتماعية ثقافية بيد نساء (الأم، الجدة، الخالة و العمة) على جسد الفتاة، فهو يجدد مكانة المرأة وقيمتها، وحدود تصرفها في جسدها:" الثقاف يمارس بالدرجة الأولى من طرف الأم، ثم تأتي الجدة للأم في الدرجة الثانية ثم الخالة في الدرجة الثالثة. طقس الثقاف يكتب على جسد المرأة أنه يجب أن يكون منغلقا، مما يجسد درجات الرقابة. ويرسم علاقة غريبة بين الأنثى وجسدها رغم بداهتها الظاهرية. فهو جسدها وفي نفس الوقت هو موضوع مراقبة الآخرين" ([15]). وبذلك تمكن النص من إثارة أسئلة جوهرية في عصر الطب التجميلي، وخلق وعيا جديدا استحكم طبيعة علاقة الذات بالآخر والمذكر بالمؤنث في إطار من التعدد التأويلي الذي يتسع لكل الدوائر الرمزية، مع تحويل الظواهر الجسدية إلى ظواهر لغوية كما اتسع تفاعليا بين المكوّن الثقافي الجمعي والمكوّن النصّي اللغوي.

المراجع والهوامش


[1] - د. الرويلي ميجان و. سعد البازغي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 3، سنة 2002، ص 274.

[2] - برادة محمد "القصة المغربية - التجنيس والمرجعية وفرادة الخطاب" ، سلسلة ملتقى القصة، كتاب جماعي، منشورات الشعلة الدار البيضاء، إعداد وتقديم: محمد فرطسي عبد الواحد أولاد الفقيهي، ط 2، 2006، ص 62.

[3] - برادة محمد "القصة المغربية - التجنيس والمرجعية وفرادة الخطاب" ، نفس المرجع السابق، ص 63.

[4] - انظر نص القصة بالمجموعة، ص:   51.

[5] - جسوس سمية نعمان ، بْلا حْشومة: الجنسانية النسائية في المغرب ، ترجمة عبد الرحيم حُزل ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى ، 2003 الصفحة : 177.

[6] - ايت الفقيه لحسن ، المرأة المقيدة ، نفس المرجع السابق، الصفحة: 52.

[7] - في حوارية بين إنانا السومرية وبين أوتو إله الشمس وحول زواج الإلهة المرتقب نجد:" أي أختاه عليك بالراعي الكثير الأنعام، إنانا أيتها العذراء لماذا تعرضين عن الراعي..؟.. أنا العذراء سأتزوج المزارع، الفلاح الذي يزرع النبات ويعطي الغلال الوفيرة" مغامرة العقل الأولى ، فصل قابيل وهابيل، عن فراس السواح، لغز عشتار، نفس المرجع السابق، الصفحة 174-175.

[8] - السواح فراس ، لغز عشتار، ، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دار علاء الدين، دمشق سوريا، الطبعة الثامنة سنة 2002 ،الصفحة: 174.

[9] - جسوس سمية نعمان ، بلا حشومة الجنيانية النسائية في المغرب، ترجمة عبد الرحيم حزل، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، الطبعة الأولى ، سنة 2003 ، الصفحة : 213.

 [10] - السواح فراس ، لغز عشتار، المرجع السابق، الصفحة: 175.

[11] - السواح فراس ، لغز عشتار، نفسه، الصفحة: 176.

[12] - جسوس سمية نعمان ، بلا حشومة..، نفس المرجع السابق ، الصفحة: 94

[13] - معادي زينب: الجسد الأنثوي وحلم التنمية، إنها امرأة تذوب، نشر الفنيك، الدار البيضاء، ط 1، مطبعة النجاح الجديدة، دجنبر 2004، ص: 74.

[14] -  الزاهي فريد: النص والجسد والتأويل، افريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الأولى، سنة 2003، الصفحة: 153.

[15] - معادي زينب ، نفس المرجع السابق، ص: 74.

Partager cet article
Repost0
24 juin 2022 5 24 /06 /juin /2022 21:13
الأبعاد الحضارية لإصلاح المنظومة التربوية عند العلامة مصطفى بنحمزة

الأبعاد الحضارية لإصلاح المنظومة التربوية عند العلامة مصطفى بنحمزة

د. عبد الجليل بوسيف

دراسة محكمة

ملخص

تتسم  الرؤية الإصلاحية للدكتور مصطفى بنحمزة بالرزانة والمتانة والشمولية وبعد النظر، وقد نبه من خلالها إلى الحذر من بعض الدعاوى التي تتخذ من دعوة الإصلاح هذه ذريعة إلى إلغاء ما تبقى تدريسه من قيم الإسلام وتعاليمه في برامج التعليم.

الكلمات المفاتيح: الرؤية الإصلاحي – الشمولية – الدعاوى – قيم الإسلام

Sommaire

La vision réformiste du Dr Mustafa Benhamza se caractérise par la sobriété, la pérennité, l'exhaustivité et la clairvoyance. A travers elle, il a mis en garde contre certaines affirmations qui prennent cet appel à la réforme comme prétexte pour annuler ce qui reste de son enseignement des valeurs. et les enseignements de l'Islam dans les programmes d'éducation.

Mots clés : vision réformiste - totalitarisme - revendications - valeurs de l'islam

أولا: إصلاح التعليم العمومي والخصوصي.

إثر صدور بلاغ الديوان الملكي بخصوص إصلاح التعليم الديني، انبرت جملة من الأقلام لتقديم مقترحات إصلاحية لهذا التعليم، استنادا للخطوط العريضة التي أرساها الخطاب الملكي لهذا الإصلاح، وكان من أهم تلك المقترحات، مقترح العالم الكبير "مصطفى بنحمزة" الذي قدم فيه رؤيته الإصلاحيةَ لتنزيل مضمون وفحوى الخطاب  الملَكِي.

وقد أسس هذا المقترح على ثلاثة مرتكزات ومعالم، وفق ما جاء به الخطاب الملكي، تندرج تحتها فروع وتفصيلات موضحةٌ ومبينة، ففي مستهل مقترحه هذا يقول: "إن بلاغ الديوان الملكي المعبر عن إرادة إمارة المومنين ورؤيتها لإصلاح التعليم الديني قد تضمن محاور يجب أن تعتبر معالم وحدودا يجب أن لا يحيد عنها أي إصلاح مقترح، والمتعين هو تحليلُ تلك المضامينِ وأجرأَتُها وتفريغها في مجزوءات تربوية قابلة للتنفيذ، وهاته المضامين التي تمثل معالم ومرتكزات يقوم عليها الإصلاح هي:

المرتكز الأول: إعطاء أهمية أكبر للقيم الإسلامية السمحة، وتنزيلُها ضمن عناوين دراسية.

المرتكز الثاني: الاستناد إلى المذهب المالكي في ثلاثة من جوانبه هي: سنيته ووسطيته واعتداله، وإبراز كلِّ الأبواب التي تمثل هذه الجوانب.

المرتكز الثالث: إبراز قيم الإسلام في التسامح والتعايش مع مختلف الحضارات والثقافات الإنسانية.

وتحت كل مرتكز عناوينُ صغرى تنتمي إليه وتتضافر مجتمعة في تكوين مضمونه العام"([1]).

ثم حدد لكل مرتكز أهم العناصر التي تتفرع عنه، والتي من خلالها تتم معالجتُه وتبيينه وتوضيحه، ففي المرتكز الأول حدد لمعالجته  ثلاثة عناصر هي:

أ. مفهوم القيم وسمتُها في المنظومة التربوية الإسلامية.

ب. استعراض جملة من القيم التي تكتسي أولوية بحكم الواقع المجتمعي.

ج. تشخيص معنى السماحة في الشريعة الإسلامية كما نظر لها علماء الشريعة"([2]). 

ففي العنصر الثاني يقترح قائمة من عناوين القيم وموضوعاتها، قصد إدراجها في المقررات الدراسية، بغية تعزيز جانب القيم في المجتمع بها، في الحفاظ على أمنه، والإسهام في تنميته وتطويره، وبلغ عدد القيم التي ذكرها ستةً وعشرين قيمة، تتلخص فيما يلي:

"قيمة العبادة، قيمة الانتماء للوطن، قيمة الانتماء للأمة الإسلامية، قيمة الانصهار في الجماعة، قيمة الفعل التطوعي، قيمة تحقيق أمن الجماعة والحفاظ عليه، قيمة المسؤولية في المواقف، قيمة الاحترام الطوعي للقوانين الضابطة للسلوك الاجتماعي، قيمة المقابلة بين الحق والواجب، قيمة المساواة، قيمة الجودة والإتقان في العمل، قيمة الرفق، قيمة العدل، قيمة احترام الرأي الآخر، والمجادلة بالتي هي أحسنُ، قيمة الصبر، قيمة الوفاء، قيمة الصدق، قيمة الإحساس بالجمال، قيمة احترام البيئة، قيمة احترام حقوق الإنسان العامة منها والخاصة".

وأما العنصر الثالث من عناصر المرتكز الأول فتحدث فيه عن السماحة من جهة ضبط معناها، معرفا إياها بقوله: "السماحة هي ترك الغلو والتشدد والتنطع في الدين"([3]).

وحدد مجموعة من الأبواب والموضوعات التي تعالجها وتعمل على نشر الوعي بها وتربية المجتمع عليها، من خلال إدراجها في المقررات الدراسية للأجيال المتعاقبة، وتتلخص هذه الموضوعات في: "اليسر ورفع الحرج، الذي من مظاهره تشريع الرخص، وكذا الترشيد بموضوع الخلاف، من حيث إقراره شرعا، والحرص على الخروج منه ما أمكن حفاظا على جمع الكلمة، وكذا الأخذ بعين الاعتبار أن الأحكام بتغير الأزمان والأحوال"([4]).

أما المرتكز الثاني المتمثل في: تقديم المذهب المالكي في سنيته واعتداله، فيقترح لإبراز وسطيته واعتداله، تدريسَ جملة من الموضوعات تتلخص في: التعريف بالمذهب وصاحبه، ومواقفه التي تجسد الوسطية والاعتدال في أهم القضايا.

أما المرتكز الثالث المتمثل في زرع روح التسامح والتعايش مع الثقافات والحضارات الإنسانية، فيقترح لتحقيقه: إيضاح الموقف الإسلامي الحقيقي من المخالفين، من خلال دراسة عدد من الموضوعات أهمُّها:

" - موقف القرآن الكريم من قضية الاختلاف، وأن ذلك من مشيئة الله في الناس﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً ۖ ﴾([5]). ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ([6]).

- نهي القرآن عن الإساءة إلى أي نبي من الأنبياء. ﴿ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾([7]). ﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ  ﴾([8]) .

- رؤية القرآن لأهل الكتاب رؤيةً منصفةً ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً ۗ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾([9]). ﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍۢ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيْكَ﴾([10])

- دفاع القرآن عن المضطهدين من بني إسرائيل ممن نالهم ظلم فرعون: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ﴾([11]).

- تصوير القرآن للظلم الذي لحق بالنصارى لما أحرقوا في نار الأخدود، ﴿قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ([12]).

- بناء القرآن للتعامل مع غير المسلمين على قاعدة العدل معهم والبر بهم والإحسان إليهم﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾([13]).

- تشريع الإسلام للارتباط الأسري مع الكتابيين بزواج ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾([14]).

-  دراسة نص وثيقة المدينة المنورة.

-  دراسة العهدة العمرية مع نصارى الشام، وما تضمنته من حقوق.

- - حماية اليهود في الأندلس.

-  لجوء اليهود إلى البلاد الإسلامية فرارا من الاضطهاد"([15]).

وختم بالتأكيد على ضرورة أن يتخذ الإصلاح - من منطلق الخطاب الملكي - طريقه الصحيحَ، بعيدا عن توظيفه في خدمة رؤى ذاتيةٍ، بالدعوة مثلا إلى التقليص من المدة الزمنية المقررة للتربية الإسلامية - والتي لا تكفي أصلا لتدريسها - أو حذف عناوينَ وإحلالِ عناوين أخرى بدلها، ولربما  السعيُ إلى استبعادها من البرنامج الدراسي كلية، وهو ما عبر عنه بقوله : "الملاحظ أنه على الرغم من وضوح نص بلاغ الديوان الملكي، فإن ذلك لم يمنع من أن يتجه به البعض متجها آخر، ويحاول توظيفه في خدمة رؤى ذاتية، ويرى فيه فرصة مواتية للمطالبة بالتقليص من المدى الزمني لتدريس المادة الدينية، أو بحذف عناوينَ معينةٍ وإحلالِ عناوين أخرى بدلها، أو الانتهاءِ إلى استبعاد المادة الدينية من البرنامج الدراسي لو أمكن ذلك"([16]).

كما نبه في ختام قوله هذا إلى أن الإصلاح الحقيقي للمادة الإسلامية، إنما يتمثل في تعميقها وتوسيع حضورها ونشر ثقافة التسامح من خلالها، مبينا أن الدعوة إلى عكس ذلك، لا تأخذ بعين الاعتبار تجذر الدين في الحياة الذهنية الجمعية للمغاربة، و لا ما ينتج عن الخواء المعرفي الصحيح، من تسرب أفكار غريبة عن البيئة التدينية المغربية، وهو ما من شأنه أن يولد التعصب والصدام في المجتمع، الأمر الذي اعتبره في النهاية شرودا عن المضمون الذي حمله بلاغ الديوان الملكي، والتفافا عليه، وفي هذا يقول: "إن معالجة المقترحات التي تقدم بها بعض من دعا إلى تقليص وجود المادة الدينية في البرنامج التعليمي تستدعي التنبيه على القضايا التالية:

إن تقديم أي اقتراح لا يفي بمتطلب تعميق المادة الإسلامية وتوسيع حضورها ونشر ثقافة التسامح هو في حقيقته شرود عن المضمون الذي حمله بلاغ الديوان الملكي، وهو انصراف عنه والتفاف عليه، يمكن وصفه بعدم الوفاء للنص المرجعي الذي يؤسس للإصلاح التربوي الراهن والمرتبط دستوريا بإمارة المومنين.

ولو صح أن تكون مقترحات التقليص أو الإلغاء مشروعا لإصلاح التعليم الديني، فإنها لا تكون بحال مُصغية ولا متماهية مع ما ورد في نص البلاغ، وإنما تكون مقترحات شاردةً عن اللحظة، إن لم نقل إنها مقترحاتٍ أصبحت متجاوزةً، لأنها قد جُربت فعلا في ظل أنظمة شمولية في جهات من العالم الإسلامي، ثم كان المآل هو ما يراه الناس على الأرض، لا ما يبشر به دعاةُ التقليص والإلغاء"([17])

ثانيا: إصلاح برامج التعليم العتيق.

في هذا الجانب يوضح "مصطفى بنحمزة" أهمية العناية بإصلاح برامج التعليم العتيق أولا حيث قال: “إن الاشتغال على إصلاح برامج التعليم العتيق يكتسي من الأهمية والجدوى بقدر ما يستحضر القائمون عليه كل الأبعاد والغايات الدينية والمعرفية والاجتماعية التي يحققها لفائدة الأمة”.

ثم أجمل القول ابتداء فيما قصد تناولَه تفصيلا فقال: “وسيرا على نهج الإصلاح والتطوير، فإنه يمكن تسجيل ملاحظات ومقترحات، أرى أنه يتعين أخذُها بعين الاعتبار، والتأسيسُ عليها وأجرأتها ضمن برنامج قادم للتعليم العتيق، يتحقق به إنصاف هذا التعليم وتمكينُه من الارتقاءِ والتطور، ومساعدته على أن يؤدي أداء جيدا يناسب رسالتَه وأهميته”([18]).

واعتبر أن تحديد الأهداف والمقاصدَ المتوخاةَ من تكوين الطالب بالتعليم العتيق، هو أولى المراحل التي ينبغي وضعها والتأسيس بها لإصلاح هذا التعليم، وأنه على أساسٍ من ذلك يقوم وضع برنامج للإصلاح، ولخص هذه الأهداف في: تكوين شخص ترى فيه الأمة أنه من أهل العلم، وتثق بمعرفته وتأتمنه على تدينها.

وبناء على الأهداف التي صرح بها، يقترح برنامج إصلاح التعليم العتيق، في المحددات الآتية:

1 - حفظ القرآن الكريم برواية ورش عن نافع، لأن ذلك هو المؤهل الأساس للحضور في الحياة الدينية، بتولي مهمات الإمامة خصوصا والتدريس والإفتاء.

2 -  الاهتمام بكل المعارف الشرعية التي يأتي على رأسها - بعد القرآن الكريم - الاشتغال بالحديث النبوي رواية ودراية.

3 - قراءة النصوص القديمة على شيوخ العلم، وعدمُ الاقتصار على الأخذ من الملخصات والمراجع التي كتبت بلغات إن كانت من جهة ميسرة، إلا أنها تَفْصل الطالب عن لغة التراث العلمي.
         4 - وصل خريجي التعليم العتيق بالثقافة المعاصرة وبالفكر العالمي الحديث؛ ليتسنى لهم تمثلُه واستيعابُه، وليُسْهِموا في تطويره وترشيده.

  1. - تقوية حضور المواد الأدبية في البرنامج الدراسي، وهي كفيلة بأن تكسب الطالب قدرة على الإبانة والتعبيرِ عن آرائه والدفاع عنها.
  2. - تمكين الطالب من استعمال لغةٍ عربية حديثة، تجعله قادرا على التواصل مع التيارات الحديثة في المجتمع.
  3. - تمكين التلميذ من اللغات الأجنبية إلى درجة المحاضرة والتأليف بها؛ لأن إتقانه لهذه اللغة يفتح أمامه آفاق التعامل مع العالم، وإبلاغ رسالة الإسلام إلى الناس.

ويرى أن من شروط بلوغ هذه الأهداف، ضرورةَ الجمع بين أمرين هما:
أ – الحفاظ على وحدة المنظومة التربوية المغربية، باعتبارها كيانا متجانسا ومتكاملا.
ب – الإقرار أيضا بخصوصيات التعليم العتيق، بما يُنتظر منه من أجل بلوغ الأهداف المنشودة؛ حتى لا يكرر هذا التعليم صورا من التعليم الديني، هي موجودة بالفعل على مستويات التعليم الثانوي والجامعي.

وتتلخص باقي مقترحاته في: التحقق من استيعاب التلميذ لمضامين كل مستوى بإجراء الامتحانات المعبرة عن المستوى الحقيقي للتلميذ، وتركيز مواد الامتحان وضم المتجانس منها بعضه إلى بعض؛ من أجل اختصار أيام الامتحان، وكذا الاهتمام برفع نسبة اشتراك المرأة في هذا التعليم، وإنجاز تقاريرَ سنويةٍ عن مسار التعليم العتيق، ورصد ما يحققه من أهدافه المرصودة التي تبرر الاستثمار القوي فيه([19]).

خاتمة

إن هذه الرؤية الإصلاحية للتعليم التي تقدم بها مصطفى بنحمزة في ظل ما يكتنفها من المتغيرات والأسباب الداعية إليها، لدليل وعيه بالواجب الذي أناطه الله بالعلماء في القيام بواجب البيان حيث تقتضيه المصلحة،

ولم يقتصر على تقديم هذه الرؤية بما تتسم به من رزانة ومتانة وشمولية وبعد نظر، وإنما نبه من خلالها إلى الحذر من بعض الدعاوى التي تتخذ من دعوة الإصلاح هذه ذريعة إلى إلغاء ما تبقى تدريسه من قيم الإسلام وتعاليمه في برامج التعليم.

وأحسب أنها رؤية سديدة فريدة، جديرة باستحضارها واعتمادها في مساعي الإصلاح القائمة اليوم في مجال التربية والتعليم الديني على وجه الخصوص.

الهوامش والمراجع


[1]) البرنامج المقترح لإصلاح التعليم الديني بالمدرسة المغربية، مقال لـ: "مصطفى بنحمزة" نشره بجريدة هسبريس بتاريخ: 11 أبريل 2016م.

[2])  البرنامج المقترح لإصلاح التعليم الديني بالمدرسة المغربية.

[3] )  المصدر نفسه.

[4] ) البرنامج المقترح لإصلاح التعليم الديني بالمدرسة المغربية.

[5]) هود: 118.

[6]) سورة يونس ، الآية 99.

[7]) الأحزاب: 69.

[8]) المائدة: 77.

[9]) آل عمران: 113.

[10]) آل عمران: 74.

[11]) القصص 04 .

[12]) البروج: 4 .

[13]) الممتحنة: 08 .

[14]) المائدة: 06 .

[15]) البرنامج المقترح لإصلاح التعليم الديني بالمدرسة المغربية.

[16] ) البرنامج المقترح لإصلاح التعليم الديني بالمدرسة المغربية.

[17]) المصدر نفسه.

[18])  البرنامج المقترح لإصلاح التعليم الديني بالمدرسة المغربية.

[19]) البرنامج المقترح لإصلاح التعليم الديني بالمدرسة المغربية، مقال لـ : "مصطفى بنحمزة" نشره بجريدة هسبريس بتاريخ:  الاثنين 11 أبريل 2016 م تلخيصا واختصارا.

 

 

Partager cet article
Repost0
23 juin 2022 4 23 /06 /juin /2022 18:54
أناقة الوجدان الشعري  وتأسيس العذرية الجمعية في الشعر الهذلي
أناقة الوجدان الشعري  وتأسيس العذرية الجمعية في الشعر الهذلي

أناقة الوجدان الشعري  وتأسيس العذرية الجمعية في الشعر الهذلي

-قراءة في كتاب للدكتور عزالدين النملي-

د. ادريس عبد النور

أستاذ باحث  بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس – مكناس /المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية وعلوم التربية والنقد النسائي والثقافة الرقمية

Abdennour.driss@gmail.com

مقدمة:

هناك آفاق تصورية ومنهجية لدراسة الشعر العربي القديم في تاريخيته، نجح الدكتور الباحث عز الدين النملي في سبر غوره، ولهذا لقد تمت قراءتنا لكتابه الموسوم ب" شعر الهذليين دراسة دلالية تداولية" من خلال مقاربة نقدية تجاوزنا فيها الواقع اليومي المعيش إلى بناء الفعل التخيّلي وخاصة النظرة المتعلقة بشعرية الحلم، كما تم  الاعتماد على الحضور التاريخي لإحاطة القراءة بضرورة التعبير عن الرمزي المنغرس في الطقوس حيث ربط الانفعال الخاص بالجسد المؤنث بالعالم المرئي وتشكيله داخل القبيلة الشعرية كطيف وانطباع عبر الصورة الحلمية وتحقيقها شعرا وبلاغة .

فهل استطاعت اللغة أن تنقل حقيقة ما أحسّه الهذلي من أحاسيس جيّاشة بداخله اتجاه الأنثى التي عشقها؟

الكلمات المفاتيح: الشعر الهذلي، العذرية الشعرية،المرأة المثال، الغزل العذري،عز الدين النملي

introduction:

Il existe des horizons conceptuels et méthodologiques pour l'étude de la poésie arabe ancienne dans son histoire.Le chercheur, le Dr Izz al-Din al-Namli a réussi à la comprendre, et pour cela nous avons lu son livre intitulé "La Poésie des Huddhili : une étude sémantique et pragmatique " à travers une approche critique dans laquelle nous sommes allés au-delà de la réalité vécue quotidiennement à la construction de l'acte imaginaire, en particulier le regard. Lié à la poésie du rêve, car il s'est appuyé sur la présence historique pour informer le lecture de la nécessité d'exprimer la symbolique inscrite dans les rituels, comme liant l'émotion du corps féminin au monde visible et sa formation au sein de la tribu poétique comme spectre et impression à travers l'image du rêve et sa réalisation dans la poésie et l'éloquence.

Le langage était-il capable de traduire la réalité des sentiments intenses qu'Al-Hudhali ressentait en lui envers la femme qu'il aimait ?

Mots-clés : Poésie hypocrite, virginité poétique, la femme idéale, filature virginale, azddine Namli

أولا: الشعر الهذلي بين الواقعي و المتخيل

إن الشاعر الهذلي  كان يقرض الشعر مأخوذا بسحر المرأة" المثال" المتمثلة في المخيال على شاكلة الشعراء الجاهلين حتى استحالت حلما رقيقا مخضبا بالأشواق ولهذا فميكانيزمات اللغة الشعرية الهذلية البيانية والبلاغية أبانت عن سلطتها لما باينت وتخلّصت من ثقل الواقع على شحناتها العاطفية.

  فالشعراء الهذليون لم يستوحوا لغة امرئ القيس وتشبيهاته وصوره وقيمه الجمالية وما استخدموا عباراته وألفاظه المسكوكة، فالمؤنث بالشعر الهذلي لا يمت إلى اتجاه حسّي بصلة ولا يصدر عن تجربة واقعية، وبذاك وجب انتفاء عناصر التمييز والتفارُق بين العصرين على المستوى المتخيّل الفنّي ، وهذا ما تمت ملاحظته مع الناقد الدكتور عز الدين النملي وهو يتجول في المداخل النصية المعجمية والدلالية للشعر الهذلي ليؤشر على الارهاصات الأولى لإنبثاق المنحى العذري بالشعر العربي وذلك من خلال تمفصلات كتابه وخاصة الصفحات الآتية من الكتاب:

الصفحات

الانهمام النقدي

من ص 120 إلى ص 127

 

هنا تساؤل المؤلف عن علاقة الغزل بالرثاء وذلك من خلال اقتران المرأة بالرثاء في قصيدة أبي دؤيب.

من ص 345 إلى ص 354 .

 

حددت هذه الصفحات الصورة الضعنية التي تمثلها الشاعر الهذلي لتوديع الراحلة وهي تحمل زمن فتنته  فأصبح المكان عنده دارس لغياب المعشوقة.

من ص 354 إلى ص 364

 

وتأتي هنا الصورة الطيفية كما حددها المؤلف د. عزالدين النملي شاملة مانعة ، حيث كنت أبحث عن شعر شاعر هذلي مفرد ، فوجدت شعر قبيلة إذ الشعر الهذلي يعبر عن رأي القبيلة وينطق بلسان كل فرد ويخلص لها.

من ض 364 الى 374

الصورة العسلية وما تحتويه من شعر رقيق بعيد عن الغموض الذي يتسم به الشعر الهذلي.

 

أليس في شعر الذؤبان رواسب من حياة القبيلة؟

لو كان شعر هذيل مرتبط بشاعر فرد لجال المؤنث داخله ملموسا متفتقة رياحينه في عز الضوء، لكن شعر قبيلة هذيل ذكر يحلم بما علق في اللاوعي فأنتج الهذليون ديوانا بطعم الجماعة يمتح من المشترك العام ويحفل بتمظهرات ثقافية عدة غطت على عاطفته الجياشة منها : ثقافة الحرب بما هي مؤسسة ثقافية لها أهميتها القصوى في حياة القبيلة ذات أبعاد منها السطو والصعلكة والثأر والجهاد.

يقول الشاعر خديفة بن أنس:

وكنا أناسا أنطقتنا سيوفنا *****لنا في لقاء الموت حدّ وكوكب

فقبيلة هذيل قبيلة الشعر أولا لأنها قبيلة حرب.

ولما عبر الشاعر الهذلي  عن الوجدان  في تجلياته تتحول القصيدة عنده إلى كائن شفاف يعيد صياغة الأسئلة، وهي أجوبة لخصتها بعض القصائد من 300 قصيدة يحفل بها ديوان قبيلة هذيل المتوفر على 4039 صفحة،

فهل تكفي كيمياء الأحاسيس للقول بوضوح ملامح الأنثى داخل القصيدة وخارجها؟

كيف انتشت اللغة الهذلية بقدرتها على التعبير عن نفس تلك الإحساسات ؟

إذا سلَّمنا بفرضية وجود المرأة المثال في المعتقدات الدينية والأسطورية بالبيئة الجاهلية، فإن عودة شعراء بني هذيل إلى نحث نفس الصورة الحُلمية للمرأة  تثبت وجود صورة أقدم للمرأة هي المثال أو الأصل الذي احتداه كل الشعراء، هذه المرأة الأيقونة، التي تضمَّنت كل الصفات الأنثوية المتحركة  بوجدان  ومخيال  الإنسان العربي ،وكانت عناصر الأنموذج كاملة يتجاذبه الحضور والغياب، الواقعي والمتخيل الشيء الذي جعل الشعراء الهذيليين يحتدون الأصل المفقود، عبر مقاطع شعرية تتلاقى فيها الخيالات الفاتنة والأماني العذبة والتطلعات القابضة على الجمر المنفلت.

فجاءت المواضيع التي تحدثت عن المؤنث بالشعر الهذلي كما قبض عليها الناقد د. عز الدين النملي راصدة ل:مفاتن المرأة، وقسوة الهجر، ونار الشوق، واللذة المحاصرة، والشهوة المقموعة.

والصورة النجم التي تطرق لها المؤلف تتحدث باستفاضة عن التعويض الذي لجأ إليه الشاعر الهذلي عن الغزل المباشر حيث أنشد طيف المرأة التي لا تظهر إلا في الليل بعد المنام.

وقد أسست تجربة الطيف أو تجربة الأرق شكل من أشكال التعويض عن الغزل المباشر ، وهي تجربة مشتركة بين العديد من شعراء هذيل المؤرّقين فلان قولهم وشفّ خطابهم وخلت جملهم من الغامض من القول وبذلك ساهمت المرأة في أناقة قولهم الشعري المرتبط بها :

  • ربيعة بن الكودن:

أفي كل ممشى طيف شمّاء طارقي *** وإن شحطتنا دارها فمؤرقي

  • مليح بن الحكم:

ومن يتعلق حب شيماء أو تكن ***    له شجنا يكبر حنينا ويشتق

ويهتج لذكراها إذا خطرت له    ***     وللبين منها والخيال المؤرق

 ويقول أيضا:

يجللها الأحمالَ غيد كأنما ***  جُلين بماء المُذهب المترقرق([1])

  • أمية بن أبي عائد:

وأيقنت حين استبنت الفراق *** أن لن نعود كما قد غنينا

  • ساعدة بن جؤية :

أهاجك مغنى دمنة ورُسوم *** لقَيْلة منها حادث وقديم([2])

لقد عبر هؤلاء في قصائهم بالديوان عن صور " تكشف عن الجنسية المحضورة والليبيدو المقموع، والتعبير عن حالة الاستقرار التي بات يمجُّها الروح الاجتماعي ابتغاء حالة حضارية أرقى"[3]

ثانيا :تأسيس العذرية الجمعية للشعر الهذلي

الحب العذري يحتاج إلى شروط نشأة وتطور منها: مساهمة القبيلة في إقصاء الجسد الأنثوي والحيلولة دون منحه صيغته الطبيعية للتفاعل والتحقُّق، فهذا المنع والتعطيل لفاعلية علاقة العشق وتحققها عبر المسلك الطبيعي، الزواج، هو الذي يجعل اللغة تأخذ دور الفاعلية التعويضية وتستعير لتقوم بتفجير المعجم وتوليد الخيال.

- ما هي دلالة ترعرع الغزل "الإباحي" بحاضرة الحجاز وانتشار العذري منه بباديتها؟

لقد اتخذ هذا البوح معنى المس بعفة القبيلة وشرفها في توجهه إلى امرأة واحدة " في مجتمع لم يكن قد تحلل من نزعات البداوة وخصوصا نزعة الاعتقاد بأن المرأة دون الرجل ومُجلبة للعار، فأحاطها بسوار من الأوهام لا ينبغي لها تجاوزه، ولذلك منعوها من الحب...وبالتالي، أسقطوا من عالمها حب الرجل لها، وبثِّه إيّاها نجواه وشكواه، لأن في ذلك استباحة تُقلق القبيلة كلها، وتنال من كبريائها"([4]) .

فمن خصائص الشعر العذري العفيف عند العرب، التعبير عن مرارة السهر والأرق وعن مشاعر الألم والمعاناة لدى الشاعر وذلك يعود إلى فراقه عن معشوقته والبعد عنها جراء عوامل قصرية فقد قال امرئ القيس (مجنون ليلى)

أظلّ رزيح العقل ما أُطعمُ الكرى***** وللقلب منّي أنّة وخُفوقُ

وقد جاءت صورة المرأة عند الشعراء العذريين تقليدية تمتح من العناصر الفنية لصورة المرأة في الجاهلية فإذا كان  ذي الرمّة وهو الناسك في محراب الحب المسبِّح بآياته في وصفه "ميّ" عن الصورة التي كانت تسكن مخيلة امرئ القيس " فاطمة" والنابغة الذبياني "نعم "وطرفة بن العبد " خولة " حيث شبّه الاقدمون المرأة بالظبية ولم يخرجو من نسق هذا التصور وإن كان قد أضاف ذي الرمة إليها أضواء جديدة من شعاع الضحى فبدت صورتها أحلى وعشقها أمتن،

فجاءت صورة المرأة في الشعر الهذلي حاضرة في المخيال غائبة جسديا وواقعيا.

  • سهم بن أسامة بن الحارث الهذلي" أم نوفل ":

ألا أرقتنا بالسُّرى أم نوفل *** فأهلا بذاك الطارق المتغلغل([5])

  • ربيعة بن الجحدر أم مسافع" :

أنّى تسدى طيف أم مسافع *** وقد نام يا ابن القوم من هو ناعس([6])

  • أبو شهاب المازني" أم عامر" :

ألا يا عناء القلب من أم عامر *** ودينته من حُب من لا يُجاور

  • أمية بن أبي عائد " زينب":

ألا يا لقوم لطيف الخيال *** أرّق من نازح ذي دلال

خيال لزينب قد هاج لي *** نُكاسا من الحُب بعد اندمال

  • ربيعة بن الكودن  ومليح بن الحكم "شمّاء"

أفي كل مُمْسى طيف شمّاء طارقي *** وإن شحطتنا دارها فمؤرقي([7])

  • عبد الله بن مسعود الهذلي" عثمة":

تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شرابُ *** ولا حُزْن ولم يبلغ سُرور

  • ساعدة بن جؤية " دمنة"" أم معمر"

أهاجك مغنى دمنة ورُسوم *** لقَيْلة منها حادث وقديم

ثالثا: المرأة الهذلية في مضمار الفحولة الشعرية .

إن صورة المرأة المثال في وجدان الهذلي  شعريا قد حملها النسق الثقافي المفتوح على الاستفحال اللغوي المترسخ إلى استكناه صورة النسق المُهيمن، فصورة المرأة المثال قد انغرست في الوجدان العام الثقافي العربي وخلقت لدى الوعي الشعري عدم إمكانية خروجه عن أنموذج الفحولة الشعرية للقبيلة.

فليس في طبع الثقافة الذكورية أن تتحمل أو تقبل (واقعية) الجسد المؤنث، ومن الضروري لهذه الثقافة أن يكون التأنيث قصيا ووهميا وطيفا لكي تظل الأنوثة (مجازا) ومادة للخيال والحلم ،في هذه الحالة-فقط- تكون الأنوثة جذابة ومطلوبة في المخيال الثقافي ،وتنتهي جاذبيتها بمجرد تحوّلها إلى واقع محسوس.

خاتمة

شخصية المرأة في الشعر الهذلي جاءت مضمرة متدثرة بسدول الليل تُعيد الرغبة بالعلاقة مع الرهبة إلى أصل العشق الأصلي بما يتجدر لدى الوعي العام العربي من خصوبة وكمال الصفات لدى أصل النسق الثقافي  تلك العودة التي وإن أثنت العربي عن الاستمرار في شبقيته وأزهدته في تهتك الجواري ، كانت هي التحول الثقافي الذي صنع شعراء النسق كما رسّخ الأعراف الجاهلية الشعرية والقيمية لدى جميع عصور الشعر العربي، حيث استمر هذا الغزل العذري العفيف مع الهذيليين حتى العصر الأموي مع شعراء مثل: مليح القردى وعبد الله بن مسلم بن جندب وأبو صخر الذي روى عنه ابن تمام مقطوعتين غزليتين وأمية بن أبي عائد.

الهوامش

 

[1] - شرح أشعار الهذليين، ج3 ص 999-1000

[2] - شرح أشعار الهذليين، ج3 ص 1157-1158

[3] - يوسف اليوسف ، مقالات في الشعر الجاهلي ، دار الحقائق للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، د.ت.ط، ص 161.

[4] -  د. عبد النور ادريس، الجسد المؤنث في وجدان الشعر العربي، منشورات بيت الأدب المغربي، مطبعة سجلماسة ، مكناس، ط1، يناير 2012، ص 39.

[5] - شرح أشعار الهذليين، ج2 ص 522.

[6] - شرح أشعار الهذليين، ج2 ص 641-642.

[7] - شرح أشعار الهذليين، ج2 ص 655.

أناقة الوجدان الشعري  وتأسيس العذرية الجمعية في الشعر الهذلي
Partager cet article
Repost0
19 mai 2022 4 19 /05 /mai /2022 22:16
الكتابة النسائية من السنن الثقافي إلى النسق النقدي -قراءة في كتاب للدكتور عبد الرحيم وهابي

الكتابة النسائية من السنن الثقافي إلى النسق النقدي
-قراءة في كتاب للدكتور عبد الرحيم وهابي-

 

د. ادريس عبد النور

 

أستاذ باحث  بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس – مكناس /المغرب
أستاذ مادة اللغة العربية وعلوم التربية والنقد النسائي
Abdennour.driss@gmail.com

 

ملخص
الكلمات المفاتيح: السرد النسوي- السرد النسائي- النقد الأدبي- السنن الثقافي-عبد الرحيم وهابي
إن دوافعي لقراءة هذا الكتاب الموسوم ب "السرد النسوي العربي من حبكة الحدث إلى حبكة الشخصية" للدكتور عبدالرحيم وهابي، يختلط فيها المعرفي بالشخصي حيث لا تشكل هذه القراءة إحاطة كلية بالوقائع النقدية للكتاب، كما أنها لا تدعي الإحاطة الشاملة لهذا النص المتميز والمرجع المهم في المجال، وقد أقف عند حدود ما هو معرفي لأركز على عناصر بعينها من حيث المساءلة باعتبارها تشكل نسقا فرعيا داخل البناء المعماري للكتاب، وقد يكون طموحنا في هذه القراءة هو تتبع المسار التي تشكلها ذات الناقد في الفعل النقدي


Mots clés : narration féministe - narration féminine - critique littéraire - Sunan culturel - Abderrahim Wahabi


résumé
Mes motivations pour la lecture de ce livre intitulé "Le récit féministe arabe de l'intrigue de l'événement à l'intrigue du personnage" du Dr Abderrahim Wahabi, dans lequel le savoir se mêle au personnel, car cette lecture ne constitue pas un briefing complet des faits critiques du livre, il ne prétend pas non plus couvrir de manière exhaustive ce texte distingué et la référence importante dans le domaine, et je me suis arrêté aux limites de ce qui est cognitif pour me concentrer sur certains éléments en termes de responsabilité car ils constituent un sous-forme au sein de la structure architecturale du livre, et notre ambition dans cette lecture peut être de suivre le cheminement tracé par le même critique dans l'action critique.

 

   أولا السنن الثقافي

من ناحية موضوع هذا الكتاب فهو مخصص  لدراسة السرد النسوي العربي، وهو قوام شائك يعود لكتابة المرأة وما مرت به من مراحل وتطورات متباينة، وبقدر ما لا يعنينا الدخول في تفاصيل هذه المراحل نقف على حافة المفهوم أدب نسوي عند الأستاذ عبدالرحيم وهابي ، حيث تطرق المؤلف لمواضيع متفرقة من كتابه وخاصة الإشارات التي جاءت أساسا كاقتباسات ، وهو يتحدث عن خصائص السرد المؤنث مصورا المغلق ومهتما بالتفاصيل الصغيرة للجسد الأنثوي وغرف النوم، و بهذا يمكن اعتبار الرواية النسوية العربية كما جاءت داخل المتن: " قناعا للسيرة الذاتية، تعتمد على البوح بحميمية الذات وأسرارها ... مع الاعتماد على الاستبطان، والتمثل لموضع الوجع لديها، فكتابتها نبض للقلب، وانفتاح على الداخل" (1).
ومن خلال استقرائنا لجل النصوص السردية التي اعتمدها المؤلف والتي يزخر بها الكتاب بما هي مجهودات جبارة لرصد خريطة الكتابة النسائية على امتداد العالم العربي، يبدو أن هذه الكتابة ما تزال مهووسة بيوميات متشرنقة داخل الجسد ولا تخلو من تكرار هذا المنظور على مستوى المنهج، فخطاب هذه السرود كما جاء على لسان جيرار جينيت يمكن ان يقول مرة واحدة ما وقع مرات لا نهائية حيث يقول: "على سبيل التبسيط يمكن القول أن حكاية أيا كانت يمكنها أن تروى مرة واحدة ما وقع مرة واحد، ومرة واحد ما وقع مرات لا نهائية، ومرات لا نهائية ماوقع مرة واحدة، ومرة واحدة ما وقع مرات لا نهائية"(2 ).
لا بد أن نضع نصب أعيننا واقعة منهجية اعتبرها أصلا في مقاربتي كتابة المرأة وهي تتعلق بكتابة الرجل حيث لا يمكن أن نضعها مقياسا للكتابة المحتذاة وإلا سنقيس كتابة المرأة كهامش بالنسبة لمركزية الرجل.
وإذ نتبنى ونقترح مصطلح "الكتابة النسائية" نعتبر أن هذا المطلح يقوم فقط بدور تصنيفي، فهو يمكننا من رصد خصوصيات هذه الكتابة على اعتبار أن مصطلح الكتابة النسائية يؤكد بالخصوص على أن للمرأة الكاتبة تصورا مختلفا للمسكوت عنه بمقدار الفروق الفردية بين الجنسين، واعتقد أن اللبس الحاصل في رنين المطلح والمفهوم ماهو إلا نتيجة للخلط المنهجي الحاصل بين صيغتيتن: صيغة (الأنثى والكتابة) وصيغة (المرأة والكتابة).
فالصيغة الأولى (الأنثى والكتابة) تركز على أهم خاصية لدى المرأة وهي الأنوثة وتلخص المرأة في صفتها الجنسية ولاتجعل الدائرة تتجاوز الطرح المقتصر على الأنوثة والذكورة في بعدهما الطبيعي، أما بالنسبة للصيغة الثانية (المرأة والكتابة) فإنها تستند على مخرجات مقاربة النوم الاجتماعي وتعتبر في المرأة الجنس و الكيان و الشخصية القائمة على البناء الثقافي حيث الكتابة واجهة تحررية من التصورات السائدةـ فالقول بكتابة إبداعية نسوية/نسائية تمتلك هويتها وملامحها الخاصة يفضي إلى واحد من حكمين:
أ‌-    إما كتابة ذكورية بقلم مذكر أو مؤنث/قاسم أمين/ تمتلك هذه الهوية والكيان والخصوصية وهو ما يردها بدورها إلى الفئوية النسوية.
ب‌-    وإما كتابة بلا خصوصية جنسية أي كتابة خارج الفئوية مما يسقط الجنس كمعيار للتمييز.
•    هل مصطلح" الكتابة النسائية، داخل الممارسة الاجتماعية، يتمكن من خلاله الناقد معرفة حدود تواجد المخيال الذكوري في المنتوج الإبداعي النسوي على اعتبار أن التنشئة الإبداعية للأنثى كانت من مشملات الثقافة الذكورية؟
•    هل صيغة المؤنث كافية لتحديد التصور النسائي للعالم؟
    ثانيا الناقد النسائي: حدود القراءة
يبدو أن الاهتمام بالكتابة النسائية يتطلب التسلح المعرفي بالقضايا الجندرية واللغوية خاصة أخذ الحيطة والحذر مما تنتجه اللغة من معاني تحجرت في المعجم الذكوري وهذا ما لمسته في ثنايا كتاب الدكتور عبدالرحيم وهابي "السرد النسوي العربي" وهو المختص في قضايا اللغة والتواصل وتحليل الخطاب وهو ينقش في وعينا النقدي ويصور المغلق وفاعلية الحواس وشاعرية الحلم وأزمة ميديا ويصور الجسد الآثم وعقدة البكارة ليحيك للجسد المؤنث قيمة ثقافية فكان المؤلف يصغي إلى الشفرات المؤنثة المبثوثة في النصوص السردية التي اعتمدها مدركا لإيحاءاتها، لا على مستوى البناء التشريحي الفيزيولوجي أو ببنائها الثقافي والاجتماعي.
    ثالثا النسق النقدي: النقد النسائي/النقد النسوي
إن الكتابة التي تكتبها المرأة عند الوهابي مفتوحة على مستوى التجنيس حيث استقطبت وجهات نظر متعددة /أدب نسائي/أدب أنثوي/أدب نسوي من حيث أن كتابة الجسد التي انخرطت فيها المبدعة يمتلك هويتين الأولى ساهمت في تأسيس الثانية وحددت ملامحها، فأصبحت كتابة الجسد  writing bodyكما لمسها المؤلف من خلال استشهاداته والروايات التي قرأها مرتبطة أشد الارتباط بالخرق السوسيو- ثقافي حيث تتمثل الثقافة العربية جسد الأنثى بما هو موضوع ملتبس بسبب ثقل المحظورات التاريخية وطغيان ثقافة التحريم على آليات الإبداع,
 وليس اعتباطا أن يخصص الباحث الفصل الرابع للحديث عن الجسد والجسد الأنثوي خاصة ليقف على حقيقة مفادها أن هذا الجسد قبل تسريده كان يرزح تحت وضعية بدئية لا تحيل إلا على ما هو وظيفي متعي يعود بالجسد إلا حالاته الملآى بالرغبات وأوهام الذات، وهي كلها تمظهرات تقع ضمن دائرة المحظور والممنوع والمحرم من طرف المنتفع (المذكر).
ولهذا كان الجسد الآثم محددا لهذا الفصل الذي حاول عبر صفحاته (127-161) أن يستعيد لهذا الجسد قيمته الثقافية بالرغم من أن الكتابة في الكثير من النصوص القديمة والحديثة كتبت أو حكت بلغة القاموس المذكر وليس بلغة الأنثى، وبالتالي فالنساء الكاتبات رغم تعددهن واحدة أي كلهن شهرزاد وكل الحكايات حكاية واحدة.

    رابعا التلقي وآلية الدفاع الذكورية
وإذ يصرخ الجسد داخل النص منكتبا يتلصص المتلقي ليستمع بنتوءاته داخل الحقل الأدبي حيث تتمتع الكاتبة في جنس السرديات بحس فني مغاير يجترح من الكتابة بناءاته ودلالات نصية تتطلع على مستوى الأشكال والمضامين والاستطيقا إلى الحديث عن الذات بضمير المتكلم حتى تخال أن كتابتها إقرار واعتراف بشبهة النص وتأويلاته وكأن كتابة المرأة اعتراف صامت بما أن جسدها ذو قيمة أيروتيكية قي الثقافة الذكورية، " فضمير الغائب لا يملك سلطان التحكم في مجاهل النفس، وغيابات الروح، على حين أن ضمير المتكلم بما هو ضمير للسرد المناجاتي يستطيع التوغل في أعماق النفس البشرية" ( 3) حيث أن الأشياء الحميمة نكتبها ولا نقولها كما يقول هنري ميشو. ويشكل المجال العشقي أهم تيمة يحفل بها النص النسائي باعتبار أن حديث المرأة في العلاقات العاطفية يعد بمثابة خرق للمسكوت عند اجتماعيا حيث يصنّف الحب داخل الاعراف والعادات والتقاليد المجتمعية جريمة أخلاقية، ولم تهتم المرأة بالحرية في الحب إلا لكونه يحقق لها الاختلاف والتميز بالرغم مما يشكله من خرق وما يمثله من محظور في العرف الاجتماعي والقيم الأخلاقية الدينية.
ولم يكن لنسقية البناء النقدي عند الدكتور عبدالرحيم وهابي إلا أن يصل إلى نتيجة تحفل باستطاعة الكاتبة وعن طريق اللغة أن تستعمل بفنية التقطيع الفيزيولوجي لجسدها وهي تنيبه في الكتابة عن نفسها، حيث انكتب عنها داخل النص نظرا للعلاقة الخاصة والمتشكلة ما بين المرأة الذات والمرأة الكاتبة وما بين جسدها وموضوع الكتابة، وكأن على كل نص نسائي أن يحقق ذات الساردة بما هو ممتلئ بجينات شهرزادية يتم التفاعل معها بصيغة المفردـ قربته اللغة من عقل الرجل حيث نتج عن فعل التلاقي هذا ولادة الأنثى الرمزية بصيغة الجمع تملك فيه الكاتبة القول والفعل.
وإذ يتحدث الفصل الخامس من كتاب (السرد النسوي العربي) عن ما ورائية القص في السرد النسوي العربي يضع المؤلف يده على اشكالية تلقي المسرودة النسائية حيث توضع على المفترق بين الواقعي و المتخيل إذ " تغذو المسألة حساسة، عندما تربط بين ما تكتبه المرأة وبين ما تعيشه في الواقع، فأن تكتب المرأة عن تجربة المرأة وبين ما تعيشه في الواقع، فأن تكتب المرأة عن تجربة الحب، لا يعني أنها تنقل تجربة عاشتها في الواقع" ( 4)ليخرج الأستاذ عبدالرحيم وهابي بخلاصة يؤكد فيها ضرورة تخليص أدب المرأة من هذه المحاكمة الظالمة.
وحيث أن التفسير النقدي يؤكد جدل الانتقال بين ثوابت النص ومتغيراته المتعاقبة والمتزامنة، فالنص النسائي بهذا المعنى يتحرك في اتجاه خلق ردود فعل القارئ التي تكون حسب بيير زيما مستقلة عن سياق نشأة النص وغير مستقلة عن بنيته بمعنى غير مستقلة عن الثوابت الدلالية والأساليب السردية، أو قارئ خارج التخييل كما قالت سوزان لانسر.
فالقارئ هنا يأتي النص من خلال مرجعياته التي تحدد بدورها المعطيات النهائية لتفسير شفرات النص وهي مرجعيات تتمحور حول المركز حيث تلخص الانسانية في الرجل" فالإنسانية في عرف الرجل شيء مذكر، فهو يعتبر نفسه يمثل الجنس الانساني الحقيقي.. أما المرأة فهي تمثل في عرفه الجنس الآخر" (5 ).
وإذ يتطرق المؤلف إلى قضية الحبكة خاصة وهي بين حبكة الحدث وحبكة الشخصية، يركز   مرافعته هاته لصالح هذه الكتابة وكأنني به يريد أن يؤرخ لمرحلة متأخرة من كتابة المرأة حيث قال : "لقد صار جسد المرأة في الكتابة النسوية مثقفا، يعرف حقوقه وواجباته، ويعرف كيف يحترم ذاته، ويستمتع بوجوده، ولم يعد سلعة، أو هدف... ولم نعد نجد في كتابة المرأة وصفا للجسد، بقدر ما صرنا نراه في حالة فعل، يتحرك، ويشعر، ويقرر ويعاني الكثير" (6 ).

    رؤية وبعد نقدي متفرد وكأنه يميز بين

   نص يعيش داخل الجسد كمتغير ثقافي
 
نص التحرر عبر الجسد  النص التحرري
رضوى عاشور في رواية ثلاثية غرناطة
إننا أمام هجنة تؤكد على تحدي التقاليد الذكورية عبر التناصات التاريخية لالتهام الآخر
ليلى بعلبكي
 تم تطعيم الجسد كوسيلة خرق لسلطة الآخر.
خناتة بنونة
إشارة وجود من أجل إثارة انتباه الآخر ومساهمتها في تحرير أخيها العبد.

  

ولهذا تشتغل الساردة بالحكي وفق منطق يجعلها منفصلة عن المؤلفة "فما لا يستطيع البطل أن يقوله لا يستطيع المؤلف أن يخبر به" كما قال مارتن والاس في كتابه نظريات السرد الحديثة،فما على المؤلفة للمسرودة النسائية سوى أن تتشبث بالحضور الواعي للساردة باعتبارها منتجة للنص من الداخل.
ولما يعجز المتلقي الذكر للمسرودة النسائية عن إعادة صياغة فعل الحكي الخاصة وتطعيم واقعيتها بالتخييل تمارس القارئة ما أسماه روبير اسكاربت بمطالعة هروب حيث تنضاف القارئات إلى جانب المتلقين بشكل كبير يقول "إن تصرف القارئات يبدو، في جميع الطبقات الشعبية، متجانسا أكثر من تصرف القارئين " ( 7).
خاتمة
 إن النسق النقدي عند الدكتور عبدالرحيم وهابي في كتابه الموسوم بالسرد النسوي العربي من حبكة الحدث إلى حبكة الشخصية ومن خلال مجموع الفصول داخله، تشكل السند الرئيسي الذي تقارب من خلاله هذه الكتابة حيث تواجد مستويين:
 يحدد الأول للأستاذ وهابي قدرته على الغوص في بنية السرد النسائي العربي من خلال  رصده لسرود نسائية غطت خريطة العالم العربي ومن ذلك فإننا لا نستطيع أن ندرك ما يحتوي عليه الواقع إلا من خلال ما يجود به اللسان.
كما يتشكل الثاني في البناء النمذجي لهذه الكتابة التي تسمح لقارئ هذا الكتاب أن ينتقل من العالم الواقعي إلى عالم الممكنات .
وفي الأخير لا يمكن إلا أن نقول على لسان الشاعر ميشو " في غياب الشمس تعلم أن تنضج داخل نص نسائي"
المراجع

    1. الأخضر بن السائح، سرد المرأة وفعل الكتابة 2012، دراسة نقدية في السرد وآليات البناء ، دار التنوير، الجزائر، ط1، 2012، ص 54..
    2. جيرار جينيت، خطاب الحكاية بحث في المنهج، ترجمة محمد معتصم، عمر حلي، عبدالجليل الأردي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 1996 ص 130.
    3. عبد المالك مرتاض، في نظرية الرواية، ص 185.
    4. عبدالرحيم وهابي ، السرد النسوي العربي، ص169.
    5. سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر، ص 6.
    6. نفس المرجع السابق، السرد النسوي العربي،  ص158.
    7. روبير اسكاربت، سوسيولوجيا الأدب، 121

    

د. ادريس عبد النور

د. ادريس عبد النور

Partager cet article
Repost0
13 mai 2022 5 13 /05 /mai /2022 12:34
مجلة دفاتر الاختلاف

مجلة دفاتر الاختلاف

مدونة الأسرة والتشريع المغربي
وضعية المرأة القانونية والسوسيولوجية
بين النفقة والحضانة

د. ادريس عبد النور
دراسة محكمة


تصميم الدراسة
المبحث الأول: الضوابط السوسيولوجية وإستراتيجية البناء
المبحث الثاني: طبيعة نفقة الزوجة: الضوابط الموضوعية
المطلب الأول:  التعريف بالنفقة والسند الفقهي
المطلب الثاني- التعريف بالنفقة والسند القانوني
المطلب الثالث- سبب الالتزام بالنفقة
المبحث الثالث: طبيعة نفقة الزوجة: الضوابط الإجرائية
المطلب الأول: مشتملات النفقة
المطلب الثاني: إثبات النفقة وتقديرها
المطلب الثالث: سقوط النفقة عن الزوج ووقفها.
المطلب الرابع: دائرة وجوب النفقة بالقرابة
المبحث الرابع: الضوابط القانونية السوسيولوجية للحضانة
المطلب الأول: التعريف بالحضانة والسند الشرعي والقانوني
المطلب الثاني: شروط الحضانة.
المطلب الثالث: أسباب سقوط الحضانة
المبحث الخامس : مواد تدخل النيابة العامة فيما يتعلق بالنفقة والحضانة.
خاتمة

الكلمات المفاتيح: مدونة الاسرة، النفقة، الحضانة، الشريعة، القانون المغربي

ملخص
إن الصورة الأبوية التي عكستها تصورات المذهب المالكي العميقة حول المرأة من جهة واعتبارها كائنا دونيا في خدمة العنصر الذكوري وحول  صورة الرجل من جهة ثانية و بما يحمله مفهوم القوامة من معطيات نفسية ، اجتماعية وثقافية وبالرغم من كل التحولات الماكرو- سوسيولوجية، جعلت بيت الزوجية جحيما بسبب توتر العلاقات وحدّة الخلافات حول مسؤولية الإنفاق وتحديد القائم به في حالة عمل الزوجة هذا بالإضافة إلى ما جاء في دراسة ذة.رحمة بورقية التي تطرقت إلى أن بعض الزوجات يستغللن ذلك الإقرار القانوني للقوامة للزوج للامتناع عن الإنفاق عندما تتوفر لهن الإمكانيات في حالة يسرهن وعسر الأزواج ، وفي حالات كثيرة معروضة على محاكم المملكة استُعملت القوامة في حالة عجز الزوج كذريعة لإذلاله والتشهير به.

سأعتمد في تحليل هذا الموضوع "الضوابط القانونية والسوسيولوجية للنفقة والحضانة" على مقاربة نصية تحليلية شاملة تتجاوز الاهتمام بالمستجدات فقط، على اعتبار إن السياق الذي أُدرجت فيه تلك التغييرات يشكل جزءا من النسق العام للمدونة، و على ضوء معطيات الواقع الاجتماعي دون إغفال التأصيل الفقهي للموضوع والتعاطي القانوني مع مواد المدونة نحو خلق انسجام للمدونة مع نفسها ومحيطها الاجتماعي على أساس أن الإنسان أصبح قطبا مركزيا في تعديلات همّت قضايا الأسرة كان همها الاستراتيجي يتمحور حول: رفع الحيف عن النساء، حماية الأطفال والحفاظ على كرامة الرجل وصيانتها.

Mots-clés : code de la famille, pension , garde, charia, droit marocain

résumé
L'image patriarcale qui se reflétait dans les perceptions profondes de l'école de pensée Maliki sur la femme d'une part, et la considérant comme un être inférieur au service de l'élément masculin, et sur l'image de l'homme d'autre part , et avec les données psychologiques, sociales et culturelles que porte le concept de tutelle, et malgré toutes les transformations macro-sociologiques, ont fait du domicile conjugal un enfer vivant.En raison des relations tendues et de l'acuité des disputes sur la responsabilité des dépenses et déterminer qui en est responsable dans le cas du travail de l'épouse, en plus de ce qui était indiqué dans l'étude Rahma Bourqiah, qui mentionnait que certaines épouses profitent de cette reconnaissance légale de la tutelle du mari pour s'abstenir de dépenser lorsqu'elles ont les moyens en cas de leur bonheur et les difficultés des maris Dans de nombreuses affaires devant les tribunaux du royaume, la tutelle est utilisée en cas d'incapacité du mari comme prétexte pour l'humilier et le diffamer.
.

Dans l'analyse de ce sujet, "Contrôles juridiques et sociologiques de la pension alimentaire et de la garde", je m'appuierai sur une approche analytique textuelle globale qui va au-delà de l'attention aux seuls développements, étant donné que le contexte dans lequel ces changements ont été intégrés fait partie de la schéma général du Code, et à la lumière des données de la réalité sociale sans négliger l'enracinement doctrinal du sujet et l'interaction juridique avec les articles de la Moudawana, vers l'harmonie du Code avec lui-même et son environnement social sur la base que l'être humain est devenu un pôle central des amendements qui concernaient les questions familiales, sa préoccupation stratégique s'articulait autour de : la suppression de l'injustice à l'égard des femmes, la protection des enfants et la préservation et le maintien de la dignité des hommes.

المبحث الأول: الضوابط السوسيولوجية وإستراتيجية البناء
  لم تستطيع اللجنة العلمية التي تشكلت لمراجعة نص المدونة سنة 1993 أن تخرج من هالة التقديس المحيطة بنص مدونة الأحوال الشخصية  باعتباره قانونا وضعيا حيث أنها اختارت التعديل الشكلي " الذي لايحفظ الفلسفة العامة لمدونة 1957 فحسب، بل يضمن استمرارية آثارها العملية والمجتمعية" ( 1)،حيث النص الفقهي يستحكم قبضته على المجتمع عوض أن تتحكم التحولات بعمق البنيات المجتمعية في هذا النص الذي استوطن العقليات فبات المنتوج الفقهي يُنظر له كأنه  من طبيعة ثبات المجتمعات الإسلامية
    إن السوسيولوجية القانونية كمنهجية أكدت وتؤكد أن تغيير القوانين يرتبط أساسا بما يعرفه المجتمع من تغيير في بنياته السوسيو- ثقافية ، بينما نجد إن المجتمعات الإسلامية وعلى مستوى التعاطي مع القضايا المتعلقة بالأسرة كان يستحكم فيها الفقهاء بتكرار نفس الأحكام بمقياس وحدة المضامين الاجتماعية ،" بل وكانت بعض القضايا تتكرر من كتاب فقهي إلى آخر ، تتكرر في بعض الأحيان بتناص يكاد يكرر نصُّ نصا آخر"(2 ).
وقد أعطت ذة. رحمة بورقية مثالا عن ذلك يتعلق بكتاب " معيار الونشريشي" الذي يكرره كتاب آخر من النوازل للمهدي الوزاني بنفس الحجم بل وبنفس المضامين أيضا.
    إن دخول مدونة الأسرة قبة البرلمان باعتبارها نصا قانونيا مؤسسا للمجتمع الديمقراطي الحداثي، مقرونة بالتوجهات العامة لجلالة الملك التي وردت في خطابه الملكي ليوم 10 أكتوبر 2003 بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الثانية من الولاية السابعة والتي يشير فيها إلى إنصاف المرأة وحماية حقوق الطفل وصيانة كرامة الرجل مع الانفتاح على روح العصر ومتطلبات التطور والتقدم  وقد ركز الخطاب الملكي على ما يتعلق بالحضانة والنفقة في النقطة الثامنة من المنطوق الملكي جاء فيه " الحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في صلب المدونة، هذا مع اعتبار مصلحة الطفل في الحضانة من خلال تخويلها للام ثم الأب ثم لأم الأم. فإن تعذر ذلك، فإن للقاضي أن يقرر إسناد الحضانة لأحد الأقارب الأكثر أهلية، كما تم جعل توفير السكن اللائق للمحضون واجبا مستقلا عن بقية عناصر النفقة، مع الإسراع بالبث في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل أقصاه شهر واحد"
     كما حظيت المدونة بدعم مستمر من طرف جلالته الذي واكب مشروع المدونة منذ أول خطاب له في شهر غشت 1999 الذي أوضح فيه أنه  لا يمكن ضمان التقدم والازدهار في الوقت الذي تتعرض حقوق النساء اللواتي يمثلن نصف المجتمع للإهانة   
إن التحسن الذي تعرفه الأسرة المعاصرة في مستوى العيش وانخراط أفرادها في منظومة الاستهلاك، أثر بشكل كبير في توزيع الأدوار بين الزوج والزوجة و الأبناء ولقد تطرقت ذة.رحمة بورقية إلى إنه " بالرغم من هذا التأثير فالتصورات المجتمعية والثقافية ما زالت تنظر إلى الزوج مثلا مصدرا وحيدا للإنفاق على البيت والأطفال" (3 ) .
    إن الصورة الأبوية التي عكستها تصورات المذهب المالكي العميقة حول المرأة من جهة واعتبارها كائنا دونيا في خدمة العنصر الذكوري وحول  صورة الرجل من جهة ثانية و بما يحمله مفهوم القوامة من معطيات نفسية ، اجتماعية وثقافية و بالرغم من كل التحولات الماكرو- سوسيولوجية، جعلت بيت الزوجية جحيما بسبب توتر العلاقات وحدّة الخلافات حول مسؤولية الإنفاق وتحديد القائم به في حالة عمل الزوجة هذا بالإضافة إلى ما جاء في دراسة ذة.رحمة بورقية التي تطرقت إلى أن بعض الزوجات يستغللن " ذلك الإقرار القانوني للقوامة للزوج للامتناع عن الإنفاق عندما تتوفر لهن الإمكانيات في حالة يسرهن وعسر الأزواج" (4 ) .
وفي حالات كثيرة معروضة على محاكم المملكة استُعملت القوامة في حالة عجز الزوج كذريعة لإذلاله والتشهير به.
    لقد حررت مدونة الأسرة عبر المادة 199 المجتمع من المفهوم النفسي والاجتماعي للقوامة والتي كانت مرتبطة بالرجل وتركت آثارا بالغة لدى تمثلات كل من الزوج والزوجة حول مسؤولية بيت الزوجية .إن هذه المادة تحاول بناء الأدوار داخل الأسرة بشكل جديد تتحرر معه المرأة (العاملة) أمام المجتمع من الحرج الاجتماعي والنفسي في حالة قبولها التزوج من عاطل و الإنفاق عليه.
    إن مفهوم القوامة يعكس تصورا بتريركيا يقوم على الاحتباس والاستمتاع ومبدأ الطاعة مقابل الإنفاق ، وهذه التصورات مجتمعة لا تحقق مجتمعا متوازنا يحقق للأسرة تساكنا شرعيا بين جل أطرافها، وقد نصت المادة 51 التي جاءت بالعديد من المصطلحات في هذا الباب على تنشيط مفاهيم أخلاقية ذات مستوى عال بمنظومة القيم الاجتماعية مثل : المساكنة الشرعية، معاشرة زوجية، المعاشرة بالمعروف، تبادل الاحترام، المودة ، التشاور في اتخاذ القرار، حسن المعاملة...) وقد نصت هذه المادة في فصلها الثالث على اقتسام المسؤولية بين الزوج والزوجة في تسيير ورعاية شؤون بيت الزوجية، " تحمل الزوجة مع الزوج مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال".
ولقد حافظت مدونة الأسرة على ما يقارب 90 في المائة من مقترحات "الخطة الوطنية من أجل إدماج المرأة في التنمية" التي توخت النهوض بأوضاع المرأة المغربية بمبادرة من كتابة الدولة في التعاون الوطني سنة 1998 وبدعم من البنك الدولي وبإشراك الجمعيات النسائية التي حرصت على إلغاء مختلف مظاهر التمييز ضد النساء .
وقد اتسمت عملية الإعداد باعتماد مقاربة شمولية: مقاربة النوع /جندر/  (5) كأداة منهجية  شملت مرحلة التصور والصياغة النهائية(6 )،
    إن هاجس مدونة الأسرة الأساسي يهدف إلى جعل المجتمع يتجاوز عقدة التفوق الذكوري نحو إقرار التوازن "الكامل" بين الزوجين الذي تؤطره ثقافة جديدة تنهل من ثقافة المساواة بين الجنسين والعلاقة التشاركية بينهما، بذلك فلم يبق للمبدأ الفقهي القديم الذي يربط مسألة الإنفاق بالاستمتاع قائما على اعتبار أن كل من الزوجين يستمتع بالآخر وهذه الخلاصة تعتبر من ضمن الاستنتاجات الجندرية الرائدة في هذا الباب على أساس أن الاختلاف المُفترض بين الذكر والأنثى على مستوى الجنس هو اختلاف ثقافي واجتماعي تُذكيه أسطورة الرجل الفحل وليس بيولوجيا وفسيولوجيا.
    ومن ذلك حاولت مدونة الأسرة أن تُضعف من التفضيل التقليدي لذكورية قيم المجتمع التي حضرت بقوة بمدونة الأحوال الشخصية والتي أعلنت وفق سياق فقه المالكية عن هوية مُتَعِيَة للمرأة مشمولة بالتصورات  الفقهية للعالم الذي يُشَيِّء جسد المرأة ويجعل عملية الإنفاق بما هي استمتاع من قبل الرجل بالجسد الأنثوي تذوب معه الزوجة في حالة العجز أو المرض أو الشيخوخة.
المبحث الثاني: طبيعة نفقة الزوجة: الضوابط الموضوعية
المطلب الأول:  التعريف بالنفقة والسند الفقهي

    □ تجب النفقة على الزوج انطلاقا من الحكم التعبدي المنصوص عليه بالكتاب والسنة والإجماع ، يقول تعالى" ولينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها" (الآية 7 سورة الطلاق)، ويقول أيضا: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم" (الآية 6 من سورة الطلاق)
    وقد روى أبو داوود عن معاوية القشيري قال" أتيت رسول الله (ص) فقلت ما تقول في نسائنا؟ قال :" أطعموهن مما تأكلون واكسوهُنَّ مما تكتسون.."
وقد عزا الفقهاء سبب إنفاق الزوج على زوجته ما تضعه بين يديْ زوجها من استمتاع ولما له عليها من حقوق الاحتباس والطاعة، وقد جاء بشرح مختصر الخليل قوله في باب النفقة" وسقطت إن أكلت معه أو منعت الوطء أو الاستمتاع أو خرجت من غير إذنه"
ويتحقق الاحتباس المبرر للنفقة حسب التفسير الفقهي بمجرد دعوة الزوجة زوجها إلى نقلها بيته بعد إبرام العقد.
    إن هذا الثلاثي : الاحتباس، الاستمتاع والطاعة أصبح في ظل الظروف المستجدة قابلا للنقد ، ولعله ومما يتنافى مع ميثاق عقد الزوجية أن تُختزل هذه العلاقة في المُتعة الجسدية مقابل الغذاء، فمؤسسة الزواج ولما لها من قدسية بكل الشرائع المنزَّلة تجعلنا نستبعد أن يقوم الزواج على ركن الإمتاع وقد يتداخل مفهوم الطاعة والاحتباس بمفهوم الاستمتاع الشيء الذي جعل طاعة الزوجة مرتبطا بالنفقة ومع مرور الوقت انقلبت الطاعة إلى خضوع حُرِِمت فيه الزوجة من إنسانيتها وحقها في المساكنة الزوجية بالمعروف عملا بقوله تعالى: " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن" (الآية 6 من سورة الطلاق)، وقوله أيضا :" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"  (الآية 228 من سورة البقرة).
وإذا كان المذهب المالكي لا مكان فيه للحديث عن إمكانية إلزام الزوجة بالإنفاق عن الزوج كما لا يقول أيضا بسقوط نفقة الزوجة التي تمارس حرفة أو مهنة، يرى الفقه الحنفي الذي استلهمته مدونة الأسرة سقوطها " لأن التسليم – الاحتباس غير تام"(7)
المطلب الثاني:  التعريف بالنفقة والسند القانوني
    فلا جدال مبدئيا في أن نفقة الزوجة لا تعني في مجمل المبادئ الفقهية إلا نفقة الزوج على الزوجة والذي تنص عليه المادة 194" تجب نفقة الزوجة بمجرد البناء، وكذا إذا دعته للبناء بعد أن يكون قد عقد عليها".
    قد اتفقت جل المذاهب الفقهية على وجوب نفقة الزوجة على زوجها ومن ذلك جاءت المادة 199 من مدونة الأسرة الباب الثالث فيما يتعلق بالنفقة على الأولاد والتي نصت على أنه " إذا عجز الأب كليا أو جزئيا عن الإنفاق على أولاده، وكانت الأم موسرة، وجبت عليها النفقة بمقدار ما عجز عنه الأب "، وينتج عن ذلك عدم سماع دعوى الزوجة (التطليق) إذا تزوجت الرجل وهي عالمة بأنه عاجز عن الإنفاق عليها.
وبذلك فقد استجاب المشرع المغربي بشكل فعلي للاتفاقية الدولية التي صادق عليها والمبرمة بنيويورك بتاريخ 16 دجنبر 1966 والتي تنص على المساواة بين الرجال والنساء حسب ما ورد في الفصل 23 منها :" على الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية اتخاذ الخطوات المناسبة لتأمين المساواة في الحقوق – والمسؤوليات- عند الزواج وأثناء قيامه وعند فسخه".
وقد يأتي السند الواقعي ليؤكد " أن المرأة في الواقع (لا القانون) هي صاحبة الولاية على الأولاد بل حتّى على الزوج " (8 )
    إن هذه المادة(199) قد فتحت الباب أمام الزوج المعسر لرفع دعوى ضد زوجته لمطالبتها بالإنفاق إمعانا من المدونة في إقرار المساواة أمام الواجبات بالقدر الذي يتم فيه التساوي في الحقوق، وقد لاحظت ذة. نادية العشيري أن هذه المادة لا توضح المقصود بالعجز ولا مدته واعتبرت أنه وإن كانت قد ضمنت حقوق الأطفال فهي" قد تفتح الباب على مصراعيه أمام أطماع بعض الأزواج ليقع بسببها استغلال النساء أكثر مما هن مستَغَلاّت" (9 )
    ولقد جاء في قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 29 نونبر 1983،أن النفقة مفهوم لا تجب إلا بزواج صحيح شرعا، فإن كان فاسدا فلا نفقة للزوجة لأن الواجب حينئذ الافتراق لا المعاشرة( 10)، ويكون الزواج فاسدا إذا توفرت فيه شروط موانع الزواج التي تنقسم حسب ما جاء في المادة 35 إلى موانع مؤبدة وموانع مؤقتة.
المطلب الثالث- سبب الالتزام بالنفقة
    تنص المادة 194 من مدونة الأسرة على أنه" تجب نفقة الزوجة على زوجها بمجرد البناء، وكذا إذا دعته للبناء بعد أن يكون قد عقد عليها".
إن هذه المادة لا تختلف في جوهرها عن مقتضيات الفصل 117 من مدونة الأحوال الشخصية الذي استعمل مفهوم الدخول والمستوحى أصلا من قول الإمام مالك  الذي يقول" لا تجب النفقة على الزوجة حتى يدخل بها أو يُدعى إلى الدخول بها وهي ممن توطأ وهو بالغ " ( 11).هذا المفهوم المالكي( الدخول) الذي يختلف عن المفهوم الحنبلي المستعمل في مدونة الأسرة (البناء) والذي يُقصد منه الوطء  بحيث يفرق مذهب أبي حنيفة ما بين البناء (الوطء والمواقعة) وما بين الدخول والاختلاء بدون وطء.
وبذلك فقد تكررت نفس أحكام الفصل 117 حيث تستحق الزوجة النفقة بالبناء بها أو بالدعوى إليه من طرفها، وتشترط المادة 194 أن يكون قد تم العقد على الزوجة.
ويعتبر رفض الزوج للدخول دافعا لرفع دعوى النفقة وقد اعتبر المجلس الأعلى في الملف الاجتماعي عدد 69 بتاريخ 8ماي 1970أن المطالبة القضائية بحقوق الزوجة عبر الدعوة إلى الدخول موجبة للنفقة ابتداء من تاريخ المطالبة بالدخول (12 ).
وفعلا فقد عرضت على المحاكم بالمغرب عدة قضايا في هذا الشأن قضت بالنفقة بمجرد المطالبة بالدخول، وما يعاب على هذه المادة (194) كما وقع للفصل 177 من مدونة الأحوال الشخصية هو إغفال ما يستفاد من رأي المالكية القائل بأن الزوجة تستحق الصداق كاملا بعد مرور سنة ابتداء من تاريخ العقد وإن لم يمسسها الزوج وبذلك كان لزاما على المادة 194 أن تنص على فترة معينة (سنة حسب الإمام مالك) تحسبا لانحلال الزوجية لمّا تلجأ الزوجة للاستفادة من حقها في دعوة الزوج للبناء أو طلب النفقة بمجرد العقد عليها (يمكن إن يكون اليوم الموالي للعقد هو يوم المطالبة بالبناء أو النفقة) على اعتبار أن اجتهاد المجلس الأعلى قد اعتبر طلب الدعوة للبناء بمثابة طلب النفقة في حين أن الدعوة للبناء يجب أن تكون سابقة على تاريخ المطالبة بالنفقة.
وعند إغفال الأعراف السائدة والتي تقضي بوجود فترة فاصلة بين تاريخ إبرام العقد وتاريخ البناء تكون غالبا مخصصة من طرف الزوج للاستعداد لحفل العرس أو لكراء سكن وتجهيزه، تكون المادة 194 ناقصة وقد تدفع بالعديد من الزيجات إلى الفشل.
إذ كيف سيكون موقف الزوج وعائلته وهم في غمرة استعدادهم لاستقبال الزوجة بين أحضانهم والزوجة ترفع دعوى قضائية على الزوج لطلب النفقة؟.
    لا شك أن العقلية المغربية ستتعامل مع هذا الموقف بحساسية شديدة ينتهي معها مصير هذا الزواج، فيكون جواب الزوج في مرافعته بأن المدعية طالق حسب ما جاء كتابة بمذكرة جوابه الأولى، وبذلك يقع الطلاق وفق المادة 92 التي تنص على أن الطلاق لا يقع إلا مرة واحدة " الطلاق المقترن بعدد لفظا أو إشارة أو كتابة لا يقع إلا مرة واحدة" .
وبذلك تستحق الزوجة نصف الصداق المسمى حيث يقع الطلاق قبل البناء انطلاقا من المادة32 من مدونة الأسرة.
ونظرا لما يمكن أن تثيره دعوة الزوجة من بغضاء وكراهية يُزكيها المخيال الشعبي ببلادنا /المغرب/على مستوى إنتاج المثل الشعبي الذي يقول " ما درنا في الطاجين ما يتحرق"حيث اللجوء إلى القضاء يعتبر كآخر مرحلة تستنفذ فيها كل محاولات الصلح المتعارف عليه، فقد جانب المشرع الصواب عندما جمع في المادة 78 الحكم بإنهاء عقد الزواج بالطلاق في حالة إقراره قبل البناء بنفس المسطرة المتبعة لإنهاء عقد الزواج بالطلاق بعده  تنص هذه المادة على أن "الطلاق حل ميثاق الزوجية، يمارسه الزوج والزوجة، كل بحسب شروطه تحت مراقبة القضاء وطبقا لأحكام هذه المدونة" والإحالة هنا للقسم الثالث( الطلاق) من المادة 78 إلى المادة 93، هذا بالرغم من أن الطلاق قبل البناء يعتبر بائنا جاء ذلك بالفصل 67 من مدونة الأحوال الشخصية كما جاءت به المدونة الجديدة في المادة 122 التي تنص " كل طلاق قضت به المحكمة فهو بائن ، إلا في حالتي التطليق للإيلاء وعدم الإنفاق" و المادة 123 التي تنص " كل طلاق أوقعه الزوج فهو رجعي، إلا المكمل للثلاث والطلاق قبل البناء والطلاق بالاتفاق والخلع والمملك" و المادة 126 التي تنص كذلك على أن " الطلاق البائن دون الثلاث يزيل الزوجية حالا ولا يمنع من تجديد عقد الزواج " وحيث لا تلزم العدة قبل البناء كذلك حسب ما جاء بالمادة 130 من المدونة.
يظهر من خلال هذه المعطيات أن المدونة لم تتحرر بشكل كامل من أثر مفهوم الاستمتاع الجنسي حيث وُثّقت سابقا العلاقة الزوجية باسم (عقد النكاح).أما وهي حاليا تستعمل عقد الزواج بمعناه التعاقدي فما تزال تحمل أثر العقد الأول.
    - فما معنى ألاّ تُعطى للمطلقة قبل البناء متعة ؟
وقد تطرق ذ.أحمد زوكاغي إلى أن متعة المطلقة قبل البناء هي النصف الآخر من الصداق المسمى يقول: " وما دامت المطلقة قبل الدخول يجب لها نصف الصداق، فإن متعتها في النصف الآخر من الصداق المسمّى"( 13)، ويتم الاستشهاد في ذلك بقوله تعالى" يا أيها الذين آمنوا، إذا نكحتم المومنات، ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فمالكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتّعوهن وسرّحوهن سراحا جميلا"( الآية 49 من سورة الأحزاب) وقوله أيضا" لا جناح عليكم إن طلقتم النساء، ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتّعوهن، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، متاعا بالمعروف، حقا على المحسنين" ( الآية 236 من سورة البقرة)، ولهذا أنا مع رأي ذ.أحمد زوكاغي الذي يقول بتمتيع الزوجة قبل البناء حيث يقول " تستحق الزوجة المطلقة المتعة إذا كان زوجها قد طلقها قبل الدخول وقبل أن يحدد صداقا معينا معلوما" (14 ).  
    إن المدونة في المادة 194 ومدونة الأحوال الشخصية في الفصل 177 قد أخذتا بالمذهب الظاهري (ابن حزم) الذي يقول بوجوب النفقة على الزوجة بمجرد العقد عليها بل إن " عقد الزواج عندهم هو سبب النفقة" (15 ).
المبحث الثاني: طبيعة نفقة الزوجة: الضوابط الإجرائية
المطلب الأول: مشتملات النفقة
     نصت المادة 189 من مدونة الأسرة على انه" تشمل النفقة الغذاء والكسوة والعلاج ، وما يعتبر من الضروريات والتعليم للأولاد مع مراعاة أحكام المادة 168 أعلاه" .
وقد أضافت المادة 168 اعتبار السكن من حق المحضون عندما اعتبرت تكاليف سكنى المحضون مستقلة في تقديرها على النفقة وأجرة الحضانة وغيرهما".
    إن هذه المادة قد نصت صراحة على إخراج تكاليف سكنى المحضون من مشمولات النفقة وأجرة الحضانة وغيرها وأوجبت أن تكون مستقلة في تقديرها عن هذه الالتزامات.فعلى الأب واجب تهيئ محل لسكنى أبنائه أو أدائه مبلغ الكراء حسبما تقرره المحكمة مع مراعاة أحكام المادة 191 التي تنص على " تحدد المحكمة وسائل تنفيذ الحكم بالنفقة، وتكاليف السكن على أموال المحكوم عليه، أو اقتطاع النفقة من منبع الريع أو الأجر الذي يتقاضاه، وتقرر عند الاقتضاء الضمانات الكفيلة باستمرار أداء النفقة.."
المطلب الثاني: إثبات النفقة وتقديرها
ترفع الزوجة دعوى النفقة في حالتين:
الحالة الأولى:
 إذا كانت الزوجة ببيت الزوجية.
الحالة الثانية:
إذا كانت الزوجة بمنزل والديها مع أبنائها في حالة إثبات النفقة.
وقد استقر القضاء المغربي على اعتبار إقرار الزوج باليمين ثابت في حالة قيام الزوجية وقد جاء ذلك في القرار الصادر في 26غشت 1978 بمجلة المجلس الأعلى أنه " في حالة قيام الزوجية، القول قول الزوج الحاضر مدعي الإنفاق بيمينه.."(16)
    أما في الحالة الثانية ومع استحالة إثبات الزوج إدعاءه الإنفاق على زوجته بمنزل والديها فقد اعتبر القضاء القول قول الزوجة مع يمينها، جاء ذلك في القرار الصادر في 14 فبراير 1978 الذي يقول " ما دام أن الزوجة التي تطالب بالنفقة كانت بمنزل والديها مع أبنائها ولم يثبت الزوج إدعاءه الإنفاق فإن القول قولها مع يمينها" (17 ) ، ويقول الإمام التسولي معلقا على ابن عاصم في تحفته :" ..ومفهوم من يغب أن الحاضر يكون القول قوله..وإنما كان القول قوله حيث كان حاضرا أو غائبا ولم ترفع لأنها في حوزه..وإذا كانت في غير داره وحوزه فالقول قولها" (18 ).
وقد مكن المشرع الزوجة في الفرع الثاني من الباب الثاني المعنون بعدم الإنفاق المادة 102 وفي حالة إمساك الزوج عن الإنفاق من تقديم طلب التطليق لعدم الإنفاق لقوله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" ( الآية 229 من سورة البقرة)، إلا أن الإمساك بالمعروف يتضمن الإنفاق بخلاف الإمساك مع الامتناع الذي يلحق ضررا بالزوجة والاعتداء على حقوقها الشرعية.
وتتحدث المادة 102 عن ثلاث حالات:
الحالة الأولى:
    لاتستجيب فيها المحكمة لطلب التطليق إذا كان للزوج مال ظاهر حيث أن المحكمة تلقائيا تتولي تحديد طريقة تنفيذ النفقة بدون تقديم طلب في الموضوع كالأمر بالاقتطاع من الراتب (موظف) أو الأمر بتحويل مبلغ النفقة من ريع الزوج أو من حساب بنكي إلى مستحقي النفقة، ويدعم هذه الحالة على المستوى الفقهي الحديث الشريف الذي يؤكد شرعية ووجوب نفقة الزوجة على زوجها ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن هندا زوجة أبي سفيان قالت يا رسول الله : إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال:" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" .
وتعتمد المحكمة في تقدير النفقة على تصريح كل من الزوج والزوجة المدعم بالحجج والوثائق.
وإذا كانت القاعدة الفقهية تعتمد في تقدير النفقة على الوضعية المادية للزوج انطلاقا من قوله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته" فالمذهب المالك قد راعى حالة الزوجة كذلك يقول الإمام التسولي في ذلك " والنفقة بقدر ُسعه وحالها" ( 19)
وقد جاء في المادة 189 في جانب مشملات النفقة وتقديرها ما يلي " تشمل النفقة الغذاء والكسوة والعلاج، وما يعتبر من الضروريات والتعليم للأولاد.." مع مراعاة أن يكون السكن مستقلا عن النفقة.
و يراعى في تقدير كل ذلك، التوسط ودخل الملزم بالنفقة، وحال مستحقها، ومستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة في الوسط الذي تفرض فيه النفقة".
الحالة الثانية:
    نظرا للطابع المعيشي للنفقة فإن تنفيذها يكون بقوة القانون فحسب المادة 190 من مدونة الأسرة " يتعين البث في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل أقصاه شهر واحد" ومن ذلك ما نصت عليه الفقرة الثانية من الفصل 179 من قانون المسطرة المدنية على أنه" يبث في طلبات النفقة على شكل استعجالي وتنفذ الأوامر في هذه القضايا رغم كل طعن".
ونظرا للطابع الاستعجالي للنفقة فإذا أثبت الزوج عسره تمهله المحكمة مدة لا تتعدى شهرا واحدا حتّى يتسنى له الحصول على ما ينفق به على زوجته فإن عجز عن الإيفاء بذلك طلقت عليه المحكمة زوجته إلا في وجود ظرف قاهر واستثنائي وهي حالات تدخل في تقدير المحكمة.
إن لجوء المحكمة إلى التطليق في حالة فقد الزوج لعمله خلال شهر واحد تحتاج إلى إعادة نظر.
    - فكيف سيجد الزوج عملا آخر خلال شهر ونحن نعيش أزمة اجتماعية موسومة بندرة مناصب الشغل مع الارتفاع المهول لطالبيه؟.
قد يكون تطبيق القانون في هذه الحالة مضرا بوضعية كافة أفراد الأسرة،     - فهل ستجد الزوجة حلا مباشرا للإنفاق بمجرد حصولها على قرار المحكمة القاضي بتطليقها؟؟.
الحالة الثالثة: (المادة 102)
    تستجيب فيها المحكمة بشكل فوري لدعوى التطليق لعدم الإنفاق دون إعطاء الزوج مهلة كما بالحالة الثانية،إذا كان الزوج موسرا وامتنع عن أداء النفقة أو ادعى أنه معسر ولم يثبت ذلك وأصر على عدم الإنفاق في مرحلة الصلح.
أما المادة 103 فتؤكد تطبيق نفس أحكام المادة 102 على الزوج الغائب في مكان معلوم وتوصل بمقال الدعوى، أما إذا كان محله مجهولا وتأكدت المحكمة من ذلك بواسطة النيابة العامة ومن صحة دعوى الزوجة، تبث في الدعوى على ضوء نتيجة البحث ومستندات الملف.
المطلب الثالث: سقوط النفقة عن الزوج ووقفها.
    تسقط نفقة الزوجة في مدونة الأحوال الشخصية كما ينص الفصل    123في الحالات التالية:
-بوفاة الزوج
- بالإبراء منها.
- بخروج المطلقة رجعيا من بيت عدتها بدون عذر ولا رضى زوجها"، على اعتبار أن نشوز الزوجة لا يسقط نفقتها إلا إذا حُكم عليها بالرجوع لبيت الزوجية وامتنعت حسب ما جاء بالمادة 195.
    فنفقة الزوجة كما يقول ذ.خالد بنيس " واجبة عمليا منذ إبرام عقد النكاح، هذا الوجوب الذي يلازم الزوج إلى أن يموت أحد الزوجين أو تنتهي عدة الطلاق" (20 )
وقد نجد في العديد من تشريعات الدول العربية تنصيصا على سقوط نفقة الزوجة بمجرد النشوز إلا في حالة الحمل لكونها تحمل من زوجها جنينا.
    إن النفقة دين لا يسقط بالتقادم وقد وصفه ذ.محمد الكشبور بكونه " لا يمكن أن يكون موضوعه محلا لعقد صلح" (21 )، وبذلك جاء المشرع بالمادة 119 التي تنص على أنه " لا يجوز الخلع بشئ تعلق بحق الأطفال أو بنفقتهم إذا كانت الأم معسرة  وقد احتوت المادة 119 ما اهتم به المنشور الوزاري عدد 5/61 الصادر بتاريخ 6 يناير 1961 في موضوع " التزام المختلعات المعسرات بنفقة الأولاد" .( المرفق رقم 1).
 وقد جاء في الفصل 1102 من قانون الالتزامات والعقود أنه " لا يجوز الصلح على حق النفقة، وإنما يجوز على طريقة أدائه أو على أداء أقساطه التي استحقت فعلا" بالرغم من أن المجلس الأعلى في الملف الاجتماعي عدد 81413 قد تمسك بتطبيق الفصل 1112 لإبعاد لفيف يثبت صلحا تم بين زوجين بخصوص النفقة ( 22).
وقد تطرق ذ.أحمد الخمليشي إلى أسباب سقوط النفقة فأخلص إلى أنه " إذا كانت النفقة تجب من الدخول أو الدعوة إليه إلى الوفاة أو الطلاق البائن بالنسبة لغير الحامل ، وإلى وضع الحمل أو انتهاء عدة الطلاق الرجعي، فقد تحدث أسباب تسقطها خلال فترة الوجوب السالف الذكر، أو تقف أداءها دون أن تسقط من ذمة الزوج" (23 ).
ويمكن حصر أسباب سقوط النفقة عن الزوج في حالة إعساره، فقد جاء بالمادة 199 ما يفيد وجوب النفقة على الزوجة بمقدار ما عجز عنه الأب حفاظا على مصلحة الأطفال من الضياع، تنص المادة على أنه " إذا عجز الأب كليا أو جزئيا عن الإنفاق على أولاده ، وكانت الأم موسرة، وجبت عليها النفقة بمقدار ما عجز عنه الأب " .
وتصبح الزوجة إثر هذا النص الجديد معرضة لأن يطبق عليها حكم إهمال الأسرة بموجب ما جاء في المادة 202 التي تنص على أن " كل توقف ممن تجب عليه نفقة الأولاد عن الأداء لمدة أقصاها شهر دون عذر مقبول ، تطبق عليه أحكام إهمال الأسرة".
المطلب الرابع: دائرة وجوب النفقة بالقرابة
    خصص القسم الثالث الموسوم بالنفقة الفرع الثاني مادتين لنفقة الأبوين وهما المادة 203والمادة 204، تنص المادة الأولى على أنه توزع نفقة الآباء على الأبناء عند تعدد الأولاد بحسب يسر الأولاد لا بحسب إرثهم"  إن النفقة من بين الموضوعات التي تثير نقاشات عميقة بالقضاء الأسري نظرا لطابعها المرتبط بالواقع الاجتماعي والاقتصادي للمتقاضين ، وبين اتساع دائرة وجوب النفقة وتوسيعها إلى الأسرة الممتدة تبقى نفقة الأسرة النواة هي المستقطبة لوجهة نظر المشرع الشيء الذي يجعل الملزم بالنفقة بين مطرقة نفقة الزوجة والأولاد وسندان نفقة الأقارب ونفقة نفسه،

 - فكيف يتصرف المُلزم بالنفقة في حالة اجتماع الأطراف المستحقة للنفقة وهو لا يملك إلا نفقة نفسه؟؟
لقد توصل الاجتهاد الفقهي في مسألة ترتيب استحقاق النفقة بين الأقارب ما جاء به الزرقاني يقول " ومن له أب وولد فقيران وقدر على نفقة أحدهما.فقيل يتحاصان وقيل يقدم الأب..وقيل يقدم الابن..وتقدم الأم على الأب والصغير من الولد على الكبير، والأنثى على الذكر عند الضيق، فلو تساوى الولدان صغرا وكبرا وأنوثة تحاصّا" (24 ).
فمفهوم النفقة ونظرا لمرونته وطبيعة دخل المتقاضين تجعل أمر التعامل مع النص أمرا قد يضر بمصالح الملزم بالنفقة من باب عجزه عن نفقة نفسه، تنص المادة 188 على أنه " لا جب على الإنسان نفقة غيره إلا بعد أن يكون له مقدار نفقة نفسه.."
وتطبيقا للمبدأ لمعروف في الشريعة وهو" إذا اجتمع ضرران ارتكب أخفهما" فكيف لمن له مقدار نفقة نفسه أن نلزمه بالنفقة على الغير في وجوهها الثلاث: الزوجية والقرابة والالتزام (المادة 187).
وقد افترضت المادة 188 مبدأ افتراض ملاءة ذمة الملزم بها، حتّى يثبت العكس ، أي التسليم بقدرته على أدائها حتّى يثبت ادعاؤه العجز عنها .
-    فكيف السبيل إلى إثبات العجز لمن يتقاضى شهريا الحد الأدنى للأجور وعلى  افتراض أنه موظف ؟
-    كيف يمكن للقضاء أن يبث في ملف اجتماعي ضُم فيه ملفين للمطالبة بالنفقة : واحد من طرف الزوجة والآخر من طرف الأم؟
لمن تُعطى الأسبقية والأم فقيرة عاجزة والزوجة لها نفقة نفسها فقط والنص غير صريح إلا ما يفهم من تقديم المادة 197 وجوب النفقة على الوالدين قبل الأولاد كترتيب ضمني توحي به هذه المادة التي تنص على أن " النفقة على الأقارب تجب على الأولاد للوالدين وعلى الأبوين لأولادهما طبقا لأحكام هذه المدونة."  
أما بالنسبة للملزم بالنفقة فتنص المادة 205 ووفقا لمبدأ " من التزم بشيء لزمه" على أن " من التزم بنفقة الغير صغيرا كان أو كبيرا لمدة محدودة لزمه ما التزم به ولا تسقط عنه إلا بالعجز أو الوفاة".
وقد استفردت مدونة الأسرة عن باقي القوانين التي تطرقت لقضايا الأسرة بالتنصيص على نفقة الأولاد المعاقين والعاجزين عن الكسب حتّى تسقط عن الأب بوفاته تنص المادة 198 على "..ويستمر إنفاق الأب على أولاده المصابين بإعاقة والعاجزين عن الكسب"
المبحث الرابع: الضوابط القانونية السوسيولوجية للحضانة
المطلب الأول: التعريف بالحضانة والسند الشرعي والقانوني

    □ عرفت المادة 163 من مدونة الأسرة الحضانة بقولها " الحضانة حفظ الولد مما قد يضره، والقيام بتربيته ومصالحه"، إن الحضانة تثار كإشكالية عندما تنفصم الرابطة الزوجية وهي باعتبارها نتيجة طبيعية لتلك الرابطة يكون الأبوان ملزمان بها قانونيا واجتماعيا، ولا تظهر المشاكل المرتبطة بالحضانة بقوة إلا مع انحلال تلك الرابطة عن طريق الطلاق حيث يستلزم الأمر تعيين من له الحق في الحضانة وتحديد مشمولاتها  وقد جمع ذ. محمد الكشبور بين أثر الحضانة بما هي من آثار الزواج والطلاق على السواء يقول: " إن الحضانة أثر من آثار الزواج لكنها أثر من آثار الطلاق أيضا" (25 ).
وقد أشارت المادة 163 على الواجبات المتوفرة في الحاضن حيث نصت أنه " على الحاضن، أن يقوم قدر المستطاع بكل الإجراءات اللازمة لحفظ المحضون وسلامته في جسمه ونفسه، والقيام بمصالحه في حالة غيبة النائب الشرعي وفي حالة الضرورة إذا خيف ضياع مصالح المحضون"
وقد روي عن الرسول (ص) أن امرأة جاءته وقالت: يا رسول الله هذا ابني، كان له بطني وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء، وأن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال رسول (ص) أنت أحق به ما لم تتزوجي" أخرجه أحمد وأبو داوود والبيهقي.
وعند الرجوع إلى الكتب الفقهية نجد أن مفهوم الحضانة قد أخذ أشكالا متعددة تبتدئ، أولا: العناية بإعداد طعام الصغير وتنظيف جسمه وثيابه وفراشه، مع السهر على حمايته من تعريض نفسه للأخطار الجسدية والصحية التي يمكن أن يقع فيها، وهذا ما تتطلبه السنوات الأولى من ولادته.
ثانيا: العناية بالصغير في تربيته وإعداده للحياة المستقبلية عن طريق التعليم ومعرفة أسباب الكسب المختلفة.
ثالثا: الحماية الخاصة بالفتاة من الاعتداء عليها جنسيا وصيانتها.
    إن ما يطرحه التعريف الفقهي للحضانة هو مجمل اقتصاره على العناية المادية لما يحتاج إليه الصغير، وقد اتفق عموم الفقهاء عند إسناد الحضانة للام وما يليها من النساء، يقول ابن عاصم الغرناطي:
وصرفها للنساء أليق   *   لأنهن في الأمور أشفق
    وقد أعادت مدونة الأسرة ترتيب مستحقي الحضانة بالمادة 171 التي " تخول الحضانة للام ثم للأب ثم للام الأم" وقد أعطت المدونة لعنصر الولاية الشرعية أهمية جعلتها موازية لعنصر الحضانة بحيث جعلت الأب في المرتبة الثانية كحاضن بدل المرتبة السادسة بمدونة الأحوال الشخصية، وذلك راجع إلى أن الحضانة تفترض قرينة نفسية كالشفقة من الواجب توفرها في الحاضن  يقول ذ.محمد الكشبور" والوصي مقدم على سائر العصبات وهم الحاضنون الذكور باستثناء الأب الذي له الولاية على المحضون وهي نيابة شرعية أقوى من الوصاية" ( 26).
ولهذا نتساءل من جديد عن المقاييس التي جعلت الفصل 99 من م.أ ش.يعتبر" الحضانة من واجبات الأبوين ما دامت الزوجية قائمة بينهما .." وحرمان الأب من الحضانة إذا ما انفكت الزوجية وقد تنفك بالطلاق أو بوفاة الزوجة ليبقى مصير الأطفال مجهولا وهم ينتقلون إلى موطن آخر تنعدم فيه شروط التمدرس .و.. خاصة وأن الحضانة تخرج من بين يدي الأب لتستقر حسب الفصل المذكور إلى «...فإذا انفكت فالأم أولى من حضانة ولدها من غيرها ثم أمها ثم أم أمها ثم أخت أمها الشقيقة ثم التي للام ثم للأب..." .
المطلب الثاني: شروط الحضانة .
    تتحدث المادة 173 من المدونة عن شروط استحقاق الحضانة وأسباب سقوطها في الشروط التالية"1-  الرشد القانوني لغير الأبوين، 2- الاستقامة والأمانة 3- القدرة على تربية المحضون وصيانته ورعايته دينا وصحة وخلقا وعلى مراقبة تمدرسه، 4- عدم زواج طالبة الحضانة إلا في الحالات المنصوص عليها في المادتين 174 و175 بعده" وبذلك تخلصت المدونة من التصور الذي يجعل الحضانة مُناطة بشخص فاقد الإدراك والتمييز أو بصبي (أخت الأم الشقيقة) يحتاج هو نفسه إلى الرعاية والتربية والصيانة.
وقد جاء في المغني لابن قدامى المقدسي " لا تثبت الحضانة لطفل ولا معتوه لأنه لا يقدر عليها وهو يحتاج إلى من يكفله فكيف يكفل غيره" (27 ).
ويلحق بالشرط الثالث من المادة 173 أن يكون الحاضن متدينا بدين أبي المحضون وبالتالي إذا كان الأب مسلما لا يجوز أن يكون الحاضن غير مسلم وقد قال عن ذلك ابن قدامى المقدسي " ...إنها ولاية فلا تثبت لكافر على مسلم، كولاية النكاح والمال، ولأنها إذا لم تثبت للفاسق فالكافر أولى لان ضرره أكثر فإنه مجتهد في إخراجه عن دينه، ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر وتربيته له وهذا أعظم الضرر، والحضانة إنما تثبت لحفظ الولد، فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه" (28 ).
وعندما أسقطت المادة 173 الشرط الخامس الذي جاء به الفصل 99 من مدونة أ.ش. " السلامة من كل مرض معدي أو مانع من قيام الحاضن بالواجب "
    - فهل اعتبرت المدونة الأعمى (مثلا) أو المريض بالسرطان قادرا على تربية المحضون وصيانته؟
المطلب الثالث: أسباب سقوط الحضانة
    نصت المدونة  في المادة 175 على سقوط الحضانة عن الأم التي يصعب على مستوى التطبيقي تنفيذه وقد تطرق ذ.محمد الكشبور لذلك عندما قال :" نجد أن المشرع أدخل على مضمون النص تعديلات يصعب معها – إن لم نقل يستحيل- من الناحية القانونية إسقاط الحضانة عن الأم رغم زواجها" ( 29)
تنص هذه المادة على أن زواج الحاضنة الأم، لا يسقط حضانتها إلا في الأحوال الآتية:
    إذا كان المحضون صغيرا لم يتجاوز سبع سنوات ، أو يلحقه ضرر من فراقها .
     إذا كانت بالمحضون علة أو عاهة تجعل حضانته مستعصية على غير الأم.
    إذا كان زوجها محرما أو نائبا شرعيا للمحضون.
    إذا كانت نائبا شرعيا للمحضون ".
ومن ضمن المستجدات التي أتت بها المدونة الجديدة هي التنصيص على عدم سقوط الحضانة بانتقال الحاضنة إلى بلدة أخرى داخل المغرب مع مراعاة مصلحة المحضون، بعكس الانتقال خارج المغرب الذي يسقط الحضانة إلا إذا وافق نائبه الشرعي.
ويأتي بمدونة الأسرة عرضا ما يستفاد من عدم تجزيء موضوع الحضانة إذ مع تعدد الأطفال لا يحق لطالب الحضانة أن يطلب حضانة البعض دون الآخر ، وقد تكون - في حالات غير قليلة معروضة على المحاكم- الحاضنة غير قادرة على حضانة كل الأطفال عند تعددهم لسبب من الأسباب المادية أو المعنوية التي تتطلب التوجيه والمراقبة.
وقد أثار ذ.احمد الخمليشي موضوعا مهما جديرا بالمناقشة تتعلق بتوزيع الحضانة بين الأبوين مثلا في حالة تعدد الأولاد يقول " يرضي عاطفتهما الأبوية معا ويحول دون التجاء كل واحد منهما إلى الطعن في سلوك وأخلاق الآخر للوصول إلى حرمانه من الحضانة" (30 ).
وإسناد مدونة الأسرة على قاعدة عدم تجزيء موضوع الحضانة غير مبني على نص في كتاب أو سنة وإنما يستند في ذلك إلى القياس يقول الفقيه الرهوني " أخذ الأئمة مسائل من الحضانة من مسائل من الشفعة" وقال الوانوغي " وشفيع ذلك كله واحد وليس له إلا أن يأخذ الجميع أو يسلم ..أخذ منها أن من له حضانة متعدد انه ليس له اخذ البعض دون البعض" (31 ).
وقد أضم رأيي إلى تساؤل ذ.الخمليشي الذي استفسر فيه عن العلاقة بين حضانة الطفل من احد أبويه وبين رغبة الشريك في ضم الجزء الذي باعه شريكه من المال المشترك.
 المبحث الخامس : مواد تدخل النيابة العامة فيما يتعلق بالنفقة والحضانة لتقوية الطابع الإجرائي لأحكام لمدونة الأسرة.

الاختصاصات المواد
تعتبر النيابة العامة طرفا أصليا في القضايا المتعلقة بمدونة الأسرة المادة 3
إذا قام أحد الزوجين بإخراج الآخر من بيت الزوجية دون مبرر تدخلت النيابة العامة من اجل إرجاع المطرود إلى بيت الزوجية حالا، مع اتخاذ الإجراءات الكفيلة بأمنه وحمايته. 53
تسهر النيابة العامة على تنفيذ الأحكام المتعلقة بحقوق الأطفال 54
عند التطليق لعدم الأنفاق، إذا كان محل غيبة الزوج مجهولا، تأكدت المحكمة بمساعدة النيابة العامة من ذلك، ومن صحة دعوى الزوجة، ثم تبت في الدعوى على ضوء نتيجة البحث ومستندات الملف. 103
إذا لم يوجد بين مستحقي الحضانة من يقبلها، أو وجد ولم تتوفر فيه الشروط، رفع من يعنيه الأمر أو النيابة العامة الآمر إلى المحكمة، لتقرير اختيار من تراه صالحا من أقارب المحضون أو غيرهم، وإلا اختارت إحدى المؤسسات المؤهلة لذلك 165
يجب على الشاب وأم المحضون والأقارب وغيرهم، إخطار النيابة العامة بكل الأضرار التي يتعرض لها المحضون لتقوم بواجبها للحفظ على حقوقه،بما فيها المطالبة بإسقاط الحضانة. 177

يمكن للمحكمة بناء على طلب من النيابة العامة، أو النائب الشرعي للمحضون، أن تضمن في قرار إسناد الحضانة، أو في قرار لاحق، منع السفر بالمحضون إلى خارج المغرب، دون موافقة نائبه الشرعي.
تتولى النيابة العامة تبليغ الجهات المختصة مقرر المنع، قصد اتخاذ الاجراءات اللازمة لضمان تنفيذ ذلك.

179

خاتمة:
    إن ضرورة تغيير مدونة الأحوال الشخصية جاء ليؤكد على دلالة حدة الجدل القائم بين الواقع والقانون وإبراز دور القانون في التأثير على الواقع الاجتماعي باعتباره كذلك يماشي الواقع ، وقد تطرق ذ.إدريس اجويلل لما اتسمت به مدونة الأسرة الجديدة من انفتاح على محيطها العالمي والجهوي والمحلي عندما قال " هكذا إذن جاءت مدونة الأسرة الجديدة في سياقها الواقعي والتاريخي والمجتمعي لتؤسس لثقافة جديدة داخل الأسرة المغربية دون إغفال هويتنا وثقافتنا وخصوصياتنا التاريخية" (32 ).
    كما أن اعتبار قضايا الأسرة قانونا وضعيا بدخولها كنص قانوني قبة البرلمان قد رفع عنها القدسية حيث استلهمت العمق الحضاري للمحيط العالمي والواقع المعيشي الذي يمس كل مكونات الأسرة المغربية بسبب الاحتكام إلى الإطار العالمي الذي أصبح المغرب إثره مُلزما باحترام الاتفاقيات الدولية دون إغفال أن المدونة ما تزال ترفل بتألقها من داخل المرجعية الإسلامية.

 

المرفقات

  1. منشور عدد 5/61
  2. قرارات المجلس الأعلى (مجلة قضاء المجلس الأعلى ) الأعداد رقم: 57-58، 59-60، 61

المراجع

    1. محمد الصغير جنجار، الجمعيات النسائية وقضية تعديل مدونة الأحوال الشخصية، مجلة مقدمات ، عدد رقم 3،مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء سنة 2002 ص: 33.
    2.  منبر الجامعة، ذ.رحمة بورقية، الجوانب الاجتماعية في قانون مدونة الأسرة، " مدونة الأسرة المستجدات والإبعاد" منشورات جامعة المولى إسماعيل ، العدد 5، سنة 2005 ص: 21.
  1. منبر الجامعة ، نفس المرجع السابق ص: 23.
  2. نفس المرجع السابق ص:23.
  3. تعريف  الجندر تعريف  الجندر بالموسوعة البريطانية (موقع الموسوعة البريطانية : Encyclopédie Britannique على شبكة الانترنت)

أصل المصطلح هو الكلمة الانجليزية "Gander"، وتعرف الموسوعة البريطانية الهوية الجندرية "Gander Identité" بأنها: شعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى وفي الأعم الأغلب فإن الهوية الجندرية تطابق الخصائص العضوية، لكن هناك حالات لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافق بين الصفات العضوية وهويته الجندرية (أي شعوره الشخصي بالذكورة أو الأنوثة)… وتواصل التعريف بقولها: "إن الهوية الجندرية ليست ثابتة بالولادة - ذكر أو أنثى -بل تؤثر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهوية الجندرية وهي تتغير وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية كُلّما نما الطفل"

أما منظمة "الصحة العالمية" فتعرف الجندر بأنه: "المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية" بمعنى أن كونك ذكراً أو أنثى عضوياً ليس له علاقة باختيارك لأي نشاط جنسي قد تمارسه فالمرأة ليست إمرأة إلا لأن المجتمع أعطاها ذلك الدور، ويمكن حسب هذا التعريف أن يكون الرجل امرأة.. وأن تكون المرأة زوجاً تتزوج امرأة من نفس جنسها وبهذا تكون قد غيرت صفاتها الاجتماعية وهذا الأمر ينطبق على الرجل أيضاً.

  1. انظر محمد الصغير جنجار، المرجع السابق ص: 35.
  2.  حاشية بن عابرين ، الجزء الثاني ص: 647.
  3.  ذ.خالد بنيس " النفقة بين الواقع والتشريع" دار نشر المعرفة ،الرباط الطبعة الأولى،سنة 1992 ص: 29.
  4. منبر الجامعة ،ذة. نادية العشيري، مفهوم المساواة بين الجنسين في مدونة الأسرة" نفس المرجع السابق ص: 88- 89.
  5.  قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 29 نونبر 1983 المنشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 35-36 ص:  105.
  6. ابن رشد القرطبي " بداية المجتهد ص: 41.
  7. الملف الاجتماعي عدد 69 بتاريخ 8 ماي 1970 ، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 21 ص: 18.
  8. د. أحمد زوكاغي " الطلاق حسب الصيغة الحالية لمدونة الأحوال الشخصية" مطبعة الأمنية ، الرباط ، الطبعة الأولى سنة 1994، ص: 109.
  9. د. أحمد زوكاغي ، نفس المرجع السابق ص: 109.
  10. ذ.خالد بنيس " النفقة بين الواقع والتشريع" مرجع سابق ،ص: 11.
  11. قرار عدد 26غشت 1978 عدد 29 ص: 125.وكذا القرار الصادر في 14 دجنبر 1982 بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 31 ص: 83.
  12. قرار صادر في 14 فبراير 1978 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 26 ص: 140.
  13. شعر ابن عاصم:
  14. ومن يغب عن زوجه           *  نفقة لها وبعد أن رجع

         ناكرها في قولها في الحين  *  فالقول قوله مع اليمين

  1. الإمام التسولي ، شرح التحفة، دار الفكر،ص: 390.
  2. ذ.خالد بنيس " النفقة بين الواقع والتشريع" دار نشر المعرفة ، الرباط الطبعة الأولى سنة 1992 ص: 83.
  3. د.محمد الكشبور ط"الوسيط في قانون الأحوال الشخصية" مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء الطبعة الرابعة، سنة 1999 ص: 249-250.
  4. قرار رقم 168 صادر في 28 أبريل 1980 في الملف الاجتماعي عدد 81413، أخذا عن ذ. محمد الكشبور ، مرجع سابق ص: 249.
  5. د.أحمد الخمليشي " التعليق على قانون الأحوال الشخصية " الجزء الثاني ، دار نشر المعرفة، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1994 ص: 223.
  6. شرح الزرقاني عبد الباقي، مطبعة محمد أفندي ،مصر ، الجزء الرابع، الصفحة: 259.
  7. منبر الجامعة ، د.محمد الكشبور، " الحضانة في مشروع مدونة الأسرة" نفس المرجع السابق ص: 52.
  8. د. محمد الكشبور " الوسيط في قانون الأحوال الشخصية" مرجع سابق ص: 468.
  9. المغني لابن قدامى المقدسي، الجزء التاسع الطبعة الثالثة، القاهرة، سنة 1367ه ص: 173
  10. ابن قدامى المقدسي، المرجع السابق، ص: 138.
  11. منبر الجامعة ، ذ.محمد الكشبور ، ص: 54.
  12. ذ.احمد الخمليشي " التعليق على قانون الأحوال الشخصية" مرجع سابق ،ص: 148.
  13. حاشية الرهوني على الزرقاني ، الجزء الرابع ص: 263
  14. منبر الجامعة، ذ.إدريس اجويلل ، مستجدات مدونة الأسرة في مجال مسطرة الشقاق بين الزوجين، نفس المرجع السابق ص: 75.

 

Partager cet article
Repost0
27 avril 2022 3 27 /04 /avril /2022 20:37
مجلة دفاتر الاختلاف

مجلة دفاتر الاختلاف

حقيقة المرأة العربية بين العصر الجاهلي والعصر الاسلامي

د. ادريس عبد النور

دراسة محكمة

أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فرع مكناس /المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية و علوم التربية والنقد الأدبي النسائي

Abdennour.driss@gmail.com

الكلمات المفاتيح: المرأة العربية، العصر الجاهلي، العصر الاسلامي، التشريع الاسلامي، الحقوق الانسانية،

ملخص

لقد حازت المرأة على اهتمام التشريع الإسلامي، فقد تطرق القرآن الكريم للكثير من شؤونها وبالعديد من السور التي بلغت عشر سور هي : سورة النساء ، الطلاق، البقرة ، المائدة ، النور، الأحزاب، المجادلة ، الممتحنة والتحريم.
إن هذه العناية تدل بقوة على المكانة التي تحظى بها المرأة في التشريع الإسلامي ، فقد أعلى الإسلام من قدرها في مجتمع كان يستعبدها ويئدها فرد لها الحق في الحياة وأقر لها حقوقا لم يكن يستسيغها المجتمع الجاهلي قبلا.


Mots-clés : femmes arabes, ère préislamique, ère islamique, législation islamique, droits de l'homme,

résumé

Les femmes ont attiré l'attention de la législation islamique, car le Saint Coran aborde bon nombre de ses affaires et dans bon nombre des dix chapitres : Sourate al-Nisa, Divorce, Al-Baqarah, Al-Ma'idah, Al-Noor, Al-Ahzab, Al-mojadala, Al-Mumthahina et Al-Tahrim.

Cette attention indique fortement la position dont jouissent les femmes dans la législation islamique, car l'islam a élevé son statut dans une société qui avait l'habitude d'asservir et de perpétuer un individu qui a le droit à la vie et qui lui a reconnu des droits qui n'étaient pas acceptables pour l'ancien.

société islamique.


1- المرأة و العصر الجاهلي.
1-1-
وأد الجاهلية.
إن المرأة في العصر الجاهلي كانت مسلوبة الحقوق الأساسية ، كحقها في الحياة كأنثى ، فقد كان الأب أنداك يئد ابنته عقب ولادتها مباشرة اقتداء بالأعراف القبلية السائدة وخاصة تغلغل المنظور اليهودي للمرأة وخاصة الجاهلي الذي دأب على وأد البنات الشيء الذي يجعل هذا المجتمع ومن خلال انغلاق تفتحه الحضاري يعبر عن هذا التغلغل للإسرائيليات كخلفية ثقافية سائدة تتناسل في وعينا الفقهي والتي جعلت من المرأة حريما مرتبطا بالدنَس والعار وفضاء الاحتشام وقد أجازت اليهودية كديانة انتشار هذا المعطى محملا بقيم محلية جاهلية حيث ذاعت المعتقدات التي خضعت لعملية التأثر والتأثير بين الإسلام والديانات السابقة" فمن المعروف أن اليهود الذين اعتنقوا الإسلام مزجوا بين التراث اللاهوتي اليهودي، وبين العقيدة الإسلامية، واتضح هذا المزج في لجوء المسلمين لإخوانهم المسلمين – الذين كانوا يهودا منهم- في تفسير كثير من القصص القرآني" (1) ، ومن المرجعيات الدينية لظاهرة الوأد الجاهلية ما جاء في سفر التكوين أن اليهودي، «يملك على أولاده حق الموت والحياة، يقتلهم إذا شاء أو يقدمهم قربانا للرب"(2).
وصف القرآن الوضعية الكارثية التي كانت تعيشها المرأة قبل نزول الوحي، وخاصة منذ تلقي عائلتها نبأ ولادتها كما جاء ذلك بسورة النحل حيث قال تعالى:﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون﴾ (النحل الآية 58-59.).
إن هذه التلاوين التي تُصبغ بها عواطف الأب الجاهلي من هذه "البُشرى" تعكس وظيفة الأنثى داخل الهرم القبلي الجاهلي وبالتالي تجسيدها لتدهور القيم الخاصة لقبيلتها(3) يقول د.محمد بلتاجي " كان الأب الجاهلي يرى الأنثى تأكل ولا تقتل عن القبيلة، ويراها مصدرا لجلب العار له حين تُؤسر من العدو فيفترشها آسرها عنوة واقتدارا أو طواعية واختيارا، فيعير الأب وقبيلته بها" (4) .
، وقد انقسم الوأد إلى :
- 1-
وأد الفقر:
ويشكل رغبة الجاهلي في التخلص من عبء تربية أبنائه ذكورا وإناثا بدون تخصيص جنس الموؤود.
- 2-
وأد العار:
وكان يقتصر على وأد البنات الذي كانت تمارسه القبائل البارزة بالجزيرة العربية، كربيعة وكندة وطيء وتميم.
- 3-
الوأد الميثولوجي:
وهو مرتبط باعتقادهم أن البنت رجس من خلق الشيطان ، فالأنثى مخلوق مدنس وهو باعتباره منظومة خرق يصنف في العقلية الجاهلية ضمن المبعدات حيث يرى الجاهلي أن واجبه الديني يدفعه للتخلص من الأنثى وتقديمها للآلهة كقربان حتى يُمنح ديمومة بقاء واستمرار النظام الثقافي الآمن.
نلاحظ أنه في حالات الوأد الثلاث تكون الأنثى هي الضحية وبذلك فقد حرك القرآن الكريم الشعور بالذنب لدى المسلم عندما قال : ﴿وإذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قتلت ﴾ (سور التكوير الآية 8-9)، وبذلك حرك الإسلام القيم الايجابية في المجتمع اتجاه الأنثى فمنحها الحق في الحياة باعتبارها مخلوقا يتساوى مع الذكر من حيث قدسية الجنس البشري حيث يتكفل الله خالق الأنثى برزق مخلوقاته يقول ﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم .إن قتلهم كان خطأ كبيرا ﴾ ( سورة الإسراء الآية 31.)، كما جاء في سورة الأنعام الآية 151، ﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم ﴾
1-2- أنكحة الجاهلية:
وقد تعيش الأنثى نفس الوأد على المستوى المعنوي فتصبح مخلوقا للمتعة والخدمة وإنجاب الأطفال ، فقد كان عرب الجاهلية يشيئون المرأة في نظام أنكحتهم المتعدد والذي جاء على الشكل التالي:
- 1-
نكاح الاستبضاع : فقد روى الإمام البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت " كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه .ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه .فإذا تبين حملها أًصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد".
- 2-
نكاح المشاع أو ما يسمى بنكاح الرهط:
لقد كان من عادة بعض القبائل العربية أن يشترك رهط من الرجال في زوجة واحدة ، ولقد روى الإمام البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها قولها :" كان يجتمع الرهط دون العشرة ، فيدخلون على المرأة فيصيبونها. فإذا حملت ووضعت ترسل إليهم ، فلا يستطيع واحد منهم أن يمتنع .فإذا اجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم ، فهو ابنك يا فلان ، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع عنه الرجل" .
- 3-
نكاح البُعولة: وفيه يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.
- 4-
نكاح البغي ونكاح المتعة: وهو نكاح مؤقت بالنقود أو شيء ما يدفع للمرأة ويحدد زمن نهايته.
- 5-
نكاح البدل: ويتبادل فيه رجلان امرأتيهما فيقول الواحد لآخر، انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي.
- 6-
نكاح الضغينة: ويتعلق بالسبايا من النساء فالرجل إن سبى امرأة له أن يتزوجها إن شاء.
- 7-
نكاح المقت ويسمى كذلك نكاح الضيزن : وهو أن يرث الابن زوجة أبيه فيتزوجها أو يجمع بين الأختين في آن واحد.
- 8-
نكاح الخذان : وهو معاشرة المرأة لغير زوجها سرا ، وقد تحدث الإسلام عن متخذات الأخذان ونهى عنه بإقراره لعقوبة الرجم للمحصنة كما نادت به اليهودية القديمة.
- 9-
نكاح الشغار:
وهو أن يتزوج رجل أخت رجل آخر مقابل أن يتزوج الثاني أخت الأول.
لقد عالج الإسلام هذه الأنكحة بإلغائها عبر آيات كثيرة ، ولما جاء بمفهوم يصف فيه الرجل بكونه بعلا فقد أبقى على نكاح البعولة الذي يجسد مطلقية الطاعة التي تكنها المرأة لرب بيتها حتى أن الكون الرباني يستاء من خروجها عن طاعته من ذلك " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح " ( بخاري ج 7 ص: 39(
إن نظام الأنكحة الجاهلي يشيِّء المرأة ويجعلها جسدا للمتعة والإخصاب بدون كرامة من جهة ، ويضيع معه صفاء الأنساب من جهة أخرى، فالمرأة لم تلق تكريما يتعلق بانتمائها إلى جنس النساء ، فالوضع الاجتماعي والاعتباري للمرأة في العصر الجاهلي كان سيئا للغاية " فهي محرومة من كثير من حقوقها الأساسية ، ولا تلقى أي نوع من أنواع الإكبار أو التكريم ..وإذا حدث ولقيت شيئا من التكريم عند زوجها ، فإن ذلك لا يحدث إلا لأنها أم لابنه الذي يحبه، أو لأنها ابنة واحد من علِّية القوم " (5(
أما الحماية التي كانت تتمتع بها من قبل الذكور المحيطين بها (الأب، الزوج ، الأخ والابن) فهي تتساوى مع الحماية التي تلقاها فرسته وبئره ومرعاه.
وقد يتبين لنا مستوى المكانة التي وضع فيها الإسلام المرأة من خلال استقصاء وضعيتها الاجتماعية قبل مجيء الوحي.
-
فما هو جديد وضعية المرأة في الإسلام؟
2- جديد وضعية المرأة مع مجيء الإسلام.
مع حلول الإسلام بالجزيرة العربية حازت المرأة جملة من الحقوق المادية والمعنوية : منها الحقوق الإنسانية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية كما تلقت واجباتها التي تتناسب مع الحقوق المعطاة، ولهذا " فالمؤسسات التي هدمها الإسلام ، لم تكن تنسجم مع المبادئ الأساسية للدعوة الإسلامية كالوأد والعضل والقسامة والظهار والإيلاء وحرمان المرأة من الإرث " (6(
2ـ1ـ الحقوق الإنسانية .
لقد جعل الإسلام المرأة شريكة للرجل ، فأقر سبحانه بوحدة المصدر المشترك بين الرجال والنساء وبذلك دخلت المرأة دائرة المقدس الرباني وخرجت من دائرة المدنس الاجتماعي يقول تعالى ﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء﴾ (سورة النساء الآية 1) ويقول كذلك ﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾
)سورة الحجرات الآية: 13(
إن مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة من بين المبادئ السامية التي واجه بها الإسلام عرب الجاهلية ، فلكل من الذكر والأنثى جزاءه الخاص في الآخرة كما في الدنيا: ﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض﴾ (سورة آل عمران الآية 195(
وقد تضاربت الآراء في مسألة المساواة، فهناك من يرى أن الإسلام لم يقر بمبدأ المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة مستدلين في ذلك ،اعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد في قوله تعالى:﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضِلَّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى﴾(سورة البقرة الآية 282(
وقد كان الداعي إلى ذلك ما يقره الإسلام من الانغلاق الاجتماعي الذي كانت عليه المرأة وعم مخالطتها للرجال في ميدان المعاملات التجارية والمالية التي تحتاج المكاتبة كالبيع والقرض والإجارة والرهن والوديعة والاقرار والغصب والوقف،﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين مسمى فاكتبوه﴾ (سورة البقرة الآية 282.)، هذا زيادة على عدم تفتحها على الأسواق وقد تستحكم للأعراف في هذا المجال، وتكون نتيجة هذه الوضعية أن تكون خبرتها في هذا الميدان لا توازي نضج خبرة الرجل.
أما ما لا يجوز للرجال الاطلاع عليه من أسرار النساء الداخلية فقد أجاز النبي شهادة امرأة واحدة وقد تكون القابلة مثل ذلك مثل شهادة الرضاعة ورؤية الهلال التي تقبل فيها شهادة امرأة واحدة عدل.
2-2-
الحقوق المادية .
ينكر البعض على الإسلام في مادة الميراث جعل حظ الرجل يساوي حظ الأنثيين وهذا تحد كبير في مجتمع جاهلي تقتضي تقاليده وأعرافه حرمان المرأة من الميراث واقتصار ذلك على المحاربين من الرجال ، بل وتصل المرأة في هذا المجتمع إلى حد أن تصبح إرثا بحد ذاتها، فجاء الإسلام ليقر هذا الحق في قوله تعالى: ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا﴾ (سورة النساء الآية 7.) ، وقد فصل القرآن في سورة النساء الآية :11،واجب الأنثى من الإرث بقوله: ﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين﴾ ، فعندما أقر الإسلام نفقة الزوجة وجعلها من واجبات الرجل الذي يرث حقا كاملا يعتبر بذلك حظ المرأة مضاعفا بهذا الإنفاق المفروض من جهة الزوج ومن جهة الأب أو الأخ أو العم إذا لم تتزوج وبذلك تكون هذه الوضعية غير مرتبطة بالنقص في إنسانية المرأة ولا يجعل المرأة بتاتا في مرتبة أدنى من مرتبة الرجل وهو الذي أحاط المرأة بالرعاية فضمن لها حياة اقتصادية مستقرة حيث أخلى ذمتها من أي عبء من الأعباء الاقتصادية لمعيشتها هي أو لغيرها ، فجعل نفقتها على أصولها أوزوجها أو فروعها أو أقربائها في جميع ما تحتاج إليه بالمعروف ﴿ لينفق ذو سعة من سعته﴾ (سورة الطلاق الآية 7.)، وكذلك الآية ﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تُضاروهن لتضيِّقوا عليهن ﴾ (سورة الطلاق الآية 6.)وفي سورة البقرة الآية 233، يقول : ﴿ وعلى المولودِ له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾ كما لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئا من مما أعطاه لزوجته كصداق أو مهر كما منعه الإسلام من أخد كلا أو بعضا من مالها الأصيل عملا بقوله تعالى: ﴿ وآتوا النساء صدقاته نحلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا﴾(سورة النساء الآية 4.)
لقد قرر الإسلام قاعدة المساواة بين الرجل والمرأة في الأحكام، في الحقوق والواجبات في قوله تعالى: ﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف﴾( سورة البقرة، الآية 228)
2-3- الحق في التعبير والرأي.
حازت المرأة على الحق في طلب العلم فهو فريضة على كل مسلم ومسلمة ، واستمع إلى رأيها لسداده وقرره كمبدأ تشريعي عام، وبذلك تلقت المرأة العلم وأصبحت من المفتيات فيه كما جاء في الآية 34 من سورة الأحزاب ﴿ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة﴾ وتتجلى قمة تساوي الرجل والمرأة في تكليفهم بالوصاية على الدين من حيث وضعه تعالى بيدهما مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما جاء في الآية 71 من سورة التوبة ﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ﴾ ويُروى عن السيدة عائشة أنها قامت بدور كبير في مجال تلقين الأحكام ومكارم الأخلاق حيث كانت تقضي بين المسلمين في أمور الفقه والحياة. وكان من جراء ذلك أن احترم الإسلام رأي المرأة وأحسن الاستماع إليها كما وقع من رأي الخنساء بنت خذام الأنصارية في حوارها مع النبي صلى الله عليه وسلم والذي أقر فيه الرسول بأن جعله جزءا من التشريع العام وخاصة وجوب أخذ رأي المخطوبة في شريك حياتها وأخذ رأيها في مسألة زواجها ، فأجابته عليه السلام وقد استخلصت حكما عدّل من تطرف الوصاية في نكاح البعولة عندما قالت ولم ينكر الرسول عليها مقالها " لقد أجزت ما صنع أبي ، ولكني أردت أن يعلم الناس أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء" (7)
كما كان رأي المرأة واضح المعالم في تأويل الآيات حيث اعترضت امرأة خطبة عمر رضي الله عنه حول المغالاة في المهور بأن أرجعته إلى فحوى الآية 20 من سورة النساء : ﴿ وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا﴾ فما كان من عمر وإمعانا في احترام رأي المرأة والاقتضاء بمعطياته إلا أن عدل عن رأيه في تحديد المهر وقال " أصابت امرأة، وأخطأ عمر" .
ومما يدل على المكانة المتميزة للمرأة في الإسلام واحترام رأيها ووجهة نظرها ما جرى لهند بنت أبي طالب المكناة بأم هانئ، عندما أجارت عدوا من أعداء المسلمين واحتكامها إلى الرسول (ص) عندما امتنعت من تسليمه لعلي ابن أبي طالب فقال لها الرسول : " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" .
إن الإسلام قد جعل المرأة تعبر عن رأيها بكل حرية ومسؤولية وما كان من تدخلاتها إلا أن تمت الاستجابة لها مما يدل على معرفتها بأصول التشريع من معرفة دقيقة بتفسير النصوص الدينية وأحكامها، الشيء الذي جعلها تدافع عن حقوقها وحقوق بنات جنسها ، ويكفي دليلا على ذلك حسّها النقدي الذي نظرت فيه أسماء بنت يزيد الأنصارية إقصاء المرأة من جملة الإثابات الإلهية عكس الرجل الذي يتحدث الإسلام عن جزاءاته الكثيرة وفقا لمشاركته العديدة في الحياة العامة ، فقد جاءت ممثلة عن النساء فعرضت وضعية المرأة على أنظار الرسول بكل دقة وبلاغة اندهش لها جميع حضور مجلس الرسول (ص) عندما قالت " ... أنا وافدة النساء إليك، إن الله قد بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، حاملات أولادكم، وأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن أحدكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مجاهدا حفضنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفنشارككم في الأجر والثواب.." .
لقد كانت إجابة الرسول الكريم تجعل طاعة المرأة لزوجها في مقابل كل أنشطة الرجل التعبدية حيث قال " افهمي أيتها المرأة ، واعلمي من خلفك، أن حسن تبعُّل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته واتباعها موافقته، يعدُل كل ذلك".
يظهر من هذا الرد أن التشريع الإسلامي يضع للمسلمة وضعيتين من حيث الأجر والثواب ، الوضعية الأولى تشمل الأنثى بكامل البراءة وهي ما تزال في حضن أبيها ، بينما تنتقل بها الوضعية الثانية إلى بيت الزوجية وهي الوضعية التي تحوز فيها الزوجة على مرضاة الله وثوابه ، فطاعة الزوج هنا من طاعة الله وقد جاء في صحيح البخاري ج7 ص: 39. " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه" و " إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور" (رواه الترمذي والنسائي) إن إباحة خرق التعاليم الدينية في سبيل طاعة الزوجة لا يوازيه إلا رغبة الشريعة في إقرار ربوبية أرضية للرجل
ثم إن المسلمات بعد ذلك لم ترضخن لهذا الحكم فقد طالبن الرسول بإلحاح بعد ذلك بالخروج إلى الجهاد مع أزواجهن للتمريض وسقي الظمأى ثم طالبن بالخروج إلى المساجد حيث قال النبي ردا على طلبهن " لا تمنعوا إماء الله من مساجد الله".
كما طالبت النساء بالمشاركة في الحياة العامة بحضور الأعياد فاستجاب الرسول (ص) يقوله" دعوا العواتق وذوات الخدور يشهدن الأعياد " وتأتي طلبات النساء تباعا في حياة الرسول في إطار سعيهم للتحرر من عبودية الرجل واستغلالهن حيث كان الأسياد يكرهون الإماء على البغاء إلى أن جاءت (سورة النور الآية: 33) لتصحيح الوضع بقوله تعالى" ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء"، وما حدث مع زوجة سعد بن الربيع وأم كحة في مطالبتهن بحقهن في الميراث ، فما تحيلنا عليه زوجة سعد يدل بعمق على معرفة متفحصة لأحوال مجتمعها وبرغبة الرجل العربي ومرغِّباته في الزواج وتركيزه على يسرها حيث قالت " هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وان عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال " تفسير الجلالين ص: 198.
لقد كان هاجس الثواب هو المحرك الأساسي لتحرك المرأة في اتجاه تحررها من عبودية العبد باعتبار أن الله عز وجل لا يجعل واسطة في التقرب إليه وعبادته ، فغيَّرت من الصورة التي وسمها بها العصر الجاهلي ، ويكفي للتدليل على استحكام هذا الهاجس في معركتها ضد معنى قوامة الرجل والوضعية الدونية لها في قول إحداهن للرسول " يا نبي الله للذكر مثل حظ الأنثيين وشهادة امرأتين برجل، أفنحن في العمل هكذا؟ إذا عملت المرأة حسنة كُتبت لها نصف حسنة؟" .
الهوامش
1- د.نصر حامد أبو زيد" دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة" ص: 18.
2-
سفر التكوين الإصحاح 42 الآية 37.
3 -
أنظر(ي) كتابنا" الكتابة النسائية، حفرية في الأنساق الدالة.الأنوثة..الجسد.. الهوية."مطبعة وراقة سجلماسة ،مكناس الطبعة الأولى شتنبر 2004، ص:115
4-  مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة"- حقوق السياسية والاجتماعية والشخصية للمرأة في المجتمع الإسلامي-، د.محمد بلتاجي ،دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة مصر،الطبعة الأولى 2000.
5 -
د.عبد الباسط محمد حسن ، مجلة عالم الفكر ،المجلد السابع، العدد الأول أبريل 1976.
6-
زينب معادي" المرأة بين الثقافي والقدسي.." سلسلة بإشراف فاطمة الزهراء أزرويل، نشر الفنك الدار البيضاء سنة 1990
7 - المبسوط في الفقه" للسرخسي ،مطبعة السعادة، القاهرة، سنة 1324ه- 1903م الجزء الخامس

Partager cet article
Repost0
14 avril 2022 4 14 /04 /avril /2022 22:15
مجلة دفاتر الاختلاف

مجلة دفاتر الاختلاف


                                      شعرية اللغة العربية و التجلي المثالي للمرأة      
                                   - العصر الأموي أنموذجا      -
                                                                            
                                                                        د. ادريس عبد النور 

  دراسة محكمة

                               أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس مكناس/المغرب
Abdennour.driss@gmail.com             
الكلمات المفاتيح: الأدب الأموي، المرأة العربية، الشعر العربي، المرأة المثال، النقد النسائي.

مداخل العرض               
 إن حقيقة الشعر العربي كنسق لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الإطار السياسي والاجتماعي الذي أنشأه وبلور احتفاليته الثقافية بالوعي العربي.              
إن العمل الأدبي في تحركه نحو إنتاج العالم المعيش لا يستطيع السقوط في المباشرية كإعادة الإنتاج المادي لواقعه وإنما ينزع نحو تكثيف المثال الفني لينسج مكانه عالم آخر لا يتماثل مع الصورة الفنية للمعيش الشيء الذي يضع بين أيدينا افتراض حضور الطابع المثالي لامرأة النسيب كمثل أعلى للجمال الأنثوي وعودة الشعر الأموي إلى الصورة الفنية للشعر الجاهلي الذي كان يمتح من صورة المرأة المثال الوثيقة الصلة بالمعتقدات الدينية والأسطورية وتنحدر منها لتعشش في المخيال العربي مند القدم          .
لهذا كان طرحنا لعدة أسئلة من شأنه أن يثير تلك العلاقة الجدلية بين الإنتاج الفني واستهلاكه الاجتماعي
- ما هي أسباب تواجد وحدة الصورة للمرأة في الشعر العربي ؟              
- ما هي الدوافع التي حركت وساعدت الشعراء لمدح الجمال الأنثوي بالعصر الأموي؟
- ما هي الطرق التي عبّر بها شعراء "الحجاز" عن مكنونات قلوبهم وخوالجهم وعاطفة الحب لديهم ؟ 
- هل تعكس مقاييس الجمال المُنشَد الذوق العربي في تجلياته الواقعية أم إنها تعبر عن مثل أعلى للجمال طافح مترسب عن معتقد ديني أو أُسطوري سابق؟   
- كـيف يـكون الإبـداع الشعـري شخصيا ويعـبر عـن ذات الـشاعـر وجماعيا ويعبر عن جسد القبيلة في نفس الوقت؟    
- ما هي مقاييس تصنيف الشعر عند الأمويين انطلاقا من مظاهر تشطير البيت العربي إلى واجهة للحرائر وأخرى للجواري؟               
- ما هي صورة المرأة المثال في شعر الغزل الأموي بملامحها الجسدية والمعنوية؟             
- ألا يساعد الحفر اللغوي على فهم الإسطير الفهم الأمثل؟       
- هل الاستفحال الشعري تعبير عن فحولة المجتمع أم فحولة ممكنة للغة؟ .  
لاشك أن محاولة الإجابة على هذه الأسئلة يعطي لهذا البحث تصميما خاصا قد يجيب على تساؤلات النقد الأدبي، حيث أن الدراسات التي تطرقت لشعر الغزل لم تكن ترسم بشكل واضح صورة للمرأة العربية ف "قلما حفلت الدراسات التي تتناول شعر الغزل على امتداد العصور الأدبية العربية بشأن المرأة " (1)       
وقد اعتمدت في هذا البحث المنهجية التي تعتبر العملية الفنية نفي مستمر لذاتها ومحيطها نحو خلق وحدة نسقية منسجمة للشكل بمضمونه، كما نضع في اعتبارنا العلاقة السوسيولوجية بين مرسل ومتلقي الصورة الشعرية.       
إذن ما هي أهم المؤشرات التي تفاعلت بالسلب والإيجاب في وجدان الشعر الأموي ؟.

Mots clés : Littérature omeyyade, femmes arabes, poésie arabe, la femme idéale, critique féministe.

Afficher les entrées

 La réalité de la poésie arabe en tant que système ne peut être considérée isolément du cadre politique et social qui l'a établie et a cristallisé sa célébration culturelle de la conscience arabe.

L'œuvre littéraire, dans son mouvement vers la production du monde vécu, ne peut tomber dans la directivité comme reproduction matérielle de sa réalité, mais tend plutôt à intensifier l'idéal artistique pour tisser à sa place un autre monde qui ne correspond pas à l'image artistique. du vivant, qui met entre nos mains l'hypothèse de la présence du caractère idéal de la femme du parent comme idéal de beauté féminine et un retour de la poésie omeyyade à l'image artistique de la poésie préislamique, qui fournissait à partir de l'image de la femme l'idéal étroitement lié aux croyances religieuses et mythologiques et qui en est issu pour se nicher dans l'imaginaire arabe depuis l'Antiquité.

C'est pourquoi nous avons posé plusieurs questions qui soulèveraient la relation dialectique entre la production artistique et sa consommation sociale.

- Quelles sont les raisons de la présence de l'unité de l'image de la femme dans la poésie arabe ?

- Quels sont les motifs qui ont motivé et aidé les poètes à louer la beauté féminine de l'ère omeyyade ?


المؤشرات البارزة في حركية الشعر العربي         
 يرتبط تطور الشعر بمدى إمكانية تطور حياة المجتمع ولعل من أهم الأسباب التي أثرت في الاتجاهات الأدبية للعصر الأموي وخاصة من حيث حضور هاجس المجتمع في موضوعات الشعر وصوره وألفاظه وأساليبه، والتي أثرت بالسلب والإيجاب في تمظهرات الإشكال السياسي والاجتماعي والثقافي بالإبداع الفني ومدى الحضور القوي لهذه التجليات في تطور مفهوم الممارسة الشعرية كحقيقة واقعية متجانسة تستبدل تشكيلها الواقعي باللفظ والصورة الشعرية.    
-1- المؤشر السياسي     
إن هذا المؤشر من أبرز المؤشرات التي طبعت العصر الأموي و"لئن كان للأمويين الغلبة في الوصول إلى الحكم ، فإنهم لم يستطيعوا غلبة المعارضة نهائيا فأدركوا أن حكمهم يحتاج إلى الاستقرار، وأن هذا الاستقرار بحاجة إلى دهاء سياسي" (2)               
ومن آثار هذا الدهاء أن حرك بنو أمية النعرة القبلية بين العنصر العربي وعداهم من المسلمين، فكان طبيعيا أن تشب نارها في الشعر وبذلك ساهموا في أن يفتح "سوق عكاظ" بابه من جديد في وجه التراشق الشعري بين المكونات المختلفة لمعارضيهم بالحجاز والعراق والشام.      
كما أحدثوا شرخا بمشاعر الذاكرة والنفس العربيتين لما حوّلوا مركز الخلافة من بلد الحجاز إلى الشام.         
وقد ساهم هذا المؤشر في الظهور القوي للمؤشر الاجتماعي.    

-2- المؤشر الاجتماعي     
بعد انتهاج بني أمية لسياسة الفتوحات وانفتاح البلاد العربية على حضارة الترف البيزنطية والفارسية، كان لتدفق الأموال كبير الأثر في تميُّز دهائهم السياسي لإسكات المعارضين وخاصة أصحاب الحق الشرعي في الخلافة بالحجاز، حيث عالج بنوأمية هذه المعارضة "بالمال الوفير أغدقوه عليهم بلا حساب، وأبعدوهم عن المشاركة في السياسة والحكم "(3).     
وقد أنجب حجاز الترف شعراء كالعرجي والاحوص والحارث بن خالد المخزومي الذين رسموا في شعرهم الملامح الأولى للمرأة التي سنجدها كاملة عند الشاعر عمر بن أبي ربيعة.
ولقد أصبح الانغماس في الملذات شيئا مباحا ومظهرا تتسم به هذه الحقبة وخاصة بالحجاز الذي ازدهر فيه الغناء والإيقاع وفنون اللهو في الغفلة المتعمدة للرقيب الذي غض الطرف "عمّا انهمك فيه الناس من لهو وترف وغناء وحرية التمتع بملك اليمين من سبايا الهند وفارس والروم وسواها من البلدان " (4)             
هكذا استمتع المجتمع الحجازي باسترخائه حيث أنه خلع ثوب الجهاد ومضى يتمتع بجني الفتوحات، جمالا ومالا، فكان الغزل "أشبه موضوعات الشعر بالغناء، ومطلب النفوس من هذا مطلبها من ذاك، ومن هنا كان التجاوب بين حالتيهما: فمن آثار الموسيقى في الحجاز توجيهها موضوع الشعر إلى الغزل"(5)     
2-1الوضعية المجتمعية للمرأة بين ظاهرتي الحجاب و"ملك اليمين". 
يتحدد الأسر كواحد من الأسباب المباشرة لظاهرة الرق باعتباره أهم مصادرها الرئيسية وقد تعمقت العلاقة بين الرجل والمرأة المسترَقَّة من الناحية الجنسية بحكم ورودها في النص القرآني كملك اليمين تقول الآية: ﴿ وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم ﴾ سورة النساء الآية 3.               
- ما هي انعكاسات ظاهرة "ملك اليمين" على نفسية المرأة العربية؟     
- ما هي القاعدة الواقعية التي جعلت عمر بن أبي ربيعة ناطقا رسميا باسم المرأة الحرة ؟
إن التفتح الواسع على عدد النساء "الجواري"اللواتي أضفن التنوع في الجمال الأنثوي وحسن الصوت والغناء بالبيت الأموي حيث كان منهن الروميات والفارسيات والسنديات والهنديات...               
وقد أدى الاستغراق في المجون والخلاعة إلى الابتعاد عن فحوى النص القرآني الذي أسس هذه الإجازة الشرعية "ملك اليمين" كتدبير مؤقت، فأخذ المجتمع الأموي ينهل من الحضارة التي وفدت عليه الشيء الذي "أقحم على الحرائر عوامل القلق والتمزق النفسي حين فهم الرجل خطأ حرية التمتع "بملك اليمين"فانقاد إلى قيانه وجواريه، وذا الميل الفطري المنجذب بمادية أحاسيسه إلى اللذة الجسدية " (6)   
إن هذا التفسخ والاستغراق في التمتع بالجسد الأنثوي المتنوعة مصادر جماله وفتنته قاد البحث إلى أن نفترض وجود أزمة للزواج بالمجتمع الأموي وبالتالي إعراض الرجال عن زوجاتهم، الشيء الذي أضر بالحرائر من النساء العربيات كما أضر بهن الحجاب الذي عزلهن عن المجتمع "ذلك أن المرأة الحرة لا تباع ولا تشترى فلا ينبغي لها أن تبرز محاسنها إلا على حَليلها، بينما تبرز الجارية محاسنها لأنها مادة تجارية في سوق الرقيق تباع وتُشترى"(7)          
إن الحجاب قد ألحق الحرة العربية بالظل وقد انشطر البيت الإسلامي إلى شطرين : شطر للحرائر وشطر للجواري.
فالحرائر قد فرض عليهم منطق الحجاب لزوم بيوتهن، يقول تعالى: ﴿يا أيها النبئ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن﴾ سورة الأحزاب الآية 59
وكان من الانعكاسات المباشرة للحجاب، عدم خروج الحرائر بأية زينة أو طيب، ويمكن القول بأن هذه الوضعية جعلت المرأة الحرة تحاول صياغة وعي خاص بها لشد الذكر العربي إلى مفاتنها الشيء الذي دفع بها إلى منافسة الجواري في إبراز محاسنها ، وهي معركة شاملة ذات بعد انفلاتي من بعض أحكام الشرع الإسلامي، تحمل في جوهرها سمات معركة تستبد بالمضمون لكي تستحكم الاستبداد بالشكل.     
فالمرأة الحرة " ربَّما سعت بجسدها الأنثوي لأن تكون "خليلة " لزوجها بعد أن كانت حليلة مما يسَّر للشعراء إثر هذه المنافسة سبيلا لاقتناص الصور التي تلائم ميولهم في غفلة الرقيب " (8)       
لقد أُعجب الحجازيون بالأسيرات فأصبحوا أسرى لجمالهن وفتنتهن ودلالهن فكان الإعراض عن الزوجات بالجسد المستورد الوافد من الأمصار.  
-2-2- معركة الحرائر لاستعادة المكانة المفقودة               
- كيف عبًّرت المرأة الأموية الحرة عن رغبتها في خرق الطابوهات وتكريس استمرارها أحيانا؟
أثار حكم بني أمية النعرة القبلية ودعوة الجاهلية فعاد الشعر للتداول باعتبار ان الشعر هو ديوان العرب، فعمدت المرأة المحصنة إلى إحياء ذكرى الجاهلية في النفوس وإغراء الشعراء للتشبيب بمفاتنها واستعراض خباياها النفسية والجسدية " إذا ما كانت عزباء، فيقبل عليها الخطاب، أما المتزوجات فلِثَني الرجل عن أفعاله واستعادته إلى بيته" (9)              
- كيف عبّرت العبقرية الشعرية العربية عن ذاتها؟      
- ما هي تلك الخصوصية التعبيرية؟     
فبعدما رقَّقَ الغناء وتعاطي الجواري من طبع البداوة بالحجاز كان لشعر الغزل في الحرائر مفعول الرقيب على الأخلاق المتشعبة المسالك في جغرافيا تضاريس وعي المجتمع العربي الجاهلي حيث لم يكن الشاعر الجاهلي بوقا للقبيلة فقط وإنما لسانها والمعبر عنها إذ ضَمُّن شعره مُلتقى عواطف القبيلة ومحامدها وسجل أيامها ووقائعها كصدى لها بالإضافة إلى كونه أنشد الشعر كقيتارة للتعبير عن نفسه ،فالغزل في رأي ابن قتيبة "غرض بذاته ولكنه غرض لغيره"،الشعر والشعراء، بتحقيق أحمد شاكر.            
"فهذه النكسة الجاهلية كان لها أثرها في الحياة الأدبية في هذه الفترة (العصر الأموي) من ناحية الكم والكيف جميعا، فقد أتاحت لتيار النشاط الأدبي الجاهلي أن يمضي في سبيله، وان يغمر الحياة بأمواجه المندفعة في صخب وعنف ، بعد أن تهاوت السدود التي تمنعه أو تحاول تلطيفه وتهذيبه"(10)
وقد وُصف العصر الشعري الأموي بعصر الرجعة"إذ جعلت الحياة الأدبية تُراجع فيه نشاطها الذي عرفته في العصر الجاهلي ، كما أرادت أن تجعل من نشاطها فيه صورة من ذلك النشاط الجاهلي وامتدادا له " (11)             
ولعـل ما يثبت فرضية كون عمر بن أبي ربيعة ناطق رسمي باسم المرأة العربية الحجازية هو كونه" رسم لها طريق الخلاص حين أنطقها، في شعره، بكل ما تريد البوح به وأعلى من شأنها، وناصرها في صراعها مع الجواري والـقيان بُـغـية إثبات وجـودها كائـنا لـه حــق الـحـرية والـحـياة "(12). وعندما جعلها عاشقة لا معشوقة حرّك غيرة الرجال على نسائهم المُهمَلات.               
- هل هناك شروطا نظرية يمكن من خلالها تحديد الشعر الأموي في حدود الإباحية والعذرية؟
- بأي معنى يمكن أن ندعو قصيدة النسيب الأموية إباحية ؟ 
فشعر الغزل بما هو صحافة العصر الأموي قد سجَّل أخبار النساء لتحريك غيرة الذكر العربي على أُنثاه وإعادة تمكينه من اكتشافها في مداها الأخلاقي الواسع وقد استعملته بنات الخلفاء ، فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وشريفات آل البيت كسكينة بنت الحسين التي كانت تستقبل الشعراء في دارها، وعائشة بنت طلحة بنت الصحابي ، ومما يزكي الدور الترويجي المؤثر في نفسية العربي واستجابته له قصة الدارمي الشاعر الذي ترك الشعر وكانت عودته لشعر الغزل وسيلة لذر الربح على تاجر خُمُر العراق ، حيث تعَشَّقَ صاحبة الخمار الأسود يقول صاحب الأغاني في ذلك " فلم تبق مليحة في المدينة إلا اشترت خمارا أسودا وباع التاجر ما كان معه "(13)              
يقول الشاعر الدارمي: 
قل للمليحة في الخمار الأسود*
ماذا فعلت بزاهد متعبّــد           
قد كان شمّر للصلاة ثيابه*       
حتى خطرت له بباب المسجد   
رُدي علية صلاته وصيامه*       
لا تقتليه بحَــقّ دين محمد          
لقد صارت المرأة العربية الشريفة أُغنية في قصيدة .. والقصيدة أُغنية على أوتار المغنيات فكان أن تحولت عقلية العربي بفعل سحر شعر الغزل الذي يسعر القلوب ويستفزُّ العقول ويستخفُّ الحليم، من عشق الجواري إلى التهافت على الحرائر ، شارك في هذه الصيرورة مغنيات حادقات، صار لهن مكانة وموكب ودار ، أمثال جميلة وعزة الميلاء وسلاَّمة القس وقد كان تأثيرهن في الشعر والشعراء واضحا جليا    .
الخاتمة:
هل استطاعت اللغة أن تنقل حقيقة ما أحسّه العربي من أحاسيس جيّاشة بداخله اتجاه الأنثى التي عشقها؟         
إن الشاعر العربي كان يقرض الشعر مأخوذا بسحر المرأة"المثال" إذ أن ميكانيزمات اللغة الشعرية لا تبين عن سلطتها إلا إذا باينت وتخلّصت من ثقل الواقع على شحناتها العاطفية.
إن شعراء العصر الأموي قد استوحوا لغة امرئ القيس وتشبيهاته وصوره وقيمه الجمالية واستخدموا عباراته وألفاظه بعينها فهذا الوصف لا يمت إلى اتجاه حسّي ولا يصدر عن تجربة واقعية، وبذاك وجب انتفاء عناصر التمييز والتفارُق بين العصرين على المستوى المتخيّل الفنّي .
- لماذا كان الشعر ديوانا للعرب؟ تساؤل يُلخص جوابه كل تاريخ القصيدة العربية في صراعها مع القوافي.      
فلما يوصف الكلام الشعري كهجاء وفخر ومدح يعيد الشعر إنتاج سلطة البلاطات وأُمرائها، ولما يعبّر عن الوجدان العربي في تجلياته تتحول القصيدة إلى كائن شفاف يعيد صياغة الأسئلة، لمن هذا الشعر؟ وما هي حدود علاقاته مع الآخر،متلقّي ومتلقية؟ وهل تكفي كيمياء الأحاسيس للقول باستمرار القريض الشعري حاضرا في جل العصور الأدبية؟     
كيف انتشت اللغة بقدرتها على التعبير عن نفس تلك الاحاساسات ؟ وما مدى محدوديتها لمّا استعملها امرئ القيس ومزجها عمر بن أبي ربيعة بكيانه ووجدانه وأنطقها جميل بن معمر من فيض روحه ؟ مستلهمين جميعهم المرجعية الأسطورية والدينية في رسم الصورة المثالية الحاضرة دوما وأبدا في المخيال العربي. 

هوامش ومراجع              

1- د. رفيق خليل عطوي ،"صورة المرأة في شعر الغزل الأموي"، دار العلم للملايين بيروت لبنان ، الطبعة الأولى ، أكتوبر سنة 1986، ص:7         
2- نفس المرجع السابق ص:40
3- نفس المرجع السابق ص:28
4- نفس المرجع السابق ص: 28              
5- نجيب محمد البهبيتي "تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري " دار الثقافة ،الدار البيضاء سنة 1982 الصفحة:129  
6- د.رفيق خليل عطوي ص:11              
7- د.رفيق خليل عطوي ، نفس المرجع السابق الصفحة :52  
8- نفس المرجع السابق ص:11.              
9- صورة المرأة في شعر الغزل الأموي ص:54.  
10- د.محمد طه الحاجري ، في تاريخ النقد والمذاهب الأدبية ،دار النهضة العربية،       بيروت 1982،الصفحة :70.    
11- نفس المرجع السابق ص:148.        
12- صورة المرأة في شعر الغزل الأموي ص:12.               
13- الأغاني، بولاق ،الجزء الثاني، ص:179 .

Partager cet article
Repost0
13 avril 2022 3 13 /04 /avril /2022 23:25
مجلة دفاتر الاختلاف

مجلة دفاتر الاختلاف

بناء الكفاية اللغوية بين الإضمار والتصريح بالقواعد الضابطة

بمرحلة التعليم الابتدائي

د.الحسان الحسناوي

دراسة محكمة

                             أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، فاس مكناس

elhasnaouihas@hotmail.fr 

مقدمة:

   تروم هذه الورقة الكشف عن أهمية بناء الكفاية اللغوية بالمدرسة الابتدائية والسيرورة التي تسلكها عملية البناء هذه، حيث يبدأ اكتساب اللغة في سياقها الطبيعي من الاستعمال الشفهي " مما يقتضي إيلاء الأهمية اللازمة للاستماع والتحدث باللغة العربية الفصيحة" باعتباره أداة لاستضمار البنيات اللغوية الضابطة للغة العربية في السنوات الثلاث الأولى من التعليم الابتدائي، وكفاية عرضانية تتيح للمتعلمات والمتعلمين تعلم موارد المواد الأخرى، واكتساب المفاهيم والمهارات والقيم. ويتخذ تمرير القواعد اللغوية بطريقة ضمنية في السنوات المذكورة مسارا متدرجا يتخذ من الحكاية دعامة لغوية تنطوي على مرتكزات وموجهات أدب الطفل، وتراعي خصائص مرحلته النمائية (العقلية، والوجدانية، والحس حركية)، ويتبلور هذا المسار في الحصص الديداكتيكية التي يتنامي فيها التشرب اللغوي للمتعلم على امتداد عشر حصص، تخصص الحصص الخمس الأولى للاستماع،  حيث يتداول المتعلم كل ما يتضمنه النص الحكائي من مفردات وجمل تستضمر البنيات اللغوية الأسلوبية والتركيبية والصرفية المستهدفة عبر حوارات أفقية وعمودية متتالية، وتروج لجملة قيم يتشربها ويطلب منه ترجمتها وتشخيصها عبر محطات السرد لمقاطع الحكاية.

    وتأتي الحصص الخمس التي تقدم في الأسبوع الثاني متناغمة ومكملة لحصص الأسبوع الأول، وذلك لخدمة هدف أساسي وهو: استعمال المتعلم للغة في نسقيتها وشموليتها وإقداره على الإبداع والإنتاج انطلاقا من حكاية استضمر بنياتها العميقة.  ولا يتحقق شرط البناء للكفاية اللغوية دون الخدمة المتكاملة للمبدأين معا ( مبدأ الإضمار، مبدأ التصريح)؛ فإذا كان مبدأ الإضمار يمثل الوجه الاستعمالي لبنيات اللغة في شموليتها دون تجزيئها وتعرف عناصرها، لأن اللغة هنا أسبق من القواعد، وهي تكتسب أولا بتداول بنياتها الأسلوبية والتركيبية والصرفية؛  فإن مبدأ التصريح يمثل الجانب الواعي للغة، لذلك يطلب من مستعمل اللغة أن يتعرف متحكماتها ويدرك العلائق التي تنتظم عناصرها، مثل علاقة الفعل والفاعل، علاقة الفعل والمفعول به، علاقة الفعل والمفعول معه، علاقة الفعل والحال، علاقة الفعل والتمييز...الخ. ولتثبيت وعي مستعمل اللغة (المتعلم) بهذه العلائق والمتحكمات، يسخر المدرس ما توفره الديداكتيك والبيداغوجيا من أدوات وطرائق لتيسير إنماء الكفاية اللغوية.

Introduction:

   Cet article vise à révéler l'importance de la construction de la compétence linguistique à l'école primaire et le processus suivi par ce processus de construction, où l'acquisition de la langue commence dans son contexte naturel à partir de l'usage oral, « qui nécessite de donner l'importance nécessaire à l'écoute et à la parole dans le langage classique ». langue arabe » comme outil d'ancrage des structures linguistiques de contrôle de la langue arabe dans les années Les trois premières de l'enseignement primaire, et la suffisance transversale qui permet aux apprenants et apprenantes d'apprendre les ressources d'autres matières, et d'acquérir des concepts, des compétences et des valeurs . Le passage des règles linguistiques implicitement dans les années mentionnées prend un chemin progressif qui prend le conte comme un support linguistique qui comprend les fondements et les directives de la littérature pour enfants, et prend en compte les caractéristiques de son stade de développement (mental, émotionnel et kinesthésique). ), et ce parcours se cristallise dans les séances didactiques où l'imbibition linguistique de l'apprenant se développe tout au long des dix séances, les cinq premières séances sont consacrées à l'écoute, où l'apprenant échange tout le vocabulaire et les phrases contenues dans le texte narratif qui intègrent la stylistique visée, structures structurelles et morphologiques à travers des dialogues horizontaux et verticaux successifs, et promeut un ensemble de valeurs qu'il absorbe et lui demande de traduire et de diagnostiquer à travers les stations de narration des passages de l'histoire.

    Les cinq leçons qui sont proposées en deuxième semaine sont harmonieuses et complémentaires aux leçons de la première semaine, afin de servir un objectif fondamental : l'utilisation de la langue par l'apprenant dans sa cohérence et sa globalité, et sa capacité à être créatif et productif , basé sur une histoire qui a ancré ses structures profondes. L'exigence de construction de la compétence linguistique n'est pas atteinte sans le service intégré des deux principes ensemble (le principe d'implication, le principe déclaratif) ; Si le principe d'implication représente l'utilisation des structures de la langue dans leur globalité sans les fragmenter et sans en connaître les éléments, car la langue est ici antérieure aux règles, et elle s'acquiert d'abord en échangeant ses structures stylistiques, synthétiques et morphologiques ; Le principe de déclaration représente le côté conscient de la langue, il demande donc à l'utilisateur de la langue d'identifier ses contrôleurs et de réaliser les relations qui organisent ses éléments, telles que la relation du verbe et du sujet, la relation du verbe et l'objet avec lui, le rapport du verbe et de l'objet avec lui, le rapport du verbe et de la situation, le rapport du verbe et la distinction...etc. Afin d'établir la prise de conscience de l'utilisateur de la langue (l'apprenant) avec ces relations et contrôles, l'enseignant mobilise les outils et méthodes fournis par la didactique et la pédagogie pour faciliter le développement de la compétence linguistique.

أولا. الكفاية اللغوية: تحديد المفهوم

في مفهوم الكفاية والكفاية اللغوية

عن مفهوم الكفاية

      ورد في معجم اللغة العربية المعاصرة: كفى/ كفى ب/ كفى ل/ يكفي، اكف، كفاية، فهو كاف وكفي، والمفعول مكفي للمتعدي. وكفى الشيء/ كفى به/ كفى له: اكتفى وغني؛ حصل به الاستغناء عن سواه، وكثيرا ما تزاد الباء على فاعله؛ " وكفى بالله حسيبا" - " وكفى بالله شهيدا" شهادة الله تغني عن غيرها[1].وفي  لسان العرب لابن منظور، الكفاية من " كفي يكفي كفاية إذا قام بالأمر، والكفاة الخدم الذين يقومون بالخدمة، وكافيك من رجل وناهيك من رجل وجازيك من رجل، أي حسبك، وكفاه الأمر: إذا قام في مقامه، والكفية القوت"[2].  " ومنها الكفء: نظير له وهو أي الكفاءة في الأصل مصدر، ومن الكفء الكفاءة في النكاح، وهو أن يكون الزوج مساويا للمرأة في حسبها ونسبها وبيتها وغير ذلك. وهكذا فإن المعنى الذي تنصرف إليه هذه المادة وهو المساواة حاصل في كثير من المشتقات، غير أن عربيتنا الحاضرة قد عدلت عن هذا المعنى وصار الكفء فيها هو الكافي القدير. فيقولون هو كفء في عمله أي قادر في عمله. وكان الصحيح أن يقال كاف في عمله. وعلى هذا، فإن الكفاية أخذت هذا المعنى المولد الجديد وهو القدرة على القيام بالشيء. وفلان ذو كفاءة يراد به ذو كفاية تفرض استعمال كفاية من كفى يكفي وليس كفاءة"[3]

ومن هنا نلحظ أن المعاني الواردة في المعاجم العربية «تنعقد حول مفهومين:

الأول: القيام بالأمر ولم تحدد المعاجم مستوى القيام به، إذا ما كانت مرتفعة أو منخفضة، ونسبة الارتفاع والانخفاض.

الثاني: الوصول إلى درجة من المبتغى سواء أكان المبتغى ماديا أم معنويا"[4].

  ويتداخل مفهوم الكفاية مع مفاهيم أخرى تستعمل لنفس المعنى، وهي القدرة والاستعداد والمهارة والمعارف المعمقة " المعترف بها reconnues التي تعطي الحق لصاحبها سلطة الحكم والتقرير في بعض المواد، مثال ذلك: له الكفاية Avoir de la compétence أو التمكن من الكفاية أو الكفايات، أو الاهتمام بقضية ما لكفايته، أو تنقصه الكفاية"[5]. غير أن ثمة فروقا تميز هذه المفاهيم جميعها، فإذا كانت (القدرة: capacité) «تدل على إمكانية أداء نشاط معين...وتشير إلى القوة على أداء فعل ما، جسديا كان أو عقليا"؛ فإن (الاستعداد: Aptitude) قدرة ممكنة " أي وجود بالقوة أو أداء متوقع سيتمكن الفرد من إنجازه فيما بعد، عندما يسمح بذلك عامل النمو والنضج أو عامل التعلم، أو عندما تتوفر لذلك الشروط الضرورية له"[6]. أما (الإنجاز: Performance) " فهو النتائج التي يبلغها المتعلم حسب معايير محددة للإنجاز، التي تكون محددة في شكل سلوكات وأداءات قابلة للملاحظة"[7]. ويتحدد (السلوك: comportement) في كونه يشمل نشاط الإنسان، وحتى الكائن الحي، في تفاعله مع بيئته من أجل تحقيق أكبر قدر من التكيف معها.[8]

       وقد تعددت التعاريف التربوية للكفاية، ففي تعريف عبد الكريم غريب تتحدد الكفاية في كونها " سلوكا مركبا، يتوقف تكوينها على مستوى عال من المهارة والنجاعة في التدريس، الأمر الذي يتطلب الإلمام بمختلف مكونات الفعل التعليمي التعلمي، وعلى مختلف المستويات السيكولوجية والبيداغوجية والديداكتيكية..."[9]. غير أن مفهوم الكفاية على الرغم من التوضيحات الكثيرة التي شملته، بقي-على امتداد فترة ليست بالقصيرة مشوبا بالالتباس والغموض فرضتهما صعوبة التنزيل والتطبيق. إذ يكفي الممارس للفعل التربوي (المدرس) أن يقدم شروحا وافية لمفهوم الكفاية، ولكن حين يطلب منه كيفية تنزيل الكفاية وأجرأتها في تدبير الوضعيات والأنشطة التربوية تعوزه القدرة على ذلك. ولتجاوز هذه الوضعية الشاذة التي أربكت عمل المدرسين بالمدرسة المغربية على امتداد ما يقارب عقدا من الزمن، عملت وزارة التربية الوطنية على اعتماد بيداغوجيا الإدماج -التي أجهضت في مهدها-باعتبارها تطبيقا فعليا للكفايات في نظام التربية والتكوين.... وهكذا، أصبح المدرس أمام مفهوم واضح ودقيق للكفاية، وأضحى باستطاعته تنزيله وتطبيقه بكل يسر وسهولة في الوضعيات التعليمية التعلمية. وتبعا لذلك، صرنا نعرف الكفاية كالآتي: " هي أن يتمكن فرد ما أن من تعبئة مجموعة من الموارد (معارف، معارف الفعل، معارف الكينونة) وإدماجها من أجل حل وضعية مشكلة تنتمي إلى فئة الوضعيات"[10]. فلكي تتحقق الكفاية لدى مدرس ما أو تلميذ أو طبيب أو مهندس أو غير ذلك، ونحكم عليه بأنه كفء، لابد من تضافر الموارد الثلاثة المذكورة؛ لأن غياب مورد واحد يعني عدم التحكم في الكفاية. وللتوضيح أكثر، يرتكز التحكم في الكفاية من لدن مدرس اللغة العربية في السلك الابتدائي مثلا على تعبئته وتجنيده ل:

المعارف كدرايات ومعلومات ومعطيات معرفية مرتبطة باللغة العربية (قواعد اللغة العربية، أنواع النصوص: سردية، وصفية، حوارية، إخبارية، حجاجية، معارف مرتبطة بعلوم التربية والديداكتيك ...)؛

معارف الفعل: باعتبارها مهارات تحول المعارف إلى إنجازات وأداءات تترجم في الفعل المهني داخل الفصل الدراسي؛

معارف الكينونة: بوصفها مواقف واتجاهات وقيما مرتبطة بحسن التصرف. فالمدرس، تبعا لهذا، مطالب بأن يقبل الاختلاف وأن يحتوي فضول متعلميه وأن يستوعب مواقفهم المختلفة، وأن يحسن التصرف في إزاء كل ذلك.

في مفهوم الكفاية اللغوية

      يرجع ظهور مفهوم الكفاية اللغوية إلى العالم اللغوي الأمريكي (نعوم تشو مسكي Noam Chomsky) الذي يحددها بكونها " قدرة المتكلم – المستمع المثالي على أن ينتج انطلاقا من قواعد ضمنية عددا غير متناه من الجمل تقود عملية التكلم"[11]. وقد ميز تشو مسكي بين الكفاية والإنجاز أو الأداء   Performance الذي يفيد استعمال اللغة، " فالكفاية اللغوية compétence هي القدرة التي تمكن الإنسان من فهم ما يقال، وتمكنه من صوغ الجمل اللغوية الصحيحة وتركيبها تركيبا نحويا سليما، في حين أن الأداء أو الكلام هو القدرة التي تتيح حركة صوتية في الفم، تجعل العضلات الموجودة داخل الفم وخارجه تتحرك على نحو يجعل الإنسان ينطق الأصوات المتعارفة في كل لغات العالم"[12]. وهذا التفريق يذكرنا بالتمييز الذي وضعه (فيرديناد دي سوسير Ferdinand de Saussure (   بين اللغة والكلام "باعتبارهما ظاهرتين منفصلتين؛ فاللغة -عنده -هي الانطباعات المركوزة في عقل كل فرد من أفراد المجتمع"[13]، وتتمثل هذه الانطباعات في تقيد المتكلم بقواعد اللغة والمناويل اللغوية المتعارف عليها في لغته، والمفردات المعجمية المصطلح عليها[14]؛ أما الكلام فهو حدث فردي إرادي " وهو تركيبة لقولة معينة على نحو يحكمه عادة قصده الإبلاغي، واختياره لمفردات معجمية ومناويل قاعدية بعينها، واستثمار السياق لبيان مقصده"[15]. ضمن هذا المنحى، يؤكد التوليديون على الطابع الإبداعي للغة، وهو محصلة انتقال الإنسان من القدرة الفطرية إلى الحدس اللغوي الذي يتمثل فيها (الإنسان) قواعد لغته، ويستطيع أن ينتج مالا حصر له من الجمل التي لم يسبق له أن أنتجها أو فهمها من قبل. وإذا كانت الكفاية من وجهة نظر التوليديين تشمل قدرة نحوية وأخرى تداولية، " فإن الوظيفيين يذهبون إلى أن الكفاية اللغوية كفاية واحدة تجمع بين النحو والتداول ويسمونها بالكفاية التواصلية: compétence communicative ...وتعني التمكن والقدرة على استعمال السنن اللغوي من أجل التعبير والفهم والتواصل...فلكي نتواصل لا يكفي أن تكون لدينا معرفة باللغة والنظام اللغوي، ولكن يتعين علينا أيضا أن نعرف كيف نستعملها حسب السياق الاجتماعي"[16]

قياس الكفاية اللغوية:   

     إذا كان المنطق الذي يتأسس عليه بناء الكفاية اللغوية يقوم على كمية اللغة التي تعلمها شخص ما وتحديد مستوى توظيفها في مقامات تواصلية مختلفة، فإن ذلك يقتضي أيضا قياس هذه الكمية ومعيرة استثمارها. " ولقد وضعت شروط لحصول الكفاية اللغوية في استعمال اللغة الثانية، فيقال عن شخص ما إنه يعرف هذه اللغة إذا كان قد حقق واحدا من المعايير أو الشروط الآتية:

اكتساب المهارات اللغوية معرفة وأسسا؛

الوقوف على ما يقاس وما لا يقاس؛

الأداء على المستويات المختلفة (الحقيقة والمجاز)؛

سلامة الإنتاج اللغوي أصواتا وقواعد واستعمالا...الخ؛

إنتاج لغوي بأساليب متنوعة؛

أداء المهارات اللغوية الوظيفية؛

إنجاز أهداف لغوية محددة؛

الإنتاج اللغوي بكفاية عامة وشاملة؛

القدرة على الإرسال والاستقبال؛

الإنتاج بدرجة محددة من الطلاقة؛

الإنتاج بأشكال وأنواع لغوية متنوعة"[17].

الكفاية اللغوية سيرورة بناء

      ترتكز سيرورة بناء الكفاية اللغوية لدى المتعلم على أساس أن المعارف اللغوية " وإن كانت تتدرج من حيث ظهورها واكتسابها وانتقالها مما هو محسوس خاص عملي إجرائي إلى ما هو مجرد عام مفهومي تصريحي، فإنها تتكامل وتتفاعل فيما بينها سواء على مستوى الانبناء والنمو أو على مستوى التطور والتعلم أو على مستوى الانتقال والتحول من حالة إلى أخرى"[18]. وترتكز هذه السيرورة على ثلاثة مستويات، تتلخص فيما يلي:

سيرورة البناء كنشاط ذهني تحكمه محددات أهمها:

الاستناد إلى عمليات الفهم والتذكر والاستنباط؛

الجمع بين المعارف السابقة والمعارف الجديدة؛

الأخذ بسيرورة التفاعل بين المتعلم والمحيط؛

كل اكتساب عبارة عن سيرورة ذهنية داخلية مراقبة من لدن المتعلم نفسه، بحيث يشارك بنشاط وحيوية في كل ما يكتسبه من معارف وكفاءات"[19]

سيرورة البناء كنظام من المعارف المتفاعلة التي تتمظهر على مستوى:

 أنواع المعارف التي تتدرج من المحسوس الضمني إلى المجرد التصريحي؛

أشكال المعارف التي تتضمن المعارف الطبيعية العفوية الساذجة والمعارف العلمية الممأسسة المرتبطة بالسياق المدرسي؛

من حيث استراتيجيات الاكتساب التي تفترض أن مهمة المتعلم لا تنحصر فقط في مجرد تعلم معارف خاصة بمجال محدد، بل يتعين أن تتجاوز ذلك إلى تعلم " قواعد عامة للتفكير واستراتيجيات لاكتساب المعارف واستعماها". يتعلق الأمر –هنا-بتعلم التعلم أو الميتا تعلم، حيث يصبح «التعلم سيرورة لتحويل فكر المتعلم من فكر معيش منغرس في السياق الطبيعي إلى فكر مجرد يعقل ذاته ولغته بمعزل عن أي سياق"[20]

سيرورة البناء كتحويل للمعارف التي تتحول بفعل التمدرس من معارف ساذجة إلى معارف منظمة ومبنينة، "وتتحدد إشكالية تحويل المعارف، حسب السيكولوجيين والديداكتيكيين في مناسبة وملاءمة المعارف المدرسة والوضعيات الجديدة في أفق تفعيلها بشكل جيد. أي بمدى المطابقة والمماثلة بين الشكل ومحتوى المعارف المدرسة من جهة، وبين مختلف الميادين حيث إمكانية تطبيقها من جهة أخرى"[21]

    تبعا لذلك، إذا كان بناء الكفاية يأخذ هذا الوجه السيروراتي التكاملي (البناء كنشاط ذهني، البناء كنظام من المعارف، البناء كتحويل للمعارف)، فكيف يتأجرأ على مستوى المعارف اللغوية بالمرحلتين الأساسيتين للتعليم الابتدائي بشكل يضمن التدرج والاستمرارية والانسجام والنسقية بين المرحلة الأولى التي تضم السنوات الثلاث الأولى، ومرحلة السنوات العليا؟  

ثانيا. مرحلة استضمار البنيات اللغوية واستثمار المهارات الشفهية في السنوات الثلاث الأولى

 عن مفهوم الإضمار/الاستضمار 

     يتخذ بناء الكفاية اللغوية في منهاج اللغة العربية بالتعليم الابتدائي سيرورة بناء متنامية كما وكيفا، وذلك عبر" المحافظة على مرحلتين أساسيتين للتعليم الابتدائي، لضمان الاستمرارية والنسقية والانسجام والتدرج داخل كل مرحلة على حدة، قصد ترصيد المكتسبات وتطوير القدرات والمهارات وإنماء الكفايات المقررة في المنهاج"[22]. فما معنى الإضمار في تمرير القواعد اللغوية بالمرحلة الأولى؟

     الإضمار: مصدر أضمر وهو تكوين فكرة في الذهن تكون متضمنة وغير معبر عنها صراحة، وفي علم العروض إسكان الحرف الثاني كالتاء في متفاعلن فتصير متفاعلن، وفي علم النحو هو الإتيان بالضمير بدلا من الاسم الظاهر[23]. وفي مجال الديالكتيك يقتضي هذا المبدأ " تمرير الظواهر الأسلوبية والصرفية والتركيبية والإملائية بطريقة ضمنية في السنوات الأولى والثانية والثالثة من السلك الابتدائي"[24]. ولعل المسوغات التي تقتضي تمريرها ضمنيا تعزى إلى كون القواعد اللغوية ذات طبيعة مجردة يتعذر على الطفل في هذه المرحلة العمرية استيعابها، ف" تفكير الطفل في هذه المرحلة مادي صرف، فهو لا يفهم المجردات على الرغم من أن الإبداعية تكون في ذروتها ...وبالمقارنة مع تفكير الراشد، فإن تفكير الطفل ليس من الدرجات العليا، فلا توجد لديه مفاهيم حقيقية في هذه المرحلة..."[25].

تدرج بناء الكفاية اللغوية عبر سيرورة تبدأ ب: 

اعتماد الحكاية منطلقا لاستضمار البنيات اللغوية

      تبعا لطبيعة إدراك المتعلم (إدراك حسي) في هذه المرحلة، عملت المجموعة التربوية التي سهرت على صياغة منهاج اللغة العربية بالتعليم الابتدائي على ضرورة مراعاة واحترام العمر الزمني والإدراك العقلي للمتعلم. لذلك كان اختيار نصوص الحكاية والقراءة والكتابة منطلقات أساسية لاستضمار البنيات اللغوية المذكورة في السنوات الثلاث الأولى، يستجيب للشرطين الديداكتيكي والسيكولوجي. من هنا، كانت الحكاية "كدعامة لغوية كتبت باستحضار أسس ومرتكزات وموجهات أدب الطفل وثقافته من جهة، والخصائص العقلية والوجدانية والنفس حركية المميزة للمرحلة النمائية التي ينتمي إليها أطفال السنة الأولى من التعليم الابتدائي. أما الدعامة السيميائية فتتمثل في المشهد التعبيري الخاص بالحكاية، والرسوم والصور الخاصة بالوضعية التواصلية،  وذلك بهدف إنماء الكفاية اللغوية وفق سيرورة يشكل فيها تدريب المتعلمين على الاستماع في الحصص الخمس الأولى مرتكزا أساسيا لاستضمار المتحكمات اللغوية والبنيات العميقة للحكاية، وتشربها عبر فهم مضمونها العام ورصد عناصرها الأساسية: الأحداث، الشخصيات، الزمان، المكان، واستثمار بنيتها: البداية، تنامي الأحداث، عقدة الحكاية، تهاوي الأحداث إلى الحل. وقد اعتمد منهاج اللغة العربية جملة من الاستراتيجيات لخدمة البعد الأول من أجل تملك الكفاية اللغوية: بعد تمرير الظواهر اللغوية عبر الإضمار.

تطوير الرصيد الوظيفي:

    ينطوي استثمار المعجم الوظيفي في الحكاية المقدمة للمتعلمين في السنتين الأولى والثانية من التعليم الابتدائي على أهمية خاصة في إنماء كفايتهم اللغوية، فكلما زاد تحكم المتعلمين في طائفة كبيرة من المفردات والوحدات المعجمية، سهل عليهم نسج خطابات وتأليف حوارات، وكلما ضعف تحكمهم في المعجم، أثر ذلك في مهارات الفهم والإنتاج. حيث تشير الأبحاث إلى أن «التحكم في المعجم لا يقل أهمية عن التمكن من النحو في تنمية الكفاية التواصلية.... فالكفاية المعجمية كفاية مركبة وشاملة لمجموعة من الخصائص التأليفية التي تمكن المتكلم من التعرف على دلالة مفردات اللغة وكيفية استعمالها في جمل ونصوص معينة"[26]. لهذا يرتبط الجزء الأكبر من تعلم لغة ما بتعلم مفرداتها الجديدة. لذلك فإن " متعلم اللغة لا يعود إلى كتب النحو أثناء مواجهته لصعوبات تواصلية سواء على مستوى التواصل الشفهي أو الكتابي، بل يعود إلى القواميس لمعرفة معاني بعض المفردات الصعبة"[27]. وينبني التحكم في الكفاية المعجمية من لدن المتعلمين على ضرورة تملك هذه الوحدات وتعرف بنياتها والعلائق القائمة بين المعاني المختلفة وإدراك العلائق الصرفية بين الكلمات والوحدات والمفاهيم، ثم استثمارها في صيغ وجمل مختلفة ومتعددة استعدادا لتوظيفها في وضعيات تواصلية دالة.  

تمرير البنيات التركيبية والصرفية والأسلوبية بطريقة ضمنية

    تحتل الظواهر التركيبية والصرفية والأسلوبية أهمية خاصة في بناء الكفاية اللغوية لدى المتعلمات المتعلمين في برنامج اللغة العربية الخاص بالمستويات الثلاثة من التعليم الابتدائي، ويقتصر مصطلح الظواهر التركيبية على الظواهر المتعلقة بطرق تركيب الكلام في الجمل... وهي في المستويات الثلاثة الأولى:(1-2-3) تمرر بطريقة مضمرة لاعتبارات سيكولوجية يقتضيها العمر الزمني، ويستدعيها مستوى الإدراك لدى المتعلمين في هذه المرحلة. لذلك، فإن استضمار المتعلم لبنية الجملة السابقة (فعل+ فاعل + حال) يتيح له أن يصوغ -على مستوى الإنجاز (البنية السطحية) الذي يتمثل فزيائيا في شكل مجموعة من الأصوات والرموز-ما لا حصر له من الجمل النظيرة أو الشبيهة، وتقتضي هذه الصياغة ألا تدرج باعتبارها مواد منفصلة، بل باعتبارها نظاما متكاملا، والتحكم في هذا النظام هو الذي يؤهله لإنتاج ما لا حصر له من الجمل والصيغ والتراكيب اللغوية.

من الاستضمار إلى الإنتاج وتطوير القدرة على التواصل

      يمثل إنتاج  النص الموازي – هنا- إبداعا لغويا عن طريق الإبدال أو الإضافة أو الحذف أو ملء الفراغ، ويستطيع المتعلم بيسر أن ينسج مقطعا من الحكاية أو نصا حكائيا كاملا، يساعده في ذلك الحكاية نفسها التي أصبحت مركوزة في ذاكرة المتعلم بسبب ترددها على مسمعه على امتداد خمس حصص متوالية مدرجة في الأسبوع الأول (الحصص:1،2،3،4،5)؛ وخلال عملية الاستماع يتداول المتعلم كل ما يتضمنه النص الحكائي من مفردات وجمل يستضمر بنياتها اللغوية الأسلوبية والتركيبية والصرفية المستهدفة عبر حوارات أفقية وعمودية متتالية، وتروج لجملة قيم يتشربها ويطلب منه ترجمتها وتشخيصها عبر محطات السرد لمقاطع الحكاية. وتأتي الحصص الخمس التي تقدم في الأسبوع الثاني متناغمة ومكملة لحصص الأسبوع الأول، وذلك لخدمة هدف أساسي وهو: إقدار المتعلم على الإبداع والإنتاج انطلاقا من حكاية استضمر بنياتها العميقة؛ فإنتاج المتعلم للنص الموازي-إذن-يأتي حصادا لمجموع ما اكتسبه عن طريق الاستماع.

      وتعتبر الوضعية التواصلية مكونا مكملا لمكون الاستماع والتحدث، " تروم توفير مواقف تواصلية مقصودة في حد ذاتها تسمح للمتعلم(ة) بالتحدث والتعبير واستعمال اللغة وتوظيفها في سياقات دالة، وهي بذلك مكملة لما يمكن استثماره في الحكاية من مواقف تعبيرية وتواصلية؛ وهذا ما ييسر تغطية الأهداف التواصلية والأفعال الكلامية المحددة في المنهاج وتحقيقها"[28]. وتفيد الأفعال الكلامية أن " الاستعمال اللغوي ليس إبراز منطوق لغوي فقط، بل إنجاز حدث اجتماعي معين في الوقت نفسه، فنحن نريد أن يعرف السامع ما نعرف (نقدم له معلومات)، بل إننا نريد -بناء على ذلك -أن يفعل ما نقول. " فنحن نطلب ونأمر ونوصي، وحين نعبر عن ذلك في نص، فإننا نقيم حدثا اجتماعيا"[29]، ويتجلى هذا الإنجاز في كون الأفعال الكلامية تتضمن ثلاثة أفعال لفعل كلامي واحد، وهذه الأفعال هي: الفعل اللفظي والفعل الإنجازي والفعل التأثيري؛ فالفعل اللفظي هو التركيب النحوي الصحيح الذي ينطوي على معنى أصلي، والفعل الإنجازي هو المعنى الإضافي الذي يؤديه الفعل اللفظي كالأمر أو الحث على إنجاز فعل ما. أما الفعل التأثيري فهو ما يحدثه الفعل الإنجازي من أثر في السامع، فيقبل بذلك إما على إنجاز الفعل أو رفضه. ويمكننا أن نسوق مثالا من الوضعيات التواصلية المقدمة لفائدة متعلمي المستوى الأول[30].

     ففي إطار استرجاع الحوار -الذي دار بين "ديدي ونميرة-المتعلق بالأمر والنصيحة. يوجه ديدي النصيحة لنميرة قائلا لها:   

ديدي: احملي معك معطفك. أنصحك بارتدائه في المساء حتى لا تصابي بنزلة برد.

نميرة: سأعمل بنصيحتك يا صديقتي.

فديدي-هنا-ينجز فعلا لفظيا قوليا، يكمن وراءه فعل إنجازي هو النصح المقدم لنميرة، وحين عملت نميرة بهذه النصيحة كان ذلك هو الأثر أو الفعل التـأثيري... وهكذا فالقدرة التواصلية تنبني حسب دوجلاس براون على أربع سمات متداخلة، هي كالتالي:

" لا تقتصر قاعة الدرس على القدرة النحوية أو اللغوية، وإنما تركز على مكونات القدرة الاتصالية؛

لا تمثل الأشكال اللغوية أساسا لتنظيم الدروس وترتيبها، وإنما تقدم من خلال تعليم الوظائف؛

الدقة اللغوية ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي أمر ثانوي في التعبير. ومن ثم، فإن الطلاقة أهم من الدقة، والمعيار النهائي في نجاح الاتصال هو التعبير عن المعنى المراد، وفهم المعنى المراد على وجهه الحقيقي؛

 ينبغي أن يكون استعمال اللغة هو الهدف الأساسي للدارسين في قاعة الدرس، سواء في إنتاجها (الحديث) أو في استقبالها (الفهم) في سياقات لم يسبق التدريب عليها"[31]

ثالثا. مرحلة التصريح بالقواعد الضابطة في السنوات الثلاث العليا

       إذا كانت المرحلة الأولى تتميز بكونها محطة يغلب عليها طابع " التحسيس والإعداد القبلي لاكتساب المعارف والمهارات والمواقف (السنة الأولى والثانية) ودعمها وتثبيتها في السنة الثالثة؛ فإن المرحلة الثانية  التي تضم السنوات الرابعة والخامسة والسادسة من التعليم الابتدائي، يغلب عليها طابع البناء والتركيز والتثبيت والتوسع التدريجي الأفقي للمكتسبات اللغوية المستهدفة، وتطوير الكفايات اللغوية والتواصلية المنشودة من محاور برامج المرحلة الأولى( السنة الرابعة)، في حين يغلب على السنة الخامسة والسادسة طابع الترسيخ والتعميق العمودي وترصيد المكتسبات السابقة واستثمارها وتثبيتها"[32]. وتتميز هذه المرحلة بكونها محطة للتصريح بالقواعد الضابطة للغة، حيث يحضر الوعي بالمتحكمات اللغوية وإدراك القواعد المجردة (النحوية والصرفية والأسلوبية والإملائية) التي سبق للمتعلم أن استضمر بنياتها في المحطة الأولى؛ لأن تفكيره (المتعلم) في هذه المرحلة " يتدرج من التفكير الحسي إلى المجرد وتتضح تدريجيا القدرة على الابتكار والعمل المبدع ويستمر التفكير المجرد في النمو"[33]. فالتصريح-إذن-بالقواعد الضابطة في مكونات الصرف والتحويل والتراكيب والإملاء في المستويات العليا يتم وفق غلاف زمني حدده المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي الصادر سنة 2021 في ستين دقيقة موزعة على حصتين، خصصت ثلاثون دقيقة للحصة الأولى التي تقدم في الأسبوع الأول، فيما خصصت الثلاثون الأخرى للحصة الثانية في الأسبوع الثاني. ويأخذ التصريح بالقواعد اللغوية سيرورة متنامية ديداكتيكيا تفضي بالمتعلم – عبر انخراطه في بناء التعلم-ليس فقط إلى تملك القاعدة اللغوية وتطبيقها في تمارين وأنشطة مقترحة، ولكن – أيضا-تتيح له إمكانية توظيف القاعدة في سياقات ومقامات تواصلية دالة متعددة ومختلفة.  فكيف يتم التصريح بالقواعد الضابطة إذن؟ وما السبيل إلى إنماء الكفاية اللغوية عبر القواعد المصرح بها؟

الوضعيات التعليمية التعلمية وبناء الكفاية اللغوية

     يرتكز تحقيق الكفاية على ضرورة استحضار المكتسبات السابقة من معارف وقدرات ومهارات، ويبقى "هذا الاستحضار غير كاف مالم يتم إدراجه في وضعيات تعلمية... وتعرف الوضعية التعلمية بأنها السياق الذي يتم فيه نشاط أو يقع فيه حدث تعلمي ... وتستند الوضعية التعلمية إلى ثلاث مكونات أساسية، هي:

الدعامات: أي مجموع العناصر المادية التي يتم تقديمها للمتعلم، ومنها الصورة والرسم والنصوص والخبرات وكذلك المجال والمحيط اللذان يحيا فيهما المتعلم؛

المرتقبات: وهي النتائج المؤمل الحصول عليها بعد الإنجاز؛

الإرشادات: وهي مختلف التوضيحات وشروط العمل التي تقدم للمتعلم بصورة واضحة."[34] 

     ولتحقيق الكفاية المذكورة عبر الوضعيات الديداكتيكية، يمكن اعتماد تقسيم كزافيي روجرز لهذه الوضعيات في تدبير الدروس، وهي: (الوضعية الاستكشافية، الوضعية الديداكتيكية، الوضعية المهيكلة، الوضعية التقويمية)[35]

     وللتوضيح أكثر، نقترح تدبير ظاهرة لغوية لكشف تمشيات البناء الذي يتخذه مبدأ التصريح بالقواعد الضابطة، مستثمرين في ذلك مبدأ التفاعل الذي تنادي به النظرية البنائية (جون بياجي Jean Piaget) بين الذات المتعلمة وموضوع التعلم. فالظاهرة اللغوية المقترحة –إذن-هي: الحال والجملة الحالية التي تقدم لفائدة متعلمي المستوى السادس، مدة غلافها الزمني ستون دقيقة.  وتتحدد أهداف الحصة كما يلي:

 أن يتعرف الحال والجملة الحالية؛

أن يميز بين أنواع الحال (مفرد، جملة، شبه جملة)؛

أن يستعمل الحال والجملة الحالية في جمل مفيدة؛

أن يوظف الحال والجملة الحالية في وضعيات تواصلية دالة ومختلفة.

                   

    فاصطفاف الأهداف التعلمية بهذه الترتيب يوازيه ترتيب بناء الوضعيات والأنشطة التي تتضمنها.  وتبعا لذلك، فإذا كانت الوضعية الاستكشافية Situation d’ exploration تستهدف التمهيد لإرساء الموارد الجديدة عبر خلخلة المكتسبات القبلية للمتعلم، من خلال أنشطة لا يصرح فيها بالموارد أو بالمفهوم الجديد (الحال والجملة الحالية)؛ فإن الوضعية الديداكتيكية: Situation didactique(البنائية) تستهدف بناء التعلمات الجديدة عبر التصريح بالموارد بكيفية نسقية. فكيف يتدرج بناء هذا التصريح عبر الوضعيات الثلاث التالية (الديالكتيكية والمهيكلة والتقويمية)، وكيف يتم إنماء الكفاية انطلاقا من درس في علاقته بالدروس الأخرى التي تليه؟  بكلمة أخرى، كيف تتفاعل الذات المتعلمة (المتعلم) مع موضوع التعلم (الحال والجملة الحالية) لبناء المعرفة الجديدة؟ لا سيما أن " من أهم مبادئ التعلم في هذه النظرية (النظرية البنائية) أنه لا ينفصل عن التطور النمائي للعلاقة بين الذات والموضوع، فالتعلم يقترن باشتغال الذات على الموضوع، وليس باقتناء معارفه عنه"[36]

الوضعية الديداكتيكية (وضعية البناء)

     لمعرفة كيفية تفاعل المتعلم مع موضوع التعلم، يسلك المدرس -باعتباره ميسرا لعملية التعلم لا ملقنا للمعرفة -مسارا يستدرج فيه المتعلمين – بعد قراءتهم للنص القاعدي وفهم مضمونه-إلى عزل الجمل المتضمنة للظاهرة وتسجيلها على السبورة، ثم يطلب منهم ملاحظة الظاهرة مستدرجا إياهم إلى تحليلها من خلال أسئلة دقيقة، تفضي بهم إلى تعرف الحال (اسم نكرة منصوب يأتي لبيان هيئة الاسم الذي قبله) ثم ينتقل بالمتعلمين إلى تعرف أنواع (الحال مفرد، الحال جملة، الحال شبه جملة).

    الجدير بالذكر هنا أن الأسئلة التي يطرحها المدرس تؤشكل المتعلم وتخلخل توازنه المعرفي (اللاتوازن عند جون بياجي)، وتضعه أمام تحد عليه أن يجد له حلا؛ فيبدأ في البحث عن ملاءمة (الاستيعاب والتلاؤم لدى بياجي) لمعارفه السابقة مع المعرفة الجديدة، وفي سياق ذلك، يفسر ما يستقبله ويبني المعنى بناء على ما لديه من معلومات إلى أن يصل إلى الحل أو إلى التوازن الجديد. فالذات –هنا-تمارس تأثيرها على موضوع التعلم عبر مجموعة من العمليات الذهنية: (الفهم، التفسير، التأويل، التجريب، المقارنة، الاستدلال...). بفعل هذا التأثير، يتحول موضوع التعلم إلى موضوع طيع يسير الفهم من قبل المتعلم؛ الأمر الذي يسهل لديه عملية التجريد (تجريد الموضوع) أو مفهمة الموضوع = القاعدة.

الوضعية المهيكلة: Situation Structuration

    في هذه الوضعية يبنين المتعلم -بمساعدة المدرس-الموارد المكتسبة عبر شبكة مفاهيمية وتثبيتها تثبيتا منظما، يتم ذلك عبر مجموعة من الأسئلة المتسلسلة والمتدرجة التي تفضي إلى المفهمة، وذلك من قبيل:

ما نوع كلمة مبتسما في جملة: دخل الأب إلى البيت مبتسما؟

يجيب المتعلم: اسم.

هل هو مرفوع أم منصوب أم مجرور؟

يجيب المتعلم: منصوب. هل هو نكرة أم معرفة؟ يجيب المتعلم: اسم نكرة وما قبله معرفة. ماذا يبين هذا الاسم النكرة المنصوب؟

يجيب المتعلم: يبين هيئة الاسم الذي قبله.

إذن كيف نسمي الاسم النكرة المنصوب الذي يبين حالة الاسم الذي قبله؟

يجيب المتعلم: نسميه حالا. إذن ما هو الحال؟

هنا يعطي المتعلم للظاهرة مفهوما صريحا، وهو: الحال اسم نكرة منصوب يبين هيئة الاسم الذي قبله. وقس على ذلك بقية الظاهرة.

الوضعية التقويمية: Situation d’évaluation

    في علاقة هذه الوضعية بالوضعية السابقة يتم الانتقال إلى التعميم الذي تجسده محطة أستعمل وأوظف. حيث يدرك المتعلم ويتعرف أن كل الأسماء المنصوبة النكرة التي تبين هيئة الأسماء التي قبلها تسمى حالا. وهو ما يسوغ له إمكانية الاستعمال، ويتيح له القدرة على التطبيق والتوظيف في المواقف التواصلية.

محطة الاستعمال: يكون فيها المتعلم قادرا على تطبيق القاعدة واستعمالها، بعد تعرفه على الحال وإعطائه مفهوما، وتملكه للقدرة على الاستعمال في ضوء عملية التعميم التي توصل إليها، فالاستعمال يقتصر فقط على التطبيق، كأن يركب المتعلم جملا مفيدة تتضمن الحال والجملة الحالية، أو أن يستخرجهما من نص.  

محطة التوظيف:

    تختلف عملية التوظيف عن الاستعمال من حيث كونها تستهدف تعبئة الموارد المتعلقة بالحال والجملة الحالية وتجنيدها لاستثمارها في وضعيات تواصلية متعددة ومختلفة، تدريبا وإقدارا له على الإدماج ولو في شكله البسيط. هذه المحطة أساسية في إطار المقاربة بالكفايات، لأنها تعد المتعلم وتهيئه لأن يتعامل مع المركب. ومن الأمثلة على ذلك: نطلب من المتعلم أن يصف رحلة قام إلى إحدى القرى يوظف فيها الحال والجملة الحالية.

خاتمة

      حاولنا في هذه المساهمة إبراز المسار الذي يتخذه بناء الكفاية اللغوية لدى المتعلم بالمدرسة الابتدائية -مسار يتكامل فيه مبدآن أساسيان هما مبدأ الإضمار ومبدأ التصريح، فالأول الذي يرى إلى اللغة على أنها أسبق -من حيث الاستعمال والتداول -من القاعدة التي تضبطها، يبقى وفيا – من جهة-لخصائص المرحلة النمائية التي ينتمي إليها أطفال السنوات الأولى والثانية والثالثة؛ ومن جهة أخرى يراعي المسار الذي اتخذته البشرية في تعلم اللغة، فالإنسان تداول اللغة شفهيا قبل أن يعي القواعد المتحكمة فيها. أما المبدأ الآخر(التصريح)، فهو ينسجم مع المراحل العمرية التي يكون المتعلم قادرا على التجريد والتمثل الصوري للمفاهيم اللغوية، ولكنه مع ذلك، يبقى في حاجة إلى ما تقدمة البيداغوجيا والديداكتيك للمدرس قصد إنزال المفاهيم اللغوية من عليائها إلى مستوى المتعلم في المراحل الثلاث العليا من التعليم الابتدائي.

المراجع

  1. [1] - أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، المجلد الأول، الطبعة الأولى، القاهرة، 2008، ص: 1948
  2. [1] - ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، ج15، ط4 بيروت، مادة (ك.ف.ي)
  3. [1] - إبراهيم السامرائي، التطور اللغوي التاريخي، دار الأندلس، ط2، القاهرة، ،1966، ص: 134
  4. [1] - خاد بسندي، مصطلح الكفاية وتداخل المفهوم في اللسانيات الحديثة، المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها، المجلد 5، العدد2، نيسان 2009، ص: 36-37
  5. [1] - عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، معجم موسوعي في المصطلحات والمفاهيم البيداغوجية والديداكتيكية والسيكولوجية، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الجزء الأول، البيضاء، 2006، ص: 162
  6. [1] - عبد الكريم غريب، استراتيجيات الكفايات وأساليب تقويم جودة تكوينها، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، ط3، 2003، ص: 54-55
  7. [1] - عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، م. م. ص: 737
  8. [1] -  عبد الكريم غريب، استراتيجيات الكفايات وأساليب تقويم جودة تكوينها، م. م. ص: 57
  9. [1] - المرجع نفسه، ص: 7
  10. [1] - كزافيي روجرز، نقلا عن وزارة التربية الوطنية، مجزوءة التخطيط لفائدة الأساتذة الموظفين بموجب عقود، 2016، ص: 72
  11. [1] - نعوم تشو مسكي، جوانب من نظرية النحو، ترجمة مرتضى جواد باقر، البصرة، 1985، ص: 28
  12. 12-محمود السيد، الكفاية اللغوية مفهوما ومعيارا ومقياسا، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 89، الجزء4، ص: 870-871
  13. المرجع نفسه، ص: 45[1]
  14. [1]- يونس علي محمد، أصول اتجاهات المدارس اللسانية الحديثة، عالم المعرفة، المجلد 32، العدد1، الكويت، 2003، ص: 134
  15. -المرجع نفسه، ص: 134[1]
  16. [1] - العربي اسليماني، التواصل التربوي مدخل لجودة التربية والتعليم، منشورات مجلة علوم التربية5، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، البيضاء، 2005، ص: 76-77
  17. محمود السيد، الكفاية اللغوية مفهوما ومعيارا وقياسا، م. م. ص: 881 [1]
  18. [1] - الغالي أحرشاو، الطفل بين الأسرة والمدرسة، منشورات علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، البيضاء، 2009، ص: 54
  19. المرجع نفسه، ص: 54[1]
  20. المرجع نفسه، ص: 56[1]
  21. [1]- عمر بيشو، ديداكتيك الكفايات والإدماج، منشورات مجلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، البيضاء، 2010، ص: 33
  22. [1] - وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي، مديرية المناهج، يوليوز، 2021، ص: 71

 

  1. [1] - أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، المجلد الأول، الطبعة الأولى، القاهرة، 2008، ص: 1369
  2. [1] - وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي، مديرية المناهج، يوليوز، 2021، ص: 57
  3. [1]- أديب محمد عبد الله النوايسة، إيمان طه طايع القطاونة، النمو اللغوي والمعرفي للطفل، دار الإعصار العلمي للنشر والتوزيع، ط1، 2015عمان، ص: 153
  4. [1]- فاطمة الخلوفي، أثر الكفاية المعجمية في التمكن من اللغة، تطور معايير التمكن من تخزين مفردات اللغة إلى بناء الكفاية التواصلية، التدريس، مجلة كلية علوم التربية، العدد 6، السلسلة الجديدة، يونيو. 2014، ص: 3
  5. الحسن عبد النوري، دور المفردات في بناء الكفاية اللغوية لدى المتعلم، مجلة العربية، عدد2، المجلد6. ص: 36[1]
  6. [1]- وزارة التربية الوطنية والتعليم العلي والتكوين المهني والبحث العلمي، المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي، مديرية المناهج، يوليوز، 2021، ص: 28
  7. [1]- فان ديك تون.أ، علم النص: مدخل متداخل الاختصاصات، ترجمة وتعليق سعيد حسن بحيري، دار القاهرة للكتاب، ط1، القاهرة، 2001، ص: 26
  8. [1] - وزارة التربية الوطنية والتعليم العلي والتكوين المهني والبحث العلمي، المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي، مديرية المناهج، يوليوز. 2021، ص: 152
  9. [1]- دوغلاس براون ه، أسس تعلم اللغة وتعليمها، ترجمة: د. عبده الراجحي، د. علي أحمد شعبان، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1994، ص: 261
  10. [1]- وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، المنهاج الدراسي للتعليم الابتدائي، مديرية المناهج، يوليوز، 2021، ص: 71
  11. [1]-  أديب محمد عبد الله النوايسة، إيمان طه طايع القطاونة، النمو اللغوي والمعرفي للطفل، دار الإعصار العلمي للنشر والتوزيع، ط1، 2015عمان، ص: 156
  12. [1] - وزارة التربية الوطنية، مديرية تكوين الأطر (قسم استراتيجيات التكوين)، المقاربات البيداغوجية الحديثة، 2005، ص: 24
  13. [1]- نقلا عن وزارة التربية الوطنية، مديرية تكوين الأطر، مجزوءة التخطيط لفائدة الأساتذة الموظفين بموجب عقود، 2016، ص: 72 
  14. [1]- شاه خالد ناسوتيون، تطوير نموذج تدريس النحو في ضوء نظرية التعلم البنائية (رسالة دكتوراه)، قسم تعليم اللغة العربية، جامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية، مالانج ، اندونيسيا، مايو: 2016، ص: 107

 

Partager cet article
Repost0
3 avril 2022 7 03 /04 /avril /2022 16:58
مجلة دفاتر الاختلاف

مجلة دفاتر الاختلاف

اللغة العربية  والتأنيث

بحث في المؤنث النحوي

د. ادريس عبد النور

دراسة محكمة

أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس- مكناس /المغرب

أستاذ مادة اللغة العربية والديدكتيك والنقد الأدبي النسائي

Abdennour.driss@gmail.com

الكلمات المفاتيح: اللغة العربية، التأنيث، المؤنث النحوي، الجسد، كتابة المرأة.

مقدمة:

اللغة العربية نظام رمزي خالق للتصورات وتسكنه التمثلات، فهي تساهم في فعل التحويل الثقافي لأنها تجدد في سياقاتها وتخلق انطلاقا من التصورات الجديدة معجمها الدلالي والذهني وتجعل من خطاب التأنيث حالة وعي يلقي بعلامته بين يدي المتلقي، حيث يطرح فيه نوعية إقصاء السمات العملية عن المؤنث الذي يتصوره النسق منتجا دوما للمعنى الواحد الذي لا يخرج عن التأنيث، فضحكة الرجل تمثل إشارة متعددة الدلالة، أما ضحكة الأنثى فليس لها سوى معنى واحد قررته الثقافة وحسمت الأمر فيه لأنها تصدر عن جسد مؤنث مطلوب منه إنتاج التأنيث لا غير.

Mots clés : langue arabe, féminin, féminin grammatical, corps, écriture féminine.

Introduction:

La langue arabe est un système symbolique créateur de perceptions et habité de représentations, elle contribue à l'acte de transformation culturelle car elle renouvelle dans ses contextes et crée à partir de nouvelles perceptions son lexique sémantique et mental et fait du discours féminin un état de conscience qui projette sa marque dans les mains du destinataire, dans laquelle se présente la qualité d'exclure les traits pratiques du féminin qu'il imagine. Le système produit toujours un sens unique qui ne s'écarte pas de la féminité, car le rire d'un homme représente un multi- signe significatif, alors que le rire d'une femme n'a qu'un seul sens décidé par la culture et décidé de la matière en elle car il provient d'un corps féminin qui est tenu de produire uniquement la féminité.

1ـ التأنيث مفهوم ثقافي.

لعب المصطلح اللغوي دورا في لفت نظر الثقافة إلى الجسد الأنثوي، حيث تجمدت تمفصلاته في وضعيات مرتبطة بالفترة الزمنية الذهبية للأنثى، زمن الإغراء فأبرز آليات التحويل هذه تأتي من المصطلح اللغوي ومن مجموع المفردات المخصصة لكل فعل أنثوي، " فالجسد المؤنث لا يمشي بوصفه جسدا طبيعيا بل إنه (يتثنّى) و(يتأوّد)و(يرفل)، وهذه مفردات تخصصها اللغة لمشية الحسناوات، اللواتي يمشين (مشي القطاة إلى الغدير)"([1]).

وعندما تُنكر الثقافة قيمها المادية والمعنوية عن هذا الجسد المؤنث، تسمح للرجل باللغة كسمة فحلية، ولا تسمح الثقافة الذكورية للمرأة إلا بنصيب يأخذ من اللغة حاجته، وقد عكس هذا المعطى مشملات حوار الجنسين فأفردت الاختلافات بينهما لغة خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالإناث، نظرا لكون النسق الثقافي في مجمل تجلياته يجعل من الأنوثة صفات وليس جوهرا، على اعتبار أن المرأة إذا حضرت بين الرجال حملت معها تفوقها المؤثر عبر الحكي والجسد وإيحاءات لغتها المتعددة في الصمت والنظرات والكلام، أما إذا حضرت في النص اللغوي فتحتل الهامش الذي يغذي تفوق الذكر ويُبرزه ويُعلي من شأنه، "ومن عادة الرجال أنهم لا يتكلمون في حضور المرأة إلا في حدود. وإذا غابت المرأة انفتحت لغة الرجل على مجالات لا حصر لها، خاصة تلك المجالات الخاصة بنظر الرجل للأنثى وتفسيره للغة جسدها وأحكامه عليها"([2]).

كل ما سبق يدعونا لاستخلاص حقيقة ثابتة تعطي تمايزا ما بين مكونين أساسيين في بحثنا، وهو الوقوف على التمايز الحاصل ما بين كلمة "امرأة " وكلمة "أنثى"، فالمرأة تتضمن الأنثى، والأنثى التي يعرفها النسق الثقافي مرتبطة بالزمن الثقافي ذاته الذي يفرق بدوره ما بين مراحل نمو الجسد الأنثوي، وبذلك تكون المرأة متعددة التسمية بحسب وظيفة جسدها فهي: الصبية والفتاة والزوجة والأم والحماة والعجوز والعذراء، العزباء، الحامل، اليائس والشمطاء..، فيكون المؤنث هنا محمَّلا بقيم  ثقافية خاصة، من حيث أنه يُرسخ في الثقافة ارتباط النضج الأنثوي بزمن الأيض، ومرتبط ارتباطا وثيقا بالولادة والتناسل، فالجسد الأنثوي في النسق الثقافي الذي لا يلد ولا ينسُل لا يدخل في دلالة التأنيث، وهذا ما يدعمه الاصطلاح الثقافي عندما يصنف المرأة التي انقطعت عنها دم الحيض في سن اليأس، أي سن اللاأنوثة، وتؤكد الثقافة هنا خصوبة الجسد باعتباره معطى أساسيا يعزز ويحصر شروط المؤنث  في صفات جسدية تحل فيه لفترة زمنية معينة، أي مع البلوغ، وتغادره مع سن اليأس لتدخل الأنثى في مرحلة اللاهوية، يقول النسق الثقافي على لسان ابن عبد ربه بن محمد الأندلسي:"وآخر المرأة شر من أوله، يذهب جمالها ويذرب لسانها وتعقُم رحمها ويسوء خلقها"([3])، فبعد سن اليأس لا يرى النسق الثقافي العربي في عالم المرأة إلا عالما يقف عن الدوران، الشيء الذي دفع المرأة إلى الانشغال المرضي بتمديد هذا الزمن حتى تنال رضى الثقافة والنسق، وبالتالي الرضى عن نفسها من خلال ذلك، فتوسلت بالجمال الاصطناعي من زينة ولباس وعطور، ومن وسائل أخرى كشفط الدهون والتنحيف والرياضة، أما المرأة الكاتبة فقد تجمّلت باللغة والثقافة للإعلان عن نفسها بالمعنى والسياق.

وقد عمل الإشهار ايضا على إبراز واستعادة القيم المجتمعية وتخزينها في الوعي الجمعي لجمهور المتلقين والتركيز على الصفات الخاصة بكل جنس، فوصف الذكور بالجنس الخشن، في حين وصف النساء بالجنس اللطيف، وبذلك ساهم الإشهار في شيوع التداول الثقافي للمؤنث الصناعي استجابة للصورة الثقافية التي تحيط به، مستعينا في عملية التحويل هاته بالتطور الصناعي واستخدام اختراعاته التجميلية كوسائط ثقافية للتمويه على القيم الذكورية التي تتنكر لجسد الأنثى (الصبية والكهلة..)، ففي الدولة الأموية كان النخاسون يلجؤون إلى الحيلة والتدليس في إخفاء عيوب الإماء بما أن المشتري المُتفرِّس يقلب الإماء بنظره الثاقب كأي سلعة :"فيعمدون إلى تغيير البشرة فيُحيلون السمراء إلى ذهبية اللون، ويحيلون الدربة إلى بيضاء ويحمرون الخذود المصفرة، ويجعدون الشعور السبطة ويبسطون الشعور المجعدة، ويسمنون الأعضاء الهزيلة، وينعِّمون الأطراف الخشنة، ويزيلون مافي الوجه من آثار الجدري والنمش والوشم والكلف، ويجلون الأسنان، ويخضِّبون البرص، ويطيبون الفم والجسد ويفعلون ماهو أكثر من ذلك، فيجعلون الثيب بكرا، ويخفون الحمل ويغيرون زرقة العين لتصير كحلاء"([4]) فمثلا كان الجسد الأنثوي في التمثلات السابقة أبيض البشرة، وهو الآن ذهبي dorée ومُعتنى بجماليته، وقد حولت الملابس وأنظمة الحمية واختراعات التجميل الصناعية الكهلات إلى إناث يحيطهن الإغراء والمعجبين.

2ـ الجسد الأنثوي كائن لغوي.

لقد كان شهر ماي من سنة 1968 م بداية لمرحلة وُصفت بأنها مرحلة من أجل الجسد، رفعت فيه سيمون دي بوفوار شعارها التاريخي عندما صرخت بأن: "هذا الجسد جسدنا ونحن نريد أن نسكنه بحق ونتصرف به بحرية"، وقد جعلت هذه المرحلة من الجسد أحد وسائطها الرسمية لتخطّي العديد من القيود والتراتبيات الرمزية، ولم يكن من سبب لتحرير الجسد المهان سوى تحرره ليصبح شريكا غير مرتقب لتطور الذات، فمع تطور فعل تحرير الجسد داخل فضاءات ثقافية وعاطفية، تولدت الرغبة في نسج مفاهيم عامة لوصف جديد حياة المرأة: "فتحقق الجسد كمحك للتطور وليس بتاتا شيء خاضع للتحرير، لكنه أصبح الوسيلة ذاتها للتحرر وواسط بين الأنا المتناهي واللامتناهي الأعلى"([5]).

إن أهمية الجسد باعتباره كائنا لغويا، تلخصها إشكالية البحث التي تتمحور حول خصوصيات الكتابة بالجسد الأنثوي كخطاب ينتج لغته الخاصة للتعبير عن هموم ووضعية المرأة على المستوى الأدبي، فللكاتبة عالمها الخاص داخل الخطاب الرمزي الذي يحتاج منا فقط مفتاح الإصغاء إلى صوتها المتميز .

إن الجسد الأنثوي خطاب يتلقاه المتلقي باعتباره ذاتا خارج القيم، مستعملا خلال القراءة المنطق الذكوري الذي يشكل مركزا أساسيا للعنف الرمزي، وإذ يعيش متخيل المرأة هذا التعدد التأويلي، يعيش الجسد الأنثوي بين الحجم الثقافي والمعطى الوظيفي، فالجسد كلٌّ وأجزاء، فالجزء عند المتلقي يحيل على الكل، والكل يقوم بدوره في تطعيم الصورة الذهنية التي توحي بالكل من خلال الجزء.

قد تضع المرأة جسدها في مواجهة المؤسسات، فتجعله أكثر جدبا وإغراء لتسهيل تبادله، وهذا يجعلها تولي جسدها العناية الفائقة وتحوله إلى الرغبة، ولو أنها لاتتمكّن من تحقيق رغبتها الذاتية، فالرغبة ليست مستقلة ولا تنبع من ذواتنا، بل تثيرها في أنفسنا رغبة شخص آخر، لأن الرغبة قضية يستلزمها السياق الرمزي الذي ينتظم داخله المجتمع الذي تعيش فيه المرأة، والتي تختار الانمحاء الوجودي كي تكتب جسدها من الداخل، وتعمل على إظهاره بأشكال مختلفة من الخارج.

إن كتابة الجسد الأنثوي تفضح المركزية الذكورية في كل أشكالها المادية والأيديولوجية المختفية باستمرار داخل اللغة التي أحكمت خناق الذات الأنثوية.

إن التركيز على إشكالية اللغة باعتبارها مسكنا للاختلافات ستكون من بين الإضافات التي تُضاء بها الذهنية الثقافية لمجتمع العربية ، كما أن جعل الجسد المؤنث احتفالا بلاغيا تؤكد فيه الثقافة الذكورية مهارتها الإبداعية اللغوية، فما زالت المرأة المعاصرة داخل الخطاب الذكوري رهينة الممارسات المُخاتلة: " فالجسد قد يكشف ما تخفيه اللفظة، ويعبر بطريقة غير مباشرة بل وهو أهم وسيلة من الوسائل غير المباشرة في التعبير. وتعبيره أقدم تعبير، والتعبير الذي يتجاوز كل لغة تشترك فيه لغات العالم، لأنه كلام حي عضوي معيوش ومنقوش في اللحم والعضم. يعني ذلك أن اللاوعي، أو ما هو قريب من هذا المصطلح، مسجل في الجسد"([6])، لكن يبقى هذا الجسد وبدون وعيه لذاته قابل لأن يهان إلى الأبد في الخطاب قبل الواقع.

فحيث يُنَشّْط الإسطير اللغوي هيمنة الرجال على النساء يتكفل الحفر اللغوي بمساعد النساء على برمجة انسلالهن من مواصفات النسق وتكسير مركزية النص الأدبي، يقول خليل عبد الكريم ،"على فهم الاسطير الفهم الأمثل وعلى تفسير كلياته التفسير الأصح وأن التغاضي عن هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الموضوعية لن يزيد الأمور إلا خطلا وربكا"([7]). فدراسة اللغة في المجتمع ومعرفة الإطار الثقافي الذي يهين المرأة يتحدد أساسا بالنشاط العام الذي تمارسه المرأة داخل المجتمع، وقد أكد رواد علم الاجتماع اللغويsociolinguistique))أن التطور الثقافي يحدث تغيرا في دلالة الألفاظ وحيويتها التوليدية، ولهذا أعتبر السياق اللغوي- الاجتماعي الذي يحيط بالمرأة في مجتمعنا متغيرا وازنا لا بد من إدراكه ومساءلته.

وقد قاربت مارينا ياغيلو Marina Yaguello  الوضعية السوسيو- لسانية للغة النساء، فاستندت على الحقل الأيديولوجي، وركزت على متغير الوضعية النسائية أكثر من الجنس، حيث تبنت وجهة النظر الاجتماعية عوض وجهة النظر البيو-نفسية المعتمدة على الطبيعة الأنثوية وأبدية الأنثوي، كما أكدت في كتابها" Les mots et les femmes" وعبر تساؤل قوي ودال عنونت به الفصل الخامس من الجزء الثاني قالت فيه "أيجب إحراق القواميس"([8]).      

 حيث أبرزت البُعد الكوني للغة في تصنيفها للمرأة وتأبيد اضطهادها، وهي تحيل في سياقاتها المتنوعة على ذاكرة دلالية واحدة تتجسد في القوة المرتبطة بما هو مذكر، وعلى اللين والسهولة المرتبطة بكلمة "أنثى"، ويظهر الاختلاف الجنسي معها كعامل ملتصق أكثر بالحقل السوسيو- ثقافي والذي تنعكس فيه اللغة كنسق سيميوطيقي، وهي من خلال بنيتها ولعبة تدليلها  connotation تشبه مرآة ثقافية تعمل على تثبيت التمثلات الرمزية لخلق المرجعيات النمطية التي تعمل على تغذية تلك التمثلات بخصائص استمرارها وحضورها، يقول كريستيان بايلون في هذا الشأن: "إن الخطاب النسائي كتحقيق للنسق التحتي للغة المشتركة كثيرا ما يُعرض كخصائص للمجتمعات البطريركية والبدائية، وهي تعرض كذلك كأساس للتابو"([9]).

  • فإلى أي حد تخلصت المرأة الكاتبة من سطوة النسق الاجتماعي واللغوي والثقافي في خلق سلوكها اللغوي الخاص؟
  • وهل ساعدت كتابة الجسد الأنثوي في تنشيط الحفر اللغوي؟
  • هل لكل من الرجل والمرأة علاقة مختلفة مع اللغة؟
  • كيف تتحدث النساء بينهن؟ وكيف نتحدث معهن؟
  • كيف نتحدث عنهن؟
  • ما هي صورة المرأة التي تعكسها اللغة ؟

لقد ساهم الجسد في الإجابة على معظم التساؤلات، كما ساهم في بناء المفهوم الحقيقي للتذكير والتأنيث، حيث تحول بوساطته اعتبار الجسد الأنثوي قيمة طبيعية ذات جوهر ثابت بيولوجيا إلى مفهوم ثقافي، ومن ذلك أصبح الجسد الأنثوي كائنا لغويا يناقض التصور الذهني الذكوري المنغرس في الوجدان الثقافي والذي يقدم الأنثى باعتبارها كائنا غير لغوي ويصفها فقط بالجسد الشهي ذي قيمة خرساء، ذلك النسق في المجتمع العربي يعتبر بمثابة شرط وجودي وثقافي، الخروج عليه تفقد معه الأنثى موقعها المؤنث، (لقد نطق صمت الأنثى عند الفقهاء واعتبروه ردا إيجابيا في مسألة الخطبة والزواج)، ولهذا لم يكن العقل العربي البطريركي ينتظر من أي كاتب يحمل جسدا أنثويا أن يبدع عبر اللغة، فالرجل فيه جسد وعقل والمرأة جسد وشهوة، ولذلك جعل من فصاحة المرأة سلاطة لسان وثرثرة، يقول محمد عبد الله الغدّامي في هذا الشأن: "أما لماذا يجري تفريغ الجسد المؤنث من اللغة وعزله عن الفعل والتفاعل اللغوي، فهذا عائد إلى التصور الثقافي الذي يرى أن جسد المرأة خال من العقل وهذا تصور عالمي، ونقرأ لدى الدنمركيين هذا المثل: (للنساء فساتين طويلة وأفكار قصيرة)"([10]).

كما نجد بالمثل الانجليزي نفس التصور يقول المثل:(الفتيات لكي تنظر إليهن وليس لتسمعهن).

أما بالعالم العربي فتعتبر حكايا ألف ليلة وليلة خير مثال على التمثيل الثقافي الذي ساد قبلها، واستمر حاضرا في المخيال العربي على المستوى اللغوي بعدها، فالمرأة تقول للمرأة عبر المتن السردي هذه الجملة التي تبتدئ بها سلسلة النصائح التي توجه للفتاة وهي تدخل عالم الرجل (وما خلقت النساء إلا للرجال)، هذه الجملة التي توهم بأصلها الديني، وبمحتوى قصة الخلق التي جاءت على الصيغة التوراتية.

3ـ التمثل اللغوي للجسد الأنثوي.

احتفت الكتابة الأدبية النسائية بالجسد ومن خلال تركيزها على هذه التيمة، اعتُبر جسد المرأة محورا تتمركز حوله اشتغالات النقد الأدبي النسائي الذي انتقل من حركات النساء المطالبة بالمساواة والتحرر إلى مواكبة وإبراز الموروث الأدبي الأنثوي، وإدخاله إلى المؤسسة الأدبية والنقدية، وإذ يشكل الجسد في التمثلات التخيلية الشعرية والروائية والقصصية مكانة متميزة، لايمكن بتاتا اختزال كينونة المرأة في الجسد فقط، دون إغفال عالمها النفسي والشعوري والعقلي والاجتماعي، وإلا تحول الجسد إلى بضاعة يتعمق معها الإقصاء الثقافي، وتستجيب المرأة له بشكل لا شعوري، وتسعى للاحتفال بجسدها بوصفه حاملا للذة، وترى نفسها جسدا مثيرا فقط.

يحتوي الأدب النسائي على مدخلات للجسد باعتباره بؤرة لتجلّي الدلالات وقاعدة للمعنى في حالة تجاذب مع المحيط الخارجي الطبيعي والثقافي الذي أنشأه، فأصبح عبور المرأة لعالم الفن/الكتابة، محاولة للتواجد كجسد، وبذلك أنتجت المرأة الكاتبة جسدا لغويا كشف دواخلها وأعماقها النفسية، مع العلم أن ما تكتبه المرأة يبقى دائما هو المُعَبِّر الأساسي عن كينونة نسائية  ضمن وضع مشمول بالضغط الاجتماعي والثقافي، شكّل نظرا لقوته بنية ونسقا، تحدد معه مسبقا الدور الذي سيلعبه كلا الجنسين، حيث لا يمكن للكتابة بالجسد الأنثوي أن تكون إلا ناطقا رسميا عن تلك الكينونة خارج منطق الجبرية البيولوجية التي تعتمد التكوين الجنسي معيارا للقيم الثقافية. ويرتبط الجسد الأنثوي باعتباره واقعة ثقافية بالخطاب اللغوي بكل تنوعاته، إذ هي وسائله المثلى في التعبير عن عمقه الوجودي والتنفيس عما يحسه ويفكر به.

إن الكلام والسرد خصوصا بدأ ينصاع للمؤنث، وتمكنت المرأة في الآونة الأخيرة من استدعاء الكلمات وآليات التعبير التي هيمن عليها "المذكر"، بما هو حامل لسياق ثقافي تاريخي مشمول بالمنطق الذكوري. ولقد عانت المرأة في السابق من غطرسة هذا السياق الثقافي اللغوي الذي كان يؤول لغة المرأة وخطابها، إلى استنطاق ذاتي مملوء بالاعترافات. فحتى التقسيم إلى مملكتين: مملكة الرجل ومملكة المرأة والمحصورة أساسا في تباين الفضاءات التي يتحركون فيها، لا يمكنها أن تعبر إلا عن عقلية ذكورية تضيف المرأة إلى ممتلكات الرجل.

فجسد الأنثى يتمثل في الخطاب اللغوي، وينقسم إلى مناطق حساسة وتمفصلات دلالية تحيل على اللذة والرغبة، وبذلك ترسخ بالنسق الثقافي معجم يحجب عن الأنثى ما يبيحه للذكر، فلغة العربي مثلا ينظر لها على أنها من ضمن خطاب حريمي وفضاء مغلوق لا تلجه المرأة إلا إذا كانت مخترقة للنظام الثقافي السائد. ولذلك لا تجد النساء بدا من التماهي مع الخطاب العام للتعبير عن أنفسهن، بالرغم من أن هناك تمفصلات مورفولوجية بقيت حبيسة خطاب الذكر، حيث لا تجد النساء في اللغة حاجتهن في الوصف والتعبير:" فأفضل وسيلة للبرهنة على أن مفردات [كثيرة] تعوزنا وأن اللغة الفرنسية لم توجد من أجل النساء، هي النزول إلى أسفل جسدنا والتعبير عن اللامعبر عنه واستعمال المعجم، كما هو من غير تورية ولا تعديل"([11]). غير أن اللغة بوصفها نظاما لغويا، تتصف بالبراءة من التحيُّز ضد المرأة.

أخيرا:

صحيح أن الرجل استحوذ على اللغة بسبب الترتيب الذي أقره المجتمع بأفضلية الذكر وتقديمه في اللفظ وفقا لعُرف خارج عن نظام اللغة، تلك التي حمَّلها بالمضامين التفضيلية للذكر على الأنثى واتخذها أداة للإيحاء بأنه السيد/المركز، وهي التابع/الهامش، وحاول إقناعها بشتى الطرق بذلك محتميا بالحتميات البيولوجية التي أعاد تأويلها اجتماعيا، لكن اللغة بوصفها نظاما لغويا، لم تخضع لهذا التحكم حيث حافظت على العناصر الأساسية التي تجعل استخدام اللغة صالحا في التعبير والاتصال لكلا الجنسين.

مراجع البحث


[1] - الغدّامي محمد عبد الله، "المرأة واللغة-2- ثقافة الوهم..مقاربة حول المرأة والجسد واللغة"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، سنة 1998،ص : 53.

[2]  - ثقافة الوهم ، نفس المرجع السابق ، ص: 56.

[3] - ابن عبد ربه أحمد بن محمد الأندلسي، " طبائع النساء وما جاء فيها من عجائب وغرائب وأخبار وأسرار "،  ترجمة وتحقيق محمد إبراهيم سليم ، منشورات مكتبة ابن سينا، الطبعة الأولى، سنة: 1998، ص: 163.

[4] - الترمانيني عبد السلام،" الرق ماضيه وحاضره" عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الثانية، عدد 23 ، أبريل 1985 ، ص: 87.

[5] - Ysé tardan – masquelier «  les chemins du corps », aix –les- bains, albin michel, 1995, p : 12.

[6] -  علي زيعور" تأويل لغة الجسد داخل اللاوعي الثقافي العربي" مجلة الفكر العربي المعاصر" عدد 54-55 ، يوليوز وغشت سنة 1988، ص: 68.

[7] - خليل عبد الكريم " العرب والمرأة ، حفرية في الاسطير المخيم" الانتشار العربي وسينا للنشر سنة: 1997، ص: 238.

[8] - Yaguello (marina) « les mots et les femmes, Essai d’approche sociolinguistique de la condition féminine»Petite bibliothèque Payot, Paris, 1978, p : 209

[9] - Christian Baylon « sociolinguistique , société,langue, et discours, Nathan Université, deuxième édition ; 1996, p :120.

  [10]- الغدامي محمد عبد الله" المرأة واللغة-2- ثقافة الوهم مقاربة حول المرأة والجسد واللغة" نفس المرجع السابق، ص: 66.

[11] - مجلة علامات، نفس المرجع السابق، ص: 119.

Partager cet article
Repost0

مجلة وطنية ثقافية شاملة ومحكمة

  • : مجلة دفاتر الاختلاف
  • : مجلة "دفاتر الاختلاف" دو رية مغربية ثقافية محكمة رخصة الصحافة رقم:07\2005 -الايداع القانوني:2005/0165 تصدر عن مركز الدراسات وتحمل الرقم الدولي المعياري/ p-2028-4659 e-2028-4667
  • Contact

بحث

الهيئة العلمية

أعضاء الهيئة العلمية والتحكيم

د.عبد المنعم حرفان، أستاذ التعليم العالي، تخصص اللسانيات، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز فاس المغرب

د.عبد الكامل أوزال، أستاذ التعليم العالي، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.أحمد دكار، أستاذ التعليم العالي مؤهل ، تخصص علم النفس وعلوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

د.محمد أبحير، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وآدابها، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بني ملال/المغرب

د.محمد الأزمي، أستاذ التعليم العالي ، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

د.ادريس عبد النور، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وعلوم التربية والدراسات الجندرية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-مكناس/المغرب

د. عبد الرحمن علمي إدريسي، أستاذ التعليم العالي، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/المغرب

محمد زيدان، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص اللغة العربية وآدابها، المركز  الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.محمد العلمي، أستاذ التعليم العالي ، تخصص الدراسات الاسلامية والديدكتيك، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.محمد سوسي، أستاذ مبرز ، دكتور في الفلسفة، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

دة.سميحة بن فارس، أستاذة التعليم العالي مساعد، تخصص الديدكتيك علوم الحياة والارض ، المدرسة العليا للأساتذة فاس / المغرب

د.عزالدين النملي، أستاذمحاضر ، تخصص اللغة العربية والديدكتيك ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين تازة/المغرب

دة.صليحة أرزاز ، أستاذة التعليم العالي مؤهل، تخصص لغة فرنسية، ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.المصطفى العناوي، أستاذة التعليم العالي مؤهل، تخصص الاجتماعيات ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.حسان الحسناوي، أستاذ التعليم العالي مساعد، تخصص اللغة العربية وآدابها ، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين تازة/المغرب

د.عمر اكراصي، أستاذ محاضر مؤهل، تخصص علوم التربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

دة.حنان الغوات، أستاذة التعليم العالي مساعد، تخصص علومالتربية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس/المغرب

د.حميد مرواني، أستاذ محاضر مؤهل، المركز الجهوي لمهن التربية

والتكوين فاس- مكناس المغرب

   د.عبد الرحمان المتيوي، أستاذ مبرز في الفلسفة، مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس -مكناس /المغرب

د.المصطفى تودي، استاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة

.فاس-مكناس

دة.الخالفي نادية، أستاذة التعليم العالي مساعد، المركز الجهوي لمهن التربية

.والتكوين الدار البيضاء-سطات/المغرب

د. محمد أكرم  ناصف ، أستاذ مؤهل، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-مكناس المغرب.

هيئة التحرير وشروط النشر

رئيس هيئة التحرير

د.ادريس عبد النور

هيئة التحرير​​

​​​​​د.عمر اكراصي - د.طارق زينون

د.سعيد عمري- ذة. مالكة عسال

ذ.خالد بورقادي إدريسي

الشروط العامة لنشر البحوث:

  • أن يكون البحث ذا قيم علمية أو أدبية، ويقدم قيمة مضافة للحقل المعرفي.
  • أن يتمتع البحث بتسلسل الأفكار والسلامة اللغوية والإملائية.
  • أن لا يكون البحث مستلاً من أطروحة دكتوراه أو رسالة ماستر أو كتاب تمَّ نشره مسبقاً.
  • يلتزم الباحث بإجراء التعديلات التي يقرها المحكمون بخصوص بحثه، حيث يعد النشر مشروطاً بإجراه هذه التعديلات.

المراسلات: Email:cahiers.difference@gmail.com0663314107